صاحب الربيعي - الحب والعشق في الشعر القديم

الشعر هو نحت في جسم اللغة لرسم كائن جميل من الكلمات، يختلف كل منها عن الأخر في الشكل والوظائف وتشكل معاً صياغات لفظية تعبر عن حالة شعورية تجسد مدلولات العاطفة والإحساس في مضامينها. ومن ثم تربط تلك الصياغات اللفظية بعضها مع البعض الأخرى بقواعد لغوية تنهل من بحور الشعر مقاييسها وتتبادل معا صدر وعجز البيوت الشعرية في بناءها لتشكل رؤية شاعرية تعكس وهج المشاعر والأحاسيس النابعة من القلب وتوظفها على شكل كائنات حية تعبر عن استقلاليتها ودورها في القصيدة الشعرية. إنها ليست هياكل جامدة تعلق على واجهة القصيدة لإخفاء عيوب البناء، وإنما هي كائنات حية وظيفتها إبراز الملامح الأساس لهيكل البناء لما تحمله من شفافية ورقة تعكس جوهرها الحقيقي وتضفي عليه جمالاً أكثر. فتلك الكائنات ليست صنيعة منظومة الوعي، وإنما خُلقت في اللاوعي وتسللت خفية إلى منظومة الوعي لتعكسها على شكل قصيدة شعرية في الواقع. ولتسليط الضوء أكثر على الكائنات الحية في قصائد الحب والعشق، نبحث في المحاور أدناه:


-1-

(عاشقة تتحدى المجتمع)
الشرق عالم خاص يلتصق بالتاريخ ويعانق موروثه وعاداته وأعرافه معانقة الحبيب، يتمسك بموروثه الديني وإن تعارض مع سياقه المعاصر. الشرق بوتقة تجمع الشيء ونقيضه، يتمسك بقانون العيب ويجاهر بالعشق شعراً ونثراً وخطابة. إنه الضمير المستور للعالم، الذي يدعو إلى الإصلاح والقيم جهراً وفي داخله خراب وصراع خفي يتغنى بالثنائية: الخير والشر، العفة والرذيلة، الحلال والحرام.......إلا في الحب يشذ عن قاعدته، فالحب عنده يميل في التصريح إلى الوحدانية وينهل من (قانون العيب) سماته، للرجل فقط الحق في التصريح عن حبه وعشقه شعراً ونثراً ويفرض كل موروثه وعاداته وتقاليده وأعرافه وديانته على المرأة وقد يمنحها الحق المستور في الحب والعشق وينبذها حين تجاهر به علناً في المجتمع. فلكل قاعدة شواذ ولقاعدة الحب والعشق شواذها في الإعلان والتصريح، فما قيمة الحب والعشق إن لم يجاهر به العشيقان.
تصف ((ليلى الأخيلية)) حبيبها علناً قائلة:
"إذا حل ركب في ذراه وظله.........ليمنعهم مما تخاف نوازعه".
يفرض قانون العيب سلطته على العاشق، ويمنعه من ذكر اسم حبيبته أو قبيلتها شعراً، خوفاً على سمعتها أو خشية من أهلها وردود أفعالهم ضده بالرغم من أن جميع التلميحات المستورة في الشعر تُعرف بشخصية الحبيب وتدلل على مكانه لكنها تبقى في إطار سترها ولاتخرج عن الضوابط والشروط التي يفرضها قانون العيب. كثيراً ما فرض قانون العيب أحكامه الجائرة على العشاق فأهدر دمهم أو تعرض العاشق لما لايحمد عقباه عند خروج تلميحاته الشعرية عن سياقها المستور.
وقد نال العديد من العشاق الخارجين عن تلك القاعدة نصيبهم من الأذى والتشرد والتخفي خوفاً من الانتقام، لكن حين تخرج عاشقة عن تلك القاعدة وتعلن عن اسم عشيرة عاشقها جهراً فهذا هو الاستثناء الأكثر شذوذاً عن القاعدة.
تتحدى ((ليلى الأخيلية)) قانون العيب وتشذ عن القاعدة وتسمي قبيلة عاشقها علناً وتجعله فوق أقدار الآخرين قائلةً:"جزى الله خيراً والجزاء بكفه.........فتى من عقيل ساد غير مُكلف
فمتـى كـانت الدنيا تهوى بأسرها........علـيه ولاينفك جـم التصرف".
إذا كان شعر العاشق يفعل، فعله في أسر عواطف وأحاسيس عشيقته في عالم الشرق، فماذا تعمل كلمات عاشقة بحق عشيقها حين تتحدى كل قيم وأعراف المجتمع لتعلن حبها له من منبر الشعر الأعلامي للقبيلة. هل كانت لتلك الظروف حظاً أقوى من حظها في العالم المعاصر؟. إنها النخبة الشعرية التي تتبارز علناً لا من أجل إعلان الحرب وأنما من أجل إعلان العشق الذي يبحث عن مسالك الحب والعاطفة والإحساس بعيداً عن الصراع والحروب بين مجتمع القبائل.
إن تعلن عاشقة عن تحديها للمجتمع، يعني أنها تتحلى بسمات القوة والتحدي والإيمان بالحب ذاته. وحين يطلب منها أن تصف سمات عشيقها، تنحت الكلمات وتروض المعاني وتبني الصياغات بناءاً شعرياً يلخص سمات عشيقها حيث تصف ((ليلى الأخيلية)) سمات عشيقها قائلةً:
"غضوب، حليم حين يطلب حلمه...........وسم زعاف لاتصاب مقاتله".
تلك هي ليلى شاعرة العشق، متحدية المجتمع تجاهر بعواطفها وأحاسيسها. ترفض أن تنصاع لقانون العيب وشروطه ولعالم الشرق وسماته، إنها تسمي بالأشياء بأسمائها معبرة عن كينونتها الإنسانية.

.../...
 
-2-
(العشق والمنفى)

قد يلاحق المرء من قبل السلطة بتهمة سياسية فيغادر إلى المنفى وقد يلاحق المطلوب ثأراً عشائرياً فيغادر مسقط رأسه ولكن إن يلاحق المرء بتهمة العشق فيضطر لمغادرة دياره فهذا ظلماً مضاعفاً، فهو حكم بالموت على من أبتلى بداء العشق مجبراً فأي الظلميين أهون عليه، ظلم القبيلة الهادرة لدمه أم ظلم القلب الذي لايكف عن أسره.
فكلما شكا قلب وجسد العاشق علت الفراق شعراً، كلما زاد الإصرار على هدر دمه عشائرياً. فإن تمكن من مقاومة حملات التهديد، فهل يتمكن العاشق من مقاومة شر الفراق الذي يشل قدراته وذهنه على التواصل؟. فلم يعد لصبره حيلة في تهدئة خواطره المصابة بداء العشق. يصف ((إبراهيم بن أبي الهيثم)) حالته في الفراق قائلاً:"لاصبر لي عند الفراق.............فقد الحبيب ولوعة الحب".
عندما تهاجم جحافل اليأس والظنون روح العاشق في المنفى، وما عساه فاعل وما الدواء الشافي لعلاجه، فالروح لاتشفى إلا بلقاء الحبيب الذي يطفئ حرائق الوجدان المشتعلة في كامل منظومة الروح. فلا الشكوى ولا الأنين ولا هدير الشعر قادر على إطفاء حرائق الروح التي يمتد ليهيبها ليشعل منظومة الجسد بكاملها لتصيب الروح بداء الجنون ومن ثم تصاب منظومة العقل التي تفتقد السيطرة على منظومة الجسد فيتصرف العاشق بسلوك يتعارض والسلوك العام في المجتمع فيوصم بالجنون. فإذا كان الجنون خبلاً، فجنون العشق عقلاً لايفهمه سوى العشاق. يشكو ((أبو دهبل)) فراقه عن حبيبه قائلاً:
"طال ليلي وبت كالمجنون.........ومللت الثراء في جيرون
وأطلت المقام بالشام حتى.........ظن أهلي برجمان الظنون".
إذا غادر العاشق إلى المنفى للحفاظ على حياته مقابل تحمله الموت كل ساعة نتيجة فراقه للمحبوب، فأين يفر القلب المسجون بين أضلاع الصدر؟ هذا القلب الذي يحمل سر العشق، فيعبر في كل نبضة له عن إحساس وعاطفة تتدفق كالسيل الجارف في شرايين الجسد فتجرف كل سدود الصبر وتفتح أنفاقاً في مكونات الجسد لتلتقي بهدير العشق الأتي من أعماق الروح. يصرخ ((بشار بن برد)) في القلب قائلاً:
"يا قلب مالي أراك لاتفر...........إياك أعني وعندك الخبر".


.../...
 


-3-
(ومن الحب ما قتل)
إن تحارب في معركة بالأعراف السائدة فأنت شجاع، وإن تموت فيها فأنت شهيد. وإن تقتل فأنت مناضل.....لكن أن تموت وأنت عاشقاً فذاك جنون!. وإن تبكي عزيزاً مات فأنت معذور وإن تبكي نكبة أصابتك فأنت عاطفي......لكن أن تبكي من فراق الحبيب فأنت ضعيف. فإن كان للدموع مبرراً لكل المصائب، فأكثرها تبريراً تلك التي تتدفق سيولاً عن فراق الحبيب. إنها دموع ليس لها علاقة بمنظومة الجسد، فهي تنبع من ينابيع الروح التي تغسل خطايا الجسد عسى أن يتبرأ من آثامه فيكون أهلاً لاستقرار الروح بكل قداستها وعفتها!. يبكي ((ذو الرمة)) حبيبته، فيبكي القوم لحاله قائلاً:
"يبكت على مي بها إذ عرفتها..........وهجت الهوى حتى بكى القوم من أجلي
تطلوا ومنهم ومعه غـالب له..........وآخـر يثني عبـرة العيـن بالمهمـل".
ما ذنب العاشق إن أبتلى بداء العشق، وما ذنب القلب أن هوى والعين إذا جسدت صور الجمال فتلفقها القلب غفلة. إن تعيش في عالم من السحر والجمال والشعر والخرافات والتاريخ والعشق العذري فهذا قدرك وما الأقدار إلا ما كتبت على الأبدان منذ لحظة الخلق، فهي المسؤولة عن الأهواء والعشق وما يصيب المرء دون أن يعي ما سرها.
وما عذر العاشق حينئذ، إذا ما نال نصيبه من الأقدار فهوى في العشق مجبراً تتقاذفه مسارات الجنون صارخاً من كتب على قلبي أن يعاني من سكرات العشق فيميت جسدي بدائه وأنا الشاهد على هذا الموت عنوة.
يتساءل ((قيس بن ذريح)) عن دوافع قتله بداء العشق قائلاً:
"فو الله ثم والله إني لذائب.........أفكر ما ذنبي إليك وأعجب
ووالله ما أدري علام قتلتني.......وأي أمور فيك يا ليل أركب".
وما عذر العاشق إلا الشكوى وتوسل اللقاء بالحبيب، فيا لله إن كنت تفرض على الناس أقدراك فما ذنب العاشق المعذب!. إن سلمنا بفكرة تناسخ الأرواح وما تناله الأرواح الآثمة في أجساد البشر حتى تتبرأ من أثمها لتسكن ثانية في جسد طاهر فيسمو شأن وقدر الإنسان ليقترب أكثر في سلوكه من نداءات الروح الخيرة. فما ذنب الإنسان الذي تسكنه الروح الآثمة فيتحمل أثم غيره ويدفع ثمناً لآثام لم يرتكبها؟. وإن كان الحب قدراً والعشق ثمن الفراق......فلما لاتقبل أعذار الشكوى والدموع عن ذنب لم يقترفه العاشق بحق نفسه وأنما الأقدار هي التي اقترفتها بحقه عنوة!.
إذا كان اليأس هو نصيب العاشق في نهاية الأمر لتتطهر الروح من آثامها المتوارثة....عندئذ داء العشق لادواء له إلا بلقاء الحبيب وذاك اللقاء لايتم إلا إذا تطهرت روح العاشق والمعشوق من أثمها المتوارث فينالان اللقاء بأذن الأقدار ثانية. يعلن ((يزيد بن الطثرية)) عن يأسه من الحب قائلاً:
"أحبك حب اليأس أن نفع الحيا........وإن لم يكن من هواك طبيبً".




.../...
 
-4-
(صراع العشق بين العقل والقلب)

إن كانت الأحاسيس والعواطف من خاصة القلب دون العقل، فغالباً ما يفقد القلب توازنه فيضرم نار الاختلال بموازين العقل فيختل توازن وسلوك وتصرفات المرء بما يتعارض الأعراف والتقاليد الاجتماعية. فتنال الذات من المجتمع ما يؤذيها ويجرحها خاصة في مجتمعات الشرق التي لاترحم من أصابه داء العشق فأختل توازنه وأخذ لايبالي بحدود المجتمع معلناً عن عشقه وفاضحاً ستر عواطفه وأحاسيسه وكاشفاً أسرار قلبه على الملأ، متوسلاً بمن يعينه في مصابه في لقاء المعشوق!.
إن الصراع بين العقل والقلب، يمنح الأخير سطوة فرض شروطه على الأول فتتداعى ضوابطه في التحكم في التصرفات والسلوكيات ويصبح عرضة للانتقاد في المجتمع. ويجاهد العقل لفرض شروطه على القلب وقسره على تحجيم عواطفه وأحاسيسه فيصاب القلب بالانكسار والحسرة ويعمل على نخر الذات من الداخل لمعاقبة العقل. يصف ((عمر الخيام)) هذا الصراع قائلاً:
"قلبي في صدري أسير سجين............تخجله عشرة ماء وطين
وكم جرى عزمي بتحطيمه.............فكان ينهانـي نداء اليقين".
حين يحكم العقل ضوابطه على القلب ويقسره على الالتزام بنداءته، تتسلل هواجس الحزن إليه متوسلاً العقل أن يطلق سراحه من الأسر ولايتدخل في شؤونه المختصة بالعاطفة والإحساس. وإن طال هذا الأسر وكثرة أحزان القلب وبان انكساره، يشفق العقل عليه مترجياً أن يسمعه القلب ويتقبل مبرراته في الأسر ويتخلى عن حزنه وانكساره ويتصالح مع الذات لإرضاء الروح!. يخاطب ((عمر الخيام)) قلبه مواسياً:
"يـا لـهذا القلب البئيس المـعنى.........لم يفق من هوى الحبيب القاسي".
لايحسم الصراع بين العقل والقلب دائماً لصالح العقل، وإنما غالباً ما يفرض القلب شروطه وتحكمه على العقل فينصاع الأخير مستسلماً غير مبالياً باعتراضات المجتمع وما تنال الذات من أذى عند تجاوزها على الأعراف والقيم المتعارضة مع مسارات العشق.
حينها يحصل نوع من التنافس بين العقل والقلب للوصول إلى الحبيب، فبالرغم من هدفهما واحد لكنهما يتخذان مساران مختلفان لتأكيد ذاتهما عند الحبيب قولاً وعملاً!. فيحتار الحبيب بهذا الاندفاع نحوه، ولايعرف أي النداءات يلبي فإما أن يستسلم لجنون العشق والهوى وإما أن تتحكم به أوجه صراع العقل والقلب.
يصور ((أبو نؤاس)) تلك الحالة من الصراع قائلاً:
"ولي قلب ينازعني إليها..............وشوق بين أضلاعي حثيثً".


.../...
 
-5-
(عشق أعمى البصر)

إن كانت العينان تبصر الجمال وصوره وتدقق في تفاصيله، فإن القلب هو الذي يصدر قرار العشق. فانعكاس الجمال وصوره هو الإحساس والعاطفة اللتان مركزهما القلب، وإن تعذرت رؤية الجمال وصوره بالعين البصيرة، فإن مدلولات أحدى تلك الصور تمثل الصوت ورقته وعذابه فتتحسسه الأذن لتنقل تردده إلى القلب ليخضعه لمرشحات العاطفة والإحساس ويأخذ قراره في العشق. فالصوت الرقيق والعذب والجميل لايصدر إلا عن كائن جميل لأن الجمال متكامل بتفاصيله العام، وإن اختلفت درجاته وصوره!.
فغالباً ما ترسم البصيرة صورة الحبيب حتى قبل أن تلتقي به، فإن حصل اللقاء كانت صورته ماثلة في الوجدان فتتطابق صورة الخيال مع الصورة الحقيقية. وتنطلق ذبذبات العشق لتحاكي المعشوق وتغازله وترسل له ما يختزن في الوجدان ما يمثالها من صور عن المعشوق. وتتبادل الأحاسيس والمشاعر بسرعة وبدون وعي، وكأنه يعرف معشوقه منذ الأزل ولا يعي سر اندفاعه نحوه بهذه الدرجة والسرعة، فكلما حاول إعاقة نفسه عن الاندفاع كلما وجد نفسه أكثر اندفاعاً نحو معشوقه تتقاذفه أمواج من العواطف والأحاسيس الجياشة فيفقد السيطرة على التحكم بعواطفه وأحاسيسه كأنه ساعياً في أسر عواطفه عند الأخر دون وعي!.
يصف ((بشار بن برد)) تلك الحالة من العشق قائلاً:
"قالوا بمن لاترى تهذي فقلت لهم............الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وإكنـت أول مشـغوف بـجارية...........يلقي بلقيانها روحـاً وريحانـاً
يا قوم أذني لبعض الحـي عاشقة..........والأذن تعشق قبل العيـن أحيانـا".
إن أحاسيس الإنسان الخمسة كلها، تشتغل عند العشق لأنها رهينة الحاسة السادسة التي رسمت صورة المعشوق وحددت ملامحه وتفاصيله وصورته ورقته......وتبقى الحواس الخمسة تبحث بين صور الجمال عن مرادها فإن عثرت عليه، أطلقت نداءها إلى القلب قائلةً: إن لم تخب وظائفنا، فإننا عثرنا على مرادك بين ملايين من صور البشر. فيعمل القلب على تحليل تفاصيل النداء ليتأكد من صدقه، فإن تحقق من صدقه. أطلق موجات من العواطف والأحاسيس والنداءات للحواس الخمسة لأسر عواطف المعشوق فلا مراد غيره بعد أن اجتاز العمر محطاته في البحث عنه!.
وإن تعطلت أحدى الحواس الخمس، نشطت أكثر الحاسة السادسة لتحل مكانها وتمارس مهامها مع الحواس المتبقية، ولا تتوقف عمليات البحث في الفضاء الكوني عن النصف الأخر من الروح وإلا فإنها تبقى حائرة أبداً في الدنيا تأسرها الوحدة وتجف مع الأيام منابع العاطفة والأحاسيس في تجاويف القلب، فيسقط الإنسان في دهاليز القسوة والعزلة تتقاذفه موجات الجفاف فيتصحر وجدانه.
يصر ((بشار بن برد)) على أن نداء العشق ليس من العين وأنما من الأذن قائلاً:
"فما تبصر العينان في موضوع الهوى.........ولا تسـمع الأذنان إلا مـن القلب
وما الحُسن إلا كل حُسن ومـا الصـبا.........وألف بين العشق والعاشق الصب".


.../...
 
-6-
(عشق الشباب)

لايقتصر العشق على محطة واحدة من محطات العمر لكنه يكون أكثر إشراقاً في محطة الشباب حيث الحيوية والتمرد على التقاليد والأعراف الاجتماعية لإثبات الذات الباحثة عن موقع قدم لها في أرضية المجتمع. مضافاً إليه فيض العواطف والأحاسيس المنفلته عن سيطرة منظومة العقل، فالشباب يعني الجمال والحب والحرية التي لاتؤطرها حدود المجتمع الساعي لفرض أحكامه على مسالك العنفوان والعواطف المنفتلة والخارجة عن إرادة الشباب.
إنها أحلى مراحل العمر، فسلوك وحركة المرء فيها يخضع إلى الفطرية أكثر منها لأحكام المجتمع. فهي مدفوعة غريزياً للإعلان عن الكينونة وتفرض أحكام جيل جديد يسعى لفرض قيمه وتوجهاته على الجيل الذي سبقه!. فالأسير للنزعة الفطرية يسعى للإعلان عن الكينونة الباحثة عن روح أخرى لتعقد معها علاقة عشق لتوحيد طاقات الشباب وفرضها بقوة على الواقع، فتلك العلاقة غالباً ما تكون عنيفة العواطف والأحاسيس لأنها لاتخضع لسيطرة منظومة العقل وأنما لسيطرة منظومة القلب التي تحكمها آليات العاطفة والإحساس للتوحد مع الآخر.
العشق في مرحلة الشباب، يعني تحقيق الذات وتصريف الطاقة الفائضة من العواطف والأحاسيس الكامنة في القلب لتحرير الذات من عنفوانها وصخبها اللذان يوقدان النار في كل أرجاء الجسد ويمتد لهيبها إلى الروح الباحثة عن بحر من العواطف والأحاسيس لإطفاء لهيبها. يصف ((عمر الخيام)) العشق في مرحلة الشباب قائلاً:
"إنما العشق في الشباب جلاء..............لحياة الفتـيان والفتـيات
أيها الغافل البعيد عـن العشق..............تعشق، فالعشق كل الحياة".
لاقيمة لمرحلة الشباب إن لم تتخللها تجارب العشق والهوى، فكما أن النحلة تنتقل من زهرة إلى أخرى لتمتص رحيقها، كذلك الشباب تتقاذفه أمواج العواطف فكل ساعة على موجة وكل يوم في بحر متلاطم الأمواج، مرة يغرق ومرة أخرى ينجو. وهكذا تتقاذفه أمواج العشق لتقذف به عند شواطئ إحدى جزر العشق ومن ثم تقوده إلى ميناء الحب الذي يستقر فيه أبدى!. لكن هناك من تأسره أمواج العواطف، فيبقى أبداً يصارع الموج فيغلبها تارة وتارة أخرى تغلبه حتى تنقذه إحدى المراكب العابرة عبر بحار العشق وتقرر مصير عشقه. يربط ((عمر الخيام)) عشق الشباب بمعنى الحياة قائلاً:
"أول دفتر المعاني الهوى...........وإنـه بيـت قصـيد الشباب
يا جاهلاً معنى الهوى إنما..........معنى الحياة الحب والانجذاب".
قلب الشاب الذي لايمسه داء الهوى تبقى عواطفه وأحاسيسه أسيرة القلب، ومع الزمن تشيخ وتضمر وتفقد مذاق الهوى وطعم الحب وعذابات العشق. فلا يبالي الشباب بقانون العيب الذي يفرضه المجتمع ولا حتى بأحكامه الدينية التي تأسر العواطف والأحاسيس وتضعها بين الجنة والنار في العالم الآخر، فتحجب الحاضر بأحكامها وتغلق منافذ العواطف والأحاسيس وتصادر إحدى أجمل مراحل العمر التي فرضتها أحكام الطبيعة.
يشخص ((عمر الخيام)) تلك الحالة قائلاً:
"دع كل قلب لم يمازحه الهوى..............أحواه دير أم حواه مسجد
وبدفتر العشاق من خط أسمه.................لم يعنه خـلد ونار توقد".



.../...
 
-7-
(عشق حتى العبادة)

حين تسمو العواطف والأحاسيس عن غرائز الجسد لتنهل مكوناتها من الروح تصبح علاقة الحب، علاقة روحية أكثر منها جسدية فتضفي عليها سمة القدسية لأنها عقد لتوحد بين مكونات روحين في روح واحدة تأسر جسدين وتتحكم بهما منظومة عواطف وأحاسيس واحدة تفرض نمطاً محدداً من الحياة عليهما.
علاقة الحب هي أسر لمنظومة الوجدان عبر سحر الجمال الذي يأسر المشاعر والأحاسيس فتصبح عشقاً ليس فقط لمنظومة الجمال ذاته وأنما للكينونة الحاضنة لسمات الجمال وتفاصيله التي لايدركها عشاق الجمال كلهم وإنما المدركين لتفاصيله وصوره الخفية في الذات. حينئذ يصبح الحب، عشقاً وعبادة لمدلولات وصور لايراها غير العاشق لمعشوقه، وتلك الحالة من العشق لايمكن أن يدركها إلا من أبتلى بداء العشق في حياته!.
يصف ((ابن زيدون)) العبادة في الحب قائلاً:
"سلني حياتي أهبها..........فلسـت أمـلك ردك
الدهـر عبـدي لما.........أصبحت في الحب عبدك".
حين تسمو حالة الحب لحالة عبادة الحبيب وعشقه تنهار منظومة التحكم في الذات، فتنطلق المشاعر وفياض الأحاسيس متحديةً قانون العيب في المجتمع وغير مبالية بأحكامه الجائرة التي تأسر العواطف والأحاسيس في تجاويف القلب وتحذر على العاشق إعلانها على الملأ!. حينها لايجد العاشق خياراً أمامه، إما إعلان عشقه على الملأ للتقليل من آثار احتقان العواطف والأحاسيس الناخرة لذاته وإما تحمل آثارها المدمرة للنفس، فتصاب النفس بداء جنون العشق. يعلن ((أبو دهبل)) عن حبه قائلاً:
"فلا خير في حب يخاف وباله..........ولا فـي حبيب لايكون له وصل
ويـا عجباً أنـي أكاتـم حبها..........وقد شاع حتى قطعت دونها السُبل".
حين يطول الفراق بين الحبيب وحبيبه، يفرض العشق أحكامه على القلوب فيصبح ولهاً لينقلب إلى عبادة المعشوق وملتمساً رجاء اللقاء لإطفاء نار العشق ولهيبه الذي يشعل حرائق في منظومة الروح. فتقذف بحممها شعراً يصف جمال المعشوق فتأسر النفس بصور وتفاصيل جمال المعشوق.
يعبر ((بشار بن برد)) عنها قائلاً:
"عبـد أنـي إليك بالأشواق...........لتلاقي وكيف لي بالتلاقي
أنا والله أشتهي سحر عينيك...........وأخشى مصارع العشاق".
 
أعلى