لويسا بالينثويلا - الرقباء.. ت: يوسف امساهل

مسكين يا خوان ! لقد سحبوه في ذلك اليوم على حين غرة ولم يدرك أن ما ظنه سيكون ضربة حظ كان بالمقابل دعوة ملعونة من العذاب. تحدث هذه الأشياء عندما لا ننتبه، وكما تسمعون فنحن لاننتبه في الكثير من الأحيان .حاول خوانسيتو أن تعلو محياه مظاهر الفرحة ـ شعور مثير أيضا للقلق ـ حينما توصل من مصدر مجهول بالعنوان الجديد لماريانا،والتي تتواجد حاليا بباريس،ظنا منه أنها لم تنساه بعد.

وبدون أن يفكر مرتين جلس على الطاولة وكتب رسالة، إنها نفس الرسالة التي تمنعه الآن من التركيز في العمل طوال اليوم والتي تحرمه من النوم عندما يحل الليل (ترى ماذا كتب في تلك الرسالة؟ما الذي ظل عالقا بتلك القطعة من الورق التي بعث بها إلى ماريانا؟)

خوان يعلم أنه لن تكون هناك مشكلة مع النص ،وبأن النص غير قابل للعتاب وغير مؤذ،ولكن ماذا عن الآخر؟

يعلم أيضا أنهم يتحسسون الرسائل يشمونها ويتلمسونها ويقرؤون ما بين سطورها، حتى في أدق تفاصيل علامات الترقيم بل وحتى تلك البقع الصغيرة التي تطالها بشكل عفوي. يعلم كذلك أن الرسائل تنتقل من يد إلى يد من خلال مكاتب الرقابة الواسعة التي تخضع لجميع أنواع الاختبارات، وقليل منها يجتاز الامتحانات في النهاية ويستطيع مواصلة الطريق. ما

إنها في الغالب مسألة شهور أو سنوات إذا ما تعقدت الأمور،إنه وقت طويل تتعطل فيه الحرية وربما الحياة ،ليس فقط حياة المرسل بل حتى المرسل إليه.

وهذا ما يزيد صديقنا خوان هما أسى عميقين :

فكرة أن ماريانا قد يحدث لها مكروه في مدينة باريس بسببه.

لاشيء أقل من أن ماريانا يجب أن تشعر بالأمان والهدوء هناك حيث كانت دائما تحلم أن تعيش.بيد أنه يعلم أن أجهزة الرقابة السرية تشتغل في مختلف أنحاء العالم وتستفيد من تخفيض مهم في النقل الجوي حيث لا يمنعهم شيء من الوصول حتى إلى الحي المظلم في البلد ليختطفوا ماريانا ويعودوا إلى بيوتهم مقتنعين برسالتهم النبيلة على هذه الأرض.

إذن لا بد من التغلب عليهم، يجب القيام بما يقومون به كلهم:سأسعى لتخريب الآلية وسأضع حبات رمل في المعدات بمعنى أنني سأذهب إلى مصادر المشكلة لأحاول احتواءها.

تلك النية السليمة كانت باعث ترشح خوان كالكثيرين لمنصب رقيب، ولم يكن له ميول أو رغبة مثل البعض ولا لقلة فرص الشغل كالبعض الآخر. لقد ترشح فقط لكي يحول دون وصول الرسالة ،هذه الفكرة ليست جديدة على الإطلاق ولكنها مطيبة للخاطر.

بالفعل تم تشغيله بشكل فوري لأنهم يحتاجون كل يوم المزيد من الرقباء ولا يحتاج الأمر المرور عبر إجراءات شكلية بحثا عن الخبرة.

ـ في القيادات العليا للرقابة لا يدركون أن الكثير لديهم سببا خفيا للإنضمام إلى المجموعة ،كما يدركون أنهم في وضعيةلا تسمح بأن يكونوا أكثر صرامة.

باختصار من أجل ماذا؟ هم يعلمون كم سيكون صعبا على هؤلاء الفقراء المتهورين كشف الرسالة التي يبحثن عنها. وإذا افترضنا أنه تم العثور عليها ،فما أهمية رسالة أو رسالتين تعبران الحاجز مقابل باقي الرسائل التي سيحجزها الرقيب الجديد طوال الرحلة؟

وبهذه الكيفية استطاع خوان ببصيص من الأمل أن ينضم إلى جهاز الرقابة التابع لوزارة الإتصالات. كان المبنى من الخارج تبدو عليه مظاهر الإحتفال بسبب الزجاج المدخن الذي يعكس السماء، هذه المظاهر لا تتناغم على الإطلاق مع الجو الكئيب الذي يسود في الداخل.

شيئا فشيئا بدأ خوان يعتاد على جو التركيز الذي يتطلبه العمل الجديد ويعمل ما في وسعه من أجل رسالته ـ بمعنى رسالته لمريانا ـ

مما يساعده على تجنب القلق والتوتر.ولم يكثرت حتى حينما قاموا بارساله في الشهر الاول إلى الشعبة"ك"،حيث يتم فتح الاظرفة بحذر متناه للتأكد من خلوها من أية مادة متفجرة.

مؤكد أنه في اليوم الثالث نسفت رسالة اليد اليمنى لأحد الزملاء وشوهت وجهه ، ولكن رئيس الشعبة ادعى أنه كان مجرد تهور من قبل المتضرر، أما خوان و باقي الموظفين فقد استطاعوا مواصلة العمل كالمعتاد بالرغم من تزايد حدة توثرهم.

عندما حان موعد الخروج حاول زميل آخر تنظيم إضراب للمطالبة بالرفع من الأجور نظرا لظروف العمل غير الصحية،لكن خوان لم ينضم وبعد برهة من التفكير قرر أن يشي به إلى السلطة في محاولة لكسب الترقية.

مرة واحدة لاتشكل القاعدة،هكذا قال لنفسه وهو خارج من مكتب الرئيس ولما أحالوه على الشعبة "خ"حيث يتم عرض الرسائل بحذر متناه للتحقق من عدم احتوائها على مساحيق سامة، أحس بأنه قد ارتقى خطوة وبالتالي يمكنه أن يعود إلى عادته الصحية والمتمثلة في عدم التدخل في شؤون الآخرين.

من الشعبة "خ"وبجدارة واستحقاق،ا ارتقى سريعا عدة مراكز ليصل إلى الشعبة "إ" حيث يصبح العمل أكثر أهمية ،هناك تتم قراءة الرسائل ويتم تحليل محتواها . في هذه الشعبة بدأت بوادر الأمل في العثور على رسالته الموجهة لماريانا تلوح في الأفق ، فمن خلال الوقت الذي مضى يفترض أنها تقريبا وصلت لهذه المرحلة بعد مسيرة جد طويلة عبر باقي الأقسام.

رويدا رويدا كانت تأتي أيام يشتغل فيها وفق دوريات وبشكل لايدع الكثير من الفراغ ،حيث أحيانا كان لايستطيع القيام بالمهمة النبيلة التي أوصلته إلى المكاتب .

مرت عدة أيام وهو يمرر المداد الأحمر فوق فقرات طويلة ويرمي دون رحمة أو شفقة بالكثير من الخطابات إلى سلة الرسائل المدانة.أيام من الرعب حيال وسائل دقيقة وغامضة يتحراها الناس لإرسال خطابات تستهدف قلب النظام أيام من الحدس الثاقب أمام عبارات بسيطة مثل "أصبحت الظروف غير مستقرة".

أو "الأسعار ترتفع بشكل صاروخي" تكشف عن شيء مريب لشخص سري للإطاحة بالحكومة.

ـ كان كلما زاد شكه كلما ارتقى سريعا. لا ندري إذا كان سعيدا بذلك.

كان عدد الرسائل التي تصل يوميا إلى الشعبة "ب " قليل ـ لأن التي تعبر الحواجز السابقة معدودة على رؤوس الاصابع ـ و بالمقابل يجب قراءتها عدة مرات و تمريرها تحت المكبر و البحت عن نقاط صغيرة جدا بالمجهر الالكتروني و اطلاق حاسة الشم بشكل جيد، بحيث كان عندما يعود الى بيته ليلا يحس بانهاك شديد. فبالكاد يتمكن من تسخين الحساء و يتناول بعض الفاكهة ثم يستلقي لينام بارتياح لما قام به من واجب. اما التي كانت قلقة بشانه فبالتاكيد كانت والدته القديسة التي حاولت دون جدوى اعادة توجيهه نحو المسار الصحيح.

كانت تقول له حتى ولم يكن ذلك صحيحا لقد اتصلت بك "لولا " وتخبرك أنها بصحبة الفتيات في الحانة وبأنهم يفتقدونك و ينتظرونك. غير أن خوان لايرد أن يعرف أي شيء عن هذه الأشياء المتجاوزة :فكل ما يلهي قد يفقد حواسه حدتها ونباهتها فهو بحاجة إلى تلك الحواس يقظة وحادة مستشعرة حتى يكون رقيبا مثاليا ويتمكن من ضبظ الغش.لقد كان عمله بمثابة واجب وطني يؤديه بسموو نكران ذات.

أما سلة رسائله المدانة فسرعان ما أصبحت الأكثر امتلاء والأكثر انتقائية في إدارة الرقابة جميعها.كان قاب قوسين أو أدنى من أن يفتخر بنفسه وكان على وشك أن يعي بأنه أخيرا قد وجد مساره الحقيقي، عندما وقعت بين يديه رسالته الشخصية الموجهة لماريانا.وبطبيعة الحال قام بإدانتها دونما امتعاض وبطبيعة الحال لم يسطع أن يمنعهم من إطلاق النا ر عليه ساعة الفجر، إنه ضحية أخرى من ضحايا التفاني في العمل.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الرقباء
لويسا بالينثويلا الارجنتينية
ت: يوسف امساهل
 
أعلى