محمد عبد الرحمن يونس - مـدخـل في مدن ألف ليلة وليلة

إنّ أهمّ المدن التي ذكرتها حكايات ألف ليلة وليلة هي المدن الحضريّة القريبة من البحار والأنهار، والمليئة بالعمران والبساتين، والحمّامات والأسواق والخانات التجاريّة. وحكايات ألف ليلة وليلة هي حكايات المدينة العربيّة الإسلاميّة في أوج نموّها المعرفيّ والحضاريّ في العصر الوسيط، ومثاقفتها وعلاقاتها مع المدن الأخرى، والحضارات الأخرى الهنديّة والفارسيّة والصينيّة، وإن ابتعدت هذه الحكايات عن المدن المزدهرة، فإنّها لا تبتعد عن بنية هذه المدن إلاّ لتنتقل إلى مدن أسطورية وجزر تبدو غاية في الجمال، وكأنها الصورة النديّة لهذه المدن. يقول أحد الرواة واصفاً إحدى هذه الجزر:فنظروا إلى تلك الجزيرة فرأوا فيها أشجاراً وأنهاراً وثماراً وبساتين، وفيها من جميع الفواكه والأنهار من تحت تلك الأشجار، وهي كأنّها الجنّة.

وعموماً تبدو المدن التي يصل إليها الرّواة كأنّها جنان الأرض، من حيث التشكيل العمراني، ونشاط الحركة التجاريّة، وجمال النساء اللاتي يصفهنّ الرّواة بالأقمار المشعّة.

غير أنّ المدن التي وصفتها حكايات ألف ليلة وليلة ليست مدناً مدينية تماماً، بل تبدو علاقاتها علاقات بدويّة، على الرغم من استهجان الراوي المديني لعلاقات البادية، فحتى بغداد المركزيّة أو البصرة المدينة الحضريّة المهمّة في الليالي لا تخلو تماماً من علاقات البداوة وقيمها.
لقد كان رواة ألف ليلة وليلة وَلِعين بوصف المدن الكبيرة والارتحال إليها، في حين أنّ المدن الصغيرة لم تكن إلاّ محطّات سفر، يرتاح فيها الأبطال والتجّار، أو طرقاً إجبارية يضطرّ السرد للمرور بها للوصول إلى المدينة المركز الحلم، التي تحتضن الأبطال وتعطيهم المال والشهرة والنساء، وكل ما لذّ وطاب.

لخراسان وبغداد والبصرة الصدارة في الليالي، وتأتي بعدها من حيث الأهميّة القاهرة ودمشق، هاتان المدينتان المهمّتان اللتان لعبتا أدواراً سياسيّة وتجاريّة مهمّة في الدولة العربية الإسلاميّة. فدمشق كانت عاصمة للدولة العربية ـ أيام الأمويّين ـ التي بسطت هيبتها على جميع بلاد أواسط آسية (في التركستان)، وغربيّ الهند (باكستان اليوم)، وعلى شمال القارة الأفريقية، وعلى شبه جزيرة إيبيرية (إسبانية والبرتغال)، حتى أنّ الزحف العربي اجتاز جبال البرانس إلى فرنسة، ووصل إلى مدينة تور في الشمال الغربي من فرنسة.(2)

أمّا القاهرة فقد مثّلت عاصمة المدنيّة « في ليالي ألف ليلة، إذ كانت » مصر تجذب التجار لا ليثروا من التجارة فيها ولكن ليروا مظاهر المدنيّة والخصب والثراء (3) . إلاّ أنّ مركزيّة القاهرة في الليالي أهمّ بكثير من دمشق، على الرّغم من أنّ دمشق في التاريخ كانت عاصمة للخلافة الإسلاميّة، وكانت أكثر مركزية من القاهرة. ولا ندري ما السبب الرئيس الذي جعل الرّواة يحتفون بالقاهرة أكثر من دمشق، إلاّ أنّه يمكن القول: إنّ الإضافات الأخيرة التي أُضيفت إلى هذا الكتاب [كتاب ألف ليلة وليلة] الضخم حدثت في مصر، والراجح أنّ ذلك كان في أواخر عهد المماليك(4)، ولعلها وُضِعت في القاهرة (…) وهذا الرأي يمكن استنتاجه (…) من لغة هذا الجزء [الإضافات] فهي تشبه اللغة العربية في عصورها المتأخّرة وتقرب في كثير من الوجوه من اللغة المصرية الدارجة. ولأنّ هذه الإضافات حدثت في القاهرة، فقد كان نصيب القاهرة في هذه الحكايات أكبر من نصيب دمشق، لأنّه من الطبيعي أن يسجّل الرواة أخبار مدينتهم قبل المدن الأخرى، وعلى الرّغم من ذلك فإن ثمّة إشارات غير قليلة في الليالي إلى أهمية دمشق ومركزيتها أيام الدولة الأمويّة، وهذه الإشارات تجعلها تتفوق على مدن أخرى كثيرة، ومنها: الكوفة والقدس والإسكندرية وحلب وصنعاء وفاس، وغيرها من المدن العربية والأجنبيّة الأخرى الواردة في الليالي، والتي لا تتعدّى أن تكون محطات لاستراحات قصيرة جداً.

ويُلاحظ أنّ حكايات القاهرة لا تنتمي تحديداً إلى فضاءات القاهرة، بل إنّ الرّواة كانوا يعرفون أهمية بغداد المركز، ولذا فقد بدأوا بسرد الحكاية من القاهرة، ثم ارتحل أبطالهم مع ارتحال السرد إلى بغداد المركز. وهكذا تنتهي بعض حكايات (القاهرة) في بغداد، كحكاية »علاء الدين أبي الشامات «، وحكاية » علي الزيبق المصري «، وحكاية » علي المصري وزواجه ببنت ملك بغداد «.

وقد اعتبر الدّارسون أنّ الحكايات المصرية أضافها رواة محترفون إلى كتاب ألف ليلة وليلة، وقد عمل هؤلاء الرّواة على تضخيم حجم الكتاب بقصص عربيّة فيها الكثير من التقاليد الإسلاميّة، والأساطير الفرعونيّة والسير اليهوديّة في آن(6)، واعتبروا أنّ هذه الحكايات مرّت في ثلاثة أطوار:
1 ـ الطور الفاطمي: وفيه رُوِيت حكايات متأثّرة بالطلاسم والسحر والجن.
2 ـ الطور الأيوّبي: وفيه رويت قصص البطولة والحروب.
3 ـ الطور المملوكي: وتسجّل حكايات هذا الطور أخبار المدن والشطّار. (7)
ولم تسهم الإضافات الأخيرة إلى كتاب ألف ليلة وليلة، من قبل الرّواة المصريين، في ترجيح كفّة القاهرة على بغداد، لأنّ بغداد تمثّل الكلّ الحضاريّ والمعرفيّ المزدهر للدولة الإسلاميّة، ولأنّها تتربّع على عرش المجد السياسيّ في التوسّع والنفوذ والقوّة، يضاف إلى ذلك » أنّ القصاص المصري إذا تحدّث عن مصر ـ وهو منها وفيها ـ تحدّث عمّا يرى، وعبّر عمّا يسمع (…) أمّا إذا تكلم عن بغداد فإنما يتأثّر بعوامل أربعة: يتأثّر بما وُضِع من الأقاصيص الجميلة في بغداد، ويتأثّر بما ملأ الآذان وشغل الأذهان عن عظمة بغداد وأبّهة الخلافة، ويتأثّر بما ركّب الله في طباع الناس من تقديس الماضي، وتعظيم البعيد، ويتأثّر بجهله أحداث التاريخ وتطوّر الأمم، فيأبى وهو في القرن العاشر من الهجرة أن يعترف بموت الرشيد ومصرع بغداد ونكبة المجد الأثيل(8).

ومن البديهي أن نقول إنّ بغداد المركزيّة في الليالي، والأولى في الحضارة العربية الإسلاميّة، في العهد العباسيّ، تتفوّق على دمشق، لا من حيث عدد الحكايات فحسب، بل من مستويات عديدة أخرى، كنموّ الأحداث وتشعبها، وحركة الأبطال، وحركة الوحدات السرديّة منها وإليها، وتشعب الملامح الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي امتازت بها بغداد، وتعدّد الفضاءات المكانيّة وأهميّتها في بناء حكايات بغداد، وقدرة بغداد هذه المدينة المنفتحة حضاريّاً على استيعاب الأقوام والشعوب ومن جنسيّات مختلفة، وعلى التفاعل معها، واحتضانها.

وقد أسهم انزياح دمشق عن مركزيّتها بعد أفول الدولة الأمويّة، في تقليل أهميتها في حكايات ألف ليلة وليلة عن أهميّة بغداد، وانزياحها عن أن تكون مركزيّة في هذه الحكايات، هذا إذا عرفنا أنّ معظم رواة حكايات الليالي في جزئها العربي، وفي طبقتها البغداديّة تحديداً، هم من العباسيّين، ومنهم إسحق الموصلي،(9) ومحمد البصري(10)، وإبراهيم بن المهدي عمّ الخليفة المأمون بن هرون الرشيد(11)، والقاضي أبو حسان الزيادي، أيام المأمون(12)، وأبو سعيد بن سالم الباهلي، أيام هرون الرشيد(13). وآخرون، وأنّ رواة آخرين هم من الفرس الأعاجم، مثل علي العجمي الذي يروي لهرون الرشيد(14). مع ملاحظة أنّ هؤلاء الأعاجم كانوا يكرهون النظام الأمويّ، ويتمنّون زواله، لأنّ هذا النظام اعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية، ولا يحقّ لهم ما يحقّ للعرب، وبالتالي طبّق عليهم سياسة التمييز العنصريّ، مما جعل »نقمتهم تتعاظم كلّما فكّروا في خضوعهم لسلطانه. و[قد] طما سيل الاستياء، أكثر مما طما، حول مدينة دمشق«.(15) وهنا يبدو من غير المستحبّ أن تُروى الحكايات التي تمجّد دمشق بحضور خلفاء لا يحملون لتلك الدولة الأمويّة الآفلة أي مظهر من مظاهر الاحترام، أو لا يعترفون لها بالحقّ في خلافة خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم)، وقيادة زمام الدولة الإسلاميّة. فـعلى أثر قيام الدولة العباسيّة، تسقط مدينة دمشق، وينتهي عصرها الذهبي وتدخل عهد الانحطاط، ذلك أنّ ذِكر الأمويّين كان ثقيل الوطأة على الخلافة الجديدة، فصبّوا [أي العباسيّون] على المدينة غضبهم وحقدهم، وخرّبوا القصور، وانتهكوا حرمة قبور الخلفاء، وهدّموا أسوار المدينة، رغبة منهم في أن يحرموا السكان ما يتحصّنون به إذا ثاروا عليهم. وإذا كان الجامع الأمويّ قد سَلِم من هذا التخريب فالفضل في ذلك يرجع لما كان يتمتع به من احترام في نفوس المسلمين، ولا عجب بعد ذلك، أن تنحطّ دمشق إلى مصافّ المدن الثانويّة، فتنتقل منها دار الخلافة وتغدو قصبة ولاية تعمل فيها عناصر الانحلال لتفكيك عُرى ذلك النظام القديم «(16).

وفي هذه الدراسة أحاول أن أتبيّن ملامحها، التي لا يذكرها الرّواة تحديداً، بل يستبدلونها بمدينة مصر التي هي مدينة القاهرة، لأن الرواة عندما يذكرون مدناً مصرية أخرى فإنهم يحدّدونها، كالإسكندريّة والقليوبيّة ودمياط، وأن أتبيّن ملامحها، وبعضاً من بنيتها المعرفيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والتجاريّة، منطلقاً من نصّ الليالي نفسه، ومعتمداً في آن بعض الخلفيات المرجعية التاريخيّة التي ذكرت هذه المدينة.
يتبع في حلقات قادمة

--------------
(1)– مؤلف مجهول: ألف ليلة و ليلة، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، د. ت. 3/327.
(2)– حتي، فيليب: الإسلام منهج حياة، تعريب د. عمر فرّوخ، دار العلم للملايين، بيروت ، الطبعة الثانية،آذار1983م. ص171- 172.
(3)– القلماوي، د. سهير: ألف ليلة و ليلة، دار المعارف، القاهرة، طبعة 1966م، ص232.
(4)– يؤكد أحمد حسن الزيّات أنّ حكايات ألف ليلة وليلة جُمِعت بصيغتها النهائية بين عامي 923 – 933 هـ، وهما يوافقان
عامي 1517 – 1526م.
- ينظر: "ألف ليلة وليلة" في: "ألف ليلة وليلة"، كتب دائرة المعارف الإسلاميّة، ترجمة إبراهيم خورشيد، ود.عبد الحميد
يونس، وحسن عثمان، دار الكتاب اللبناني/مكتبة المدرسة، بيروت، الطبعة الأولى 1982م، الكتاب العاشر، ص91 .
(5)– ماكدونالد، د.ب: "ألف ليلة وليلة"، في: "ألف ليلة وليلة"، م ن، ص31.
(6)– طرشونة، د.محمود: مدخل إلى الأدب المقارن وتطبيقه على ألف ليلة وليلة، المطابع الموحدة، تونس، الطبعة الأولى 1986م.ص95.
(7)– م ن، ص95
(8)– الزيّات، أحمد حسن: "ألف ليلة وليلة ـ تاريخ حياتها" ـ في: محاضرات المجمع العلمي العربي، دمشق، طبعة 1954م، المجلد
الثالث، ص451.
9- ألف ليلة وليلة، 2/416.
(10) - م ن، 3/71.
(11)– ألف ليلة وليلة، 3/119.
(12)– م ن، 3/124.
(13)– م ن، 3/172.
(14)– م ن، 2/144.
(15)–لاندو، روم: الإسلام و العرب، تعريب منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، كانون الأول 1977م. ص70.
(16)– منيمنة، د. سارة حسن: "مورفولوجية مدينة دمشق"، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت/الهيئة القوميّة للبحث العلمي، طرابلس (ليبيا)، العدد التاسع و العشرون، تشرين الأول (أكتوبر)/تشرين الثاني( نوفمبر)، 1982م. ص240.



* د. محمد عبد الرحمن يونس
مـدخـل في مدن ألف ليلة وليلة
 
أعلى