هادي حسن حمودي - "الف ليلة وليلة تسترد" مؤلفها وعمرها وبيئتها .

1 من 5
مؤلف واحد وضع "الليالي" بعدما خطط لها وقسمها على الحكايات

> قراءة متأنية في "ألف ليلة وليلة" تقودنا الى الاقتناع بأن هذا الكتاب الباقي على وجه الأيام له مؤلف واحد، وظهر في بيئة محددة المعالم واضحة القسمات.

وللبرهنة على ذلك، لا بد ان نعيد قراءة تلك الليالي ونقارن حكاياتها بعضها ببعض، ونتعمق في متونها لنصل الى قرار نراه صائباً في شأن اختلف فيه الأولون والآخرون كثيراً وأعلنوا عجزهم عن تحديد مؤلفه المبتكر له. وسنتخذ من أسلوب الكتاب، ومضامين حكاياته، وتكرر أشعاره وأمثاله، ورسم طرق التجارة والمواصلات فيه، وسيلة لتحقيق هدف هذه المقالات في تحديد صورة المؤلف والبيئة التي ظهر فيها.

هذا الكتاب جنت عليه الأيام كثيراً، فقد تداولته الأيدي، ايدي النساخ والقصّاص والرواة والحكواتية في المقاهي الشعبية والأعياد، بالتبديل والتعديل والاضافة والحذف كثيراً. ثم جاء العصر الحديث، بمطابعه ودور نشره، فزاد مسخ الكتاب كثيراً وصرنا نطالع كل حين طبعة له تختلف عن سابقاتها، وكل فئة تريد ان تنسب الكتاب اليها وتعده حكراً على تراثها الثقافي، فتعمد الى تحريفه وتغيير الفاظه وأسماء أماكنه وبقاعه، لتستطيع الزعم بأنه ملك صرف لها. حتى اذا قامت الشواهد والأدلة التي لا تقبل الجدل على انه ابن بيئة اخرى، ومن غير التفات الى ان الزمان قد تغير ولم تكن الأمور قديماً على ما هي عليه اليوم. فالبلاد العربية والاسلامية كانت واحدة ويستطيع أي فرد فيها ان يسافر من أي مكان الى أي مكان آخر من غير حاجة الى جواز سفر، أو وثيقة مرور أو تأشيرة دخول. ولذا فإن من البعيد عن روح العلم ان تزيف وقائع الكتاب ليصار الى التفاخر بأنه من مدن دولة كانت تمتد حدودها من مشرق الشمس الى مغربها، وكان الناس يتنقلون بين أرجائها من غير ان يشعر أحدهم بأن انتماءه الى مدينته التي ولد فيهها هو شرف له وان عليه ان يتباهى بذلك وان يفتخر به، فالفخر كان بكل البلاد وكل المدن ولم يكن ثمة تفاضل بين مدينة وأخرى.

ومن هنا فإن اعادة قراءة كتاب "الف ليلة وليلة" لاثبات اسم مؤلف ما زال مجهولاً، والوصول الى أول مدينة ظهر فيها، لا تعني أكثر من تحقيق أمر تاريخي لا بد من الوصول به الى نتيجة تضع الحق في نصابه.

ومن أجل الوصول الى قول فصل في الخلاف الناشب حول ليالي شهرزاد، ونظراً الى اختلاف الطبعات والنسخ وتباينها، ولكي نصل الى أقرب الأقوال للصحة والصواب كان لا بد من العودة الى أقدم نصوص الكتاب، واعادة قراءتها.

للكتاب نسخ عدة، تامة وناقصة. وهناك حكايات اخرى صيغت على منواله، والحقت به في الطبعة المصرية الأخيرة، ولكنها ليست منه بأي حال من الأحوال. كما ان هناك حكايات اخرى في مخطوطات منتشرة في مكتبة باريس الوطنية ولندن ودبلن وطهران وخراسان والقاهرة ودمشق وبغداد، بعضها مما نراه في "ألف ليلة وليلة" وبعضها لا نراه فيها، لأنه ليس منها، مثل "حكاية علي بابا والأربعين حرامي".

لعل أقدم نسخة كاملة من الكتاب هي نسخة مكتبة حيدر أباد الدكن، اذ يعود تاريخ نسخها الى سنة 442 للهجرة، بحسب ما جاء في آخرها: "هذا ما وقع الي من نسخة الف ليلة وليلة، انتسختها في ظاهر مدينة الكوفة في الثامن من شهر ربيع الأول، واتممت املاءها على طلاب القصص والاذكار في الخامس من رجب المرجب سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة للهجرة، على صاحبها وآله وصحبه السلام، وكتبه الفقير الى رحمة ربه محمد كريم الدين بن أحمد اللنكري".

فالنسخة اذن منقولة عن نسخة سابقة لها. لا نستطيع تخمين تاريخها بشكل دقيق، ولكنها بالتأكيد سابقة على القرن الخامس الذي نسخت فيه نسخة حيدر أباد. وتلك النسخة الأصلية كانت موجودة في مدينة الكوفة، في العراق، والكوفة ذات تاريخ عريق في العلم والعلماء والعناية بالكتب والمكتبات. فاما القطعة الموجودة من الكتاب في المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو، فيعود تاريخها الى القرن الرابع لا القرن الثالث كما ذكر كوركيس عواد في كتابه "أقدم المخطوطات العربية في مكتبات العالم". ولما كانت هذه النسخة قطعة صغيرة من الكتاب فوجب علينا ان نجعل نسخة حيدر أباد الأساس الذي نعتمده في الوصول الى ما نروم الوصول اليه، ولو كانت النسخة المشار اليها قد احتوت على اسم المؤلف لكفتنا مؤونة البحث والتحليل والمقارنة.

نلاحظ ان الكتاب أساساً منظّم على الليالي، وعددها مذكور في عنوانه، وكذلك ما ذكره الناسخ في آخره. فلا بد، اذن، ان يكون ثمة كاتب واحد، خطط لحكاياته وقسمها على عدد معين من الليالي، منطلقاً من فكرة واحدة وهي ان ملكاً من الملوك وهو شهريار اكتشف خيانة زوجه، فصم على قتل أية فتاة يتزوجها، حتى تظهر شهرزاد فتقص عليه تلك الحكايات، وتجعله يقلع عن تصميمه ذلك. ولو كان للكتاب أكثر من مؤلف لاختفت الفكرة الرئيسية من الكتاب، وأصبح كل كاتب جديد يضيف ما شاء من الحكايات، ولن يكون هناك حد معين لليالي، ولا للفكرة الرئيسية فيه، ولا للخاتمة التي وصل اليها الكتاب. أسلوب التعبير في جميع الحكايات متماثل، ولا ننسى اننا نقرأ الآن نسخة واحدة منه، لا نسخاً متعددة تتعدد أساليبها وتتغير باسم التنقيح والذوق والمحافظة على الحياء العام، ما أدى الى وقوع اختلافات جمة في الأساليب. وعلى رغم تلك المتغيرات الا انك تجد في كل نسخة حافظت ولو على شيء قليل من أصل الكتاب تشابهاً كبيراً في الأساليب المستخدمة في حكايات الكتاب المختلفة.

فنقرأ: "وكل واحد منهما حاكم عادل في رعيته مدة عشرين سنة" التي وردت في أولى الحكايات وهي المتعلقة بشهريار وأخيه وامرأتيهما. اذ ترددت هذه الجملة في أكثر من حكاية، منها "حكاية عمر النعمان" و"حكاية أنيس الجليس".

ونقرأ: "فحمل عنده غم زائد واصفر لونه وضعف جسمه" المذكورة في الحكاية نفسها، ثم في حكاية "شاه زمان" وحكاية "شركان وأخيه ضوء المكان" وحكاية "أيوب وقوت القلوب".

ويبدو لنا ان المؤلف لديه ذخيرة من التعابير والجمل التي تشكل أساساً للكتابة، بحيث يعيدها كلما سنحت له الفرصة، بدءاً من أولى الحكايات والى آخر ليلة من الليالي. ويمكن احصاء جانب منها، هنا:

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 200 و250 مرة موزعة على الكتاب كله، وقد يتكرر بعضها في ليلة واحدة، وخصوصاً اذا كانت الليلة طويلة بعض الشيء:

فسلما على بعضهما بعضاً. واذا بالجواري وسيدتهم دخلوا مع العبيد وفعلوا كما قال أخوه واستمروا كذلك الى العصر. فلما رأى الملك شهريار ذلك الأمر طار عقله من رأسه. فلما رأى الوزير دندان طار عقله من رأسه. فلما رأى الحكيم حالة قوت القلب طار عقله من رأسه. وجاء الأحدب الى عروسه، فرأى الجني جالساً عندها، فطار عقله من رأسه. فلما نظر في البئر وطالعه وجه الغولة، طار عقله من رأسه، لا تخاطري بنفسك، وقضى أيوب جميع تعلقاته. وقضى علاء الدين أبو الشامات جميع تعلقاته من بلاد الشام. فانتحب ذلك التاجر وبكى، وأعلن الثلاثة الشيوخ بالبكاء والعويل والنحيب. واجتمع قمر الزمان على الدراويش السبعة، وأعلن بالبكاء والنحيب، فبكى لبكائه الدراويش السبعة وأعلنوا بالدموع. وأنا سكران من غير مدام من كثرة الفرح والسرور الذي حصل لي الى ان أتيت داره. وسار اصلان بين العساكر وهو سكران من فرط الغرام، وما به شيء من شرب المدام، ولكن من كثرة الفرح والسرور الذي حصل له. الى ان أتى قدام الملك. قومي فاعملي سحراً واسحري من سحرته الجنية. فلما سمعت كلامي أخذت طاسة ملأتها ماء، ثم انها عزمت عليها ورشت بها العجل.

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 150 الى 200 مرة:

فإن روحي وصلت الى قدمي. فان روحي نزلت الى ساقي. فان قلبي نزل الى قدمي هذا على العكس مما شاع في ما بعد حيث اخذت الروح توصف بالطلوع والصعود لا بالنزول الى القدمين. ان كنت نائماً فاستيقظ وتعاد هذه الجملة في جميع المواضع التي فيها تحذير أو تنبيه من غفلة، أو تهديد أمن، أو التخويف. ثم أخذ السمك ودخل به منزله وأتى بماجور ثم ملأه ماء وحط فيه السمك. ثم أخذ اللحم الضاني ودخل به منزله وقال لامرأته هاتي الماجور وحطي فيه اللحم الضاني واملئيه ماء وضعيه على النار. ثم ان الشاطر حسن قام الى الفرس فذبحها وأمر بماجور فوضع فيه اللحم والماء والملح والبزور والتوابل ووضعه على النار. وجاء ابن عمي ومعه طاسة فيها ماء وكيس فيه جبس وقدوم، ثم انه أخذ القدوم وجاء الى قبر في وسط التربة ففكه ونقض الحجارة الى ناحية التربة ثم حفر بالقدوم في الأرض حتى كشف عن طابق قدر الباب الصغير.

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 100 و150 مرة:

يا أبت كانت عندي وأنا صغيرة عجوز ماكرة ساحرة علمتني السحر وقد حفظته واتقنته وعرفت مئة وسبعين باباً من أبوابه أقل باب منها أنقل حجارة مدينتك خلف جبل قاف، واجعلها لجة بحر واجعل أهلها سمكاً في وسطه. ونظر عبدالرحمن الى البحيرة فوجد سمكها ألواناً وهم مسحورون. ولطم على وجهه وشق ثيابه. ثم ان بنت الملك أخذت بيدها سكيناً مكتوباً عليها أسماء عبرانية وخطت دائرة في الوسط وكتبت أسماء وطلاسم. فأولاً عدمت ابنتي التي كانت تساوي مئة رجل، وثانياً جرى لي من الحريق ما جرى، وعدمت اضراسي ومات خادمي. فعدمته العافية. فلما رأت تودد الجارية ان سيدها قد عدمته العافية قامت ونهضت اليه: وقلت بعيني لا بروحي، فأردت ان أتفرج على الجزائر فترات في عشرة مراكب وأخذت معي مؤونة شهر وسافرت. ابشروا بهلاكنا جميعاً ولن يسلم منا أحد واستعمال البشرى في مثل هذا المورد غريب جداً، وبرغم ذلك فقد تكرر كثيراً، ومن الواضح انه استعمال خاص لكاتب محدد، لأنه ليس من الأساليب الشائعة ولا من الاستعمالات اللغوية المعروفة. أبشر بهلاك ابنك وهتك حرمة ابنتك. ابشر بزوال ملكك وقتلنا جميعاً. ويروح كل مسمار في المركب الى جبل المغناطيس ويلتصق به، لأن الله وضع في حجر المغناطيس سراً. وحاولت الطلوع على الجبل وصرت اتمسك بالنقر التي فيه. يا جماعة الى أين تذهبون. ان لي حديثاً لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر. ثم ان الخليفة طلع الى قصره. ثم ان الوزير طلع الى مرتبته. ثم ان حسن بدرالدين طلع الى الديوان، والذي سلمني في الأول يسلمني في الثاني.

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 50 - 100 مرة:

فجاءت موجة كالقلعة العظيمة فحملتني وقذفتني قذفة صرت بها فوق البر، فطلعت وعصرت ثيابي ونشفتها على الأرض. وبت، فلما أصبحت فبت ولبست ثيابي. واذا بصبية خرجت من الناموسية، فإن الرجل الجيد قليل في هذا الزمان، قمت وهيأت حالي. فقمت وأخذت جواري معي وسرت حتى اتينا الى زقاق، هب النسيم فيه وراق. وفي داخلها قصر قد قام من التراب وتعلق في السحاب. قاعة مفروشة. فوجدنا دهليزاً مفروشاً بالبسط مضاء بقناديل موقدة وشموع مضيئة وفيه الجواهر والمعادن أشكالاً، فمشينا في الدهليز الى ان دخلنا قاعة مفروشة وفي صدرها سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر، وعليه ناموسية من الأطلسي واذا بصبية خرجت من الناموسية مثل القمر ليلة أربعة عشر. فخرج شاب أزهر مثل القمر ليلة أربعة عشر.

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 25 الى 50 مرة:

وقدموا لنا السماط فأكلمنا حتى اكتفينا. وعملهم حجاباً عنده. سلامتك من هذه الوقعة يا سيد الأمراء وكهف الفقراء. والله ما بقيت أخرج من بيتي ثلاثة أيام. قصدي ان أتفرج خارج المدينة. ولكن أنت تريد ان تعمل معي على رأي الذي قال ان أردت ان ترده اجعل الثمن غالياً. يا ولدي لا تطاوع النفس فترميك في الهلاك، فإن البلدان خراب وأنا أخاف عليك من عواقب الزمان. ثم انه أمر بوضع الخرج على البغلة والبساط والسجادة. فجعلت اني أشربه مثل عادتي ودلقته. فقمت وتبعتها الى ان خرجت من القصر وشققت في أسواق المدينة. ولولا اني أخاف خاطرك لكنت قد جعلت المدينة خراباً، ثم رمت نفسها في تلك البحيرة، وتارة بصيغة المذكر. احذر من هذه الفعال القبيحة التي لم يفعلها أحد من قبلك ولا يفعلها أحد بعدك، وإلا نبقى بين الملوك بالعار والنقصان الى الممات وتشيع اخبارنا مع الركبان.

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 10 الى 25 مرة:

وقرأت القرآن على سبع روايات وتارة بسبع روايات أو سبع قراءات، وقرأت الكتب على أربابها من مشايخ العلم وقرأت علم النجوم وكلام الشعراء واجتهدت في سائر العلوم حتى فقت أهل زماني. ثم سرت منها حتى وصلت الى مدينة عامرة بالخبر. قد ولى عنها الشتاء ببرده، وأقبل عليها الربيع بورده. فزاد له الجوامك والجرابات. فلما توفي الوزير اخرجه خرجة عظيمة. والقصد انك تأخذ درجاً من الورق وتكتب ما أمليه عليك. فاحضر قرطاساً وصار يكتب. هل في الأمر مهلة حتى أدخل فآخذ معي شيئاً من الدنيا لاستعين به على الغربة. غطى رأسه بذيله وخرج هارباً. وقبض الثمن على سبيل التعجيل. كيف يخطب مثلي من مثلك بنتاً فتمنعها عنه وتحتج بحجة باردة. وحياة رأسي. وحطه على مصطبة. وأريد ان أعمل معك شيئاً لله. فما هذا بحولك وقوتك ولكنه بحول الله وقوته. فأمر الجواري ان يطرحنه فطرحنه ونزل عليه بالضرب الوجيع. فحزن على روحه وصار يتفكر في نفسه. فحدثه بحديثه وما جرى له ولأخيه من المبتدى الى المنتهى.

هذه نماذج دالة عما وراءها من شواهد أسلوبية عدة تؤكد ان مؤلف الليالي كاتب واحد لأن من المستحيل ان يستعمل أكثر من كاتب الذخيرة اللغوية الواحدة. فلكل كاتب قديماً وحديثاً معجمه اللغوي، وأسلوبه الذي يمتاز به عن غيره. كما ان من المستحيل ان تكون هذه الحكايات أساطير وخرافات شعبية لملمها ذلك الكاتب. بل العكس هو الصحيح، حيث ان كاتباً ما ألف تلك الحكايات بقضها وقضيضها، وكتبها، وأذاعها بين الناس فانتشرت وأصبحت بمثابة الذاكرة الشعبية.

* باحث وجامعي عراقي - لندن
 
2 من 5
طرق التجارة في "الليالي" تكشف عن هوية المؤلف الحقيقية

وتمثل متابعة طرق التجارة ومسارات القوافل طريقة أخرى لإثبات ان "ألف ليلة وليلة" من ابداع كاتب واحد وزمن واحد وبيئة واحدة. فلو تعدد الكاتبون، سواء كانوا من مدينة واحدة أم من مدن متعددة، وسواء كانوا في زمن واحد أو أزمان متعددة، على ما يريدنا كثير من الدراسين ان نقتنع، لوجدنا اختلافاً في وصف طرق التجارة بين بغداد والشام ومصر، مثلاً، إذ ان كل كاتب سيصف طرقاً غير هذه المذكورة في "ألف ليلة وليلة" بحسب الطريق الذي يسلكه أبناء عصره ومدينته في تجارتهم ومواصلاتهم.

فلو سألت أبناء هذا القرن عن كيفية الانتقال من بغداد مثلاً إلى دمشق، لوصفوا لك الطريق الجو، ولاعطوك فكرة واضحة جداً عن طريقين اعتاد الناس سلوكهما: أولهما المار عبر الأردن، والثاني المار عبر نقطة الخابور ودير الزور. أما في العصور السابقة فكانت هناك طرق عدة، ولكل فترة زمنية طريقها. وذلك بسبب ان الأمن إذا اضطرب من طريق، هجره الناس وانتهجوا طريقاً آخر، وهكذا.

في "ألف ليلة وليلة" نجد طرقاً محددة واضحة مذكورة منازلها ومدنها وآبارها، كما نجد طرقاً تذكر بوجه عام مجمل، فلا تفاصيل. أما حين تكون الطرق بعيدة عن مخيلة المؤلف وتجربته، كأن لم يكن قد سافر فيها، فيأتي ذكرها موجزاً بعبارة أو عبارتين. وفي حال كون تلك الطرق تخرج عن عالم الواقع، فإن الكاتب يلجأ إلى الجن تارة، وإلى الحصان الطائر تارة أخرى، وإلى كل ما يمكن ان ينقل بطل الحكاية من مكان معلوم إلى آخر متخيل، كجبل قاف وما وراء بحر الظلمات والجزائر الخالدات التي تفصلها عن مدينة بغداد مسافة سبعين عاماً للطائر المجد في طيرانه، كما نقرأ في حكاية "الطيور السبعة" ومثلها قول شهرزاد في "حكاية الأحدب": "وبلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان في بلاد الصين". وفي "حكاية غانم بن أيوب": "وكان في الجزائر الداخلة في بلاد الصين وهي بلاد الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور والسبعة قصور".

ولعل ما جاء في "حكاية الأمجد والأسعد" يمثل تفصيلاً وافياً لتلك المناطق المتخيلة البعيدة عن هذا العالم:

"فأما ما كان من أمر الأمجد والأسعد، فإنهما لم يزالا سائرين في البرية وهما يأكلان من نبات الأرض ويشربان من متحصلات الأمطار مدة شهر كامل، حتى انتهى بهم المسير إلى جبل من الصوان الأسود، لا يعلم اين منتهاه، والطريق افترقت عند ذلك الجبل إلى طريقين: طريق تشقه من وسطه، وطريق صاعدة إلى أعلى، فسلكا في الطريق التي في أعلى الجبل، واستمرا سائرين فيها خمسة أيام، فلم يريا لها منتهى، وقد حصل لهما الاعياء من التعب... ولما يئسا من الوصول إلى منتهاه رجعا وسلكا الطريق التي في وسط الجبل... مشياً طول ذلك النهار إلى الليل، فتعب الأسعد من كثرة المشي، فقال لأخيه: يا اخي أنا ما أقدر على المشي، فإني ضعفت جداً. فقال له الأمجد: شد حيلك يا اخي، لعل الله يفرج عنا".

وفي مثل هذه الاماكن الغامضة المخوفة تتجول بنا الحكايات في مواضع الجن والعفاريت، ورحلات السندباد البحري التي تدخل تارة بحر الظلمات، وتارة البحور التي لا اسماء لها. وفي كل هذه الاماكن الحقيقية والمتخيلة، يجري ذكر المواد والبضائع التجارية المنتقلة من هذه المدينة إلى تلك، ومن ذلك البلد إلى هذا، وهي البضائع ذاتها تقريباً في جميع الحكايات، فلا فرق بين ما حملته قافلة قمر الزمان، وما احتوت عليه قافلة علاء الدين ابي الشامات. وما كان السندباد البحري يتاجر به. فالكاتب واحد ودرايته بالتجارة لا تؤهله لأكثر من ذلك، ولو كان ثمة كتّاب آخرون شاركوا في تأليف الكتاب لظهرت بضائع أخرى، واسماء سلع ووصف تعاملات أكثر من الموجود حالياً في الكتاب.

وأحياناً لا يجد الكاتب حاجة لذكر البضاعة نفسها، فلا يفصل في الكلام عليها، بل يكتفي بذكر تجهيز البضائع وانطلاق القوافل. في الحكاية الأولى، وهي "حكاية التاجر والعفريت"، تقرأ: "وجهزنا بضائع واكترينا مركباً ونقلنا فيه حوائجنا وسافرنا مدة شهر كامل، إلى أن دخلنا مدينة وبعنا بضائعنا فربحنا في الدينار عشرة دنانير، ثم أردنا السفر، فوجدنا على شاطئ البحر جارية"، يأخذونها معهم ويعودون إلى بغداد عن طريق البحر، فنهر دجلة.

وتذكر التجارة مع الروم بمثل قوله: "وهم ناس غرباء قد حضروا بتجارة من أرض الروم"...

ومع الهند: "فسمع بي ملك الهند فأرسل في طلبي من أبي، وارسل إليه هدايا وتحفاً تصلح للملوك، فخرجت في قافلة من التجارة متجهة إلى بلاد الهند".

ومع جزائر الابنوس الداخلة، وهي أماكن متوهمة لا يستطع تحديدها.

ومع مملكة الملك اقناموس التي لا نعلم عنها إلا "وكانت على البحر، والبحر متسع، وحولنا جزائر معدة للقتال، فأردت ان اتفرج على الجزائر".

ويدخل العفاريت في التجارة بين المدن، ولكنها جميعاً، تقريباً، أسماء مدن لا وجود لها على وجه الأرض "فيجيء إليك عفريت في زورق وبيده مجذاف، فاركب معه، فإنه يحملك ويسافر بك مدة عشرة أيام إلى أن يوصلك إلى بحر السلامة، فإذا وصلت هناك تجد من يوصلك إلى بلادك".

وفي عصر المؤلف كان نهر دجلة يمثل شرياناً من شرايين النقل والتجارة، حيث نقرأ في "حكاية الحمال والثلاث بنات": "فأردت ان أجهز لي مركباً إلى البصرة، فجهزت مركباً كبيراً وحملت فيها البضائع والمتاجر وما احتاج اليه… ولم نزل مسافرين فتاه بنا المركب، ودخل بحراً غير البحر الذي نريده ولم نعلم بذلك مدة، وطاب لنا الريح عشرة أيام، فلاحت لنا مدينة على بعد". وكانت هذه مدينة للمجوس، وبذلك نستطيع تحديد زمن كتابة هذه الحكاية في حوالى أواخر القرن الثالث للهجرة، او ما قبله لأن القرن الثالث شهد افتتاح نهر عظيم يربط بما بين شط العرب من جنوب أهوار العراق، ونهر قارون في بلاد فارس. ولا يبعد ان يكون المركب دخل الى ذلك النهر ورسا بهم على احدى مدن الفرس، ولا ننسى ان المجوس كانوا آنذاك يتمركزون في بعض أرجاء بلاد فارس. ويؤكد هذا ان معارك البويهيين الذين اتجهوا من بلاد فارس الى بغداد وقعت قرب ذلك النهر، ثم استولوا على البصرة ومنها دخلوا بغداد في القرن الرابع، على ما يذكره المؤرخون. وتواصل الحكاية السابقة وصف طريق العودة، فتقسم النهر الى قسمين، تسميه بحر الخوف وبحر الأمان، فتقول: "ولم نزل سائرين حتى خرجنا من بحر الخوف ودخلنا بحر الأمان، وسافرنا أياماً قلائل الى ان قربنا من مدينة البصرة، ولاحت لنا ابنيتها". والظاهر ان سبب تسمية نهر قارون بذلك الاسم انه شديد الأمواج متدافعها بعيد ما بين الضفتين، وهو ما زال قائماً إلى الآن، وإن كانت عوامل التعرية والجفاف أثرت فيه بعض الشيء.

وتهتم الحكايات بذكر الروابط التجارية بين بغداد والبصرة، وتذكر الطرق الرابطة بينهما، مقتصرة على طريق البر المحاذي لنهر دجلة، وطريق النهر نفسه، متجنبة ذكر طرق خرى تساير نهر الفرات، او تدخل في ما بين النهرين، وذلك لأن الطريقين الأخيرين قد اهمل استعمالهما منذ اوليات القرن الثالث للهجرة بسبب اضطراب حبل الأمن فيهما وانتقال العاصمة من بغداد الى سامراء على أيام المعتصم بالله العباسي الذي خلف المأمون على سدة الحكم والخلافة. وذكر الطريق المحاذي لدجلة اثناء وصف انتقال "الوفود الرسمية" من بغداد الى البصرة، او انتقال الولاة الجدد ومراسلي الخليفة، وأيضاً القوافل التجارية الكبيرة. فأما طريق دجلة ذاته، فيأتي ذكره للانتقال الأكثر أمناً والذي لا يحوج الى الطريق الآخر لأن البضاعة المنقولة صغيرة او لأن السفر تم بسبب حاجات بسيطة، كأن ينطلق احدهم ليجلب ثلاث تفاحات من البصرة لأن في تلك التفاحات شفاء لزوجه المريضة، كما تطالعنا "حكاية هارون الرشيد والجارية".

على ان أكثر الطرق تفصيلاً هي الرابطة بين بغداد ودمشق، حيث تكرر ذكرها في اكثر من حكاية، منها "حكاية الوزيرين"، و"حكاية علاء الدين ابي الشامات"، و"حكاية قمر الزمان"، و"حكاية عمر النعمان" وغيرها.

وكذلك الطرق الرابطة بين بغداد ودمشق والقاهرة، والتي جاء ذكرها في الحكايات السابقة ايضاً، باستثناء "حكاية عمر النعمان"، لأنه، في الفترة التي كُتبت فيها "ألف ليلة وليلة" لم يكن ثمة طريق يربط بغداد بالقاهرة إلا ما كان عبر دمشق.

وبطبيعة الحال فإن المسافر حينذاك كان لا بد له ان يمر ببيت المقدس، ومدن اخرى تربط بين مدن الشام نفسها كحمص وحلب. والملاحظ ان الطريق الرابط بين بغداد ودمشق كان يمرّ بمدينة الموصل، بمعنى أنه لا يأخذ الطريق الأوسط السالك حالياً، بل يتجه الى الشمال. وهذه الملاحظة تساعد في تحديد العصر الذي كتب فيه الكتاب، ففي اوائل القرن الثالث أهمل الناس سلوك الطريق الاوسط لكثرة العصاة والعصابات فيه. فهناك كان القرامطة، ومن هناك انطلق الزنج، اضافة الى جماعات قطاع الطرق من العشائر التي استوطنت منطقة الدليم الحالية والبادية الغربية من العراق.

نقرأ رحلة الوزير نورالدين من مصر الى بغداد، فنراه يدخل مدينة القدس "فنزل واستراح واخرج شيئاً اكله ثم حط الخرج تحت رأسه وفرش البساط ونام... ثم انه بات في ذلك المكان. فلما اصبح الصباح ركب وسار يسوق البغلة الى ان وصل الى مدينة حلب، فنزل في بعض الخانات واقام ثلاثة ايام حتى استراح. ثم انه عزم على السفر وركب بغلته وخرج مسافراً ولا يدري اين يذهب، ولم يزل سائراً الى ان وصل الى مدينة البصرة ليلاً". حيث اختصر الراوية منازل الطريق لأنه سيعود اليها بتفصيل اكثر في حكايات لاحقة، وانما كان همه في هذه معاندة الطوالع، عملاً بقول الشاعر: "تقدر انت وجاري القضاء مما تقدّره يضحك".

ففي "حكاية محمود البلخي" هناك وصف اكثر تفصيلاً ودقة، مع المرور بالقدس وحلب ايضاً، حيث نقرأ قصة تلك السفرة، وحوار علاء الدين مع ابيه بشأن الرحلة من مصر الى بغداد: "فقال له: يا ولدي خيّب الله الغربة. فقد قال رسول الله: من سعادة المرء ان يرزق في بلده، وقال الاقدمون: دع السفر ولو كان ميلاً. ثم قال لولده: هل صممت على السفر ولا ترجع عنه؟ فقال له ولده: لا بد من السفر الى دار السلام ومؤئل الكرام بغداد، عاصمة الخلافة، وزينة دولة الاسلام، فاعطني من فضلك متجراً وإلا خلعت ثيابي ولبست ثياب الدراويش وطلعت سائحاً في البلاد. فقال له: ما انا محتاج ولا معدم بل عندي مال كثير. وأراه جميع ما عنده من المال والمتاجر والقماش. وقال: أنا عندي لكل بلد ما يناسبها من القماش والمتاجر. وأراه من جملة ذلك اربعين حملاً محزمين ومكتوباً على كل حمل ثمنه الف دينار. ثم قال: يا ولدي خذ الاربعين حملاً والعشرة احمال التي عند امك وسافر مع سلامة الله تعالى، ولكن يا ولدي اخاف عليك من غابة في طريقك تسمى غابة الأسد، وواد هناك يقال له وادي الكلاب، فانها تروح فيها الارواح بغير سماح، واحذر الطريق الوسطى، فقال له، لماذا يا والدي؟ فقال: من قاطع طريق يقال له عجلان... ولما اصبح الصباح اعطى شاهبندر التجار لولده عشرة آلاف دينار، وعاهد بينه وبين العكّام، وقال له: يا ولدي، اذا دخلت بغداد ولقيت القماش رابحاً فبعه، وان لقيت حاله واقفاً فاصرف من هذه الدنانير". ويسافر علاء الدين "ولم يزالوا مسافرين في البراري والقفار حتى أشرفوا على الشام، ثم سافروا من الشام الى أن دخلوا حلب" ومن هناك الى الموصل ثم الى بغداد.

ويقيم بعض أبطال الحكايات في دمشق ردحاً من الزمن يشترون ويبيعون، وقد يدخل بعضهم في مغامرات ويقعون ضحايا للصبايا الجميلات.

وفي "حكاية حسن بدرالدين" يخرج الابن "عجيب" من البصرة الى مصر للالتقاء بعمه "حسن بدرالدين" لعله يعرف شيئاً عن أبيه، فيرافقه عمه عائداً الى البصرة ومنها الى مصر مرة أخرى، مروراً بالموصل وحلب ودمشق، حيث تقع لهم في دمشق مواقف طريفة، اذ كان الأب يعمل هناك. فلنترك شهرزاد تحدثنا عن نزولهم الأخير في دمشق الشام: "ولم يزل سائراً حتى وصل الى مدينة دمشق، فنزل على القانون وضرب الخيام، وقال لمن معه اننا سوف نقيم بدمشق اسبوعاً الى أن نشتري للسلطان هدايا وتحفاً. ثم قال عجيب للطواشي: يا غلام اني اشتقت الى الفرجة فقم بنا ننزل الى سوق دمشق ونختبر أحوالها وننظر ما جرى لذلك الطباخ الذي أكلنا طعامه وشجينا من اللهجة العراقية بمعنى شججنا رأسه... ثم ان عجيباً خرج من الخيام هو والطواشي وحركته القرابة الى التوجه لوالده، ودخلا مدينة دمشق، وما زالا سائرين الى أن وصلا الى دكان الطباخ". ثم تستمر الحكاية بايراد التقاء الابن بأبيه. ومن الملاحظ ان بغداد ودمشق والقاهرة حظيت بكثير من العناية، وذكر الأشعار التي وصفتها وامتدحت جمالها. وأحياناً تتكرر الأشعار ذاتها مما يؤكد اعجاب مؤلف الكتاب بتلك الأشعار من جهة وبتلك المدن من جهة أخرى، فلا بد أنه كان قد زارها ومكث فيها لفترة من الزمن سمحت له بأن يذكر تلك الأوصاف عنها. فأما عن بغداد فنجده يصفها وصفاً دقيقاً، ويصف حاراتها وشوارعها وأزقتها، بحيث يعطينا انطباعاً لا يقبل النقض بأنه كان من أهلها أو من سكنتها على أقل تقدير.

ويمكن أن نقسم أوصاف المدن المذكورة في طرق التجارة والمواصلات، بحسب مرات ورودها وذكر حاراتها ومناطقها، بهذا الترتيب:

بغداد وقد ورد ذكرها ووصف حاراتها وشوارعها ومساجدها ومدارسها 478 مرة، دمشق الشام ووصف بعض معالمها 68 مرة، القاهرة أو مصر في بعض المواضع 22 مرة، البصرة 18 مرة وأوصاف مدينة البصرة أكثر شمولاً واستيعاباً من أوصاف القاهرة، ثم مدينة القدس 12 مرة، ومكة والمدينة المنورة 10 مرات، ثم المدن الأخرى التي يأتي ذكرها عرضاً مثل سمرقند وخراسان والهند والصين وغيرها.

وفي هذا دلالة على موطن الكاتب وبيئته، فمن الطبيعي أن ابن المدينة أقدر من غيره على وصفها واضفاء مزيد من الدقة على أوصافه، "وأهل مكة أدرى بشعابها". وعودة الى قضية التجارة، نلاحظ ان المؤلف يعني بذكر صور للمكاتبات التجارية تذكرنا بما ينقله المؤرخون عن صور المكاتبات التجارية في القرن الرابع للهجرة في بغداد والبصرة على وجه التحديد، كما في قصة التاجر اليهودي: "فقال له اليهودي: يا سيدي ان أباك قد أرسل مراكب تجارة ومرادي ان اشتري منك وثيقة كل مركب قدمت بألف دينار. ثم أخرج اليهودي كيساً ممتلئاً ذهباً وعدّ منه ألف دينار ودفعه الى حسن ابن الوزير. ثم قال اليهودي: اكتب ورقة واختمها، فأخذ حسن ابن الوزير ورقة وكتب فيها: كاتب هذه الورقة حسن ابن الوزير قد دفع لليهودي فلان جميع وثائق كل مركب وردت من مراكب أبيه المسافرة بألف دينار وقبض الثمن على سبيل التعجيل".

وتتكرر هذه الصيغة في كل موضع احتاج فيه الحدث الى تبادل بضاعة أو بيع بمستند ووثيقة، مما يؤكد أن الكتاب من انتاج مبدع واحد عاش في بغداد في القرن الرابع للهجرة.
 
3 من 5
الشعر في "الليالي" يحمل مؤشرات الى هوية كاتبها

> قراءة ثالثة للكتاب، من حيث شواهده الشعرية وامثاله التي يتمثل بها ابطال الحكايات عربيهم واجنبيهم، رجالاً ونساءً وتكرار تلك الشواهد والامثال، تدل على ان مبدع الكتاب واحد، لا مجموعات من اساطير الشعوب الراقية جُمّعت ووضعت في كتاب. كما ان تاريخ تلك الاشعار والامثال، تساعدنا، كثيراً، في تحديد زمن التأليف. فلو كان ثمة مجموعة من المؤلفين تعاقبت على تأليف هذه الحكايات، لظهرت في كل حكاية اشعار وامثال تختلف عما وقع في حكايات اخرى. ولو امتدت حكايات الكتاب الى القرن العاشر للهجرة على ما يريد بعض الكتّاب تصويره، لظهرت اشعار من ذلك القرن او ما سبقه. اما توقف الحكايات عند اشعار القرن الرابع وما سبقه، فيدل دلالة ساطعة على زمن التأليف، بل ومكانه ايضاً. منذ الحكاية الاولى تظهر الاشعار، وهي ما بين عشق وعتاب ومديح ووصف وشجاعة وفروسية، يستشهد بها ابطال الحكايات على ما هم فيه، او بما ينسجم وحالهم ومتطلبات لحظتها.

الاشعار بعضها يُذكر لمرة واحدة، وهذه اشعار قليلة لا تزيد عن خمسين نصاً. فأما الاشعار الاخرى او التي تزيد عن ثلاثمئة نص، فقد اعيد بعضها مرتين، وبعضها اكثر من ذلك. كما ان بعضاً منها اعيد بتغيير طفيف، بسبب رغب المؤلف في التنويع، ولن كان الكتاب من تأليف مجموعة من المؤلفين، لما برزت هذه الظاهرة، اذ سيكون لكل واحد من المؤلفين قاموسه الشعري المغاير، الى هذه الدرجة او تلك لقواميس الآخرين، فيستغني بما لديه من اشعار عن اعادة اشعار المؤلفين الآخرين او تغيير بعض حروفها.

وعلى سبيل المثال، فان قول الشاعر:

قل للمليحة في الخمار الاسود = ماذا فعلت براهب متعبّد

يظهر مرة بهذا اللفظ، ومرة بألفاظ اخرى:

قل للمليحة في الخمار الاسود = ماذا فعلت براهب متزنّر

اي يلبس الزنار، وهو الحزام. وسبب التغيير وجود بيت آخر على قافية الراء يريد مؤلفه ان يستشهد به.

ومن امثلة هذه الالعوبة، ما وقع في قول الشاعر:

يا موت زُر ان الحياة ذميمة = ويا نفس جدّي ان دهرك هازلُ

حيث ان الراوية غيّرَه وألحقه بأبيات على قافية الطاء،. لأن ذكر هذا الشاهد مع تلك الأبيات يؤكد المعنى الذي يريد المؤلف ايصاله الى القارئ، وهو سوء توزيع الثروة، ووقوع المفكرين والمبدعين والافاضل في قبضة الفقر والجوع والفاقة، وتلك الابيات هي:

هو الرزق لا حلّ لديك ولا ربطُ = ولا قلم يجدي عليك ولا خطّ
تحطّ صروف الدهر كل مهذب = وترفع من لا يستحق له الحطّ
فيا موت زر ان الحياة ذميمة = اذا انحطت البازات وارتفع البطّ
فطير يطوف الارض شرقاً ومغرباً = وآخر يعطي الطيبات ولا يخطو

ولو كان قد تعاقب على تأليف الكتاب اكثر من كاتب واحد لاستغنى الكتاب عن هذا التغيير ولكان الكاتب الآخر قد لجأ الى الاستشهاد على هذا المعنى بقول الشاعر:

أفاضل الدهر أغراض لذا الزمن = يخلو من الهم اخلاهم من الفطنِ

ولاتخذ المؤلف الثالث، من قول الشاعر:
ولو كانت الارزاق تجري على الحجا = هلكن اذن من جهلهنّ البهائم

وسيلة لاداء المعنى الذي أراده، ولما احتاج الى هذا التغير حين تضطره الحكاية الى الاستشهاد على غرض يشابه سابقاً له، اذ ان قاموسه الشعري، ومحفوظاته، وميله الى شاعر معين، وذوقه في انتقاء الاشعار ستكون مغايرة للمؤلفين الآخرين، على فرض وجودهم الذي يقول به باحثون متعددون شرقاً وغرباً.

ويتخذ المؤلف هذا التغيير، سواء وقع منه ام من الشاعر الذي يُنسب الشعر اليه، وسيلة لاثبات الفصاحة والبلاغة، لبطل حكايته او بطلتها فقد يعيد ابياتاً بمعنى واحد والفاظ واحدة باستثناء القافية، وهي اللعبة التي شعر بها شعراء القرن الرابع وما قبله، على ما تظهر في اشعار بديع الزمان الهمذاني ت 498 هـ. ومن امثلة ذلك، هذه الابيات الجميلة والمختلفة في عزوها كثيراً، غير انها لا تتعدى القرن الرابع للهجرة بأي حال من الاحوال، حتى اذا كان وهم بعضهم فنسبها الى متأخرين:

قولي لطيفك ينثني = عن مضجعي وقت المنام
كي استريح وتنطفي = نار تأجّج في العظام
دنف تقلبه الأكف = على بساط من سهام
أمّا انا فكلما علمت = فهل لوصلك من دوام

حيث يمسك الراوية المعنى ويغيّر القافية الى:

قولي لطيفك ينثني = عن مضجعي وقت الوسن
كي استريح وتنطفي = نار تأجّج في البدن
دنف تقلبه الأكف = أما أنا فكما علمت
فهل لوصلك من ثمن = ومرة اخرى يتم التغيير الى:
قولي لطيفك ينثني = عن مضجعي وقت الرقاد
كي استريح وتنطفي = نار تأجّج في الفؤاد
دنف تقلبه الأكف = على بساط من سهاد
أما أنا فكما علمت = فهل لوصلك من سداد

ومرة رابعة تمسك بطلة الحكاية المعنى والألفاظ وتغير القافية، بناء على طلب الخليفة هارون الرشيد، فتقول:

قولي لطيفك ينثني = عن مضجعي وقت الهجوع
كي استريح وتنطفي = نار تأجّج في الضلوع
دنف تقلبه الأكف = على بساط من دموع
أما أنا فكما علمت = فهل لوصلك من رجوع

ولو كان عصر التأليف متأخراً عن القرن الرابع كثيراً، لوجدنا استشهاداً اضافياً على هذه الابيات التي اوصلها بعض شعراء القرن السابع الهجري الى ثمانين بيتاً.

وهناك مجموعة من الاشعار تكررت في سبعة مواضيع في الكتاب كقول الشاعر:

ان يوم الفراق قطّع قلبي = قطّع الله قلب يوم الفراق

وقول الآخر:

لا يكتم السرّ الا كل ذي ثقة = والسر عند خيار الناس مكتومُ
السر عندي في بيت له غلق = ضاعت مفاتيحه والبيت مختومُ

ومثله قول الآخر:

فالى متى هذا التجنّب والجفا = فلقد جرى من أدمعي ما قد كفى
فلكم تطيل الهجري لي متعمداً = ان كان قصدك حاسدي فقد اشتفى

وكذلك هذه الابيات التي يرقى زمنها الى القرن الثالث للهجرة:

الدهر يومان ذا أمن وذا حذرُ = والعيش شطران ذا صفو وذا كدرُ
قل للذي بصروف الدهر عيّرنا = هل عاند الدهر الا من له خطر…
أما ترى البحر تعلو فوقه جيفُ = وتستقرّ بأقصى قاعة الدررُ
فإن تكن عبثت ايدي الزمان بنا = ونالنا من تمادي بؤسه الضررُ
ففي السماء نجوم لا عداد لها = وليس يُكسف الا الشمس والقمرُ

ومما ورد ذكره خمس مرات، فقول الشاعر:
نصحت فلم أفلح وغشوا فأفلحوا = فأوقعني نصحي بدار هوانِ
فإن عشتُ لم أنصح = من بعدي بكل لسانِ

وقول الآخر يصف أقواماً طغوا وتجبّروا وظلموا:
تحكموا واستطالوا في تجبرهم = وعن قليل كأن الحكم لم يكنِ
لو انصفوا أُنصفوا لكن بغوا فبغى = عليهم الدهر بالآفات والمحن
واصبحوا ولسان الحال ينشدهم = هذا بذاك ولا عتب على الزمنِ

ومثله هذه الابيات في الشكوى والتسليم الى القضاء والقدر:
ما ترحمون عزيز قوم ذل = في شرع الهوى، وغني قوم افتقر
ما حيلة الرامي اذا التقت العدى = فأراد يرمي السهم فانقطع الوتر
واذا تكاثرت الهموم على الفتى = أين المفر من القضاء والقدر

ومما ورد ذكره ثلاث مرات، وهو عدد كبير من الشواهد، فنكتفي منه بما يلي:

قبلته فاسودت المقل التي = هي فتنتي واحمّرت الوجناتُ
يا قلب ان زعم العواذل انه = في الحسن يوجد مثله قل هاتوا

وقول الشاعر الغزل:

وسكرت من خمر الغرام ورقّصت = عيني الدموع على غناء الحادي
أسعى لأسعد بالوصال وحق لي = ان السعادة في بدور سعادِ
لم أدر من اي الثلاثة اشتكي = ولقد عددت فاصغ للاعدادِ
من لحظها السيّاف ام من قدها = الرمّاح أم من صدغها الزرادِ
قالت وقد فتشت عنها كل من = لاقيته من حاضر او بادي
انا في فؤادك فارمِ طرفك نحوه = ترني، قلت لها: وأين فؤادي؟

ومن طريف ما يلاحظ على شواهده المكررة انه احياناً يذكر جزءاً في موضع ما، ثم لما يحتاج الى اعادته في موضع آخر يضيف عليه ابياتاً اخرى من القصيدة الاصلية نفسها، ثم اذا كرره بعد ذلك زاد فيه ايضاً. فمرة يروي قول الشاعر:

زر من تحب ودع مقالة حاسدِ = ليس الحسود على الهوى بمساعدِ
لم يخلق الرحمن احسن منظراً = من عاشقين على فراش واحدِ

ثم لما تحوجه حكاية اخرى الى الاستشهاد على المعنى المراد اعاد البيتين وزاد عليهما:

متعانقين عليهما حلل الهوى = متوسدين بمعصم وبساعد
واذا صفا لك من زمانك واحد = فهو المراد وعش بذاك الواحدِ

وفي حكاية ثالثة، يعيد الابيات السابقة ويكملها بقول الشاعر ذاته، ومن القصيدة ذاتها:

واذا تألفت القلوب على الهوى = فالناس تضرب في حديد باردِ

فاذا وصل الى موضع فيه وعظ وارشاد وأدخل على القصيدة بيتين آخرين هما:

يا من يلوم على الهوى أهل الهوى = هل يستطاع اصلاح قلب فاسدِ
يا رب يا رحمن تحسن ختمنا = قبل الممات ولو بيوم واحد

وليس هذا التكرار والتغيير خاصاً بالشعر بل نراه متسقاً في امثال النثر ايضاً، فلقد اعاد كثيراً الامثال التي تضرب للتحذير من اصدقاء السوء، ومن تقلّب الزمان، وغدر الاصحاب والخلان، والرضا بالقضاء والقدر، وما الى ذلك من معان انصرف القدماء الى تجذرها عن طريق الامثال، كقولهم: بعينك لا بروحك. وبالمال ولا بالحال. يا محسناً لمن أساء كفى المسيء فعله. لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك.

على اننا نلاحظ في كل هذا ان المؤلف كرر ابياتاً بعينها اربع عشرة مرة، وهي لشاعر واحد، هو العالم اللغوي ابو الحسين احمد بن فارس المتوفي سنة 395 للهجرة. ومن ذلك قوله:
ونفسك فز بها ان خفت ضيماً
وخل الدار تنعي من بناها
ورواه مرة "وخل الدار تنعي من بكاها".

وكذلك قوله:
تلبّس ثياب الرضا بالقضا = وخل الامور لمن يملكُ
أي لله تعالى.
تقدر أنت وجاري القضا = ءِ مما تقدره يضحكُ
وأعاد قول الشاعر نفسه:
اذا ازدحمت هموم الصدر قلنا = عسى يوماً يكون لها انفراجُ

وتمثل هذه الابيات آخر ابيات الكتاب زمنياً، لأن ابن فارس توفي في سنة 395 للهجرة كما سبق ان ذكرنا، كما انها تمثل اهتماماً خاصاً من المؤلف بها، لأنه اعادها اكثر من غيرها. ولا نظن بأن المصادفة هي التي قادته الى ذلك، ولا ان ابيات ابن فارس اجمل من غيرها. وأدل على ذلك المعنى من سواها، فثمة ابيات اكثر جمالاً وعذوبة، وأقرب الى مواضع الاستشهاد من أبيات ابن فارس، ومع ذلك عني بها المؤلف كثيراً واعادها اكثر مما اعاد غيرها. فهل لهذه الاعادة دلالة تسعفنا في الوصول الى تخوم تحديد اسم مؤلف "الليالي" وعصره وبيئته؟ نحسب ذلك، لأن الاهتمام بشعر ابن فارس وتكراره اكثر من غيره، يدل على صلة خاصة بين المؤلف وبين ذلك العالم اللغوي الجليل، على ما سنراه لاحقاً.
 
4 من 5
مضامين "الليالي" تعكس بيئة بغداد المدينية التجارية

ان قراءة متأنية في مضامين حكايات "الف ليلة وليلة" تؤيد هي الاخرى ما نذهب اليه من كون الكتاب مؤلفاً من قبل كاتب واحد، وفي القرن الرابع للهجرة في بغداد. ذلك ان المضامين، اي ما انصرفت اليه الحكايات من قيم ومثل وعادات وتقاليد، ترسم بدقة ووضوح ملامح البيئة والعصر وقناعات المؤلف. ولو كان هناك اكثر من مؤلف واحد لاختلفت تلك القيم والمثل والعادات والتقاليد.

ولنا شاهد حي من عصرنا الحاضر، فعلى رغم تطور الاتصالات والمواصلات والاختلاط بين البيئات المختلفة، ومنها البيئات العربية، فاننا نجد الاختلافات في كثير من جزئيات القيم والتقاليد والعادات موجودة بين الشعوب العربية نفسها، مع اشتراكها في العناوين العامة للقيم والتقاليد. فانت تلاحظ ظاهرة الكرم مثلاً تتفاوت بين ابناء البلدان العربية، فهناك من يكون كريماً الى درجة ان آخرين يتهمونه بالتبذير او حتى السفه.

وعلى صعيد التقاليد المرعية، ومع ان ظاهرة الزواج مثلاً ظاهرة مشتركة بين جميع العرب بل وحتى المسلمين من غير العرب باعتبارها ظاهرة دينية بالدرجة الاولى، فان تفاصيلها تختلف من بلد الى آخر بل من مدينة الى اخرى، احياناً، في داخل البلد الواحد نفسه. فمن يدفع المهر؟ هل يدفعه أهل الزوج أم الزوجة؟ ومن يقوم بتأثيث بيت الزوجية؟ وقضايا العصمة، حيث تجد بعض البلدان العربية تمنح المرأة ذلك الحق، وبعضها الآخر لا يعترف به. ومسألة اشهار الزواج واعلانه، وقضايا الطلاق وشروط وقوعه، ومشكلات تعدد الزوجات بين الاباحة والمنع والبين بين!

هذا في مسألة جاءت عليها نصوص دينية لا يرقى اليها الشك، ولكن ارتقى اليها الاجتهاد ما بين تيسير احياناً وتعسير احياناً اخرى. فما بالنا بالمسائل الاخرى التي تكتسب صفة النسبية بحسب الظروف والاحوال؟

ومن هنا فان دلالات مضامين حكايات "الف ليلة وليلة" تشير الى اتجاه واحد، له سمات خاصة في كل ما يتعلق بالقيم والعادات والتقاليد، بحيث لا يمكن صدورها الا من شخص معين وبيئة معينة وعصر محدد.

في "ألف ليلة وليلة" حكايات كثيرة، يمكن تصنيفها بحسب حجمها وموضعاتها الى:

< حكايات طويلة تستغرق صفحات عدة، وتكشف عن تلاحق اجيال عدة، مثل حكاية عمر النعمان، وولديه شارلكان وضوء المكان، ثم حكاية ضوء المكان واخته، وحكاية كان ياما كان وقضي فكان، حيث تمتد لأربعة اجيال متواصلة، تقع فيها حروب متطاولة بين العرب والروم، على الارض الواقعة بين الشام وبلاد الروم، وما يحدث في اثناء ذلك من مكائد ومعارك وكر وفر لا تتسع لها عشرات السنين، اضافة الى المواليد الجدد وما يكون لهم من أدوار فيها.

واعتماداً على هذه حكاية اصدر المستشرق الفرنسي اندريه ميكال دراسته عن "الزمن في ألف ليلة وليلة" ويبدو انه اعتمد على نسخة من هذه النسخ الشائعة التي مسخت حكايات الليالي، والتي اعتمد عليها انطوان غالان في ترجمته للكتاب الى الفرنسية، حيث لم تكن بين يديه نسخ اخرى يستطيع بواسطتها تصحيح مسار هذه الحكاية الطويلة، وضبط مسار الزمن فيها، وتلاؤم احداثها ووقائعها مع حقائق الزمن نفسه.

< حكايات طويلة يضطرب فيها الزمن، حيث تقع احداثها في جيل واحد أي ما بين ستين الى سبعين سنة مع ان المسافات التي يقطعها ابطالها لا يمكن ان تتم الا بمئات من السنين، فان البطل الذي يريد ان يخرج من بغداد الى مدينة الابنوس يحتاج الى اربعين سنة للفارس المجد، بحسب حكاية حسن الصائغ، ومن مدينة الابنوس الى الجزائر الخالدات يحتاج الى سبعين سنة اخرى، ومنها الى جبل قاف عشرين سنة، ومن جبل قاف الى ما وراءه من بحار مثل بحر الكنوز وبحر الجان المؤمنين وبحر الجان الكافرين سبعين سنة، وكل ذلك يقوم به بطل واحد يبحث عن زوجته التي سرقها الجان تارة، او هربت بعد ان لبست ثياب الطيور.

< حكايات طويلة يقوم بها بطل واحد تستغرق عمره كله، مثل مغامرات السندباد السبع. وصحيح ان السندباد قطع في تلك الرحلات مسافات لا تقوى الارقام على احصائها، إلا ان ادخال عنصر الجان والسحر اختصر الزمن وكثّفه في جيل واحد.

< حكايات متوسطة الطول تكشف عن مغامرات صغيرة لاثبات الشطارة او الفوز بقلب المحبوب، كما في قصص احمد الدنف وحسن شومان والدليلة المحتالة وابنتها زينب. وكما في حكايات الوفاء للمحبوب التي تشغل حيزاً جيداً في الكتاب.

< حكايات قصيرة عن الزهد والزهاد والاعتكاف في الكهوف والجبال، والكرم والكرماء. فمثل هذه الحكايات لا تتحمل كثيراً من التفصيل والاطناب، وتكفي العبارة السريعة. والقول الموجز لايصال الرسالة للقارئ وتحفيزه على الاخذ بقيم معينة في التقوى والزهد وما اليها.

وحتى في قضايا التقوى والزهد التي يختلف فيها الناس كثيراً وفي تحديد ملامحها، ومتى تكون مقبولة ومتى تكون مرفوضة، نجد ان الكتاب يقدمها لنا بطريقة واحدة هي البعد عن الدنيا تماماً والانزواء بعيداً عن الناس، والانصراف للعبادة والرياضة الروحية فحسب. والمؤلف لا يتبنى هذه السلوكيات ايضاً، ما يدل على نهج خاص بكاتب الكتاب.

وفي اقصى حالات التقشف والزهد لا يمنع المؤلف ابطاله الزهاد والمتقشفين من العمل وخدمة الآخرين والتجاوز عن اخطائهم. وكمثال على ذلك نقرأ حكاية امرأة احد قضاة بني اسرائيل وما فعله بها قومها: "ويحكى انه كان في بني اسرائيل زوجة بديعة الجمال تفردت عن بني جنسها انها كثيرة الصون والصبر والاحتمال، فأراد ذلك القاضي النهوض الى زيارة بيت المقدس، فاستخلف اخاه على القضاء وأوصاه بزوجته. وكان أخوه قد كلف بها. فلما سار القاضي توجه اخوه اليها وراودها عن نفسها فامتنعت واعتصمت بالورع، فأكثر الطلب وهي تمتنع. فلما يئس منها خاف ان تخبر اخاه بصنيعه اذا رجع، فاستدعى شهود زور يشهدون عليها بالزنا، ثم رفع مسألتها الى ملك ذلك الزمان فأمر برجمها، فحفروا لها حفرة واقعدوها فيها ورجمت حتى غطتها الحجارة، وقال: تكون الحفرة قبرها. فلما جن الليل صارت تئن من شدة ما نالها، فمر بها رجل مسافر فلما سمع انينها قصدها فأخرجها من الحفرة واحتملها الى زوجته وأمرها بمداواتها فداوتها حتى شفيت. وكان للمرأة ولد فدفعته اليها فصارت تكفله ويبيت معها في بيت ثان، فرآها احد شطار بني اسرائيل، فراودها عن نفسها فامتنعت، فأخبر أخا زوجها، فحضرا ليلاً وقتلا الولد وهربا، ولما اصبحت وجدت الصبي مذبوحاً، وجاءت امه وقالت: انت التي ذبحتيه، وأرادت ذبحها، فجاء زوجها وانقذها منها، ثم ضربتها ضرباً مبرحاً، فخرجت المرأة فارة بنفسها لا تدري اين تتوجه، وكان معها بعض دراهم فمرت بقرية والناس مجتمعون ورجل مصلوب على جذع إلا انه على قيد الحياة، فقالت: يا قوم ما له؟ قالوا أصاب ذنباً لا يكفره إلا قتله او صدقة كذا وكذا من الدراهم. فقالت خذوا الدراهم واطلقوه، فأطلقوه وتاب على يديها، ونذر على نفسه انه يخدمها حتى يتوفاه الله تعالى. وكانت المرأة تحسن علم الطب وقرأت كتب الاطباء المتقدمين، فأخذت تداوي المرضى لوجه الله تعالى، فشهر اسمها في البلدان. وكان من قضاء الله، تعالى، ان نزل بأخي زوجها الذي رجمها عاهة في وجهه، وأصاب المرأة التي ضربتها برص، وابتلى الشاطر بوجع اقعده. وقد جاء القاضي زوجها من بيت المقدس، وسأل أخاه عنها فأخبره بأنها ماتت. فأسف عليها واحتسبها عند الله. ثم تسامعت الناس بالمرأة وشفائها المرضى، حتى كانوا يقصدون صومعتها من اطراف الارض ذات الطول والعرض. فقال القاضي لأخيه: يا اخي هلا قصدت هذه المرأة الصالحة؟" وهكذا يفعل الشاطر والمرأة التي اتهمتها بقتل ابنها فلما اجتمعوا عندها عرفتهم ولم يعرفوها، فطلبت من كل واحد منهم ان يعترف بخطاياه ليكون ذلك ايذاناً بشفائه، فاعترفوا بما اقترفوا، فعفت عنهم وعادت الى زوجها.

والمؤلف لا يريد من حكاياته جميعاً، الا ان تكون عبراً وأخباراً تتخذ تارة للاعتبار وتارة للتسلية التي لا تخلو من فائدة ايضاً. فلم يكن ذكر العفاريت والجن وغيرها مقصوداً لذاته، بل وصولاً الى التعبير عن معـان اخـرى تحمل قيـماً وعادات وتقاليد.

ومن الملاحظ ان مؤلف الكتاب لا يجعل من نفسه قاضياً على ضمائر الناس ونواياهم ولا مراقباً على أخلاقهم وسلوكهم. وبخاصة ما كان متلائماً مع الطبيعة البشرية. فهو يعرض لنا تأوهات العشاق بصور توحي لنا بالتعاطف معهم ومشاركتهم أحزانهم وافراحهم حتى اذا كان في بعضها خروج على المألوف. وهذا موقف لا نكاد نجد له نظيراً في تراثنا القديم، بل ولا في أدبنا المعاصر المحاصر بحجة الذوق العام والحياء العام، وكأن الذوق العام والحياء العام بحاجة الى من يرسم لهما حدودهما؟

ولم يكن المؤلف في موقفه هذا خارجاً على القيم والأخلاق والتقاليد والعادات، بل فضل ان يكون واضحاً وصريحاً. وان يصور الواقع كما هو، حتى لو مزجه بالخيال. ورسم له أبطالاً من الجن والعفاريت والسحرة. وفي الوقت نفسه يؤطره باطار الأخلاق العامة التي تحث على الشفقة والرحمة والتعاطف. وكثيراً ما طالعتنا الحكايات بصور القسوة التي يبديها الآباء حين يمنعون أولادهم وبناتهم من الزواج ممن يحبون، فتدخلنا الحكاية في أجواء الألم والآهات والحسرات.

ومن مضامين الحكايات أيضاً عرض الوضع السياسي العام للدولة، وليس من المستغرب ان يكون التركيز على فترتي هارون الرشيد وابنه المأمون، ففيهما بلغت الدولة أقصى درجات رقيها ورقعتها، وهذا دليل مضاف على تشخيص عصر التأليف وبيئته. ففي الوقت الذي يتم ذكر هارون الرشيد أكثر من 300 مرة في طوايا الحكايات لا يذكر الحكام الآخرون الا مرة أو مرتين، واذا كان ذكر هارون والمأمون يتم بتفصيل واستيعاب، فإن الآخرين يذكرون عرضاً كأن تقول لك الليالي "حدث في مصر في زمن الحاكم بأمر الله" ثم تمر بعيداً عنه وعن حياته الخاصة، على غير ما هو جار حين يُذكر هارون الرشيد خصوصاً، والى حد ما ابنه المأمون.

كما نلاحظ ان اسماء الحكام والأمراء والولاة غالباً ما تكون حقيقية حين تجري أحداث الحكاية في العراق، اما أسماء الحكام والأمراء والولاة المذكورين باعتبارهم حكموا في بلدان اخرى، فغالباً ما تكون مختلقة لا وجود لها، مثل "طغميموس" حاكم همدان، وآخر اسمه "جانفه" حاكم الاسكندرية.

ويعنى الكتاب كثيراً بأسماء مشهورة معروفة في الأدب والفن، كأبي نواس وابراهيم الموصلي واسحق الموصلي وابراهيم بن المهدي، وأسماء جوار تذكرهن كتب التاريخ والأدب الأخرى ككتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي لولا نهجه العلمي الواقعي لاقترب كثيراً من بعض سمات ليالي شهرزاد. ولا نكاد نجد في الكتاب أسماء أعلام آخرين من أقاليم أخرى، بل هو يكتفي أحياناً بالقول "وتوجه الى قاضي دمشق" أو "وأصدر والي مصر" أو "وكان في خراسان حاكم عادل فاهم".

ويمكن اعتبار هذا معلماً آخر من معالم تحديد اسم المؤلف وبلده وعصره، لأن ذلك الاهتمام بهارون الرشيد والتدقيق في أخباره، والافاضة في اخبار أدباء بغداد وشعرائها وفنانيها وأهل الظرف فيها، دال على معرفة عميقة بأحوال المدينة وأهلها، لا يمكن ان تصدر الا ممن عاش فيها وعايش أحداثها وأهلها، ونما وترعرع في أزقتها وحاراتها.

ومن مضامين الكتاب التي تتكرر في أكثر من خمس عشرة حكاية من حكاياته الطويلة، ذم الاسراف وتبديد الأموال على توافه الأمور. ويصوغ المؤلف، عادة، ذلك المضمون صياغة متشابهة في كل موضع ذكره فيه. وكأنه يريد ان يقول ان المال الذي يأتي بسهولة، كالميراث مثلاً، يضيع بسهولة أيضاً، وان اصدقاء السوء أكثر ضرراً على المرء من أعدائه الظاهرين المعروفين.

ولعل في ما حدث لعلي نورالدين مثالاً على ذلك، فهن يجمع بين وصية الوالد وتحذيره من أصدقاء السوء، ومداخلة أولئك الأصدقاء لعلي نورالدين حتى تنفذ أمواله وأملاكه: "فعند ذلك نهض نورالدين الى قاعة الجلوس ونقل اليها ما يحتاج اليه واجتمع عليه أصحابه وأخذ جاريته قوت القلوب. واجتمع عليه عشرة من أولاد التجار، ثم انه أكل الطعام وشرب المدام وجدد مقاماً بعد مقام، وصار يعطي ويتكرم، فعند ذاك دخل عليه وكيله، وقال له: يا سيدي يا علي نورالدين، اما سمعت قول بعضهم: من ينفق ولم يحسب أفتقر؟ ولقد أحسن من قال هذه الأبيات:

واحفظ درهمي عن كل شخص = لئيم الطبع لا يصفو لأنس
فيا ذل الرجال بغير مال = ولو كانت فضائلهم كشمس

فلما سمع نورالدين من وكيله هذا الكلام نظر اليه، وقال له: جميع ما قلته لا أسمع منه كلمة. واعلم ايها الوكيل اني أريد اذا فضل عندك ما يكفيني لغذائي ان لا تحملني هم عشائي.

"ولم يزل علي نورالدين يعقد لندمائه وأصحابه في أول النهار مجلساً وفي آخره مجلساً، وهو بلا شغل ولا عمل. وبقي على هذه الحالة سنة كاملة. فبينما يوماً هو جالس مع أصحابه، اذا بطارق يطرق الباب، فقام علي نورالدين فتبعه واحد من جلسائه من غير ان يعلم به، فلم فتح الباب رأى وكيله، فقال له علي نورالدين: ما الخبر؟ فقال له: يا سيدي ان الذي كنت أخاف عليك منه قد وقع لك. قال: وكيف ذلك؟ قال: اعلم انه ما بقي تحت يدي شيء يساوي درهماً". وحينذاك يتركه أصحابه ويتنكرون له، وحين يلجأ اليهم يتهربون منه بل يسعون الى الحاق الأذى به.

ولا يفترق الحال كثيراً حين يدخل الكاتب ميل الوريث الى النساء "وشرب الراح بالأقداح والى الملاح غدا وراح. وقال في نفسه، ان والدي جمع لي هذا المال وأنا ان لم أتصرف فيه فلمن أخليه؟ وما زال علي شار يبذل المال أناء الليل وأطراف النهار حتى ذهب ماله كله وافتقر. فساء حاله وتكدر باله، وباع الدكان والأماكن وغيرها. فلما ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، وقع في الحسرة، وقعد يوماً من الصبح الى العصر بغير افطار، فقال في نفسه: انا أدور على الذين كنت انفق مالي عليهم، لعل واحداً منهم يطعمني في هذا اليوم، فدار عليهم جميعاً وكلما طرق باب واحد منهم ينكر نفسه ويتوارى منه حتى أحرقه الجوع".

وهذه الصور تطالعنا في جميع تلك الحكايات الخمسة عشرة، ما يدل دلالة قاطعة على انها لا يمكن ان تؤلف الا من قبل مؤلف واحد عاش في بيئة مدينية منفتحة تجارياً اختلفت فيها القيم وأصبح الهاجس المالي يتحكم الى حد كبير في تعاملات الناس اليومية.
 
5 من 5
هل يكون ابن سكرة البغدادي الهاشمي المؤلف الفعلي لليالي؟

> بعد هذه الجولة السريعة التي قمنا بها في الحلقات السابقة حول شكل الكتاب ومضامينه، وصلنا الى تحديد ان الكتاب لا يصح عزوه لأكثر من مؤلف واحد، وأن ذلك المؤلف عاش في بغداد وانه من أهل القرن الرابع للهجرة. وبقي علينا الوصول الى تحديد اكثر دقة، فربما امكنتنا الشواهد من تحديد اسم الكتاب بشكل يمكن الركون اليه.

القرن الرابع هو عمر الحضارة الاسلامية الأكثر ازدهاراً. ففيه ظهرت مجموعة كبيرة جداً من العلماء في مختلف العلوم والفنون والاداب. وكثرت فيه مراكز العلم والثقافة وامتدت امتداد المدن المعمورة يومذاك في شتى أرجاء البلاد شرقاً وغرباً، بفعل بروز دور مدن عدة الى جانب دور العاصمة بغداد في رفد الحضارة بالطلاب والعلماء.

وعلى رغم الاضطراب السياسي الذي شهده ذلك القرن بسبب تنافس الطامعين في الحكم والمغامرين، ووقوع الخلافة تحت سلطة البويهيين في بغداد، ونشوء ما يشبه اللامركزية في ادارة شؤون الولايات، فإن ذلك القرن ورث ثلاثة قرون من الفكر الاسلامي المؤثر في حياة الأمة على مختلف الاصعدة، وقروناً من الفكر الانساني، عربية ويونانية وهندية وفارسية، بل ان هذا الاضطراب السياسي ساعد كثيراً في تطوير الثقافة لأسباب عدة، منها:

< ان الامراء الذين حكموا في المدن المختلفة تنافسوا في ما بينهم في اسقطاب أهل العلم والأدب والفن، وأغدقوا عليهم العطايا ما دفعهم الى التفرغ للعلم والابداع فيه.

< ان المفكرين والأدباء والعلماء لم يكنوا راغبين في خوض غمار الصراع السياسي فأتاحوا لأنفسهم فرصة التفكير والابداع.

< ظهور تيارات فكرية عدة تتنافس فيما بينها، ما بين تراثية عربية وفارسية ويونانية، تريد تثبيت منزلتها أو استعادتها، ما أبرز مجموعة من علماء كل تيار من التيارات انصرفوا الى الكشف عما لديهم من علوم وفنون تدعو لفخرهم واعتزازهم وتميزهم من غيرهم. إضافة الى عوامل اخرى كثيرة جسدت حالة حضارية مرتكزة على الحوار والرغبة في مزيد من التطور.

في هذا القرن الرابع ظهر العلماء الكبار الذين تعنى المؤلفات بهم عادة. ولكن القرن كان أوسع من ان يكتفي بأولئك العلماء، فإلى جانبهم ظهر جمهور من القصاصين والرواة و"الحكواتية" على ما يطلق عليهم هذه الايام، بل ان بعض العلماء كانوا يمارسون ذلك النوع من الانتاج الفكري والثقافي، ونعني به كتابة القصص والحكايات.

يروي المؤرخون ان العالم الجليل احمد بن فارس ت 395 هـ طرد من حضرة الصاحب بن عباد لأنه كان من أهل الحكايات والقصص. حتى ان ابن فارس حين كتب كتابه "الحجر" وأرسله الى الصاحب بن عباد أعاده اليه، وقال: "ردوا الحجر من حيث جاء". ولكن نفسه لم تطب إلا بالنظر فيه، فاستعاده وأثاب مؤله بجائزة ليست سنية.

أحمد بن فارس هذا سبق ان رأينا اشعاره تتردد في كتاب "ألف ليلة وليلة" أكثر من غيرها من الأشعار والشواهد الحلقة الثالثة من هذه الحلقات. وهو نفسه واضع "فن المقامات" في الأدب العربي، ذلك الفن الذي أخذه منه تلميذه بديع الزمان الهمذاني ت 398 هـ وطوره وأبدع فيه مقاماته المعروفة اليوم.

والمقامات صورة من صور القصص والحكايات، ولكنها تمتاز بأسلوبها الواقعي الذي لا يجنح الى الخيال كثيراً، أو بالاحرى لا يجنح الى الأساطير والخرافات، بل يتخذ من حياة الناس اليومية مادة له.

احمد بن فارس الذي تمثل اشعاره، من ناحية تاريخية، أواخر الاشعار الواردة في "ألف ليلة وليلة"، شيخ جليل كان التلاميذ يسارعون اليه في أية مدينة حل والى أية مدينة ارتحل، حتى تجاوز تلامذته المئات من مختلف البلدان. وقد دخل بغداد قادماً من بلاد فارس، وأخذ فيها العلم، وجلس لرواية القصص والحكايات، ولكننا لا نستطيع الزعم ان تلك الحكايات هي ذاتها حكايات "ألف ليلة وليلة". كلا... فالشوط طويل، والفرق واضح تماماً بين اسلوب ابن فارس في كتبه، مثل "مجمل اللغة" و"مقاييس اللغة" و"الصاحبي" وبين "الليالي". ولكن له كتاباً بعنوان "قصص النهار وسمر الليل" بحيث نفهم منه التفات هذا العالم الكبير الى أهمية الحكايات والقصص في تلك الايام.

ثم يأخذ بديع الزمان الهمذاني تلك الروح القصصية فيصوغها في اسلوب حكائي جديد هو اسلوب المقامات. والمقامات لا يصح ان نتخذها ميزاناً لحكايات شهرزاد، ولا ان نعدها أصلاً من أصولها، اللهم الا اذا اعتبرنا تلك الحكايات القصيرة عن الزهاد الواردة في "ألف ليلة وليلة" امتداداً لما عرفه الأدب العربي عنهم منذ العصر الأموي، والذي حفلت المقامات به، اصلاً من تلك الأصول، كما لو ان قصص الحيوانات في "الليالي" مرتكنة على حكايات "كليلة ودمنة" التي وضعها ابن المقفع وزعم انه ترجمها عن الهنود والفرس. غير ان الصلة بين "الليالي" من جهة و"المقامات" و"كليلة ودمنة" من جهة اخرى، صلة ضعيفة لا يمكن الركون اليها. وبخاصة في حالتي ابن فارس وبديع الزمان الهمذاني، فإن معرفة كل منهما ببغداد وحاراتها وأزقتها وتياراتها التي تمور في داخلها، ليست معرفة كافية كالتي تظهر في "ألف ليلة وليلة".

فلا بد إذن من وجود شخص آخر من أهل بغداد أنفسهم، يعرف جيداً كل شيء عنها وعن بيئتها وحاراتها وأسرارها، وان هذا الشخص التقى بابن فارس، وأعجبه النهج القصصي والحكائي الذي كان يقدمه للناس في المساجد والأماكن العامة، كما أعجبته حكايات الرواة الآخرين الذين كانوا يحدثون الناس بسير الأولين والآخرين.

هذا الشخص الآخر هو ابن سكرة الهاشمي البغدادي الذي تلمذ لابن فارس، وأفاد منه سلاسة الأسلوب وجمال العبارة، وتأثر بنهجه القصصي والحكائي، وسار بذلك النهج شوطاً جديداً فكتب "ألف ليلة وليلة" كما سار بديع الزمان بجانب آخر من جوانب ابن فارس فأنتج المقامات التي هي أيضاً نوع من أنواع القصص والحكايات.

ابن سكرة الهاشمي شاعر وصفه الثعالبي في "يتيمة الدهر" فقال: "هو شاعر متسع الباع في أنواع الابداع، فائق في قول الطرف والملح على الفحول والافراد، جار في ميدان المجون والحكايات الدالة عليه ما أراد. وكان يقال ببغداد: ان زماناً جاد بمثل ابن سكرة وابن حجاج شاعر وأديب عاصر ابن سكرة لعصر سخي جداً".

ويقول عنه شيخه ابن فارس: "لم أجد مولعاً بالجن والعفاريت وحكاياتهم أكثر من ابن الحسن محمد بن سكرة الهاشمي".

ويصفه الذهبي في "العبر" بأنه من المعروفين بالخرافات وحكايات الجان مع شعر رائق يعجب الخاص والعام. وفي "الشذرات" نقرأ قريباً من ذلك.

ومن هنا فقد تجمع لابن سكرة الهاشمي ما لم يتجمع لغيره من صفات تؤهله لأن يكون هو المؤلف الحقيقي لـپ"ألف ليلة وليلة". فهو:

1- التقى بابن فارس وأخذ عنه الولع بالقصص والحكايات، فلا غرو ان يكون شعر ابن فارس أكثر الشعر تكراراً في مواضع الكتاب على ما سبق ان ذكرناه في الحلقة الثالثة من هذه الحلقات.
2- كان هو نفسه معروفاً بالقصص والحكايات.
3- حكاياته تدخل في باب الخرافات والأساطير.
4- بعض حكاياته ينطوي على شيء من روح "المقامات" التي عرف بها شيخه ابن فارس، وبديع الزمان الهمذاني.
5- كان كثير الذكر للجن والعفاريت في حكاياته، حتى ان ابن فارس لم يجد أكثر منه ولعاً بها.
6- وصف العلماء شعره بأنه شعر رائق راق، وان اسلوبه جميل يمتاز بالليونة والسهولة وسلاسة المبنى، شعراً ونثرا.
7- كان لا يتحرج من ان يوصف بالمجون ولا بالسخف، وهذه صفة مهمة لمن أراد ان يكون واضحاً وصريحاً فيما يعبر عنه من مشاعر ابطال حكاياته وأوضاعهم في مختلف أحوالهم.
8- انه ابن بغداد مولداً ونشأة، فهو أعرف من غيره بشعابها وأسرارها وأخبارها وما تضمه بين جوانحها من إرث عريق من الأخبار والأمثال والأشعار وغيرها.
9- ونظراً الى كون نسبه يعود الى أبي جعفر المنصور عن طريق علي بن المهدي بن أبي جعفر المنصور، فلا عجب أن نرى في الكتاب تلك العناية الفائقة بأخبار خلفاء بني العباس، وعلى الأخص هارون الرشيد، كما سبق أن أثبتنا في الحلقة الرابعة. كما لن نتعجب من اهتمامه بأخبار ابراهيم بن المهدي بن أبي جعفر المنصور وهو أحد كبار فناني زمانه بعد أن أبعد نفسه عن التنافس مع الآخرين على الحكم والخلافة.
10- انه صاحب الحكايات الرائقة والاسمار الفائقة والخرافات التي تحبس الأنفاس. ولا نعرف في تراثنا كتاباً تنطبق عليه هذه الأوصاف أكثر من كتاب "ألف ليلة وليلة".
11- ولا نعرف كاتباً آخر ينطبق عليه قول الذهبي انه من المعروفين بالخرافات وحكايات الجان مع شعر رائق ىعجب الخاص والعام.
12- كان ابن سكرة كثيرة الأسفار محباً للحياة، ولا شك في أنه سافر الى مصر والى الشام والى الأماكن التي ذكرها في كتابه وفي شعره.
13- كان له مجالس أنس وسمر في بغداد، يلتقي فيها بالتجار والسواح والزائرين، فلا غرابة أن يكون على معرفة بطرق التجارة والمواثيق التي تعقد بين التجار في المساومة والبيع والشراء، على ما أشرنا اليه في الحلقة الثانية.
14- استخدم في شعره أمثالاً وحكماً نجدها مستعملة أيضاً في "ألف ليلة وليلة" وفي المواضيع ذاتها تقريباً.
15- ذكر في شعره اسماء لا نجدها الا في "ألف ليلة وليلة"، مثل دهنش وهو اسم اطلقه على أحد عفاريت "ألف ليلة وليلة"، وشواهي وهو اسم أطلقه على عجوز رومية تآمرت لقتل شركان وأبيه في "ألف ليلة وليلة"، وتركاش وهو أحد قواد الترك في جيش عمر النعمان في الليالي. ولو كانت هذه الأسماء وغيرها من الاسماء شائعة لأمكن أن يقال انه استعملها كما يستعملها غيره، إلا أنها اسماء نادرة الوجود والاستعمال، بل لا نجدها إلا في "ألف ليلة وليلة" ما يجعلنا نعتقد بأن ابن سكرة هو الذي اختلقها خلقاً واستعملها في شعره ونثره، أي في ديوانه وفي حكايات ليالي شهرزاد.
16- المعروف عن ابن سكرة انه غزير الانتاج طويل النفس في الكتابة، فلا نعجب ان يحدثنا ابن خلكان في "وفيات الأعيان" بأن ديوانه يضم خمسين ألف بيت، مما يساعدنا في أن نفهم طول نفسه في كتابة "ألف ليلة وليلة" نثراً، ما دام قد كتب خمسين ألف بيت شعراً.
17- وأخيراً فإنه ابن القرن الرابع الذي عنه صدرت ليالي شهرزاد، بكل تأكيد.

وهناك ملاحظة مهمة قد تعدل جميع النقاط السابق ذكرها، وهي أن حكايات الليالي جاءت بصيغة الشخص الثالث أي ان هناك راوية يرويها، استثناء بعض الحكايات التي يرويها أحد أبطال الحكاية عن نفسه. وتبرز من بين هذا الصنف الثاني من الحكايات، حكايات يتحدث فيها المؤلف بضمير المتكلم، ويستشهد بأشعار هي أشعار ابن سكرة البغدادي نفسه، كهذه الأمثلة:

* فلما خرجت من الحمام قمت فتفقدت مداسي فوجدته قد ضاع، فقلت في نفسي وأنا ممتلئ غيظاً:

إليك أذم حمام ابن موسى = وإن فاق المنى طيباً وحرا
تكاثرت اللصوص عليه حتى = ليحفى من يطوف به ويعرى
ولم أفقد به ثوباً ولكن = دخلت محمداً وخرجت بشرا

يريد أنه خرج حافياً مثل بشر الحافي المذكورة بعض أخباره في الليالي.

ونجد الأبيات نفسها في ديوان ابن سكرة قالها بعد أن سرق نعاله في حمام ابن موسى.

* فنهضت من ذهولي، وبكيت على حالي، وما صار اليه مآلي، ورفعت الصوت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

بليت ولا أقول بمن لأني = متى ما قلت من هو يعشقوه
حبيب قد نفى عني رقادي = فإن غمّضت أيقظني أبوه

وهي حادثة حقيقية مرت في حياة ابن سكرة أيضاً.

* فلما لامني فيه العاذلون وألزموني مفارقته كتبت إليه بدمع مقلتي بيتين أقول فيهما:

قالوا التحى وستسلو عنه قلت لهم = هل يحسن الروض ما لم يطلع الزهر
هل التحى طرفه الساجي فأهجره = أم هل تزحزح عن أجفانه الحور

وهناك مواضع أخرى غير هذه نرى فيها شخصية ابن سكرة البغدادي الهاشمي واضحة تماماً في "ألف ليلة وليلة"، وبخاصة في حديثه عن نفسه واستشهاده بشعره في حوادث وقعت له فعلاً، كما يقول المؤرخون.

ونعتقد بأن كل هذا يثبت الرأي الذي نراه من ضرورة تصحيح نسبة الكتاب الى مؤلفه أبي الحسن محمد بن عبدالله بن محمد المعروف بابن سكرة الهاشمي البغدادي، الشاعر المشهور الذي توفي في بغداد يوم الأربعاء حادي عشر من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وثمانين وثلثمئة، وخلد الشرق وسحره في ليالي شهرزاد العريقة.
 
أعلى