شريفي عبد الواحد - أثر " ألف ليلة وليلة " في أدب فولتير القصصي

ترجم المستشرق الفرنسي أنطوان جالان ANTOINE GALLAND (1646-1715) لأول مرة في تاريخ أوروبا الأدبي، كتاب "ألف ليلة وليلة" إلى اللغة الفرنسية، مابين 1704 و1717. في اثني عشر مجلداً، ونالت هذه الترجمة نجاحاً باهراً. راجت في كل أنحاء فرنسا، وظلت مدى قرن كامل (القرن الثامن عشر) الترجمة الوحيدة التي عرف بها العالم الغربي "ليالي شهرزاد".

لقد كان من نتائج هذه الترجمة أن أثرت تأثيرات واضحة في الأعمال الفرنسية الكبرى: ملكت أجيالاً كاملة من الأدباء والمفكرين، ولم ينج من سحرها حتى عباقرة التنوير. وأمام الباحث شهادات عديدة تثبت أن حكايات شهرزاد احتلت مكانة الصدارة في المكتبات الفرنسية في القرن الثامن عشر، وأصبحت لا تقل أهمّية عن ملاحم اليونان واللاتين ويكفي إلقاء نظرة سريعة على الموسوعات المتخصصة (بيبليوغرافيا شوفان GHAUVIN مثلاً) للاطلاع على عدد الكتاب والأدباء الذين تأثروا أيّما تأثر بهذه المجموعة القصصية الشعبية. كان كلّ شيء فيها جديداً على القارئ الفرنسي. صورها البراقة التي تظل عالقة في الأذهان، ومغامراتها العجيبة، وأجواؤها الأسطورية الفاتنة، وموضوعاتها الفكرية المتنوعة... وكان هذا الجديد يتخذ لنفسه في كلّ حكاية أشكالاً مختلفة، لا تخلو من عجائب وغرائب...

ويعد فولتير من الفلاسفة الفرنسيين المتأثرين بألف ليلة وليلة في قصصه الفلسفية فلقد استمدّ منها مشاهدها الشرقية، وتجاربها الاستثنائية الرائعة، وكائناتها الغريبة المدهشة، ليقول ما يريد أن يقوله في الفلسفة والسياسة وليعبر عن آمال الإنسانية وآلامها....

1 ـ فلوتير قاصّاً:

فولتير أو فرانسوا ماري أوري (FRANCOIS - MARIE AROUET) _(1694-1774) هو أستاذ القرن الثامن عشر ورمزه بدون منازع.1- لم يدع حقلاً من حقول النشاط الأدبي والفكري إلاّ وتوغل فيه. وكان ـ إلى جانب ذلك ـ جوالة يكثر من رحلاته وأسفاره. اتصل بكبار أهل العلم والأدب وأقام في قصور العظماء والعباقرة...

ومن المعروف أنّ مؤلفات فولتير تشكّل مكتبة كاملة. فهي تبلغ عدداً يربو على مائتين وستين مؤلفاً. منها الطويل ومنها القصير، فيها الملاحم 2- والقصائد3-، وفيها المآسي والملاهي4-، والتاريخ والسير5-، وفيها الرسائل الدينية6-، والمقالات الفلسفية7-، وفيها القصص والحكايات، فضلاً عن المئات من الرسائل السياسية والاجتماعية.

ومن المعروف أيضاً، أنَّ فولتير قد اهتمّ بالأدب في وقت مبكّر: لم يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى كان ينظم الشعر بسهولة مدهشة، ويكتب الرسائل النثرية بذكاء مفرط. وبعد تخرجه من مدرسة لويس الكبير اليسوعية، كان ملمّاً بجميع المذاهب الدينية واللاهوتية وجميع الأساليب الكلاسيكية الموروثة عن مشاهير الكتاب، فضلاً عن إتقانه اللغتين اليونانية واللاتينية... في الرابعة والعشرين من عمره أخذ يغشى المجتمعات الراقية، ويلتقي بالأدباء والعلماء، وينشر مقالاته ومسرحياته نشراً متلاحقاً: مثلت له مأساة "أوديب" فظفر بالشهرة، وصفق الجميع لـ "سوفوكليس"، ونالت ملحمته "هنري الرابع"، نجاحاً باهراً.. أمّا أثناء إقامته الجبرية في لندن، فلقد تفرّغ للكتابة والتأليف، ودرس اللغة الإنكليزية، وحلل أدب الإنجليز وطباعهم وأخذت تختمر في نفسه أفكار جديدة.... ويبدو أنه قد تأثر تأثراً كبيراً بالحياة الأدبية والفكرية والسياسية الإنجليزية، رأى بعينيه كيف يمكن للإيمان الديني السليم والفلسفة الحرة أن يقوما في غير تشاحن ولا عداء، وشهد التيارات الأدبية والمذاهب الفكرية تختلف وتصطرع بدون أن تولّد العنف....8-.

يبدو أنّ شهرة فولتير الأدبية ترجع إلى جنس أدبي أصاب قدراً كبيراً من الذيوع في القرن الثامن عشر لقربه إلى نفس الجمهور الفرنسي الذي كان يطمح إلى تحقيق العدالة الاجتماعية... هذا الجنس الأدبي هو القصة الفلسفية التي تدور أحداثها في بيئة شرقية، والتي كانت عند فولتير وسيلة للتعبير عن نقده وبث آرائه في السياسة والمجتمع.

وفي الحقيقة، إنّ فولتير لم يعن، في بداية حياته الأدبية، بالفنّ القصصي، وإنّما اكتفى بتأليف المسرحيات والملاحم ونظم الشعر والأناشيد.9-، ولم يحتفل بالقصة إلاّ بعد أن جاوز الخمسين من عمره (أي بعد عام 1747). ينشرها، في أغلب الأحيان بأسماء مستعارة، ففي قصري (سيري) و(سو) اللذين قضى فيهما أسعد أوقاته، 10-، بدأ اهتمامه بهذا الجنس الأدبي. وفي صحبة حبيبته دي شاتلي أنتج أهم قصصه التي ساهمت في بناء مجده الأدبي: زديج أو القدر (1748)، ميكروميجا (1725) سكر منتادو(1756).

كتب فولتير مابين 1747 و1770 أكثر من عشرين قصة، والعجيب في الأمر أنّ هذه النصوص الخيالية، البهيجة، الصغيرة الحجم، اليسيرة الحمل، كانت أوسع انتشاراً من جميع مؤلفاته الأخرى. ولقد تجلى فولتير فيها ـ مابين الخمسين والسبعين من عمره ـ فناناً قديراً وفيلسوفاً متمرداً، لاسيما وهو يمـزج الواقع الفرنسي الأليم بمغامرات أبطاله، وتأملاته الفلسفية بالأهوال والمخاطر.

ويبدو جلياً أنّ القالب الأدبي الذي صادف حظوة لدى فولتير في قصصه، هو قالب الرحلة المقرونة بترجمة حياة بطل من الأبطال. فهو يقصّ حياة هذا البطل، في نزهة عبر العالم: ضروب من الخطف والمتابعة، والسحر، ومن جغرافيا خيالية، وأرواح، وحيوانات غريبة وطلاسم، وأمور تهمّ عصره الحاضر، وأخرى مصدرها الإغراب، في أسلوب ماجن ساخر، محلى بالملح اللاذعة، وبالعبارات الحرة من كلّ قيد، وبالفصول القصار، وبالعنوانات الحادة...11-.

والقصة، عند فولتير، لم تكن غاية تطلب لذاتها، وإنّما وسيلة يبتغيها المفكّر، ليصل بها إلى غرض من الأغراض الفلسفية، سواء أكان هذا الغرض متصلاً بما وراء الطبيعة أو بالنظام الاجتماعي، أو السياسي أو الديني، فكّان يشعل النار في كل الأعداء، من عقائد وأشخاص. يضعهم في الخيال الطيّع المصوّر، كما في "زديج"، و"أميرة بابل" (1768)، وأحياناً يتتبّع غاية ثابتة، ويقصد إلى البرهنة على فكرة أو إلى تفنيدها، كما في "ميكرو ميجا"، و"جانو وكولان" (1756)....12-.

وما دامت القصة، عند فولتير، وسيلة، وليست غاية، فمن الطبيعي أن يكون الأشخاص الذين تجري على أيديهم الأحداث وسائل لا غايات. فإذا عرض فولتير على القارئ شخصاً من الأشخاص الذين يعملون، أو يتأثرون في قصصه، فالذي يعنيه هو ما يصدر عن هذا الشخص من قول أو عمل، وما يلمّ بهذا الشخص من حدث أو خطب، ومايكون لهذه الأقوال والأعمال والأحداث من أثر في حياة الناس...

ولئن أعطى فولتير أهمية قصوى للأفكار والمعاني، فإنّه لم يهمل الخيال الذي يعد عنصراً أساسياً من عناصر الفنّ القصصي (وهذه خصلة من الخصال التي تميّز بها). فهو لايأخذ من الواقع سوى مايخدم هدفه، كما أنّه لا يحفل بالزمان ولا المكان، ولا يحفل أحياناً بالمنطق، ولا يبالي بالجغرافيا والتاريخ: أميرة بابل ـ مثلاً ـ تعيش في أقدم العصور الإنسانية، قبل أن يوجد التاريخ، وهي ـ مع ذلك ـ تتخذ للتنقل وسائل، منها ما يلائم الأساطير، ومنها ما يلائم العصر الذي كان فولتير يعيش فيه، وهي تزور مدناً لم تنشأ إلاّ في عصور متأخرة، وتشهد أناساً بدائيين، أما البطل كانديد فيطوف هذا العالم العجيب، ويتعرض لشتى المصائب والمحن، ويخلص منها بكلّ ما أوتي من فطنة، خالطاً الهزل بالجدّ، والمغامرات بالحكمة. نراه ينتقل من أمريكا إلى تركيا ومن إيطاليا إلى الجزائر بسرعة فائقة مذهلة، ويشاهد مدناً خيالية وأناساً لا يختلفون عن المجانين.

II ـ فلوتير والشرق.

1 ـ موقف فولتير من الشرق.

علق فولتير، في قصصه ومسرحياته، أهمية كبرى على العنصر الشرقي، مما دفع بعض النقاد إلى اعتبار قلبه يميل نحو الشرق. ولقد اعترف هو نفسه أنه مدين لهذا "الشرق العظيم"، الذي علمه دروساً في الفلسفة والحكمة، وزوّده بكلّ الأساليب والوسائل التي سمحت له أن ينظر إلى العالم المحيط به بنزاهة وموضوعية13-.

لقد كان هذا الأديب معجباً ـ فعلاً ـ بالشرق فهو لم يكف، في كتاباته المختلفة، من الإشادة بحضارته وتاريخه وشعوبه: خصّص له مجالاً واسعاً في موسوعته "مقالات في العادات" Essai sur Les moeurs 14-. وتحدّث عنه بإسهاب في مؤلفه "عصر لويس الرابع عشر"، "LeSiecle de Louis XIV" واستلهم منه كل مايخدم أفكاره ورموزه ومشاهده في مسرحياته 15- وقصصه الرائعة16-.

والشرق، عند فولتير، أداة لنقد السياسة والمجتمع. ووسيلة لمقارنة بين حضارتين مختلفتين، عالم بناه ليعبئ فيه آماله في التطوّر والازدهار، فهو لم يعن به إلى هذه الدرجة إلاّ ليخدم برنامجه الفلسفي ـ الإصلاحي الذي طالما عمل على بثه وإذاعته في الأوساط الشعبية. نجده يختفي وراء المشاهد الشرقية

والكائنات الغريبة، والأسفار الطويلة والتجارب الاستثنائية، ليعبر بكلّ حرية عن أفكاره وتأملاته، وليجسد مايريد أن يقوله لقرائه في صور حية رائعة.

في الحقيقة، لقد بذل فولتير جهداً كبيراً للنظر إلى الشرق نظرة أكثر تحرّراً وأقلّ تحيّزاً ممّا جرت عليه العادة في القرون السابقة. فقصصه ومسرحياته تخلو من التلفيقات والتشويهات المتوارثة (في الغرب) للتاريخ والمعتقدات الشرقية... نجده في قصة "زديج أو القدر"، يتغنى بالفارس العربي وبنبله وكرمه وحبه العفيف..... وفي مسرحياته "زايبر" ـ التي تدور أحداثها في الشام ـ يدافع عن المسلمين الذين ظلمهم التاريخ المسيحي، مبرزاً بصدق خصائص الفروسية العربية وأهمية الوفاء عند العرب... وفي "عشاء الكونت بولنفيي" 17- يبرز وجه الإسلام المشرق وينوه بالدور الذي قام به محمد (ص) على الصعيد العالمي، يقول:

"إنّ أقلّ مايقال عن محمد (ص) أنه قد جاء بكتاب وجاهد... أمّا عيسى (عليه السلام) فلم يترك شيئاً مكتوباً ولم يدافع عن نفسه... لقد امتلك محمد (ص) شجاعة الإسكندر وحكمة (نوما) (NUMA)؛ أمّا عيسى فقد نزف دماً بمجرّد أن أدانه قضاته.والإسلام لم يتغير قطّ، أمّا أنتم ورجال دينكم فقد غيرتم دينكم عشرين مرّة".18-.

2 ـ مصادرفولتير الشرقية:

في الحقيقة، إنّ فولتير لم يزر منطقة من مناطق الشرق، ولم يفكر يوماً في القيام بسفرة سياحية إلى العراق أو الهند. وإنّما تعرف على هذا العالم، وشكل صورة عنه من خلال قراءاته وتحاليله لمجموعة من المؤلفات العلمية والأدبية والدينية التي أثرت فيه ومكنته من استيعابه. وهذه قائمة بأهمّ عناوين هذه المصادر.

أ ـ القرآن الكريم (ترجمة دي ري André de RUYER 1647).19- ولقد اعترف، في مراسلاته، 20- أنّه اطلع على هذه النسخة بتمعن، واستخلص منها العديد من الدروس والحكم.... ويبدو أنّه لم يكتب مسرحية "محمد" 1742 ـ التي نوه فيها بتاريخ المسلمين ـ إلاّ بعد أن قرأ "القرآن الكريم"، واستوعب الدور الذي لعبه النبي محمد (ص) على الصعيد العالمي.

ب ـ كتب التاريخ والموسوعات العلمية.

" موسوعة هربلو (B.D.HERBELOT) الشرقية (1697) وهي مكتبة واسعة لما في الشرق من فلسفة وعلم اجتماع.
"التاريخ النقدي لعقائد وعادات أمم الشرق (1680) الذي وازن فيه صاحبه ريشار سيمون (R.SIMON) بين عادات وطقوس المسيحيين الشرقيين وتقاليد وطقوس المسلمين دونما قدح أو انتقاص.
* التاريخ العالمي (النسخة الإنجليزية) وقد اطلع عليها عام 1742.
* تاريخ جنكس خان (1710) لبيتي دولا كروا الأب.
* الطقوس والعادات الدينية لكل شعوب العالم (1737) للأستاذ برنار.
* الديانة المحمدية (الترجمة الفرنسية) للأستاذ هادريان بلاند.

جـ ـ تقارير المبشرين الذين أقاموا في مناطق شرقية مختلفة من أجل نشر المسيحية فيها.21-.

د ـ كتب الرحلات: ونعني بها كتب الرحلات إلى الشرق. ونخصّ بالذكر منها:

* "قصة رحلة إلى الشرق" Récit d’un voyage au Levant” للرحالة تيفينو THEVENOT.
*" رحلات إلى الهند" Voyage aux grandes Indes” (1647) لدولاهاي.
* رحلات إلى تركيا وإيران والهند Voyage en Thrquie, en perse, aux Indes (1676). لتافرني TAVERNIER ويعدّ هذا الكتاب آية في أدب الأسفار.
* "رحلة إلى فارس" Voyage en Perse لشاردان CHARDIN.
*" رحلات إلى الشرق" Voyage au Levant (1704)، لبييرليكا P.LUCAS.

هـ - المسرحيات والقصص.

* مسرحيات شكسبير الغنية بالأجواء الشرقية، مثل "العاصفة" و"تاجر البندقية" و"عطيل" وغيرها...
* مسرحيتا "البرجوازي المهذّب" (1670) لموليير و"بجزيت" (1662) لراسين. وهاتان المسرحيتان غنيتان بالتفاصيل الشرقية.
* "الروايات الفرنسية ذات الطابع الشرقي التي نشرت في القرن الثامن عشر، مثل روايات منتسكيو (أرزيس وأزميني والرسائل الفارسية 1732) وديدرو (الطائر الأبيض والحلي الناطقة 1748)، وبيتي دولا كروا (سلطانة فارس وألف يوم ويوم 1710) وأنطوان هاملتن (وردة الشوك 1730)، ولامور ليير (أنجولا 1746) وكريبيون الابن (المرغاة 1734 والصوفا 1740).....
* القصص والحكايات الشرقية التي كانت تنشر في مجلة سبيكتاتور spectator الإنجليزية: وقد اطلع عليها أثناء إقامته الجبرية في لندن.
* ألف ليلة وليلة: ترجمة أنطون جالان (1704-1717).

هذه هي أهم المصادر الشرقية التي اطلع عليها فولتير وتأثر بها، بشكل أو آخر، في كتابة قصصه. فلا يعقل أن ينقل هذا الأديب قراءه إلى تلك المناطق الشرقية البعيدة، ليروا فيها المشاهد المتنوّعة، ويدركوا ما لأهلها من طباع وخصال، بدون أن يوظف معلوماته عن الشرق والتي استمدها من مطالعاته الغزيرة.

وغني عن القول إنَّ فولتير كان من هواة الثقافة والعلم، يلتمسهما أينما وجد إليهما سبيلاً. لم ينقطع، طيلة حياته، عن البحث والتنقيب. فلقد دوّن كل ماوقف عليه في مؤلفاته ونشراته ورسائله، لا يملّ ولا يفترّ، كأنما خلق قلمه في يده لا يفارقه إلاّ اضطراراً.

3 ـ فولتير وألف ليلة وليلة:

من المعروف أنَّ فولتير اطلع على "ألف ليلة وليلة" وتأثر بها. ولقد اعترف هو نفسه، في عدة مناسبات، أنه لم يصبح قاصّاً، إلاّ بعد أن قرأ ترجمة جالان أربع عشرة مرة، قراءات متأنية واعية، لكونه وجد فيها مادة للسرد القصصي لا تنضب، ومضامين إنسانية غزيرة، وأساليب فنية جديدة.22- يقول طه

حسين في مقدمة ترجمته لقصة "زديج أو القدر".

"مرّ بفولتير طور من أطوار حياته الأدبية، قرأ فيها ترجمة "ألف ليلة وليلة"، فشاقته وراقته ووجهته إلى دراسة أمور الشرق، فغرق في هذه الدراسة إلى أذنيه، وأخرج للناس قصصاً شرقية بارعة.23-.

من منّا جال في خاطره أنَّ "الليالي" تشكل مصدراً رئيسياً لرائعة فولتير "زديج أو القدر"24-.

ومن منّا فكّر أنَّ قصة "الحمّال الأعور" مقتبسة من حكاية "الحمال والبنات الثلاث"، في ألف ليلة وليلة؟25-.

ومن منا كان يعتقد أنَّ، "أميرة بابل" مستلهمة من "الليالي"؟...

في الحقيقة، لقد كان فولتير من الأدباء الذين انساقوا وراء سحر شهرزاز وتأثيرها، إذ راح يستوحي من حكاياتها الصور الرائعة والمضامين الإنسانية، "فلقد اطلع هذا المفكر على ترجمات المستشرقين، واتصل بالعالم العربي أبي زيد، صاحب الشارع المعروف باسمه في جنيف، فتأثر بالشرق في أكثر مصنفاته الأدبية، مثل زايير، والأبيض والأسود، وأميرة بابل، وأكثر قصصه مستوحاة من "ألف ليلة وليلة"، بذوق خاص عرف به فولتير26-.

واللافت للنظر أنَّ فولتير قد استعان بـ"الليالي" وأجوائها الشرقية من أجل بثّ أفكاره ودروسه، في عصر أحبّ الناس فيه العالم الشرقي وكل مايمتّ إليه بصلة. فـ "اهتمام فولتير بهذه المجموعة لم ينصبّ على عالم الأحلام مثلما انصب اهتمام جوته، بل تركز على الجانب الأسطوري، بوصفه رداء، شاع استعماله آنذاك في الحكايات التربوية. لقد كان الرجل يعمل من أجل برنامجه الفلسفي. وكان غرضه من الاستعانة بشهرزاد هو تجسيد تعاليمه الأخلاقية بواسطة الحكايات. وبهذه النظرة كان رائداً في فنّ القص، وهي نظرة تقف على النقيض من نظرة جوته..."27-.

قد لا نبالغ، إذن، إن قلنا: إنَّ "الليالي" قد حسنت في عين فولتير، إذ احتلت ـ كما يعترف هو بذلك ـ مكانة الصدارة في مكتبته؛ أعجب بها إعجاباً فائقاً وتأثر بأجوائها ومضامينها في أكثر مصنفاته الفنية. ومن الملاحظ أنه استعان بها حتى في مؤلفاته التاريخية والعلمية: وردت في أكثر من موضع "مقالات في العادات" 28-، ووظفها في "القاموس الفلسفي" في شرح مصطلح "الخيال"29- واستعان بها في العديد من المقالات، لاسيما أثناء تحدّثه عن السحر والمسخ والتناسخ في البلاد الشرقية.30-.

III ـ "الليالي" في قصّة "زديج أو القدر".

1 ـ "زديج أو القدر": قصة فلسفية رمزية:

في قصر (سيري) الجميل، أنهى فولتير سنة 1748 قصته "زديج أو القدر". وقد نشرها -بعد أن أدخل عليها إضافات- 31- إرضاء للدوقة دومين والمركيزة شاتلي وغيرهما من النساء السلطانات اللائي كنَّ شغوفات بقراءة قصص شبيهة بحكايات ألف ليلة وليلة" مليئة بالمغامرات والأهوال.

وفي نهاية سنة 1748، كان الفرنسيون لا يتحدّثون، في الشوارع والأسواق، سوى عن زديج، وفلسفته، ومغامراته، وعدائه للدين والدولة، زديج البطل الشرقي النبيل الذي فلسف الحياة والوجود، وأظهر مواطن الفساد في المجتمع الفرنسي، وانتصر للمظلومين والفقراء.

وغني عن القول إنَّ هذه القصة -التي حققت نجاحاً كبيراً - تعدَّ النواة الأولى للقصة الفلسفية الحديثة، وذلك لما طرحته من قضايا فلسفية شغلت الناس في عصر التنوير....32- ولكنّ "في هذه القصة أشياء أخرى غير هذا العرض الفلسفي... هو الذي أتاح لها الخلود، وهو نقد الحياة الإنسانية من ناحيتها السياسية والاجتماعية والخلقية، والنفوذ بهذا النقد إلى صميم الطبيعة الإنسانية وما ينشأ عن احتمالها للحياة.... وواضح جدّاً أنَّ فولتير اتخذ قصته هذه كلّها وسيلة إلى نقد الحياة الأوروبية عموماً والحياة الفرنسية خصوصاً، واتخذ مدينة بابل رمزاً لمدينة باريس، وقصر بابل رمزاً لقصر باريس..."33-.

واللافت للنظر أنَّ فولتير لون قصته بألوان شرقية رائعة وكساها بردائه المعروف. فبطلها شاب بابلي مثقف، محبّ للعدل والإنصاف، عانى الويلات في كلّ مكان... أمّا أحداثها فتجري في إطار شرقي -عربي (بابل، صحراء مصر، البصرة، جزيرة العرب): تنطلق الأحداث من بابل في عصر الملك مؤبدار (أي قبل ظهور الإسلام) ثمّ تنتقل إلى مصر عبر صحراء سيناء، ثمّ الجزيرة العربية، وبعدها صحراء أوريب حيث موقع التاجر سيتوك، ثمّ تستمر الأحداث إلى البصرة حيث يذكر فولتير بدون تفاصيل كثيرة بعض خصائص هذه المدينة... وتمتدّ الرحلة -بعد البصرة- إلى جزيرة سرنديب، ومنها إلى سوريا، ليصل البطل -في نهاية المطاف- من حيث انطلق (أي بابل)، إنها رحلة دائرية، مركزها الفيافي العربية التي تغنى بها الأبطال في حكايات شهرزاد.

تبدأ إذن قصة "زديج أو القدر" بداية شرقية في مناخ خيالي بديع، وتنتهي أيضاً نهاية شرقية في أجواء تسيطر عليها قوى عجيبة. فهي لاتنطوي على المفاجآت والمباغتات فحسب. وإنّما تعرض كذلك مشاهد مثيرة ومغرية، متيحة للقارئ الفرنسي أن يتجوّل مع البطل زديج- الذي يعرض نفسه باستمرار للخطر- في عالم شرقي لم يألفه من قبل في الأدب الكلاسيكي، عالم يحمل آثاراً قوية لتلك الأجواء التي أذاعتها "الليالي"، في القرن الثامن عشر.

"كان زديج وحبيبته يتجولان عند باب من أبواب بابل، في ظلال النخيل التي تزين شاطئ الفرات...."34-.

"لمّا مثل زديج أمام السلطان، قبل الأرض بين يديه..."35-.

ولا تخلو هذه القصة من عنصر التشويق، إذ أنّ بطلها -الذي تفرض عليه قوى غامضة الشقاء- لا يكاد يخلص من محنة حتى يستعدّ لمواجهة أخرى، ولا يكاد يستقرّ في مكان حتى يضطرّ أن ينتقل إلى مكان آخر في عالم شرقي صحراوي شاسع. ويبدو أنَّ فولتير اتبع هذا الأسلوب حتى يوجه نقده إلى المؤسسات والعادات البالية المتزمتة بكلّ حرية وطلاقة، وبعبارة أخرى. حتى يتيح للقارئ أن يتتبع مراحل الرحلة المطعمة بالأفكار الفلسفية المعقّدة بدون أن يملّ أو يفتر. فهو يتسلّل دائماً عبر الأحداث القصصية للتعبير عن آرائه وتأملاته، يمزج الخيال بالواقع بدون أن يؤثر على الفكرة التي يريد أن يعرضها على جماهيره....

2 ـ الدراسة المقارنة:

إنَّ "زديج أو القدر" ـ الذي نسجت على منوال القصص الشعبي الشرقي- تحتوي على عناصر عدّة تشير إلى تأثير صاحبها بترجمة أنطون جالان. لقد أراد فولتير أن يكتب قصة عن " القضاء والقدر"،

و"العناية الإلهية"، فلم يجد مصدراً أفضل وأهمّ من "ليالي شهرزاد"، يقتبس منه الصور والنماذج والموضوعات ويقتدي به في الكتابة، إرضاء لجمهوره التواق إلى كل ماهو غريب وجديد.

هناك، إذن، مجموعة من العناصر يمكن أن ترشد الباحث عن كيفية استفادة فولتير من حكايات شهرزاد.

أ ـ إهداء الكتاب:

وقد جاء فيه:

"رسالة إهداء قصة زديج إلى السطانة شهرا (SHERRA) من سعدي... يافتنة العيون، وعذاب القلوب، ونور العقول، لا ألثم غبار قدميك لأنك لا تكادين تمشين، وإن مشيت فعلى زرابي إيران على الورود. إليك أهدي هذه الترجمة لكتاب وضعه حكيم قديم، أسعده الحظ بأن لم يكن له عمل يقوم به، فسلى نفسه بإنشاء قصة زديج، وهي قصة تعبّر أكثر ممّا يظهر أنها تعبّر، فأتوسل إليك أن تقرئيها... فمع أنك قبلة جميع اللذات والمسرات، ومع أنك حسناء هيفاء، وأن ذكاءك يضيف إلى جمالك بهاء، ومع أن الثناء عليك متصل منذ يقبل الليل إلى أن يسفر الصبح، وأن من شأن هذا كله أن يباعد بينك وبين القصد، فأنت على الرغم من هذا كله، راجحة العقل، وعلى جانب كبير من الحكمة والذوق الرهيف، وقد سمعتك تجادلين بأصالة تفوق أصالة الدروايش الشيوخ، وذوي اللحى الطوال.. وأنت إلى ذلك رزينة، حليمة بلا ضعف... ثم إنّ لك حظاً يسيراً من الفلسفة حملني على الاعتقاد بأنك تتذوقين أكثر من سواك، هذا الكتاب الذي وضعه أحد الحكماء.

وقد كتب أوّل مرة في اللغة الكلدانية... ثمّ ترجم إلى العربية، ليتلهى به السلطان أولوغ بك. كان ذلك في الوقت الذي أخذ العرب فيه يكتبون "ألف ليلة وليلة"... وكان أولوك يفضل قراءة زديج على حين كانت السلطانات يؤثرن قراءة ألف وواحد..."36-.

هذا هو نصّ الإهداء، الذي يرى فيه الباحثون الجادون أنه موجّه إلى شهرزاد 37-: الشخصية الأدبية الحكيمة القادرة على العطاء، والفنانة الفيلسوفة الموهوبة، التي ألهمت المفكرين والأدباء في العالم، وهذا هو النص الذي يعكس -بشكل أو آخر- إعجاب فولتير بحكايات "الليالي" التي روتها السلطانة "شهراً"، على الملك الجبار شهريار، لتنقذ بنات جنسها من الهلاك....

لقد اعترف فولتير في أكثر من مناسبة أنه مدين إلىحكايات "ألف ليلة وليلة" التي علمته كيف يصبح قاصاً، ولقنته دروساً في الفلسفة والاجتماع والأخلاق، وصوّرت له عالم الشرق بعاداته وحفلاته ونظمه. أفلا تستحق -بعد هذا كله- رواية "الليالي" البطلة شهرزاد- التي أصبحت شخصية عالمية تفخر الآداب في كل مكان -أن تهدى إليها قصة نسجها خيال أديب يكنّ لها إعجاباً يبلغ ضرباً من الغرام.

وفي النصّ السابق، عبارات عديدة تثبت أنه (الإهداء) موجه إلى شهرزاد وليس إلى غيرها، كما يثبت في الوقت نفسه مدى إعجاب المؤلف بحكايات الليالي الغنية بدروسها الإنسانية وتجاربها المشرقية:

- يا فتنة العيون، وعذاب القلوب، ونور العقل... أنت تمشين على الطنافس الإيرانية، وعلى الورود.....

- أنت قبلة جميع اللذات (ويقصد بها المتعة الأدبية والفنية).

- إنَّ الشتاء عليك متصل منذ يقبل الليل إلى أن يسفر الصبح (علماً أن شهرزاد كانت تحكي قصصها ليلاً، وتسكت عن الكلاملا المباح فجراً. )

- سمعتك تجادلين بأصالة الدروايش، وذوي اللحى الطوال، وأنت على ذلك رزينة فيلسوفة (حكاية تودّد مثلاً).

- أرجو أن أجدك لحظة قصيرة أتحدّث إليك أثناءها حينما تسأمين من حكي "ألف ليلة وليلة"، على أنّ قصتي أقل منها تسلية...

- ترجم الكتاب إلى العربية، في ذلك الوقت الذي أخذ العرب فيه يكتبون "ألف ليلة وليلة".

يمكن القول إن فولتير -في هذا الإهداء- يعبّر بشكل واضح عن امتنانه لما أوحت إليه شهرزاد من أفكار وصور وتقنيات.. فهذه البطلة -بالنسبة إليه- مصدر إلهام وسحر... لم تعلّمه كيف يكتب القصص فحسب، وإنّما زودته أيضاً بكل الأساليب التي تتيح له المقارنة بين عالمين متناقضين: عالم الشرق المؤطر بالحكمة، وعالم الكنيسة المليء بالكبت والاستبداد، فأي فارق بين هارون الرشيد الذي يطوف في الأسواق متنكراً بزي التجار ليطلع على أحوال الرعية، وبين لويس الخامس عشر الغارق في الملذات، والقائل "فليكن بعدي الطوفان"....

ب ـ الأبطال:

إنَّ أبطال "زديج أو القدر" شأنهم شأن أبطال "الليالى"، ينتمون إلى فئات اجتماعية مختلفة: فيهم الملوك المستبدون الذين يطاعون طاعةعمياء، والحكماء الذين يتعرضون للأذى، والعبيد الذين يعملون في القصور، والفلاحون والعمال المستغلون..... وهؤلاء الأبطال يسعدون في حياتهم ويتألمون؛ يخضعون كلّهم لقوة غامضة (القضاء أو القدر) تقرر مصائرهم وتتلاعب بمصالحهم.

ومن النماذج الطريفة، في هذه القصة، الفيلسوف التائه، والشاطر الظريف، والمرأة التي تكيد من أجل المال أو الحبيب.

"زديج البطل -البابلي الفيلسوف:

إنّ البطل زديج - الذي يتسم بعدّة سمات شرقية- هو شاب بابلي كريم، رائق الوجه، نبيل القلب، اطلع على كتب زرادشت وعلم الكلدانيين وفلسفة الأوّلين... ما كانّ همّه سوى أن يعيش سعيداً في مملكة بابل العظمى...)، (يتزوج الأنثى التي يحبها، يمارس عملاً شريفاً ويفيد الناس بعلمه....)، غير أنَّ القدر جرّه إلى مغامرات لم تكن في حسبانه: اختلفت عليه الأحداث وتعرَّض لكثير من المحن، وكانت هذه الأحداث والمحن كلها مخالفة لمنطق الأشياء.

لقد عانى هذا البطل -الذي فطر على طبع كريم- الويلات في حياته، وتألّم كثيراً في وطنه (بابل) وفي الأوطان التي تغرب فيها (مصر، جزيرة العرب، سوريا....)، انتقل من حياة القصور إلى حياة الأكواخ، وبيع عبداً في الأسواق، وتاه في الصحارى العربية، وشارك في الحروب وحلّ الأزمات... لم يكن يطمع في الحكم، ولم يكن يحرص على أن تكون له الكلمة الأخيرة، وكان يعرف كيف يقدّر ضعف الناس... لكنه جرّ إلى متاهات ومحن لم يكن يتوقّع حدوثها وكوفئ دوماً بالشرّ على الخير.

وزديج 38-، لا يختلف كثيراً عن أبطال حكايات "ألف ليلة وليلة" التي راجت رواجاً منقطع النظير في القرن الثامن عشر: فهو -مثلهم- متفقّة في فنّ الفراسة (بفضل فراسته اقتفى آثار الجواد الملكي، ووجه قافلة سيتوك في الصحراء، وحلّ العديد من الأزمات الخطيرة....)، وهو -مثلهم أيضاً- يهتدي في البيد الشاسعة بالنجوم والكواكب (الجوزاء، الشعرى، القمر...) ولا يشغل نفسه كثيراً بالحرارة الشديدة (خصوصاً في فصل الصيف)، ويفهم بدقّة خصائص الحيوانات والنباتات التي تنفع الناس....

ومغامرات زديج شبيهة بمغامرات أبطال "الليالي": فهو يعاني -مثلهم- من فراق الحبيب، ويتعرض للمخاطر وبطش السلطان، 39-، ولا يكف عن الترحال من مكان إلى آخر ويعود-في نهاية المطاف- سالماً، ظافراً بالمال والحبيب.40- ولكن زديج يختلف عن هؤلاء الأبطال بموقفه الفلسفي الواضح: فبينما يذعنون (هم) إذعاناً مطلقاً لمشيئة القضاء والقدر، نجده (هو) يفلسف كلّ مايقع له ويشاهده، متسائلاً باستمرار: "هل يتعلّق مصير الإنسان بأوهى الأسباب؟" إنه يريد أن تكون الحياة معقولة وأن تترتّب الأقدار عن أسباب موضوعية حتى لا يكون مصير الإنسان هشّاً يتلاعب به من يشاء...

"قاطع الطريق"

قطاع الطرق، في "زديج أو القدر"، يعملون في المنطقة التي تفصل بين بتراء وسوريا. وهم "أعراب مسلحون"، يحيطون بسرعة مذهلة بـ"المسافر العابر"، ويجردونه من سلاحه وأمواله...

وأربوجاد واحد من هؤلاء القطاع، بل هو رئيسهم الذي يسيطر عليهم سيطرة مطلقة. وهذا اللصّ يسرق في كثير من الطمع ولكنه يعطي أيضاً في كرم وسخاء، ويعتقد أنَّ كلَّ ما مرَّ بأرضه فهو له، وكل ما وجد بأرض غيره فهو له أيضاً...".

كان أربوجاد، في فترة شبابه، خادماً لأحد الأمراء العرب. وكان يبغض عمله أشدّ البغض،ويتألّم لأنَّ الحظَّ لم يبتسم له يوماً... لهذا السبب أزمع أن يأخذ -بالقوة- نصيبه من متاع الدنيا، وأن يتحوّل من "ذرّة ضئيلة" إلى "أبهى ماسة في العالم"... بدأ مهنته الجديدة بسرقة فرسين، ثمّ جمع حوله بعض الأعراب للسطو على صغار القوافل... ثمّ أصبح أمير القطاع، يملك قصراً ضخماً في قلب الصحراء والعشرات من العمال والأتباع، يقول لزديج:

"بالسرقة ألغيت قليلاً ماكان بيني وبين الناس من الفرق. ولعلّي أن أكون قد نلت من الخير أضعاف ما احتملت من الحرمان. وقد ارتفعت مكانتي بين الناس وأصبحت أميراً قاطع طريق... ثمّ بسطت سلطاني على جزء من الصحراء، وعهد إليّ أن أكون جابياً للإتاوة التي تؤديها بتراء إلى الملك. وقد جبيت الإتاوة، ولكن لم أؤد منها شيئاً..."41-.

في الحقيقة، إنَّ شخصية أربوجاد ترمز إلى التمرّد على الواقع الأليم، والرفض العنيف للتناقض الاجتماعي. فهذا الأعرابي، الذي يعتقد أنه أسعد الناس في الأرض، يسرق الأموال ثمّ يوزّع جزءاً منها على الفقراء المحرومين. وهو يتمرّد على السلطة ويرفض قوانينها لأنها لم تحقّق رغبات وآمال الأفراد والجماعات، بل تمادت في الاستغلال والظلم والفساد.

وأربوجاد لا يختلف كثيراً عن قطاع الطرق المبثوثين في حكايات "الليالي" هذه الفئة الاجتماعية المنكوبة مالياً ومعنوياً، والتي قامت لتأخذ حقها من الحياة بالمهارة في السرقة والاحتيال. فهو -مثلهم-

يرغب في الاستمتاع بالحياة. يقتسم الغنائم مع المضطهدين، ولا يخضع لنير الطغاة المستبدين من الحكام، وهو -مثلهم أيضاً- متسامح، شجاع، شغوف في البذخ، محبّ للارتحال وركوب الأهوال، لبيب، حلو العشرة، ماجن على المائدة يقدّر قيمة الأبطال ولا يتردّد في مساعدتهم.

"المرأة الشرقية":

يبدو أنّ فولتير تأثر -إلى حدّ ما- بتلك الصور التي عرضتها "ألف ليلة وليلة" عن المرأة الشرقية، والتي ركزت على مكرها وخبثها. فقصته، "زديج أو القدر" مشحونة بالجرائم التي كانت ترتكبها هذه المرأة من أجل تحقيق أهدافها.

لقد تعرّف زديج، في حياته، على نساء عديدات، وكان دائماً يشكّ في قدرتهنّ على الوفاء، عشق سميرة وتعلّق بها تعلّقاً شديداً، ولكنها سرعان ما تخلّت عنه وتزوجت عدوّه أورخان... واقترن بأزورة وأحبّها حبّاً عظيماً، غير أنّها لم تتردّد في قطع أنفه 42-، إرضاء لرغبة عشيقها كادور.... واختير وزيراً فأصبحت النساء الجميلات يقدمن إليه من كلّ وجه ويلححن عليه بالإغراء.... وفي محنه الكثيرة تعرف على امرأتين لم ير لهما مثيلاً:

المرأة الأولى (ميسوف): التقى بها وهو يتجه نحو الحدود المصرية، حزيناً وبائساً من تفاهة البشر... رآها تصيح وتستغيث بالسماء والأرض لأنّ صديقها كان يضربها ويشتمها وهي تقبل ركبتيه وتستغفره... لقد قدر لزديج لمنظر هذين المصريين أن الرجل كان غيوراً وأنَّ المرأة خائنة، ولكنه حين نظر إلى هذه المرأة ورآها ذات جمال فاتن مؤثر رقّ لها وسخط على الرجل... وكانت المبارزة بينه وبين رفيقها. وقد ثارت حفيظة زديج فأغمد سيفه في صدر المصري. وإذا المرأة التي كانت تستغيث قد أصبحت عدواً لدوداً، تلعنه وتودّ قتله، قائلة له:

لقد قتلت عشيقي أيّها المجرم... أريدك أن تموت... لقد كنت أستحقّ الضرب لأنني دفعته إلى الغيرة... آه لو استطعت لمزّقت قلبك.... وددت لو يضربني الآن ضرباً مبرحاً وأنك ملقى مكانه...."43.

أمّا المرأة الثانية (ألمونا) فهي حسناء من جزيرة العرب، سيدة فاتنة وذكية، أنقذها زديج من الموت، لأنها أرادت، جرياً على عادة كانت تتحكم في بلاد العرب، أن تحرق نفسها بالحطب على جسد (جثة) زوجها (الذي توفي).... 44-، ولقد استطاع زديج -بعد مشقة- أن يصرفها عن هذا الإثم وأن يحبب إليها الحياة، الأمر الذي أغضب الكهنة، أصحاب القرار في البلاد، فحكموا عليه بالموت حرقاً... غير أنَّ ألمونا قرّرت إنقاذه ردّاً للجميل. فما زالت تمكر بالكهان واحداًواحداً، تطمعهم في نفسها، ولا تتقاضاهم على ذلك سوى براءة زديج، فلما ظفرت بهذه البراءة منهم منفردين، ضربت لهم جميعاً موعداًواحداً، فذهبوا إليه،وكلهم متيقن أنّها ستخلص له، وتقضي معه ليلة عزيزة، ولكنهم التقوا جميعاً عندها وعادوا بالخزي والعار، 45- ونجا زديج من الموت المحتوم.

"تعطرت ألمونا وازينت حتى جعلت جمالها ساحراً، ثم مثلت أمام رئيس الكهنة وحدّثته عنه ماضيها وهي تخرج من كمها الحريري ذراعها العارية ذات الصورة الرائعة والبياض الخلاب... ثم أظهرت له أجمل ثدي صنعته الطبيعة...هذا النحر، وهاتان العينان الكبيرتان الفاترتان... وهذان الخدان اللذان يزدهيان بأجمل الأرجوان... كل هذا مجتمعاً أشعر الشيخ بأنه ابن العشرين، فأعلن إليها حبّه متلعثماً، ولما رأته ألمونا ملتهباً سألته العفو عن زديج.... ثم خرجت ومعها الإمضاء.... ومضت للقاء الكاهن الثاني...."46.

من الملاحظ أن فولتير يقف موقفاً سلبياً من المرأة الشرقية إذ ظهرت، في قصته، ماكرة، خائنة، قادرة على الكيد. ولا تستبعد -كما سبقت الإشارة إلى ذلك - أن يكون قد تأثر بتلك الأفكار والانطباعات الواردة في حكايات "ألف ليلة وليلة"، والتي تحمل المرأة الآثام وتدعو إلى سوء الظن بها (النساء ناقصات عقلاً وديناً/ إن كيدهن لعظيم، المرأة إذا أرادت شيئاً لا يغلبها أحد). وانطلاقاً من هذا الموقف السلبي الذي يتمسك به فولتير، فإنَّ المرأة تتحوّل، في أغلب قصصه الشرقية، إلى عنصر قلق وتوتر، تترتب عنه مشاكل وأزمات يعاني منها البطل.

من المحتمل، إذن، أن يكون فولتير قد تأثر بتلك الصور التي عرضتها "الليالي"، عن المرأة الشرقية، والتي تبالغ في التحذير من ضررها ومكائدها (الخيانة/ الحقد/ الانتقام/ القسوة...).49- فمغامرات زديج الغرامية تذكرنا بمآسي بعض أبطال "ألف ليلة وليلة"، الذين تعذبوا كثيراً في الحياة بعد اكتشاف خيانة زوجاتهم لهم. ألم يكتشف (شاه زمان) أنَّ زوجته تخونه -أثناء غيابه- مع عبد أسود؟ ألم ير بعينيه زوجة أخيه (الملك العظيم شهريار)، تقيم حفلات جنسية مع العبيد؟.. ألم يكتشف الملك الجبار صاحب الجزر السود أنَّ زوجته تفضل ممارسة الجنس مع عبد من عبيده؟....

ولعلّ النموذج النسوي الذي يتكرر مراراً، في قصص فولتير، هو نموذج المرأة الفاتنة التي تقوم بدور الوسيط لحل المشاكل العويصة عن طريق الإغراء والجنس (مثل ألمونا التي أنقذت زديج بعد أن ألهبت شهوات الكهان ومكرت بهم أشدّ مكر). ويبدو أنّه اهتمّ بتوظيف هذا النموذج الذي انتشر في فرنسا، في القرن الثامن عشر، لفضح بعض الأرستقراطيين ورجال الكنيسة الذين تركوا واجباتهم وانجرفوا في تيار البذخ والترف. فهم -في نظره- أنانيون، شواذ، يمارسون الجنس ببشاعة مع الفتيات الفقيرات، ويستغلون الفئات الشعبية المحرومة، ويتهمون المفكرين بالكفر والإلحاد:

قالت ألمونة لرئيس الكهنة: "امض أنت على براءة زديج". قال الكاهن: "مع السرور بشرط أن يكون عطفك ثمناً لعفوي". قالت ألمونا:"إنك لتغلو في تشريفي، فتفضل بزيارتي إذا غربت الشمس... فستجدني على إيوان وردي اللون، وستصنع بجاريتك ما تشاء..."، ثم خرجت ومعها الإمضاء، وتركت الشيخ يصرعه الحبّ، وأنفق سائر اليوم في حمامه، وانتظر وقد كان يفقد الصبر....."48-.

واللافت للنظر أن فولتير لا يتعرض إلاَّ نادراً لتحليل نفسية المرأة الشرقية. فهو مولع بالأفكار أكثر من ولوعه بالتحليل النفسي. وهذه الأفكار هي التي تحدّد اختياره للأعمال والأحاديث التي تعبر عنها شخصياته الأدبية. لهذا السبب جاءت صورة المرأة الشرقية، في قصصه، رمزية-اصطلاحية، تستهدف طرح قيم أخلاقية موروثة، صورة مركبة من تيمات شرقية قديمة وتيمات فلسفية تنويرية. يقول جستاف لانسون:

"إنَّ فولتير فنان أكثر من عالم النفس... فكل صورة من صور شخصياته متحركة، على حسب ما يريد هو، تسلك المسلك المعبر عن تطلعهم الدائم إلى السعادة وهو المسلك الذي يوحي بالبواعث الدافقة، وتحمل كلّ منها سمة الحالة الخاصة بها أو لهجة الأمة التي هي منها... وتتمثل هذه الشخصيات في الرسوم التي يصورها حافلة بجميع الأفكار التي يكونها عن المجتمعات المنتمية إليها... وهذه الأفكار هي التي تحدّد اختياره للأعمال والأحاديث التي تعبر عنها شخصياته الأدبية...."49-.

ج ـ القضاء والقدر:

لقد أدرك زديج، في وقت مبكر، أنَّ ثمة قوة خارقة تتحكّم في حياته وتسيطر على كل حركاته، تتلاعب به وكأنه دمية متحركة، وتوجهه نحو مصير محتوم. وكان يفكّر، باستمرار، فيما قضي عليه من شقاء وآلام، مستعرضاً، في ذهنه، مصائبه كلها الخاضعة للقضاء الرباني: لقد أحبّ سميرة، لكنها تخلت عنه وتزوجت بعدوّه، واختار عزورة زوجاً له، وهي أحكم بنات بابل،لكنها لم تتردّد في قطع أنفه... سجن وتهيأ لاستقبال الموت بابتسامة، وإذا ببغاء الملك تطير من إحدى شرفات القصر فتظفر على شهادة براءته.... وبمشيئة الأقدار عيّن وزيراً في المملكة، فأحبّ الملكة حباً كان أصل بلائه، فاضطر إلى الهرب والقتل، وبيع رقيقاً فعانى العبودية، ثمّ ظهر فضله في حلّ بعض القضايا، فرفع إلى أعلى المراتب... وخضع لمجازفات عديدة حركتها حوادث تافهة في ظاهر الأمر، وكوفئ دوماً بالشرّ على الخير.... وكل ذلك بفعل تلك القوة الخالدة التي تدبّر حياة البشر في كلّ مكان...

لقد بذل زديج جهداً فكرياً كبيراً لتفهّم أهمّ القضايا الوجودية وخاصة قضية "القضاء والقدر"، التي كانت تؤرقه بوصفها لاتخضع للمنطق.ومن الواضح أنّه عانى من ويلات الألم والعذاب والقلق إلى درجة أن تزعزع إيمانه بالأديان كلها، ورفض الرضوخ للحلول الميتافيزيقية الجاهزة التي بثها رجال الدين في كل زمان. لقد أصبح يشكّ في جميع الوعود الدينية ويثور على هذا العالم السحري، الشديد التناقضّ، ويعترض علىهذه القدرة الإلهية القاسية التي تظلم دائماً الأخيار وتسبغ النعمة على الأشرار.... وراح يبحث -بدون جدوى- عن الأسباب الحقيقية التي تحرك الأقدار وتتحكم فيها.

ولم يجد زديج حلولاً لمشاكله الفلسفية وأسئلته الوجودية إلاّ في قلب الصحراء العربية. وهو يغادر بابل متجهاً نحو الجزيرة العربية، ناعياً على القدرة الربانية أنها تظلمه بدون مبرّر معقول، التقى بجسراد (رسول السماء، والملك الإلهي)، الذي تدخل في السياق القصصي (كما تتدخل الجان والعفاريت في حكايات ألف ليلة وليلة)، ليلقنه درساً في الحكمة الإلهية ويزوده بالحلول المقنعة التي بحث عنها في كل مكان.

"اعلم -يقول جسراد- أنَّ الأشرار أشقياء، دائماً، وأنهم محنة تمتحن بهم قلة من الأخيار مفرّقة في الأرض، وليس من شرّ إلا وهو مصدر الخير... والمصادفة لا وجود لها، فكل شيء إمّا امتحان، وإمّا عقاب، وإمّا مكافأة، وإمّا احتياط".50.

لقد هبط الملك الإلهي من أعلى عليّين، وفي يده "كتاب القدر"، ليعلّم زديج الضعيف (وهو في قلب الجزيرة العربية)، درساً في نظام الكون: تحدّث له عن العدل والأخلاق والخير وضعف الإنسان والرذيلة في بلاغة مؤثرة. وقد قال لزديج بعد أن نبتت في جسمه المهيب أجنحة أربعة:

"إنَّ الإنسان أقصر عقلاً من أن يفهم حكمة الخالق الذي أبدع العالم ووضع له ما يدبّره من القوانين، فلئن كانت الساعة تثبت وجود الساعاتي، فإنَّ العالم العجيب، الذي هو عالمنا، ينمَّ عن مشرع... هذا العالم -يقيناً- آلة جديرة بالإعجاب، وإذن، فإنّه في العالم خالق جدير بالإعجاب...."51-.

إنَّ هذا النقاش الذي دار بين جسراد وزديج يعكس بوضوح الروح الدينية السماوية52-، بل يعبّر عن آراء الفلاسفة المسلمين الذين أسالوا حبراً كثيراً في موضوع "القضاء والقدر"، متسائلين عن مصير الإنسان: هل هو مسيّر أو مخيّر؟.. وأين تكمن حريته؟.. وكيف يجازى على أعماله؟..... إنّه نقاش يسعد

القارئ عن الإنسان الديكارتي الحرّ والمسؤول عن نفسه. يقول جسراد:

"لقد خلق الله العديد من العوالم ليس منها واحد يشبه الآخر، وهذا الاختلاف العظيم آية على قدرته التي لا حدّ لها، فليس من ورقتين في الأرض ولا كرتين في حقل السماء، تشبه إحداهما الأخرى... وكلّ ما نراه على هذه الأرض قدر له مكانه حسب النظام الثابت الذي أبدعه القادر على كلّ شيء....". 53-.

وهكذا يقتنع زديج -الذي كان يؤمن من قبل أنَّ العالم خاضع لقوى قاسية ظالمة- يقتنع بقدرة الإله على تسيير الكون وترتيبه، وينصت لجسراد بكلّ عناية وخشوع.... يواصل كفاحه ضدّ المستبدين والطغاة. رافعاً إلى القدرة الربانية عبادته، مستنتجاً أنَّ الإنسان أكلَّ ذهناً من أن يفهم قدرة الخالق، وما عليه إلاَّ أنَّ يكدّ ويجدَّ ويعمل الخير، ولا عليه بعد ذلك أن تسره الأيام أو تسوءه.

في الحقيقة، لقد أراد فولتير أن ينسج قصته على منوال حكايات "ألف ليلة وليلة"، التي كانت السلطانات يؤثرن قراءتها"، وأراد أيضاً أن يعرض، في هذه القصة لمسألة "القضاء والقدر"، كما يتصوّرها الشرقيون أو كما خيل له أن الشرقيين يتصوّرونها، فلم يجد مصدراً يصوّر هذه المشكلة الفلسفية أفضل من حكايات شهرزاد التي عاشت في جوّ ديني إسلامي، متأثر بما سبقه عن معتقدات تُدوولت على الألسن أو حفظت في الكتب....

والظاهرة اللافتة للنظر أنَّ حكايات "ألف ليلة وليلة"، لا تعترف سوى بفكرة واحدة هي الإيمان بالقضاء والقدر، الذي يمثل الخضوع المطلق لله".54- فكلّ أبطالها يخضعون لهذه القوة الغامضة الجبارة التي تقرّر مصير الأفراد والجماعات، وتتلاعب بهم وكأنّهم دمى متحركة، بدون أن تفرّق بين الملك والصعلوك: يذهب نعيم السلطان ثمّ يعود 55-. ويتشتت العشاق ثم يلتقون صدفة. 56- ويتلاعب القدر بحياة التجار، فيرفع من كان فقيراً، ويذلّ من كان عزيزاً في غمضة عين. ويسير هذا العزيز-كما سار زديج البابلي-57- على وجهه آثار النعمة، يعرفها كل من يقابله، وقد توصله الحوادث لأن يقف العظماء، بعد مشاق كثيرة، فيسترد مكانته. يقول أحد الباحثين:

"إنَّ المجازفات التي يقوم بها أبطال الليالي تخضع، في الأغلب الأعم، إلى تصرّف القدر الحتمي، الذي يكفي لتحريكه حوادث تافهة في ظاهر الأمر... فالأمير يسمع بفتاة جميلة أو يرى صورتها في مكان معين، والحمال تناديه أحدى السيدات، والتاجر يخرج إلى السوق للقيام بعمل: وهذا يكفي لتحويل مجرى حياتهم.... وفلاسفة القرن الثامن عشر في فرنسا أخذوا العبرة من هذا القدر الساخر، الذي لا حكم لإرادة الفرد فيه... إنَّ "ألف ليلة وليلة"، في فرنسا، تفضح عبثية العالم كما شهدت على ذلك حياة زديج (فولتير)..... إنَّ بدر الدين حسن، يزفر في حكاية "نور الدين علي"، بقوله: الله أكبر. ألأني لم أضع الفلفل في هذه الشريحة المزيدة، يراد مني أن أعاني من موت قاس بقدر ماهو وبيل..."58-.

ومن الواضح أنَّ فولتير قد تأثر تأثراً قويّاً بهذا السياق القصصي المشوق الذي تتسم به "الليالي"، والذي يثير -بدون أدنى شك- اهتمام القراء لما يحمله من مفاجآت ومباغتات. فحكايات شهرزاد تختصّ -كما هو معروف- بمواقف فريدة موحية لا مثيل لها في حكايات الشعوب الأخرى. وكثيراً ما تلعب هذه المواقف دوراً مهمّاً وخطيراً في تغيير مجرى أحداث القصة ووقائعها: فالصياد عندما يطرح شبكته في البحر، لابدَّ أن يتعرض لمفاجأة غير منتظرة قدتغير حياته، رأساً على عقب، بل حياة كثير من الناس الذين يحيطون به.....59-، وقد يحدث أن يلمح شاب (أمير أو فارس)، امرأة في سوق بغداد أو البصرة ليقع في

هواها، ويشقى كثيراً ويتعرض للكثير من المحن، لأن القدر كتب له أن يتألم.... ويحدث أن يتدخل الملوك أو الجان في الأحداث فتسير على نحو لم يكن متوقعاً أن تسير عليه. هذا السندياد البحري، كانت الصدفة على تفاهتها، والقدر على عظمته يتحكمان في حياته وجهوده، على نحو خارج عن طاقته. وذلك حمال في بغداد يلتقي بامرأة أو ساحر فيعيش مغامرات لم يكن يتوقعها أبداً...

لقد وجد فولتير في هذا الأسلوب (التشويق القائم على المفاجآت وتسلسل الأحداث) مايخدم أفكاره وفلسفته. فبطله زديج جرَّ إلى متاهات لم تكن في حسبانه: تخلت عنه حبيبته وسجن وتاه في ال?


* د. شريفي عبد الواحد
أثر " ألف ليلة وليلة " في أدب فولتير القصصي
 
أعلى