يوسف رزين - الكتابة على الجسد.. بحث في الدلالات

تحضر الكتابة على الجسد كممارسة إنسانية مثيرة للتساؤل و العجب . ممارسة غامضة ، حافلة بالرموز و الخطاب المضمر ، فلماذا يا ترى يلجأ إليها الإنسان ؟ و ما هي الدلالات و المعاني الكامنة وراءها ؟ هذا ما سنحاول التعرف عليه .
بداية يمكن القول أن الإنسان كان منذ القديم يبحث عن وثيقة يسجل عليها انطباعاته و أفكاره ، و لأن الجسد هو أكثر الوثائق حميمية و التصاقا بالوجدان ، فقد اختاره ليدون عليه انطباعاته و أفكاره الأكثر عمقا .
إن الكتابة على الجسد تكتسي أهمية خاصة لدى الإنسان من حيث دلالتها و رمزيتها ، فهي باعتبارها كتابة على وثيقة ذات أهمية خاصة (الجسد) فإنها لا تحتمل الكذب و لهذا كان الخطاب المعلن من خلالها مليئا بالدلالات و الرموز و الصدق ، فماذا يمكن القول بخصوصها ؟
لتحليل هذه الكتابة يجب أولا البحث في وسائلها و أدواتها . أولا هذه الكتابة تتم بعدة طرق أشهرها الوشم و هو يتم بوخز إبرة على جلد الإنسان الموشوم الذي في الغالب يكون إمرأة ، و في الواقع فإن الكتابة بالإبرة ممارسة لا تخلو من دلالات و لتقريب المسافة إلى ذهن القارئ نحيله إلى ممارسات سحر الفودو ، حيث يتم إحضار دمية تمثل الشخص المراد إيذاؤه و يتم وخزها بالإبرة قصد إلحاق الأذى بالشخص المعني . إن الوخز بالإبر هو تصغير لعملية الطعن بالسيف و كأن من يخز الدمية بالإبرة يرغب في الواقع في مبارزة الشخص المعني و طعنه بالسيف ، فيتحول السيف إلى إبرة و الشخص المقصود بالإيذاء إلى دمية ، و من خلال وخزها مرات عديدة تتم عملية تفريغ الغضب الكامن من طرف الشخص المنتقم . كذلك فعملية الوشم التي تتم بالإبرة لا تخرج عن نفس السياق و إن اختلف المعنى ، فالمرأة في المجتمعات القديمة للدلالة على أنها امرأة مرغوبة من طرف الرجال و لان العلاقة بين الأنثى و الذكر تقوم على الصراع و تأخذ في اللاشعور الجمعي شكل المبارزة ، حيث أن كلا الجنسين يتبادلان الطعنات قبل أن تحول إلى حب ، فإن المرأة الواشمة على وجهها تريد الإشارة إلى أن حبيبا أو أكثر قد مروا من هنا و بالتالي فهي امرأة مرغوبة و ما دامت مرغوبة من طرف الرجال فهي امرأة خصبة و يمكنها أن تلد الأطفال و هو الأمر الذي كان يؤرق الرجل القديم . هذا الرجل قبل ظهور الديانات التوحيدية لم يكن يعترض على الخبرات السابقة للمرأة بل كان يرحب بها على اعتبار أنها دليل على قدرتها على الإنجاب ، أما المرأة الخالية من الوشم فمعناها في المخيال الذكوري أنها امرأة مهجورة و عقيمة . إن الوشم ككتابة مدونة على وجه المرأة هو دلالة على صدق ما تقول لأن الإنسان لا يدون معلومات مزيفة على جسده ، و في نفس الوقت فإنه يصبح علامة إغراء و إثارة جنسية و تأكيد للذكر بإمكانية إنجاب الأطفال ، لهذا نلاحظ أن المرأة في المجتمع الأمازيغي مثلا تشم وجهها عند فترتي البلوغ و الزواج .
أيضا لا تكتفي المرأة بإرسال الرسائل إلى الرجل بخصوبتها عن طريق الوشم ، بل تخبره بأنها حاذقة في عملها و نشيطة و مجدة ، فتشم يديها دلالة على أنها تجيد أعمال البيت و الحقل لدرجة أن يديها تصابان بالخدوش و الجروح ، فتخبره بأنها ليست امرأة كسولة بل يستطيع الاعتماد عليها . يبقى أن اللون الأخضر للوشم و هو الشائع عند النساء هو لون الخصوبة بامتياز ، فهو لون الحقول حينما تنبت فيها الأعشاب ، و المرأة لا تنفك تشير و ترمز إلى أنها تشبه الحقل القادر على المنح و العطاء .
في المقابل فإن الرجل و كما هو ملاحظ يشم نفسه في منطقة محددة و هي العضد و الذراع في إشارة منه إلى قوته و قدرته ، و قد كان ملوك الامازيغ يتميزون عن باقي أفراد الشعب بأوشامهم على سواعدهم كما خلدتها الرسومات المتعلقة بهم في المعابد الفرعونية .
غير انه إذا كان المرء ذكرا أو أنثى يشم جسده من تلقاء نفسه لإرسال خطاب معين للآخرين فإن هناك نوعا آخر من الكتابة على الجسد و هو ما يسمى بالوسم و هو يتم بإكراه الشخص المعني به قصد تمييزه عن الآخرين كأن يكون مجرما أو عبدا أو أسير حرب أو كما كان يحدث في عهد الدولة الرومانية حيث كان يفرض على الجنود الرومان وشم أيديهم حتى يسهل التعرف عليهم في حالة الوفاة أو الفرار . أيضا هناك طريقة أخرى للكتابة على الجسد منتشرة بين شعوب إفريقيا و استراليا و هي التشريط ، أي إحداث جروح أو ندبات في الوجه و ذلك لأن بشرتهم سوداء و بالتالي لن يظهر على الوشم بلونه الأخضر و هو أيضا يستعمل لدى هذه الشعوب لأغراض احتفالية و جمالية .
هذا و قد ظلت المجتمعات القديمة تنظر لجميع أشكال الكتابة على الجسد سواء كانت وشما أو وسما أو تشريطا على أنها ممارسة إنسانية تروم حفظ الذاكرة و إرسال خطاب بدلالات و رموز معينة قصد لفت الانتباه ، حتى جاءت الأديان السماوية و منعتها نظرا لأن الأديان تعارض كل سلوك يحمل في طياته إثارة جنسية ، لذلك حرمت اليهودية الوشم كما جاء في سفر اللاويين " و لا تجرحوا أجسادكم لميت و كتابة وسم لا تجعلوا فيكم أنا الرب "، أيضا في عام 787م قام مجلس نيقية الثاني بحظر الوشم باعتباره ممارسة وثنية ، و كذلك حرمه الإسلام كما جاء في الحديث النبوي " لعن الله الواشمات و المستوشمات ..." .
و هكذا تحول الجسد إلى ورقة بيضاء يمنع منعا كليا التدوين عليها ، الشيء الذي حرم الإنسان من وسيلة هامة للتخاطب . لكن الملاحظ أن المرأة لم تيأس و قامت بالتحايل على الحظر الديني فأبدعت فكرة الحناء متخذة هذا الاسم الذي يحيل إلى الحنان لإزالة مخاوف الرجل بعد أن صار ينفر من المرأة المقاتلة و يرغب في المرأة الأم . الحناء إذن صارت وشما أو كتابة على الجسد من نوع خاص تستطيع المرأة من خلالها أن تشير مرة أخرى إلى خصوبتها و بأن أشياء قد مرت على جسدها و خلفت وراءها تلك النقوش الجميلة من الحناء . هل تريد المرأة من خلال الحناء أن تشير إلى يديها الملطختان بدم الضحية ؟ الله و المرأة اعلم ، لكن و كما هو ملاحظ فإنها (المرأة) تكره أن تكون صفحة بيضاء لأن ذلك له دلالة سيئة عندها ، فهي تعني أنها ارض خلاء و كهف مهجور و رحم عقيم ، لذلك لا تفتأ تذكر من حولها بأنها مكان مطروق حافل بالحركة و الذكريات الحميمة .
 
أعلى