جلال بدلة - المنظور الإيطيقي للمداعبة عند ليفيناس

عرفت الفلسفة مع إيمانويل ليفيناس تحولاً لم تشهده ربما منذ أفلاطون. كأن الفلسفة معه وصلت إلى ضالتها، أو تذكرت الدلالة التي قامت عليها أو من أجلها، وهي الآخر أو الوجه. يعلن ليفيناس أن الفلسفة قد نسيت سؤالها الأول، ونسيت معه معنى السؤال. كما يصرح أمام أعين معاصريه أن الإيطيقا هي الميتافيزيقا أو الفلسفة الأولى، ليتركهم في شواش، خاصة أنه يسلك في برهانه مسلكًا فينومينولوجيًا يصعب إهماله أو التغافل عنه.

"الأخلاق هي الفلسفة الأولى"؛ هذا يعني أنَّ الفلسفة كانت تسير نائمةً نوعًا ما - كما سيقول ديريدا شارحًا ليفيناس، وأن موضوعاتها كلها منذ أفلاطون حتى هوسرل كانت موضوعات خاطئة قامت على إعراضٍ بدأ منذ اهتمت الفلسفة بالكينونة والحقيقة ونسيت منشأ هذه المقولات وأصلها.

داخل هذا التحول الذي زعزع الفلسفة في عقر دارها (الأنطولوجيا) شهدت الفلسفة مع ليفيناس انقلابًا في موضوعاتها أيضًا، فالوجه ليس أولها والمداعبة ليست آخرها. هكذا، تُصيب قارئ كتاب ليفيناس الأبرز Totalité et infini؛ الذي يعالج موضوعات الفلسفة الكبرى، الدهشة وهو يرى صفحات عدَّة من هذا الكتاب أفردها ليفيناس لموضوع المداعبة والحنيَّة.

كما نلحظ في محاضراته المنشورة قبل هذا الكتاب تحت عنوان الزمان والآخر (Le temps et l'autre)، وفي ما يخص موضوع المداعبة نقلة من نمط في التفلسف التقليدي إلى فضاء أكثر محسوسية، ووعدًا بموضوعات أكثر غرابة وأقل تجريدًا. فإلى جانب المداعبة، يتطرق ليفيناس إلى موضوعات من قبيل المولودية والابن والأنثوي والأم... الخ، وذلك كله وفق منهج فينومينولوجي صارم ليس بغريب عن أول من نقل الفينومينولوجيا إلى اللغة الفرنسية، ورافق عن قرب هوسرل وهيدغر.

غير أن إعلان ليفيناس الافتتاحي لا يعني أن على الفلسفة أن تهجر موضوعاتها وطرائقها، وما توصلت إليه من مناهج سيستفيد منها ويطوِّعها للتدليل في على فلسفته، بل أن على الفلسفة التي اهتمت بمقولات "الأصل" (الحقيقة والمعنى والكينونة والماهية...) أن تتذكر "ما قبل الأصل" (le préoriginaire)، وأن تلك المعاني الأصلية (أو الأنطولوجية) كلها قد تأسست على الدلالة ما قبل الأصلية التي لا يمكن أن تندرج في سياق؛ هذه الدلالة هي اللقاء وجهًا-لـ-وجه مع الآخر الإنساني. ومن هذا الحدث ما قبل الأصلي تكتسب المداعبة دلالتها.

لم ير الفلاسفة - قلَّة منهم على وجه التحديد ممن بحث في هذا الموضوع - في المداعبة أكثر من اتصال بين جسدين. ومثالنا على ذلك جان بول سارتر الذي لم ير في المداعبة إلا صراعًا ينتهي بالاستحواذ على جسد الآخر. وذلك على الرغم من إدراكه أنه لا يمكن اختزالها، أي المداعبة، إلى مجرَّد اتصال، أو تلامس، يقول: "إنها تكوين. في أثناء مداعبة الآخر، أنا أخلق لحمه تحت أصابعي"[1].. إنها تعرية، أو تجريد الجسد من حركاته وثيابه وفعله ليبقى مجرد جسم. هذه النظرة إلى المداعبة ليست غريبة عن سارتر الذي يرى في الحياة رواية صراع بين الأنا والآخر. فالآخر هو أنا أخرى (alter égo)، والأنا والآخر ينتميان إلى عالم واحد تحدده المحددات ذاتها. فتتحول المداعبة (رمز العلاقة الإيروتيكية) بما تنطوي عليه من نعومة وحنيَّة، إلى صراع بين الذوات.

وأكثر من ذلك، تقوم الأنا بنصب فخٍّ للآخر من خلال المداعبة، وينتهي الأمر بالوقوع في هذا الفخ ليتخلى الآخر عن حريته ونظرته التي سبق أن شيَّئتني أنا. والرغبة هي محاولة وجهد لتعرية الجسد من حركاته وملابسه التي هي مجرَّد أقنعة تخفي وراءها الحضور الحقيقي للجسد "بلحمه وعظمه". وإذ يضع سارتر لفظة "بلحمه" بين قوسين (en chair)، فذلك ليحيل على المنهج الفينومينولوجي، الجسد بـ "لحمه وعظمه" هو – بالنسبة إلى لسارتر - الجسد "بـ" لحمه وعظمه. الآخر جسد، وهو وإن كان "جسدًا في حالة" و"في فعل"، فإن المداعبة تعيده إلى عريه كلحم، وإلى وضعه الخامد والساكن، كسلبية "مصابة". وبذلك تتحول المداعبة إلى مواجهة بين جسدين، "جسدي أنا قبالة جسده هو"[2]، وتتحول الإيماءات الجنسية إلى حيل لإخضاع الآخر، "هدفي هو حمله على أن ينظر إلى نفسه كجسد"[3] – يقول سارتر: وحمله على التخلي عن حريته وإرادته، لمسكه كإمكان. المداعبة بالنسبة إلى سارتر انتقام من ذلك الذي شيئني بنظرته مسبَّقًا. جسد قبالة جسد، إرادة في مواجهة إرادة؛ حريتان لا مكان لهما في عالم واحد، علاقة إخضاع وتلذذ. إن المداعبة من وجهة نظر سارتر حرب وتصفية حسابات.

إن نظرة سارتر إلى المداعبة على هذا النحو تعود إلى تحديده الآخر كأنا أخرى. أنوات تسكن عالمًا واحدًا. وتندرج هذه النظرة داخل تقليد فلسفي يمتد من أفلاطون حتى هوسرل وهيدغر، ويرتكز على اختزال آخرية الآخر إلى أنا أخرى. إذ ينتج عن هذا الاختزال أن طريقة وجود الآخر في العالم مماثلة لطريقة وجود الأنا، أي؛ كجسد.

إننا ندرك كيف ينظر سارتر إلى الآخر، فهو الجحيم الذي يتربص بالأنا. فالأنا والآخر في علاقة تناظرية، علاقة عكوسة، تقابلية قد تنقلب عند أي منعطف إلى تناقض أو تضاد، لينتهي الصراع إلى تملُّك أو استلاب. الأنا والآخر أجزاء من كلانية سابقة على كليهما. يبدو أن سارتر لم يدرك علو الآخر، أو، تعاليه الذي يجعل منه خارج العالم ووراء الكينونة. إن اختزال آخرية الآخر – علوَّه – الذي تجلى عند سارتر بتحديده الآخر كجسد هو عنف افتتاحي ستمتد آثاره داخل كل علاقة سيتفحصها سارتر بين الأنا والآخر؛ تلك التي ترتبط بالإيروس والرغبة والحب بشكل خاص.

إلا أن ليفيناس يرى في هذه الطريقة الأنطولوجية في تحديد الآخر نسيانًا لآخريته، أو لتعاليه وعلوِّه. إذ لا يعني هذا العلوَّ ("الآخر هو العالي جدًا، هو العلو ذاته[4]" ولا يمكن إدراكه إلا ميتافيزيقيًا) قدرة وتمكّنًا، بل على العكس تمامًا، فـ«التذلل يتحد مع العلو[5]»، ولا ينتج عن مقدرته وتمكنه مني أنا (الآخر هو – أيضًا – «الضعيف والفقير واليتيم والأرملة»[6])، وإنما عن حقيقة أنه لا ينتمي إلى عالمي أنا، أو لا ينتمي إلى عالم الأنا. هو لا-وجود-في-العالم (إذا ما اعتمدنا طريقة هيدغر في التعريف)، ولا يمكن لأي مقولة أنطولوجية (كالمعرفة والفهم والموضعة) أن تشرح العلاقة مع الآخر. إذ لا يوجد تقابل ولا تعارض ولا تملُّك ولا تحديد ولا سلب بين الأنا والآخر؛ إن العلاقة الوحيدة بينهما هي الانفصال أو اللا-علاقة.

الأنا توجد في العالم من خلال الجسد، أما الآخر فـ لا-يوجد-في العالم من خلال الوجه. يتعالى الآخر من خلال الوجه. فالجسد يوجد ويتموضع، أما الوجه فيتوارى. "لا-يوجد- في-العالم"؛ أي أن طريقة وجوده تقوم على الاختباء، ولا ينعرض أمام قصدية المعرفة، «فهو ينسحب داخل لُغزه»[7]، والعلاقة معه هي علاقة مع سرٍّ، ومع ما طريقةُ وجودِه هي التواري.

يقدِّم ليفيناس تعريفات متنوعة للآخر؛ فهو الله، والابن، واليتيم والأرملة. لكن في أثناء بحثه عن آثار العلاقة بالآخر في شكلها الأصلي في حياتنا، يجد هذه الآخرية الخاصة في "الأنثوي". إن "الأنثوي" هو التحديد الأول للآخر الذي قدَّمه ليفيناس في الزمان والآخر.

الأنثوي ليس صفة أو خاصية تُضاف إلى موجود متشكل ماهويًا بشكل مسبَّق، إلى موضوعٍ أو "أنت" معطى مسبقًا ونلقاه في عالمنا. يقدم ليفيناس الأنثوي وفق تعريفات أثارت جدالات كثيرة، إذ قد يُعطي ظاهرها انطباعًا بـ"التمركز حول الذكورة"، وهو النقد الأساس الذي وجهه إليه ديريدا في كتابه Inventions de l'autre I.

فالأنثوي وجود "لا حيلة له"، وضعف وهشاشة و، إنه مادية فائقة. لا يعني ذلك أنه "حضور كثيف للمادة" أو غياب للإنساني، أو تكاثر للمادة نفسها. كما لا يعني أنه مادة ترزح تحت ثقل عطالتها. مادة فائقة بمعنى العري، أو فضح السر. مادة فائقة وكثافة "من دون دلالة".

لا شك في أن هذه التعريفات تُعطي انطباعًا أوليًا بالتمركز حول الذكورة، لكن ربما ينبغي وضعها ضمن سياق الفينومينولوجيا لفلسفة ليفيناس. فالذكورة هي وجود-في-العالم، هي طريقة الأنا في الوجود في العالم، الأنا هي "الوجود المنفصل والبطولي[8]"، وضوح ونور حيث يختفي في الذات كل ما هو صادم للأنا، وكل ما هو آخر. الذكورة أنا وجسد، وجود منفصل ومنعزل. ومقابل هذه الذكورة التي هي وجود في العالم، وجسد، يضع ليفيناس الأنثوي.

الأنثوي هو طريقة الآخر في اللاوجود-في-العالم، وجه وعري، وعري وجه في المقام الأول. لا بد من فهم التعريفات السابقة وطرائق الآخر كلها في اللاوجود في العالم ضمن هذا السياق. فمقابل الوضوح الذي تمثله الذكورة، يضع ليفيناس الإبهام كطريقة الأنثوي في الظهور، والهشاشة، واللادلالة. "وزن لا معنى له" – يقول ليفيناس: لكنه أشد ثقلاً من ثقل الواقع.

إن طريقة الأنثوي في اللا-وجود هي "الحياء". فالحياء لا يصدر عن خارجانية الموضوع، كما أنه ليس انفعالاً ينتج عن إرادةٍ في تعارض أو صراع مع إرادات أخرى. إن الأنثوي طريقة في اللا-وجود لا تقوم على إثارة الضدِّ، لأنها ليست قدرة، وإنما هي ما يشلُّ قدرة الأنا، لأن الأنا أمام الأنثوي هي أمام لغز. العلاقة بالأنثوي ليست علاقة بين حريتين تنتهي بالخضوع والإذعان، كعلاقة السيد بالعبد. إن الهيغيلية العكوسة التي تنعدم في داخلها هي إحدى الحريتين، أو كلاهما معًا، فيُصبح السيد عبدًا والعبد سيدًا، أو يُصبحان متعادلين. أمام الأنثوي، نحن لسنا في علاقة مع موجود حرٍّ يقف أمامنا وفي متناولنا كإمكان تتحدد حريته "بالتقابل"، إنها علاقة غير عكوسة ولا تصبح حدودها (إثر هذه العلاقة) متقابلة أو متعادلة، فـ "الحب ليس إمكانًا ولا يعتمد على مبادرتنا ولا مسوغ له. الحب يجتاحنا ويجرحنا – ومع ذلك، تنجو الأنا به"[9].

الآخرية تجد "تعبيرها" في الأنثوي، والأنثوي يجد "تعبيره" في الحياء. ونحن إذ استخدمنا لفظة "تعبير" بحذرٍ عبرت عنه الأقواس، فهذا لأن ليفيناس يحدد طريقة تعالي الأنثوي خلافًا لطريقة تعالي الوعي. فالتعبير هنا ليس علاقة انكشاف، إذ لا ينكشف الآخر للأنا. في الانكشاف يظهر الآخر تشكيليًا كصورة، كبورتريه، إذ "يقوم تعالي الأنثوي على الانسحاب بعيدًا، وهي حركة متعارضة مع حركة الوعي. لكن هذا لا يعني أنه غير واع أو أنه ذو وعي باطن، ولا أرى تسمية أخرى تناسبه غير اللغز"[10]. التعارض إذًا هو بين الوعي الذي هو تخارج وقصدية، والأنثوي الذي هو انسحاب وحياء. كما أن العلاقة مع الأنثوي ليست امتلاكًا، ولا تنشأ عن مقدرة الأنا. لا شيء تمتلكه الأنا عبر الإيروس، أو عبر علاقةٍ مع "كائن" تقوم طريقته في الوجود على اللغز (وهو ما عبرنا عنه بـ اللاوجود-في-العالم). أمام هذا اللغز، الأنا لا يمكنها فعل شيء مطلقًا، "لا يمكنها الإمكان"[11]، حيث الإمكانات كلها مستحيلة. وهذا لا يعني أن الأنا تنعدم، وإنما يعني أن وجودها في العالم يتحدد وفق مقولات أخرى غير "الإمكان". فالأنا عبر الإيروس "هي في علاقة مع الآتي"[12]، ولا تتحدد وفق مصطلحات "مسك الإمكان" الهيدغرية، وإنما وفق علاقة مع لغز، هي ذاتها العلاقة مع المستقبل.

الحياء ليس حريةً، وليس لا-حرية، ولا يتحدد من خلال التقابل بين الحرية والعبودية. الحياء ليس حرية تتوعدني وتهددني، كما أنه ليس خاصيةً تُضاف إلى كائن موجود مسبقًا. والحياء أو الاختباء ليس عجز الأنثوي عن الانكشاف، فالآخر لا-يوجد-في-العالم، وليس محتجبًا في وجوده. يمكن القول هنا: إنه لغزٌ في لا-وجوده.

تتبدى هذه اللغزية في الحياء. ويبدو من الأهمية بمكان التمييز بين الحياء من جهة، والعار أو الخزي من جهة أخرى. إذ يقترن الخزي عند ليفيناس بحرية الأنا وليس بتعالي الآخر. فيبدأ "الوعي الأخلاقي" عند الأنا لحظة استقبالها الآخر، أو اللامتناهي الذي "يضع حرية الأنا موضع تساؤل"، فتُصبح الحرية مثارًا للشبهة، وتتكشف الأنا لذاتها كـ"حرية قاتلة". الخزيُ هو ارتداد الوعي الذي قارن ذاته بكمال اللامتناهي. إنه حالة الوعي وقد اكتشف أن حريته ليست "تلقائية بريئة، وإنما مغتصبة ومميتة"[13].

الخزي مَخبأُ الأنا وقد امتلكت فكرة اللامتناهي، فـ "لاكتشاف الوقائعية غير المسوغة للقدرة والحرية، لا ينبغي عدُّها كموضوع، ولا عدُّ الآخر كموضوع، بل التقارن مع اللامتناهي، والرغبة فيه. ينبغي امتلاك فكرة اللامتناهي، أي، فكرة الكمال - كما يقول ديكارت - لإدراك اللاكمال الذاتي"[14]. فالتقارن مع اللامتناهي ليس موقفًا تأمليًا، وإنما يتمُّ كخزي، منه تنطلق الرغبة في الآخر[15]. الحرية خزي واغتصاب، لا تتأتى لا-معقوليتها من حدودها، وإنما من لا-تناهي اعتباطيتها. هذا الخزي لا ينتج عن نظرة الآخر إليَّ، وإنما عن نظرتي أنا إلى نفسي، أي كحرية هي عنفٌ منذ نشأتها الأولى. وبذلك يصبح الآخر موضوع رغبة عندما تتموضع الأنا في بعدٍ جديدٍ ناتج عن هذا الخزي.

يجعل ليفيناس من "اختلال الأنا البطولية والرجولية" شرطًا للشهوة. فالأنا عزلة، انطلاقة من الذات وعودة إليها، وهي بذلك فخر وسيادة، إلا أنَّها ترزح أيضًا تحت نير هذا العود الأبدي للذات. لا تختل هذه الرجولة لأنها تدرك ضعفها، أو تقف أمام قوةٍ تفوقها، بل على العكس؛ ينشأ هذا الاختلال من الخزي والعار، من خزيها وقد اكتشفت لا حدود قدرتها، واكتشفت الإمكان الأنطولوجي للقتل الناشئ عن أنها حرية. فتضع الأنا حريتها موضع شك.

أما الآخر فهو هشاشة وبؤس وضعف، هو من يمكنني قتله لضعفه وهشاشته. الآخر لا يمتنع عن القتل أنطولوجيًا، وإنما أخلاقيًا. إذ لا تنتج مقاومته الأخلاقية عن صلابته، فالتعبير الذي يُدخله الوجه في العالم لا يتحدى ضعف إمكاناتي، وإنما إمكان الإمكان. هذا التعبير هو الـ "لا تقتل". ومن نافل القول أن النهي عن القتل لا يجعل القتل مستحيلاً، فالإلزام الأخلاقي يختلف عن الضرورة الأنطولوجية.

الحياء عريٌ، عريُ وجهٍ في المقام الأول. هو أيضًا عري جسد، "هذا العري يُحيل دائمًا، بطريقة أو بأخرى، على عري الوجه. وحده الكائن العاري من خلال وجه يمكنه التعري غير المحتشم أيضًا". ينشأ عن اختلال الأنا بُعد الآخرية. لا ينتهي الأمر بالأنا بعد هذا الاختلال إلى النهوض والتمكن من ذاتها، وإنما إلى التحنُّن، إلى أن تصبح هي الأخرى أنثوية. هذا ما يعنيه استقبال الآخر ذلك "أن استقبال الآخر وضع الحرية موضع شك"[16].

الإيروس هو علاقة بين جسدين. عري الجسد من عري الوجه، "من الوجه إلى عري الجلد"[17]. فقبل الإيروس، كان الوجه، إذ "يجب أن يُلمح الوجه كي يمكن العري اكتساب لا-دلالة الشهواني"[18]. ويختلف عري الوجه عن عري الشيء؛ هذا الأخير هو "فائض كينونته مقارنة بغائيته". يشير ليفيناس إلى ذلك من خلال المثال التالي: "كهذه المدن الصناعية حيث ينسجم الكل مع هدفٍ إنتاجي. لكنها، وقد ملأها الدخان والفضلات والحزن، توجد أيضًا كما هي"[19]. إنَّ عري الشيء إنما يعني عبثيته، ولا نفعيته وقد فقد نسقه وشكله. لكن لعري الوجه دلالة استثنائية، خارجة عن كل سياق، وإيجابية دائمة، وهي "التفاتته نحوي"[20]. إذا كان الموجود ينكشف بعد احتجاب، فإن طريقة ظهور الآخر هي التعري. ذلك أن العري ليس انكشافًا. فالشيء ينكشف من خلال إضاءته بالشكل، أما الوجه فيتعرى منعتقًا من الشكل. هذا العري متقدم على العري الإيروتيكي، ويشكل شرطًا له. فالعري ليس جسدًا منعرضًا، "ذا شكل وجمال"، أي الجسد الذي يُلهم الفنون التشكيلية. العري هو عري وجه أولاً، لكن هذه – كما ذكرنا سابقًا– طريقة لا-وجوده في العالم، وليست تعرية له تقوم بها الأنا. العري ليس إمكانًا يقوم به الأنا، وإنما ما يشلُّ قدرة الأنا، وما إزاؤه لا يمكن الأنا الإمكان.

الإيروس هو مسألة آخرية، دون أن يكون لهذه المقولات صدىً فرويدي[21]. نعومة الجسد تأتي من البؤس الظاهر في الوجه. البؤس هنا ليس مقولة جمالية تعارض مقولات أخرى كالجميل والفاتن. إنها مقولة إيطيقية تحدد دلالة الوجه الأولى، وأي تشكيل للوجه لإخفاء هذه الدلالة لن يفعل إلا إظهارها بصورها الأشد بؤسًا. الوجه تعبير، غير أن هذا التعبير لا يصدر عن الانسجام التشكيلي أو الإستطيقي للوجه، بل هو - على العكس - ما يخرج عن هذه الصورة الشكلية غير التعبيرية. والجسم لا يصبح جسدًا إلا عندما يمكنه الخروج عن الصورة أيضًا.

الأنا أمام الأنثوي هي أمام حدث، وليست أمام موجود. والإيروس هو جماعية اللقاء مع الآخر دون حدٍّ أوسط، هو العلاقة مع حدث؛ علاقة هدفها الاندماج الذي سينتهي بالفشل. إلا أن هذا الفشل ضروري، لأن نمط وجود الآخر هو التعالي، أو الاختباء والتواري. إنَّ مقولة الفشل الضروري ليست غريبة عن فلسفة ليفيناس. ذكرنا فيما سبق قلَّة حماسة ليفيناس أمام مصطلح "الحب" في وصف العلاقة مع الأنثوي. ولا تنحصر قلة الحماسة هذه بالنظر إلى المدلولات الفرويدية فحسب، بل الأمر يتعدى هذه المدلولات ويُفسر بما يسميه "إبهام الحب"[22]. ففي الحب، ثمة خطر الاقتصار على المستوى المحايث الفجِّ، وفقدان كل تعالٍ وخطر أن ينحصر الاستقصاء في "موجود مشارك لنا في الطبيعة، نصفنا الآخر"، ليأخذ الحب معنى زنى المحارم. فتنقلب الرغبة إلى متعة، وتشكل اللذة انقطاعًا في دفقها، وتنقلب الرغبة إلى حاجة يتم إشباعها بالطريقة الأشد أنانية وفظاظة، أي كاغتصاب. قد ينقلب الحب في كل لحظة إلى حاجة، وهو بذلك ذو طبيعة متناقضة، ينوس بين الإيروتيكي حيث يؤول كإحساس، والروحي الذي يرتقي به إلى مصاف الرغبة في المتعالي. هذا التذبذب بين الشهوة والرغبة في الحب يقود ليفيناس إلى إقرار أنَّ "ضيافة الآخر (...) لا تتم من خلال الحب"[23]. إذ لا بد أن تتقدم علاقة إيطيقية على العلاقة الإيروتيكية. لذلك يقول ليفيناس: إن "المسؤولية سابقة على الإيروس"[24]، أي أنها تشكل شرطًا له.

وعليه؛ تندرج التحليلات التي تناولت موضوع المداعبة ضمن هذا السياق. فالمداعبة ليست اندماجًا، لأنها علاقة مع ما هو "ليس موجودًا بعد"، مع مستقبلٍ، أو مع ما هو آتٍ avenir. مع غياب ليس عدمًا، المقابل للوجود أو نقص في الوجود. وليس إمكانًا لم يتحقق بعد؛ الذي يمكن أن يشكل موضوع استباق قصدي. إنَّ ما هو "غير موجود بعد" يشكل عذرية الأنثوي غير القابلة للاغتصاب. هو غياب له وجه في مقابل الحضور الـ "هنالك" (il y a) الذي لا وجه له. هذا الوجه لا يجعل منه إمكانًا يمكن مسكه، وإنما هو آتٍ، دائمًا آتٍ. هو وعدٌ؛ ماضٍ لم يحضر قط، وآتٍ لن يصل أبدًا. وضمن هذا السياق تندرج مقولة "الأنثوي الأبدي" لليفيناس؛ "الأنثوي الذي هو ماهويًا قابل للاغتصاب وغير قابل للاغتصاب، الأنثوي الأبدي هو العذراء أو عودٌ دائم للعذرية، والذي لا يمكن مسُّه في تماس الشهوة..."[25].

إذًا المداعبة علاقة إيطيقية، وذلك لا يعني غياب الإيروس أو الرغبة، أو أن العلاقة غير جسدية، وإنما يعني أن المداعبة تحدث بين وجهين، أو جسدين عاريين بوجهيهما. في المداعبة تعيش الذات تجربة جديدة، هي العلاقة مع ما هو غير موجود بعد. ويرسم ليفيناس ملامحها بقوله:

المداعبة نمط وجودي للذات في تلامسها مع آخر، تذهب من خلاله الذات إلى ما وراء التلامس. وعلى الرغم من أن التلامس كإحساس يُعدُّ جزءًا من عالم النور، إلا أن المُداعَب ليس ملموسًا بالمعنى الحرفي للكلمة. إذ ليست نعومة هذه اليد أو دفؤها في أثناء التلامس هي ما تبحث عنه المداعبة. إن هذا البحث في أثناء المداعبة هو ما يشكل ماهية المداعبة. لأن المداعبة لا تعرف ما تبحث عنه. إن هذه "اللامعرفة"، وهذا الشواش يعد الأساس الذي يشكل جوهرها. هي كما لو أنها لعب مع شيء يتوارى. لعب دون مخطط أو خطة؛ ليس مع ما يمكن أن يُصبح لنا أو نحن، وإنما مع شيء آخر، آخر على الدوام، وعصيٍّ على الدوام، ويَعِدُ بالآتي على الدوام. المداعبة انتظار لهذا الآتي المحض وبلا محتوى[26].

في المداعبة، تخرج الذات من ذاتها من دون عودة، خروج لا رجعة فيه، تيه وتبعثر وتشتت، سير دون وجهة، هروب "الأنا البغيضة" من نير ذاتها. هي الآن في ضيافة الآخر. موضوع المداعبة هو الوجه. أما اللذة فموضوعها الجسد. يمكن أن نضع اللذة في علاقة ضدية مع المداعبة. اللذة هي لذة كائن يعيش في مكان ما ومن شيء ما. اللذة ترتبط بالأنوية وبالهوية، هي علاقة الأنا مع ذاتها، "انهمام غبي بالذات"، وداخلانية محضة، وحاضر لا يزول، أرق وملل، انعزال ووحدة، فخر وسيادة لكن في الخزي والعار، حرية لكن في التملك. في اللذة "الأنا تجهل الآخر"[27]. اللذة هي مبدأ الانعزال والفردنة. إنها خروج الأنا من ذاتها والعودة إليها.

المداعبة علاقة إيطيقية، وهذا يعني بالنسبة إلى ليفيناس أنها ليست أنطولوجية، أي ليست بين جسدين، أو بين الأنا ومع ما هو موجود في عالمها.

وكما ذكرنا آنفًا فإن لهذه العلاقة الإيطيقية معاني عدَّة؛ فهي تعني أولاً؛ أنها بين وجهين، وثانيًا؛ أن المسؤولية سابقة على الإيروس. أضف إلى ذلك معنى ثالثًا يتمحور في أن العلاقة بين الأنا والآخر بالنسبة إلى ليفيناس ليست متماثلة وغير عكوسة. إنها علاقة في اتجاه واحد. هذا اللاتماثل الميتافيزيقي يجده ليفيناس في الخبرة الأخلاقية التالية، "فما في مقدوري أن أفرضه على نفسي لا يقارن بما في مقدوري أن أقتضيه من الآخر"[28]. هذا اللاتماثل يحدد أحادية الاتجاه، من الأنا إلى الآخر. فالأنا لا يمكن أن تنظر إلى نفسها كآخر.

تبدو هذه العملية الأخيرة معقدة نوعًا ما، لذا سيهتم بها ليفيناس في كتابه غير الكينونة...، ولعلها ستمثل مصدر العنف والحرب، وأساس العدالة والمساواة في الوقت نفسه. إنها علاقة ذات اتجاه واحد، أي أن الآخر "آتٍ من العلو، ولا يتعارض معي"[29]. العلو الذي يعني البؤس والضعف والهشاشة.

وعليه؛ تغدو المداعبة استجابة لنداء بؤس الآخر. إنها استجابة ذات اتجاه واحد؛ من الأنا البطولية وقد أصابها الاختلال في ذكوريتها، نحو الأنثوي الذي يتعالى فيتوارى في لا-وجوده.


د. جلال بدلة





[1] Sartre, Jean-Paul, L'être et le néant. Essai d'ontologie phénoménologiqe, Gallimard, Paris, 1943. p. 430.
[2] Ibid., p. 431.
[3] Ibid., p. 436.
[4] Lévinas, Emmanuel, Totalité et infini. Essai sur l'extériorité, Biblio Essais, p. 23.
إن خارجانية الآخر أو علوه ليست بالنسبة إلى ليفيناس مكانية. ليفيناس يتحدث عن خارجانية ما قبل مكانية: «خارجانية غير موضوعية وغير مكانية (فلو كانت مكانية لأمكن استعادتها من خلال الوعي)»، (Dieu, la mort et le temps, p. 204). وفي موضع آخر، يشدد ليفيناس على الخطأ في فهم علو الآخر بمعنى مكاني، (Totalité et infini, p. 267). معنى العلو الدقيق هو أن الآخر لا ينتمي إلى العالم، لا ينتمي إلى عالم الأنا.
[5] Lévinas, Humanisme de l'autre homme, LGF, 1987, p. 52.
[6] إيمانويل ليفيناس، الزمان والآخر، ترجمة: جلال بدلة، معابر، دمشق، 2014، ص93.
[7] إيمانويل ليفيناس، الزمان والآخر، المرجع السابق، ص96.
[8] Totalité et infini, p. 343.
[9] إيمانويل ليفيناس، الزمان والآخر، مرجع سابق، ص100.
[10] إيمانويل ليفيناس، الزمان والآخر، مرجع سابق، ص99.
[11] إيمانويل ليفيناس، الزمان والآخر، مرجع سابق، ص100.
[12] إيمانويل ليفيناس، الزمان والآخر، مرجع سابق، ص81.
[13] Totalité et infini, p. 8.
[14] Ibid., 82.
[15] كذلك هو الأمر مع الخجل. يقول ليفيناس: "تكبح الحرية جماحها ليس لأنها تجد مقاومة أمامها، بل لأنها تجد نفسها اعتباطية، مذنبة وخجولة؛ لكن، من هذا الشعور بالذنب تنهض بمسؤوليتها". Ibid., p. 223
[16] Totalité et infini, p. 84.
[17] Lévinas, En découvrant l'existence avec Husserl et Heidegger, Vrin, 2002. p. 317.
[18] Totalité et infini, p. 294.
[19] Ibid., p. 71.
[20] Ibid., p. 72.
[21] «لم أكن فرويديًا قط» (Entre nous. Essais sur le penser-à-l'autre, Biblio essais, 1993. p. 124). ويقول في موضع آخر: «عندما، مع فرويد، تم تناول الجنسانية على المستوى الإنساني [أي، بعيدًا عن بعد الآخرية] حدث ابتلاعها في مصاف مبحثٍ في اللذة.» (Totalité et infini, p. 309).

[22] Totalité et infini, p. 284.
[23] Totalité et infini, p. 284.
[24] Lévinas, Autrement qu'être ou au-delà de l'essence, Biblio Essais, 2004. p. 143, n 1.
[25] Totalité et infini, p. 289.
[26] إيمانويل ليفيناس، الزمان والآخر، مرجع سابق، ص100-101.
[27] Totalité et infini, p. 57.
[28] Totalité et infini, p. 46.
[29] Ibid., p. 237.


* عن موقع الأوان
 
أعلى