قصة قصيرة هاروكي موراكامي - كينو.. ت: أماني لازار

11665550_648410408628107_466697491935004598_n.jpg


اعتاد الرجل الجلوس على نفس المقعد، أكثر المقاعد بعداً على طول النُّضُد. أي عندما لا يكون مشغولاً، لكنه كان معظم الوقت شاغراً. فالحانة لم تكن تزدحم إلا فيما ندر، لاسيما أن ذلك المقعد لم يكن ظاهراً للعيان ولم يكن مريحاً كباقي المقاعد. كان السقف مائلاً وخفيضاً بسبب درج خلفي، فكان من الصعب الوقوف عنده دون أن تخبط رأسك. ومع أنه طويل القامة، لكنه فضَّل تلك البقعة الضيقة والمحصورة لسبب من الأسباب.
تذكر كينو قدوم الرجل إلى حانته لأول مرة. لأن ظهوره استرعى انتباهه في الحال-برأسه الحليق الضارب إلى الزرقة، أكتافه الهزيلة والعريضة، البريق الحاد في عينه، العظام البارزة في الوجنتين والجبهة العريضة. بدا أنه في مقتبل ثلاثينياته، يرتدي معطفاً مطرياً طويلاً رمادي اللون، حتى وإن لم تكن تمطر. ظنه كينو في البداية عضواً في عصابة ياكوزا[1] ، ولم يأمن جانبه. كانت الساعة السابعة والنصف في مساء بارد منتصف شهر نيسان، والحانة فارغة. اختار الرجل المقعد عند طرف النضد، خلع معطفه، وطلب كاساً من البيرة بصوت هادئ، ثم راح يقرأ بصمت في كتاب كبير الحجم. بعد نصف ساعة، انتهى من شرب البيرة، رفع يده مقدار بوصة أو اثنتين مومئاً لكينو، وطلب ويسكي.” أي نوع من الويسكي؟” سأل كينو، فقال بأن ليس من نوع مفضل لديه.
” حسبه أن يكون من الأنواع المعروفة. مزدوج. أضف كمية مساوية من الماء والقليل من الثلج، لو سمحت.”
صب كينو القليل من ويسكي ” وايت ليبل” في كأس، أضاف مقداراً مساوياً من الماء ومكعبي ثلج صغيرين جميلين. أخذ الرجل رشفة من الكأس، ممعناً النظر فيه. ” هذا سيفي بالغرض.”
قرأ لمدة نصف ساعة أخرى، نهض ودفع فاتورته نقداً. عدَّ النقود المطلوبة بالضبط بحيث لا يستعيد أي قدر من الفكة. شعر كينو ببعض الارتياح آن خروجه من الباب. لكن حضور الرجل ظلَّ رغم مغادرته. كان كينو في وقوفه خلف النضد، يحدق بين الفينة والأخرى نحو المقعد الشاغر، يكاد يتوقع أن يراه هناك، رافعاً يده مقدار بوصتين ليطلب شيئاً.
راح الرجل يتردد بانتظام على حانة كينو. مرة أو مرتين أسبوعياً على الأكثر. اعتاد أن يطلب البيرة أولاً، ثم الويسكي. قد يتفحص قائمة طعام اليوم على اللوح الأسود ويطلب وجبة خفيفة أحياناً.
نادراً ما يتفوه الرجل بكلمة. يأتي دوماً أول المساء، متأبطاً كتاباً، يضعه على النُّضد. عندما يتعب من القراءة (على الأقل بحسب ظنّ كينو)، يرفع نظره عن الصفحة ويتفحص زجاجات الشراب المصفوفة أمامه على الرفوف، كما لو أنه يتفحص سلسلة من حيوانات محنطة غريبة من أراضٍ قصيَّة.
عندما اعتاد كينو على الرجل، لم يشعر بالضيق منه قط، حتى حين يكونان بمفردهما. لم يبادر كينو إلى الحديث أبداً، ولم يجد صعوبة في التزام الصمت في حضرة الناس. الرجل يقرأ وكينو يقوم بعمله وحيداً-يغسل الأطباق، يحضر الصلصات، يختار التسجيلات، أو يتصفح جريدة.
لا يعرف كينو اسم الرجل. كان واحداً من زبائن الحانة وحسب، يستمتع بشرب البيرة والويسكي، يقرأ صامتاً، يدفع نقداً، ويغادر. لم يزعج أحداً بتاتاً. ما الذي يحتاج كينو لمعرفته عنه سوى ذلك؟
في أيام الكلية، كان كينو عداءً بارزاً في المسافات المتوسطة، لكن في السنة الأولى أصيب بتمزق في وتر العرقوب وكان عليه التخلي عن فكرة الانضمام إلى فريق المسار المشترك. بعد التخرج، أخذ بنصيحة مدربه وعمل في شركة تنتج المعدَّات الرياضية، مدة سبع عشرة سنة. كانت مهمته في العمل تتلخص في إقناع المتاجر الرياضية التموّن بالأحذية التي يبيعها وتسويقها بين الرياضيين. الشركة متوسطة المستوى مقرها في أوكاياما، لم تكن ذائعة الصيت، وتفتقر للملاءة المالية التي لشركات مثل نايكي أو أديداس فلم يكن بمقدورها الحصول على عقود حصرية مع أفضل العدائين العالميين. إلا أنها صنعت أحذية متقنة يدوية الصنع لأرقى الرياضيين، وقد أشاد عدد لا بأس به منهم بمنتجاتها. كان شعار مؤسس الشركة ” اعمل عملاً صادقاً ولسوف يثمر “، وهذا النهج البسيط، الذي لا يكاد يناسب العصر توافق وشخصية كينو. فكان وهو الرجل الصموت غير الاجتماعي قادراً على تحقيق النجاح في المبيعات. في الحقيقة، وثق المدربون به بسبب شخصيته وأحبه الرياضيون. أصغى باهتمام لجميع حاجات العداء، وحرص على موافاة إدارة المصنع بجميع التفاصيل. لم يكن المرتب كبيراً جداً لكنه وجد العمل جذاباً ومرضياً. بالرغم من عدم قدرته على الجري، إلا أنه سعد برؤية العدائين يتسابقون حول المضمار، شكلهم نموذج مثالي.
عندما ترك كينو عمله، لم يكن بداعي الاستياء من العمل لكن لاكتشافه خيانة زوجته له مع أفضل أصدقائه في الشركة. كان كينو يمضي وقتاً في السفر أكثر من الوقت الذي يمضيه في بيته في طوكيو. يحشو حقيبة رياضية كبيرة بنماذج الأحذية ويقوم بجولات على متاجر السلع الرياضية في أرجاء اليابان، زار أيضاً كليات محلية وشركات ترعى فرق الجري. نشأت علاقة زوجته بزميله أثناء سفره. لم يكن ممن يستدلون على القرائن بسهولة. ظن أن زواجه على ما يرام، ولم يكن في أقوال زوجته أو أفعالها ما يثير شكوكه. لو لم يعد إلى البيت باكراً ذات يوم من رحلة عمل لم يكن ليكتشف أبداً ما كان يجري.
عندما عاد إلى طوكيو ذلك اليوم، ذهب مباشرة إلى شقته في كاساي، ليجد زوجته وصديقه عاريين متضافرين في غرفة نومه، في سرير الزوجية. كانت زوجته في الأعلى، وعندما فتح الباب جاء وجهاً لوجه معها وكان نهداها الجميلين يتنططان صعوداً وهبوطاً. كان يبلغ من العمر آنئذٍ تسعة وثلاثون عاماً، وزوجته خمسة وثلاثون. لم يكن لديهما أطفال. أخفض كينو رأسه، أغلق باب غرفة النوم، غادر الشقة، ولم يعد أبداً. في اليوم التالي ترك العمل.
كان لكينو خالة عزباء، الأخت الكبرى لوالدته. كانت تعامله بلطف منذ أن كان طفلاً. كان لها علاقة بصديق يكبرها سناً امتدت لسنوات (” عاشق” قد تكون الصفة الأكثر دقة)، وقد قدم لها بسخاء منزلاً صغيراً في أوياما. سكنت في الطابق الثاني من المنزل، وفتحت مقهى في الطابق الأول. كان المنزل يطل على حديقه صغيره وشجره صفصاف تثير الإعجاب بأغصان تتدلى مورقة. كان المنزل يقع في شارع ضيق خلف متحف نيزو، ليست المنطقة الفضلى لجلب الزبائن على وجه الدقة، لكن خالته كانت موهوبة في اجتذاب الناس، وعاد مقهاها بدخل لائق.
بعد أن بلغت الستين من العمر، مع إصابتها بألم في الظهر، كانت مشقتها في إدارة المقهى بمفردها تزداد أكثر فأكثر. قررت أن تنتقل إلى شقة خاصة للتصييف في هضاب أوزو كوجين. ” كنت أتساءل إذا ما كنت ترغب في إدارة المقهى؟” سألت كينو. هذا كان قبل ثلاثة أشهر من اكتشافه خيانة زوجته. ” أثمّن العرض،” قال لها،” لكني الآن سعيد في عملي.”
بعد أن قدم استقالته من العمل، اتصل بخالته ليسأل عما إذا كانت قد باعت المقهى. كان مدرجاً لدى وكيل لبيع العقارات، قالت له، لكن لم تقدم أية عروض جدية حتى الآن.” أود أن أفتح حانة هناك لو يمكنني،” قال كينو.” هل يمكنني أن أدفع لك الإيجار شهرياً؟”
” لكن ماذا عن عملك؟” سألت.
” تركته منذ يومين.”
” أليس لزوجتك اعتراض على ذلك؟”
” قد ننفصل قريباً.”
لم يشرح كينو السبب، وعمته لم تسأل كذلك. حل الصمت لوهلة على الطرف الثاني من الخط. ومن ثم حددت خالته مقدار الإيجار الشهري، أقل بكثير مما كان يتوقع. ” أظن أن بمقدوري دفع هذا المبلغ،” قال لها.
لم يتحدث مع خالته حديثاً بهذا الطول من قبل (حذرته أمه من التقرب منها)، لكن بدا دوماً أن لديهما نوع من تفاهم مشترك. عرفت أن كينو لم يكن ممن يحنثون بالوعد.
صرف كينو نصف مدخراته لتحويل المقهى إلى حانة. اشترى أثاثاً بسيطاً، ووضع نضداً طويلاً متيناً. ألصق ورق جدران جديد بلون يبعث على الهدوء، جلب مجموعة تسجيلاته من المنزل، وصفَّ التسجيلات على أحد الرفوف في الحانة. كان يملك ستيريو من نوع لائق-جهاز أسطوانات من نوع تورينز، مضخماً من نوع loxman، ومكبرين للصوت صغيرين ثنائيي الاتجاه من نوع JBL–اشتراها عندما كان عازباً، كان ثمنها باهظاً في ذلك الحين. لكنه كان يستمتع دوماً بالاستماع لتسجيلات الجاز القديمة. فهي هوايته الوحيدة، الهواية التي لا يتشاركها مع أي شخص عرفه. أثناء دراسته، كان يعمل نادلاً في حانة بدوام جزئي في روبونجي، لذلك كان ضليعاً جداً في فن مزج المشروبات.
أطلق على حانته اسم كينو. لم يستطع التوصل إلى اسم أفضل. في الأسبوع الأول من الافتتاح، لم يدخلها زبون، لكن لم ينزعج. ففي النهاية هو لم يروج للمكان، ولم يضع لافتة تجذب الانتباه أيضاً. ببساطة انتظر بصبر أن يعثر الفضوليون على الحانة الخلفية. لا يزال يملك القليل من مدخراته، ولم تطالب زوجته بأية نفقة. كانت تعيش مع زميله السابق، وقررا هي وكينو بيع شقتهما في كاساي. عاش كينو في الطابق الثاني لمنزل خالته، وبدا مع ذلك أنه بمرور الوقت سيكون قادراً على تدبر أموره.
عندما كان ينتظر أول زبائنه، استمتع كينو بسماع الموسيقى التي يحبها وقراءة الكتب التي كان يرغب بقراءتها. كما ترحب الأرض الجافة بالمطر، غارقاً في العزلة، الصمت، والوحدة. استمع إلى كثير من معزوفات آرت تاتوم على البيانو. التي بدت بطريقة ما مناسبة لمزاجه.
لم يعرف سبباً لعدم شعوره بالغضب أو بالعداء تجاه زوجته، أو تجاه زميله الذي خانته معه. كانت الخيانة صادمة بالتأكيد لكن مع مرور الوقت راوده شعور بأنها كان من المتعذر تفاديها، كما لو أن هذا كان مكتوباً له. فهو لم ينجز شيئاً في حياته، في نهاية الأمر، ولم يكن منتجاً على الإطلاق. لم يستطع أن يسعد أحداً، كما لم يسعد نفسه بالـتأكيد. السعادة؟ لم يكن يعرف معناها. لم يكن لديه معنى واضحاً أيضاً لعواطف مثل الألم، أو الغضب، الخذلان، والاستسلام. وكيف ينبغي أن تشعر بها. جلَّ ما كان بمستطاعه هو خلق مكان حيث قلبه-خالياً الآن من أي عمق أو ثقل يمكن أن يقيده، ويمنعه من التجوال بلا هدف. هذه الحانة الصغيرة، كينو، المطوية في شارع خلفي أصبحت ذلك المكان. وأصبحت أيضاً-ليس قصداً، مكاناً مريحاً بشكل غريب- بالضبط.
لم يكن إنساناً من اكتشف أولاً الراحة الكبيرة في حانة كينو بل قطة ضالة. هرة رمادية صغيرة لها ذيل طويل جميل. فضلت الهرة أن تتكور على نفسها في خزانة للعرض مغمورة في إحدى زوايا الحانة وتنام فيها. لم يكترث كينو كثيراً للقطة متصوراً أنها ستغادر ذات يوم من تلقاء نفسها. أطعمها وبدل لها الماء لكن لا شيء أكثر من ذلك، وصنع باباً صغيراً لتتمكن من الدخول والخروج متى شاءت.
ربما جلبت القطة معها بعض الحظ الجيد، فمن بعد ظهورها تبعتها ثلة من الزبائن. بعضهم راح يأتي على نحو منتظم-ممن راقتهم هذه الحانة الخلفية الصغيرة، بشجرة الصفصاف المعمرة الرائعة، وبصاحبها الهادئ المتوسط العمر، التسجيلات الكلاسيكية التي تغزل على سطح الفونوغراف، والقطة الرمادية المحشورة في الزاوية. وجلب هؤلاء الناس أحياناً بعض الزبائن الجدد. الحانة التي لم تكن تحقق الأرباح على الأقل عادت بالإيجار. كان هذا كافياً بالنسبة لكينو.
جاء الشاب حليق الرأس إلى الحانة بعد افتتاحها بحوالي شهرين. ولم يتعرف كينو إلى اسمه إلا بعد مرور شهرين، كاميتا.
كان المطر خفيفاً في ذلك اليوم، المطر الذي لا تكون متيقناً لدى هطوله من حاجتك لمظلة. كان هناك ثلاثة زبائن في الحانة، كاميتا ورجلان يرتديان بدلاً. كانت الساعة السابعة والنصف. وكاميتا كالعادة في المقعد القصي عند طرف النضد، يرتشف كأساً من ويسكي “وايت ليبل” ممزوجاً بالماء ويقرأ. كان الرجلان جالسين إلى طاولة، يشربان زجاجة نبيذ أحمر من نوع “بينوت نوار”. جلباها معهما، واستأذنا كينو في شربها هناك، مقابل خمسة آلاف ين ثمناً للخدمة. كانت المرة الأولى بالنسبة لكينو، لكنه لم يجد سبباً للرفض. فتح الزجاجة ووضع قدحين والقليل من المكسرات المشكَّلة. ليس الكثير من الإزعاج بتاتاً. دخن الرجلان كثيراً، ولو أن هذا بالنسبة لكينو الذي يكره دخان السجائر، كان سبباً لجعلهما غير مرحب بهما قليلاً. ولما لم يكن عليه القيام بالكثير من العمل جلس كينو على مقعد واستمع لأسطوانة كولمان هاوكينز التي تحتوي على مقطوعة ” Joshua Fit the Battle of Jericho.” وجد غناء ماجور هولي المنفرد بصوته الجهير مدهشاً.
في البدء، بدا الرجلان في حال ممتاز، مستمتعان بنبيذهما، لكن فيما بعد نشأ خلاف في الرأي على موضوع ما-ولم يكن لدى كينو فكرة عنه-وصار الرجلان أكثر انفعالاً بشكل مطرد. عند حد معين، وقف أحدهما، خبط على الطاولة ورمى المنفضة الممتلئة وواحد من أقداح الخمر على الأرض. أسرع كينو بالمكنسة، وكنس الأرض، ووضع كؤوساً نظيفة ومنفضة على الطاولة.
من الواضح أن كاميتا-مع أن كينو لم يكن يعرف اسمه حينذاك-كان مشمئزاً من سلوك الرجال. لم تتغير ملامحه، لكنه راح ينقر بأصابع يسراه بخفة على النضد، كما يتفحص عازف بيانو المفاتيح. لابد أن أسيطر على الوضع، فكر كينو. ذهب نحوهما. ” آسف،” قال بتهذيب،” لكن أتساءل إذا لم يكن لديكما مانعاً من أن تخفضا صوتيكما قليلاً.”
رمقه أحدهما وبريق بارد يلتمع في عينيه ثم نهض. لم يكن كينو قد لحظ ضخامته حتى ذلك الحين. ليس فارع الطول، عريض الصدر، بذراعين هائلين، البنية التي تتوقعها لمصارع من مصارعي السومو.
كان الآخر أقصر طولاً. نحيلاً وشاحباً، بسحنة داهية، النمط الذي يبرع في تحريض الناس. نهض ببطء من مقعده، ووجد كينو نفسه وجهاً لوجه مع كليهما. قرر الرجلان فيما يبدو أن يستغلا الفرصة لإيقاف شجارهما والعمل معاً لمواجهة كينو. كانا على وفاق تام، كما لو أنهما كانا ينتظران سراً ظهور هذه الحالة.
” إذن، هل تظن أن بإمكانك مقاطعتنا واعتراضنا؟” قال الأضخم بينهما، بصوت خشن وخفيض.
بدت البدل التي يرتديانها غالية الثمن، لكن بعد نظرة فاحصة لها تجد أنها مصنوعة على نحو رديء ومبهرج. ياكوزا غِرّ، مهما كان العمل الذين ينخرطان فيه فقد كان واضحاً أنه ليس عملاً محترماً. للرجل الأضخم شعر قصير، في حين كان شعر رفيقه مصبوغاً بلون بني ومسرحاً للخلف على شكل ذيل فرس مرتفع. شد كينو من عزيمته منتظراً الأسوأ. وراح العرق يتصبب من إبطيه.
” أعذراني،” قال صوت آخر.
التفت كينو ليجد كاميتا واقفاً خلفه.
” لا تلوما الإدارة،” قال كاميتا، مشيراً إلى كينو. ” أنا من طلب أن تخفضا صوتيكما. كان من الصعب عليَّ التركيز ولم أتمكن من قراءة كتابي.”
كان صوت كاميتا أهدأ، وأكثر ضعفاً من المعتاد. لكن شيء غير مرئي كان يبدأ بالتقلب.
” لا يمكنني قراءة كتابي،” قال الأصغر مردداً، كما لو أنه يتأكد من عدم وجود خطأ قواعدي في الجملة.
” ماذا، أليس لديك بيتاً؟” سأل الرجل الأضخم كاميتا.
” بلى،” أجاب كاميتا. ” أعيش في مكان قريب من هنا.”
” إذن لم لا تذهب إلى بيتك وتقرأ هناك؟”
” أحب القراءة هنا،” قال كاميتا.
تبادل الرجلان النظرات.
” أعطني الكتاب،” قال الرجل الأقصر.” سأقرأه لك.”
” أحب أن أقرأ بنفسي، بهدوء،” قال كاميتا.” وأكره لو أخطأت في تهجئة الكلمات.”
” ألست تحفة،” قال الرجل الضخم.” يا له من رجل مسل.”
” ما اسمك بأية حال؟” سأل صاحب الشعر الطويل.
” اسمي كاميتا،” قال.” إنه مكتوب بنقوش ” إله”-كامي-و “حقل”: ” حقل الله.” لكنه لا يلفظ “كاندا،” كما قد تتوقع. بل ” كاميتا.”
” سأتذكر ذلك،” قال الرجل الضخم.
” فكرة حسنة، قد تنفع الذاكرة،” قال كاميتا.
” بأية حال، ماذا رأيك بالخروج؟” قال الرجل القصير. ” حيث يمكنك أن تقول ما تريده تماماً.”
” جيد بالنسبة لي،” قال كاميتا.” في أي مكان تحددانه. لكن قبل ذلك هل يمكن أن تدفعا ثمن الأضرار فأنتما لا ترغبان في أن تتسببا للحانة بأية مشاكل.”
طلب كاميتا من كينو أن يأتي بفاتورتهما، ووضع ثمن مشروبه على النضد. أخرج صاحب ذيل الفرس عشرة آلاف ين من محفظته ورمى بها على الطاولة.
” لا أحتاج أن تعيد لي شيئاً،” قال صاحب ذيل الفرس لكينو.” لكن لم لا تشتري كؤوساً أفضل من هذه؟ إنه نبيذ ثمين، وكؤوس مثل هذه تجعل طعمه كالبراز.”
” صحيح. حانة رخيصة وزبائن مثلها،” قال كاميتا. ” إنها لا تناسبكما. سيكون مكان آخر مناسب لكما. ولا أعرف أين يكون.”
” الآن، أولستَ رجلاً حكيماً،” قال الرجل الضخم.” أنت تثير ضحكي.”
” فكر بذلك فيما بعد، وأضحك كثيراً ما شاء لك الضحك،” قال كاميتا.
” الآن لم لا تخبرني أين يجب أن أذهب،” قال ذيل الفرس. وهو يلعق شفتيه ببطء، كأفعى تمعن النظر في فريستها.
فتح الرجل الضخم الباب وخرج، تبعه ذيل الفرس. ربما استشعرت التوتر في الجو، قفزت القطة، بالرغم من هطول المطر، إلى الخارج في إثرهما.
” هل أنت واثق من أنك بخير؟” قال كينو لكاميتا.
” لا داع للقلق،” قال كاميتا، بابتسامة خفيفة.” لا تحتاج لأن تفعل شيئاً، سيد كينو. فقط ابق على حالك، سرعان ما سينتهي هذا الأمر.”
خرج كاميتا مغلقاً الباب. كانت لا تزال تمطر، أكثر غزارة بقليل من ذي قبل. جلس كينو على مقعد وانتظر. كان الجو في الخارج لا يزال غريباً، ولم يتمكن من سماع شيء. كتاب كاميتا مفتوح على النضد، مثل كلب مدرب ينتظر سيده. بعد عشر دقائق، فتح الباب، ودخل كاميتا وحيداً.
” هلا ناولتني منشفة؟” سأل.
ناوله كينو منشفة نظيفة، مسح كاميتا رأسه. ومن ثم وجهه وعنقه وأخيراً يديه.” شكراً لك. كل شيء على ما يرام الآن،” قال. ” لن يظهر وجه واحد من هؤلاء هنا ثانية.”
” ما الذي حدث؟”
اكتفى كاميتا بهز رأسه، كما لو أنه يقول،” من الأفضل ألا تعرف.” مضى إلى مقعده، شرب ما بقي من الويسكي، وأخذ كتابه من حيث تركه.
في المساء، بعد أن ذهب كاميتا، خرج كينو وطاف بالحي. كان الزقاق خالياً وهادئاً. ما من أثر لشجار، ولا للدم. لم يتخيل ما حدث. عاد إلى الحانة لينتظر زبائن آخرين، لكن لم يأت أحد تلك الليلة. لم تعد القطة أيضاً. صبَّ لنفسه القليل من ويسكي” وايت ليبل”، أضاف قدراً مساوياً من الماء ومكعبين صغيرين من الثلج، تذوقها. لاشي مميز، كما قد تتوقع. لكن جسده في تلك الليلة كان بحاجة لجرعة من الكحول.
بعد مرور ما يقارب الأسبوع على الحادثة، نام كينو مع زبونة. كانت أول امرأة يمارس معها الجنس منذ أن ترك زوجته. كانت في الثلاثين من عمرها، أو ربما أكثر قليلاً. لم يكن على يقين من إمكانية تصنيفها كجميلة، لكن كان فيها شيئاً مميزاً، شيئاً بارزاً.
سبق أن جاءت المرأة إلى الحانة عدة مرات، وفي كل مرة برفقة رجل من نفس العمر تقريباً يضع نظارات ذات إطار على شكل درع سلحفاة وسكسوكة كالتي كان يطلقها جيل البيت في الخمسينات. كان له شعر أشعث ولم يرتد أبداً ربطة عنق، لذا فقد حسب كينو أنه ربما لم يكن من موظفي الشركات النموذجيين. ارتدت المرأة دوماً فستاناً ضيقاً يظهر جسدها الأهيف والجميل. جلسا إلى النضد، يتبادلان بين الحين والآخر كلمة أو كلمتين هادئتين وهما يرتشفان المشروب الكحولي أو الخمر الإسباني. لم يطيلا المكوث أبداً. تصور كينو أنهما كانا يشربان قبل ممارسة الحب. أو ربما بعدها. لم يستطع أن يحدد لكن طريقتهما في الشراب ذكرته بالجنس. جنس كثيف مطول. كان كلاهما جامدي الملامح على نحو غريب، لاسيما المرأة، التي لم يرها كينو تبتسم أبداً. حدثته أحياناً، دوماً عن الموسيقى التي كان يشغلها. تحب الجاز وكانت تجمع التسجيلات بنفسها. ” كان أبي يستمع إلى هذه الموسيقى،” قالت له.” سماعها يعيد لي الكثير من الذكريات.”
لم يعرف كينو من خلال نبرتها إذا ما كانت ذكريات عن الموسيقى أو عن والدها. لكنه لم يجسر على السؤال.
حاول كينو في الواقع ألا يختلط كثيراً بالمرأة. كان بيناً أن الرجل لم يسر كثيراً بتودده إليها. جرت بينه وبينها مرة محادثة طويلة -تبادلا المعلومات عن المتاجر التي تبيع التسجيلات المستعملة في طوكيو وأفضل طريقة للعناية بالتسجيلات المصنوعة من مادة الفينيل وبعد ذلك راح الرجل يرمقه بنظرات باردة مرتابة. كان كينو في العادة يتفادى المشاكل بحرص. لم يكن هناك أسوأ من الغيرة والغرور، ولكينو العديد من التجارب الرهيبة بسبب واحد منهما. كثيراً ما صدم أن به ما يثير الجانب المظلم في الناس.
تلك الليلة، حينما جاءت المرأة إلى الحانة بمفردها. لم يكن هناك زبائن سواها، وعندما فتحت الباب انسلَّ هواء ليلي منعش. جلست إلى النضد، طلبت براندي، والتمست من كينو تشغيل بعضاً من أغاني بيلي هوليداي. ” شيء قديم بالفعل، لو سمحت.” وضع كينو أسطوانة كولومبيا على الجهاز، تلك التي تحوي أغنية” “جورجيا في بالي.” استمعا بصمت. ” هل يمكنك أن تشغل الوجه الآخر أيضاً؟” سألت عندما انتهت الأغنية، واستجاب لطلبها.
شربت على مهلٍ ثلاثة كؤوس من البراندي، تستمع لبعض من التسجيلات الأخرى -” مونجلو” لإيرول جارنر، ” لا يمكنني أن أبدأ.” لبودي ديفرانكو. أولاً، ظن كينو أنها تنتظر الرجل، لكنها لم تنظر إلى ساعتها ولو مرة. جلست هناك تستمع إلى الموسيقى، غارقة في التفكير ترتشف البراندي.
” ألن يأتي صديقك اليوم؟” قرر كينو أن يسأل مع اقتراب وقت الإغلاق.
” ليس بآتٍ. إنه مسافر،” قالت المرأة. نهضت عن المقعد ومشت إلى حيث تنام القطة. مسدت ظهرها برؤوس أصابعها. استمرت القطة في نومها هادئة.
” قد لا نلتقي مجدداً،” قالت المرأة.
لم يعرف كينو بم يجيب، فلم يقل شيئاً، وظل واقفاً خلف النضد.
” لست أدري كيف أعبر،” قالت المرأة. توقفت عن ملاطفة القطة وعادت إلى النضد، تصدر طقطقة عن كعبها العالي. ” علاقتنا ليست طبيعية تماماً.”
” ليست طبيعية تماماً.” كرر كينو كلماتها دون اعتبار لمعانيها حقيقة.
أنهت القدر القليل من البراندي المتبقي في كأسها.” هناك ما أود أن أريك إياه يا سيد كينو،” قالت.
لم يرغب كينو برؤية شيء. كان واثقاً من ذلك. لكن الكلمات لم تسعفه.
خلعت المرأة سترتها الصوفية ووضعتها على المقعد. مدت يديها إلى الوراء وفتحت سحَّاب الفستان. أدارت ظهرها لكينو. رأى تحت إبزيم حمالة صدرها البيضاء تماماً نثار متفرق من علامات فحمية باهتة اللون، مثل كدمات. ذكرته بالكواكب النجمية في سماء الشتاء. صفٌ داكن من نجوم مستنزفة.
لم تقل المرأة شيئاً، فقط كشفت عن ظهرها لكينو. كمن يمكنه فهم معنى السؤال الذي سأله ، حدق كينو بالعلامات. أخيراً، أغلقت السحاب وأدارت له وجهها. لبست سترتها ورتبت شعرها.
” هذه حروق سجائر،” قالت ببساطة.
ضاع الكلام من كينو. ولما كان عليه أن يقول شيئاً. ” من فعل بك ذلك؟” سأل بصوت جاف.
لم تجب المرأة، ولاحظ كينو أنه لم يكن يأمل الإجابة.
” يوجد سواها في أماكن أخرى أيضاً،” قالت أخيراً، بصوت خال من التعبير. ” رجاء، تلك يصعب الكشف عنها.”
شعر كينو، منذ البداية، أن هناك شيئاً خارجاً عن المألوف في تلك المرأة. شيء ما أثار رد فعل غريزي، محذراً إياه من التورط معها. كان في الأساس شخصاً حذراً. لو احتاج بالفعل لمعاشرة امرأة، يمكنه دوماً أن يفعل مع محترفة. أضف إلى ذلك أنه لم يكن يشعر بالجاذبية نحو هذه المرأة.
لكنها تلك الليلة في حالة من اليأس رغبت أن يحبها رجل-وبدا أنه كان هذا الرجل. كانت عيناها ضحلتين، توسعت الحدقتان بغرابة، لكن البريق القاطع فيهما لم يكن يحتمل أي تراجع. ليس لكينو القدرة على المقاومة.
أغلق الحانة، وصعدا الدرج. في غرفة النوم، خلعت المرأة فستانها بسرعة، وسروالها الداخلي، وأرته الأماكن التي كان من الصعب الكشف عنها. أزاح كينو بصره أولاً، لكن فيما بعد عاد لينظر. لم يفهم ولم يكن لديه الرغبة في أن يفهم عقل الرجل الذي يقدم على فعل شيء بهذه القسوة، أو كيف تتحمل امرأة طوعاً. كان مشهداً متوحشاً من كوكب قاحل. عاش كينو بعيداً عن عنه مسافة سنوات ضوئية.
أخذت المرأة يده وأرشدتها نحو آثار الحروق، ليلمس كل واحد بدوره. كان هناك آثار على صدرها، وبالقرب من عضوها التناسلي. تتبع تلك العلامات الغامقة القاسية كما لو أنه يستعمل قلماً ليصل بين النقاط. بدا أن العلامات تتخذ شكلاً ذكره بشيء ما، لكنه لم يتمكن من التوصل لمعرفته.
مارسا الجنس على الأرض المفروشة. لم يتبادلا كلمة، ولا مداعبة، لم يكن هناك وقت لإطفاء الضوء أو لفرش الحشية. انزلق لسان المرأة على حنجرته، حفرت أظافرها في ظهره. تحت الضوء، مثل حيوانين جائعين يلتهمان اللحم المشتهى. عندما انبلج الفجر في الخارج، زحفا على الحشية وناما، كما لو أنهما محمولان نحو الظلمة.
استيقظ كينو قبيل الظهر، كانت المرأة قد رحلت. شعر أنه رأى حلماً شديد الواقعية، لكن بالتأكيد لم يكن حلماً. كانت الخدوش تخط ظهره، وعلى ذراعيه آثار العضات، يعتصر عضوه ألم جاف. بضع شعرات طويلة التفت على مخدته البيضاء، وللملاءات رائحة قوية لم يشمها من قبل.
جاءت المرأة إلى البار عدة مرات بعد ذلك، برفقه الرجل ذو السكسوكة دوماً. يجلسان إلى النُّضد، يتحدثان بأصوات منخفضة وهما يشربان كأساً أو اثنين ويغادران. قد تتبادل المرأة بضع كلمات مع كينو حول الموسيقى غالباً. كانت نبرتها كالسابق كما لو أنها لا تتذكر شيئاً مما حدث بينهما تلك الليلة. مع ذلك، استطلع كينو وميض الرغبة في عينيها، مثل ضوء خافت عميق في منجم. كان متأكداً. وأعاد إليه بقوة كل شيء- خدوش أظافرها على ظهره واللسعة في عضوه، لسانها الطويل الزاحف، رائحتها على فراشه.
وهو يتحدث مع المرأة، تتبع مرافقها بإمعان تعابير كينو وتصرفاته. أحس كينو بشيء لزج يحيط بهما، كما لو أن هناك سراً عميقاً لا يعرفه سواهما.
في آخر الصيف، تم طلاق كينو والتقى بزوجته في حانته ذات أصيل، قبل موعد افتتاحها، للاهتمام ببعض المسائل العالقة.
تم الاتفاق على القضايا القانونية سريعاً، ووقع كلاهما الوثائق الضرورية. كانت زوجة كينو ترتدي فستاناً أزرق جديداً، بتسريحة شعر قصيرة. بدت في حال أحسن وأكثر سروراً مما رآها في أي وقت مضى. لا شك أنها بدأت حياة جديدة أكثر إرضاءاً. نظرت في أرجاء الحانة.” يا للمكان الجميل،” قالت. ” هادئ، نظيف، وساكن-يشبهك.” تبع ذلك صمت قصير.” لكن لا شيء هنا حقيقة يثيرك”: تخيل كينو أن تلك كانت الكلمات التي رغبت بقولها.
” هل تودين أن تشربي شيئاً؟” سأل.
” القليل من النبيذ الأحمر، إذا كان لديك.”
أخرج كينو كأسين وصب بعضاً من نبيذ “نابا زينفاندل”. شربا بصمت. لم يزمعا على شرب نخب طلاقهما. تقدمت القطة وقفزت فجأة في حضن كينو. الذي داعبها خلف أذنيها.
” أستميحك عذراً،” قالت زوجته أخيراً.
” على ماذا؟” سأل كينو.
” لأني أذيتك،” قالت.” كنت مجروحاً، قليلاً، أليس كذلك؟”
” أفترض ذلك،” قال كينو، بعد أن استغرقه بعض التفكير.” أنا إنسان، في النهاية، كنت مجروحاً، لكن لا أعرف إن كان كثيراً أو قليلاً.”
” أردت أن أراك لأعتذر منك.”
أومأ كينو.” اعتذرت وقبلت اعتذارك. لا داعي للقلق بهذا الشأن بعد اليوم.”
” أردت أن أقول لك ما كان يحدث، لكني لم أعثر على الكلمات.”
” لكن ألم نكن لنصل إلى نفس النهاية بأية حال؟”
” أظن ذلك،” قالت زوجته.
رشف كينو النبيذ.
” إنه ليس خطأ أحد،” قال.” لم يكن علي القدوم باكراً إلى البيت. أو كان عليَّ أن أعلمك بقدومي. وبذلك لم نكن لنقع في هذا.”
لم تقل زوجته شيئاً.
” متى بدأت ترين ذلك الرجل؟” سأل كينو.
” لا أظن أن علينا أن نخوض في ذلك.”
” هل تعنين أنه من الأفضل لي ألا أعرف؟ ربما أنت محقة في ذلك،” اعترف كينو. وواصل ملاطفته للقطة، التي هرَّت بشدة.
” ربما ليس لي الحق لأقول هذا،” قالت زوجته،” لكني أظن من الأفضل أن تنسى ما حصل وتجد شخصا جديداً.”
” ربما،” قال كينو.
” أعلم أنه لابد من وجود امرأة تناسبك. ليس من الصعب إيجادها. لم أكن قادرة على أن أكون ذلك الشخص بالنسبة لك، وفعلت أمراً رهيباً. أشعر بالفظاعة نحوه. لكن كان هناك ثمة خطب فيما بيننا منذ البداية، كما لو أنا زررنا الأزرار بطريقة خاطئة، أظن أن عليك أن تكون قادرا على أن تحيا حياة سعيدة أكثر طبيعية.
زررنا الأزرار بطريقة خاطئة، فكر كينو.
نظر إلى الفستان الجديد الذي كانت ترتديه. كانا يجلسان متقابلين، فلم يتمكن من معرفة إذا ما كان يوجد سحاب أو أزرار على ظهره. لكن لم يستطع الامتناع عن التفكير بما قد يراه إذا ما فك سحاب أو أزرار ملابسها. لم يعد جسدها ملكاً له، فكل ما كان بمستطاعه هو التخيل. عندما أغلق عينيه، رأى آثاراً عديدة لحروق بنية غامقة اللون تتلوى على ظهرها الناصع البياض، مثل سرب من الديدان. هز رأسه ليطرد تلك الصورة، بدا أن زوجته أساءت التفسير.
وضعت يدها على يده بلطف.” أنا آسفة،” قالت.” أنا آسفة بحق.”
حلَّ الخريف واختفت القطة.
لم ينتبه كينو لرحيلها إلا بعد بضعة أيام. هذه القطة-التي لا تزال بلا اسم-كانت تجيء إلى الحانة عندما ترغب وأحياناً كانت تختفي لفترة، فإذا مر أسبوع ولم يرها كينو، أو حتى عشرة أيام، لم يكن ينتابه قلق واضح. كان مولعاً بالقطة، وبدا أن القطة تثق به. كانت أيضاً مثل حظ جيد ساحر للحانة. كان يشعر كينو بالاطمئنان طالما هي نائمة في الزاوية. لكن عندما مر أسبوعان بدأ يقلق. بعد ثلاثة أسابيع، حدس كينو حدثه بأن القطة لن تعود.
في غياب القطة بدأ كينو يلحظ أفاعي في الخارج، قرب المبنى.
كانت أول أفعى رآها طويلة وبنية. في ظل شجرة الصفصاف في الباحة الأمامية، تزحف بروية. كينو، ممسكاً بكيس البقالة، لم يكن قد أقفل الباب عندما لمحها. من النادر أن ترى أفعى وسط طوكيو. تفاجأ قليلاً، لكنه لم يقلق بشأنها. كان متحف النيزو يقع خلف بنايته بحدائقه الكبيرة. لم يكن مستبعداً وجود أفعى هناك.
لكن بعد يومين، وهو يفتح الباب قبل الظهر تماماً ليأخذ الصحيفة، رأى أفعى مختلفة في نفس المكان. كانت زرقاء، أصغر من الأخرى، ولها منظر قذر. عندما رأت الأفعى كينو، توقفت، رفعت رأسها قليلاً، وحدقت به، كما لو أنها تعرفه. تردد كينو، غير متيقن مما يتوجب عليه فعله، والأفعى أخفضت رأسها ببطء واختفت في الظل. الأمر برمته أصاب كينو بالذعر.
بعد ثلاثة أيام، لمح الأفعى الثالثة. كانت تحت شجرة الصفصاف في الباحة الأمامية. هذه كانت أصغر من الأخريات بشكل ملحوظ وسوداء. لا يعرف كينو شيئاً عن الأفاعي، لكن هذه صدمته باعتبارها الأكثر خطورة. بدت سامة بشكل ما. أحست بحضوره بسرعة، زحفت مبتعدة في الأعشاب. ثلاث أفاعي في المكان خلال أسبوع، لا يهم كيف تعتبرها كانت عديدة شيء ما غريب كان يجري.
اتصل كينو بخالته في ايزو. بعد إعلامها بما يجري في الحي، سألها إذا ما رأت من قبل أفاعي حول المنزل في ايوياما.
” أفاعي؟” قالت خالته بصوت مرتفع، متفاجئة. ” عشت هناك لوقت طويل لكني لا أتذكر أني رأيت أفعى. أو ليست علامة على حدوث زلزال أو شيء ما. تستشعر الحيوانات بالكوارث وتتصرف بغرابة.”
” إذا هذا حقيقي، ربما من الأفضل أن أتمون بكميات كبيرة،” قال كينو.
” هذه ربما فكرة جيدة. قد يضرب طوكيو زلزالاً ضخماً يوماً ما.”
” لكن هل الأفاعي تستشعر بحدوث الزلازل؟”
” لا أعلم بم تستشعر،” قالت خالته.” لكن الأفاعي مخلوقات ذكية. في الأساطير القديمة، غالباً ما تساعد الناس وترشدهم. لكن، عندما تقودك الأفعى لا تعرف فيما إذا كانت تأخذك في اتجاه جيد أو سيء، في أغلب الحالات هو خليط من الخير والشر.”
” هذا غامض،” قال كينو.
” تماماً. الأفاعي مخلوقات ملتبسة بشكل أساسي. في هذه الأساطير، الأفعى الأكبر والأذكى تخفي قلبها في مكان ما خارج جسدها. وبهذا لا يمكن أن تقتل. إذا ما أردت أن تقتل تلك الأفعى، عليك أن تذهب إلى مخبئها عندما لا تكون فيه، وتجد القلب الخفاق، وتقطعه إلى اثنين. ليست مهمة سهلة، بالتأكيد.”
كيف تعرف خالته كل هذا؟
” في ذلك اليوم كنت أشاهد برنامجاً على قناة يقارن بين أساطير مختلفة حول العالم،” شرحت،” وكان أستاذاً من جامعة ما يتحدث عن هذا. يمكن أن يكون التلفاز مفيداً تماماً-عندما يكون لديك متسعاً من الوقت عليك أن تشاهد التلفاز.”
صار كينو يشعر كما لو أن المنزل محاط بالأفاعي. شعر بحضورها الهادئ. في منتصف الليل، عندما أغلق الحانة، كان الحي ساكناً، دونما صوت آخر سوى الإنذارات التي تصدر أحياناً. هادئ جداً حتى أنه استطاع أن يسمع صوت الأفاعي وهي تزحف. أخذ لوحاً وأغلق بإحكام الباب الذي صنعه للقطة، بحيث لا يمكن للأفاعي أن تدخل المنزل.
ذات ليلة ظهر كاميتا قبيل الساعة العاشرة. تناول البيرة، وتبعها بكأسه المعتاد من ويسكي وايت ليبل المزدوج، وتناول طبقاً من محشي الكرنب. لم يكن من عادته أن يأتي متأخراً، ويبقى طويلاً. أحياناً، كان يرفع بصره عن قراءته ليحدق بالجدار المواجه له، كما لو أنه يتأمل شيئاً. بحلول وقت الإغلاق ظل حتى غادر آخر الزبائن.
” سيد كينو،” قال كاميتا برسمية بعد أن دفع حسابه.” أجد أنه من المؤسف أن يصل الأمر إلى هذا الحد.”
” يصل إلى هذا الحد؟” أجاب كينو.
” إذ يتوجب عليك إغلاق الحانة وإن إلى حين.”
حدق كينو بكاميتا، غير عارف بم يجيبه. أغلق الحانة؟
نظر كاميتا في أرجاء الحانة الفارغة، ومن ثم عاد إلى كينو. ” ألم تستوعب ما أقول أليس كذلك؟”
” لا أظن.”
” أنا معجب كثيراً بهذه الحانة فعلاً،” قال كاميتا، كما لو أنه يأتمنه على سر. ” كانت هادئة، بحيث تمكنت من القراءة، واستمتعت بالموسيقى. كنت سعيداً جداً عندما افتتحت الحانة هنا. للأسف، مع ذلك هناك أشياء ناقصة.”
” ناقصة؟” قال كينو. لم يكن لديه فكرة عما تعنيه. كل ما استطاع تصوره كوب شاي ورقاقة صغيرة في حافته.
” تلك القطة الرمادية لن تعود،” قال كاميتا.” في هذا الوقت على الأقل.”
” لأن هذا المكان ينقصه شيء؟”
لم يجب كاميتا.
تبع كينو نظرة كاميتا، ونظر بحذر في أرجاء الحانة، لكن لم ير شيئاً غير مألوف. ومع ذلك أحس بفراغ المكان أكثر من أي وقت مضى، مفتقراً للحيوية واللون. شيء يتجاوز المعتاد، مقفلة لتوها مع حلول الليل.
رفع كاميتا صوته.” سيد كينو، أنت لست من النوع الذي يرتكب الخطأ من تلقاء نفسه. أعرف ذلك تمام المعرفة. لكن أحياناً في هذا العالم لا يكون كافياً ألا ترتكب الأخطاء. بعض الناس يستعملون هذه المساحة الخالية كمهرب. هل تفهم ما أقول؟”
كينو لم يفهم.
“فكر بذلك بعناية،” قال كاميتا، محدقاً مباشرة في عيون كينو. ” إن هذه المسألة شديدة الأهمية، تستحق بعض التفكير الجدي. ولو أن الجواب لن يأتي بهذه السهولة ربما.”
” تقول بأن مشكلة خطيرة قد حدثت، ليس لأني ارتكبت خطأ لكن لأني لم أفعل الأمر الصائب؟ ثمة مشكلة تتعلق بهذه الحانة، أو بي؟”
أومأ كاميتا.” يمكنك أن تصوغه بتلك الطريقة. لكن لا ألومك سيد كينو. أنا مخطئ أيضاً، لأني لم ألحظ هذا سابقاً. كان عليَّ أن أهتم أكثر. لم يكن هذا المكان مريحاً لي وحسب لكن للجميع.”
” إذن ماذا عليَّ أن أفعل؟” سأل كينو.
” أغلق الحانة لفترة وابتعد. لا شيء آخر يمكنك فعله في هذه المرحلة. أظن من الأفضل أن تغادر قبل أن يكون لدينا نوبة أخرى طويلة من المطر. أعذرني على السؤال، لكن هل لديك ما يكفي من المال للذهاب في رحلة طويلة؟”
” أظن أن بإمكاني تحمل نفقات الرحلة لفترة.”
” جيد. يمكنك أن تفكر بما يأتي بعد ذلك عندما تصل إلى تلك المرحلة.”
“من أنت بأية حال؟”
” أنا مجرد رجل اسمه كاميتا،” قال كاميتا.” يكتب بالأحرف كامي، ” إله،” وتا، ” حقل،” لكن لا يقرأ “كاندا.” أعيش هنا منذ زمن طويل.”
قرر كينو أن يمعن في السؤال أكثر. ” سيد كاميتا، لدي سؤال. هل رأيت أفاعٍ هنا من قبل؟”
لم يجب كاميتا. “إليك ما عليك فعله. ابتعد، ولا تبقى في مكان واحد طويلاً. وأرسل يومي الاثنين والخميس بطاقة بريدية. لأعرف أنك بخير.”
” بطاقة بريدية؟”
” أي نوع من البطاقات المصورة من مكان تواجدك.”
” لكن لمن عليَّ أن أرسلها؟”
” يمكنك أن ترسلها إلى خالتك في ايزو. لا تكتب اسمك أو أي رسالة بتاتاً. ضع العنوان الذي ترسل إليه فقط. هذا هام جداً، لا تنسى.”
نظر كينو نحوه متفاجئاً. ” تعرف خالتي؟”
” نعم، أعرفها حق المعرفة. في الحقيقة، طلبت مني الاهتمام بك لتكون على يقين من عدم حصول ما هو سيء. يبدو أني فشلت في المهمة مع ذلك.”
من يكون هذا الرجل؟ سأل كينو نفسه.
” سيد كينو، سأتصل بك عندما أعرف أن الأمور مناسبة لعودتك. ابق بعيداً عن هنا، حتى ذلك الحين. هل تفهم؟”
حزم كينو حقائب الرحلة في تلك الليلة، من الأفضل أن تغادر قبل نوبة طويلة أخرى من المطر. كان التصريح مفاجئاً جداً، لم يدرك مغزاه. لكن قدرة كلمات كاميتا على الإقناع كانت تتخطى المنطق. لم يسئ كينو الظن به. حشا حقيبة كتف من القياس المتوسط ببعض الملابس والمستحضرات، نفس الحقيبة التي كان يستعملها في رحلات العمل. عند طلوع الفجر، ثبت ملحوظة على الباب الأمامي: ” نعتذر لأن الحانة ستكون مغلقة في الوقت الحالي.” بعيداً، قال له كاميتا. لكن لم يكن لديه فكرة حقيقة عن المكان الذي ينبغي أن يتوجه إليه. هل يتجه شمالاً؟ أو جنوباً؟ قرر أن يبدأ بتتبع المسار الذي كان يسلكه غالباً عندما كان يبيع الأحذية الرياضية. استقل باص الطريق السريع ذاهباً إلى تاكامتسو. سيطوف في شيكوكو ثم يتوجه إلى كيوشو.
توقف في فندق لرجال الأعمال بالقرب من محطة تاكاماتسو وبقي فيه ثلاثة أيام. تجول في المنطقة وذهب لمشاهدة الأفلام. كانت صالات السينما خالية آناء النهار، والأفلام دون استثناء مخدرة للعقل ليلاً، عاد إلى غرفته وشغل التلفزيون. تبع نصيحة خالته وشاهد برامج تعليمية، لكن لم يحصل منها على معلومة مفيدة. كان اليوم الثاني في تاكاماتسو خميساً، فاشترى بطاقة بريدية من المتجر، ألصق الطابع، وأرسلها إلى خالته. كما أشار عليه كاميتا، كتب اسمها والعنوان.
” فكر به ملياً،” قال له كاميتا.” هذه مسألة في غاية الأهمية، تستحق بعض التفكير الجدي.” لكن مع أن كينو فكر بجدية بالغة إلا أنه لم يتوصل لمعرفة المشكلة.
بعد بضعة أيام، كان كينو يقيم في فندق رخيص بالقرب من محطة كوماموتو، في كيوشو. سقف منخفض، ضيق، سرير رديء، جهاز تلفاز صغير، مغطس حمام صغير، ثلاجة صغيرة قذرة. شعر كأنه عملاق أخرق، مشوش. مع ذلك، فيما عدا الذهاب إلى متجر الوجبات السريعة القريب، بقي متوارياً في الغرفة طوال اليوم. اشترى من المتجر زجاجة صغيرة من الويسكي، مياه معدنية، وبعض البسكويت لوجبة خفيفة. استلقى على سريره يقرأ. عندما يتعب من القراءة، يشاهد التلفزيون. عندما يتعب من مشاهدة التلفزيون، يقرأ.
إنه يومه الثالث في كوماموتو. لا يزال يملك مالاً في حساب التوفير، وكان بمقدوره لو رغب أن ينزل في فندق أفضل بكثير. لكنه شعر أن هذا المكان يناسبه في الوقت الحاضر. إقامته في مكان صغير مثل هذا، ستعفيه من التفكير بما ليس ضرورياً، وكل شيء يحتاجه في المتناول. كان ممتناً لهذا على غير انتظار. كل ما تمناه كان بعض الموسيقى. تيدي ويلسون، فيك ديكنسون، باك كلايتون-تاق أحياناً توقاً شديداً للاستماع إلى مقطوعاتهم القديمة من موسيقى الجاز، بتقنياتهم الثابتة الموثوقة وأوتارهم الصريحة. رغب بأن يشعر بالفرح الخالص الذي كانوا يشعرون به وهم يعزفون، وتفاؤلهم الرائع. لكن تسجيلاته كانت بعيدة. تخيل حانته، هادئة منذ أن أغلقها. الزقاق، شجرة الصفصاف الكبيرة. الناس وعم يقرؤون الملحوظة التي كتبها وغادر. ماذا عن القطة؟ لو عادت ستجد بابها مغلقاً، وكانت الأفاعي لا تزال تذرع المنزل صامتة؟
أمام نافذته مباشرة في الطابق الثامن كانت نافذة في مبنى عمومي يرى من خلالها أناساً يعملون من الصباح إلى المساء، لم يكن لديه فكرة عن نوع هذا العمل. رجال بربطات عنق يدخلون ويخرجون في حين أن النساء يطرقن على لوحات مفاتيح الحواسيب، يجبن على الهاتف، يصنفن المستندات، ليس مشهداً من النوع الذي يلفت الانتباه تماماً. كانت قسمات وملابس العاملين عادية، بل مبتذلة. راقبهم كينو لساعات لسبب بسيط واحد: لم يكن لديه ما يفعله. ووجد أنه من غير المتوقع، والمفاجئ، كم تبدو عليهم السعادة أحياناً. ينفجر بعضهم بالضحك بين الحين والآخر، لماذا؟ يعملون طوال اليوم في مثل هذا المكتب الذي يفتقر إلى الجاذبية، يقوم بأشياء بدت (على الأقل بالنسبة لكينو) غير ملهمة على الإطلاق -كيف يمكنهم القيام بهذا ويشعرون مع ذلك بهذا القدر من السعادة؟ هل كان هناك ثمة سر خفي لم يستطع فهمه؟
كان موعد انتقاله مجدداً على وشك الحلول. لا تبق في مكان واحد طويلاً، قال له كاميتا. ومع ذلك لم يستطع كينو إرغام نفسه على مغادرة هذا الفندق الصغير السيء في كوماموتو. لم يكن راغباً بالذهاب إلى أي مكان. كان العالم محيطاً شاسعاً دون معالم، وكينو مركب صغير فقد خريطته البحرية ومرساته. عندما فرد خريطة كيوشو، احتار إلى أين يمضي، شعر بالغثيان، بدوار البحر. استلقى في السرير وقرأ كتاباً، يرفع بصره بين الفينة والأخرى ليشاهد الناس في المكتب المقابل.
كان يوم الاثنين، فاشترى بطاقة بريدية من متجر للهدايا في الفندق مع صورة لقلعة كوماموتو، كتب اسم خالته والعنوان، وألصق الطابع. أمسك بالبطاقة لفترة، محدقاً بالقلعة بنظرة خاوية. صورة نمطية، من النوع الذي تنتظر أن تراه على بطاقة بريدية: القلعة تتسامق بغرور أمام السماء الزرقاء والغيوم البيضاء المنفوخة. أطال كينو النظر في الصورة، إلا أنه لم يجد جدوى من الاتصال بينه وبين تلك القلعة. بدافع ما قلب البطاقة وكتب رسالة إلى خالته:
كيف حالك؟ وكيف حال ظهرك هذه الأيام؟ كما ترين أنا لا أزال أرتحل وحيداً. أحياناً أشعر كما لو أني نصف شفاف بحيث يمكنك رؤية أعضائي الداخلية، مثل حبار مصطاد للتو. فيما عدا ذلك أنا بخير أتمنى أن أزورك يوماً ما. كينو.
لم يكن كينو متيقناً من دافع كتابة ذلك. فقد منع كاميتا ذلك بحزم. لكنه لم يستطع تمالك نفسه. عليَّ بطريقة ما أن أتواصل مع الواقع مجدداً، فكر، وإلا لن أكون أنا. سأصبح رجلاً غير موجود. وقبل أن يغير رأيه، سارع إلى صندوق البريد قرب الفندق وزلق البطاقة بداخله.
عندما استيقظ، كانت الساعة التي بجوار سريره تشير إلى الثانية والربع. كان أحدهم يطرق على بابه. ليس طرقاً عالياً لكن بصوت حازم، ضاغط كما يدق نجار ماهر مسماراً. انتزع الصوت كينو من نوم عميق حتى أن صحوه كان صافياً على نحو كامل وشديد أيضاً.
عرف كينو ما يعنيه هذا الطرق. وعرف أن عليه النهوض من السرير ليفتح الباب فمهما فعل الطارق لن يكون من القوة بحيث يتمكن من فتح الباب من الخارج. كان ينبغي أن يفتحه كينو.
خطر له أن هذه الزيارة كانت ما تمناه تماماً، وفي نفس الوقت، ما كان يخشى قبل كل شيء. هذا كان غامضاً: الانتظار في فراغ بين حدين.” كنت مجروحاً قليلاً أليس كذلك؟” سألته زوجته.” أنا إنسان، في النهاية. كنت مجروحاً،” أجاب. لكن لم تكن الحقيقة. بل نصفها على الأقل كان كذبة. لم أكن جريحاً إلى الحد الذي يجب أن أكون عليه، اعترف كينو لنفسه. عندما كان عليَّ الشعور بألم حقيقي خنقته. لم أرغب بتحمله، فتجنبت مواجهته. لهذا قلبي فارغ الآن. خطفت الأفاعي تلك البقعة في محاولة لإخفاء قلوبها الخافقة ببرود هناك.
” لم يكن المكان مريحاً بالنسبة لي فقط لكن للجميع،” قال كاميتا. فهم كينو أخيراً ما عناه.
شد كينو الغطاء عليه، أغلق عينيه، وغطى أذنيه بيديه. لن أنظر، لن أصغي، قال لنفسه. لكنه لم يستطع أن يتخلص من الصوت. حتى لو ركض إلى أقصى أركان الأرض وسدَّ أذنيه بالطين، ستتبعه تلك الطرقات دونما شفقة طالما لا يزال حياً. لم يكن طرقاً على باب في فندق. بل طرقاً على باب قلبه. أحداً لا يمكنه التملص من ذلك الصوت.
لم يكن يعرف على وجه اليقين كم مضى من الوقت، لكنه أدرك أن الطرق قد توقف. كانت الغرفة ساكنه كالجهة الأخرى من القمر. مع ذلك، بقي كينو تحت الأغطية. كان عليه أن يبقى متأهباً. فالكائن الذي يقف ببابه لن يستسلم بسهولة. لم يكن هناك داع للعجلة. لم يكن هناك قمر. سوى مجموعة شاحبة من النجوم تناثرت في السماء على نحو كئيب. انتمى العالم لمدة أطول لتلك الكائنات الأخرى. لديهم طرق مختلفة كثيرة. يمكنهم الحصول على ما يريدون بكل الوسائل. الجذور المظلمة يمكن أن تنتشر في كل مكان تحت الأرض. بصبر تأخذ وقتها باحثة عن نقاط ضعف، لقد كسروا الصخرة الأكثر صلابة.
أخيراً، كما توقع كينو، بدأ الطرق من جديد. لكن هذه المرة سُمع من اتجاه آخر. أكثر قرباً من ذي قبل. أياً يكن الطارق فقد كان خارج النافذة المحاذية لسريره تماماً. يتشبث بحائط المبنى الشفاف، بارتفاع ثماني طوابق، تاب-تاب- يطرق على الزجاج الذي يخطه المطر.
تواصل الطرق على نفس المنوال. مرتين. ومن ثم اثنتين مجدداً. دون توقف. كخفق قلب ينبض بالمشاعر.
كانت الستارة مفتوحة. قبل أن يغط في النوم، كان يشاهد الأشكال التي شكلتها قطرات المطر على الزجاج. تخيل كينو ما سيراه الآن، لو أخرج رأسه من تحت الأغطية. لا-لم يتمكن من تخيله. كان عليه أن يخمد القدرة على تخيل أي شيء. ليس عليَّ أن أنظر إليه، قال لنفسه. ليس مهماً أن يكون فارغاً، فهو قلبي مع ذلك. لا يزال فيه بعض الدفء الانساني. ذكريات، مثل طحلب يلتف حول دعائم على الشاطئ، ينتظر صامتاً المد العالي. إذا ما جرحت المشاعر ستنزف. لا يمكنني أن أدعها تجول في مكان ما يتجاوز إدراكي.
” يمكن أن تكون الذكريات معيناً،” قال كاميتا. خطرت فكرة فجائية لكينو: أن كاميتا كان بشكل ما متصل مع شجرة الصفصاف المعمرة أمام منزله. لم يعي كيف يكون هذا معقولاً، بالضبط، لكن عندما استحوذت عليه الفكرة أصبحت الأشياء مفهومة. تصور كينو فروع الشجرة، مورقة خضراء، متدلية بثقل، تكاد تلامس الأرض. في الصيف، وفرت ظلاً بارداً للباحة. في الأيام المطيرة، تلألأت قطيرات ذهبية على أغصانها الغضة. في الأيام العاصفة، تأرجحت مثل قلب متعب، وحلقت طيور صغيرة عالياً، يصرخ بعضها لبعض، تحط بأناقة على الأغصان النحيلة الغضة، فقط لتحلق مجدداً.
تحت الملاءات، التف كينو كدودة، أغلق عينيه بإحكام، وفكر بالصفصافة. تخيل أوصافها-لونها وشكلها وحركاتها واحدة تلو الأخرى. وصلى أن يطلع الفجر. كل ما استطاع فعله كان الانتظار هكذا بصبر حتى انبلاج النور والطيور استيقظت وبدأت يومها. كل ما فعله كان الثقة بالطيور، بكل الطيور، بأجنحتها ومناقيرها. حتى ذلك الحين لم يستطع أن يفرغ قلبه. ذلك الفراغ، الخواء الذي أنتجه، سيستجرها. عندما لم تكن شجرة الصفصاف كافية، فكر كينو بالقطة النحيلة الرمادية، وولعها بالطحلب المشوي. تذكر كاميتا عند النضد، غارقاً في كتاب، عداؤون شبان في تدريبات قاسية متكررة على المضمار، مقطوعة البيانو الجميلة لبين ويبستر ” رومانسيتي.” تذكر زوجته في فستانها الأزرق الجديد، شعرها بقصته القصيرة. أمِل أنها تعيش حياة سعيدة معافاة في منزلها الجديد. أمل ألا يكون على جسدها أية ندوب. استسمحتني وجهاً لوجه، وقبلت اعتذارها، فكر. أحتاج أن أتعلم الصفح وليس النسيان.
لكن بدا أن حركة الزمن ليست مثبتة كما ينبغي. كان ثقل الرغبة الدامي ومرساة الندم الصدئة يعيقان تدفقه الطبيعي. المطر المتواصل، عقارب الساعة المربكة، الطيور النائمة، ساعي البريد المجهول يفرز بصمت البطاقات البريدية، نهدا زوجته الجميلان يتنططان بعنف في الهواء، شيء ما يطرق بعناد على النافذة. كما لو أنه يستدرجه نحو أعماق متاهة مثيرة، هذا الطرق المنتظم اللانهائي. تاب تاب تاب تاب، ومرة أخرى-تاب تاب. “لا تنظر بعيداً، انظر مباشرة نحوه،” همس أحدهم في أذنه.” هذا هو شكل قلبك.”
هز نسيم الصيف المبكر أغصان الصفصافة. في غرفة صغيرة مظلمة، في مكان داخل كينو، كانت يد دافئة تحاول الوصول إليه. بعيون مغلقة، شعر بتلك اليد على يده، ناعمة وحقيقية. لقد نسي هذا، وقد فارقه منذ زمن بعيد. نعم، أنا مجروح. عميقاً جداً جداً. قال هذا لنفسه. وبكى.
لم يتوقف المطر طوال الوقت، مبللاً العالم بقشعريرة باردة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ترجمها عن اليابانية فيليب جابرييل ونشرت في مجلة النيويوركر الأمريكية.
*ترجمتها إلى العربية أماني لازار ونشرتها في مدونة “الأماني”
 
أعلى