جابر عصفور - سهر الليالي

1-2

عدت إلى المحلة الكبرى في الإجازة الصيفية للسنة الأولى، وسرعان ما وصلتني نتيجة السنة كلها، وعرفت أني حصلت على تقدير جيد مرتفع، وأنه كان بيني ودرجة التفوق جيد جداً درجات معدودة، لكن حال دونها الدرجات القليلة التي حصلت عليها في"النحو"والتي أوصلتني إلى درجة النجاح بالكاد ودرست درجاتي في بقية المواد فوجدت أنها لم تكن كما أرجو، وكان ذلك بسبب عدم استقراري وانتقالي بين أكثر من مسكن، واضطراب السنة الأولى التي لم تخل من غواية معرفة خفايا القاهرة، لكن كل هذا يمكن علاجه بالاستقرار في مسكن واحد والتركيز في المذاكرة، أما العقبة الأساسية، فكانت"النحو"الذي كان مشكلتي الأساسية التي لا بد من أن أواجهها في حسم، كي أحقق ما أحلم به من تفوق، على الأقل لأخفف الأعباء المالية عن أبي وأمي، وقررت معالجة الأمر بالاستعانة بصديق المحلة الشيخ رمضان جميل الذي عرفته مريداً من مريدى العم كامل وصبيانه الذين اتبعوا طريقه، فأصبحوا أصدقاءنا لتقارب السن وكان السبيل أن أستفز الشيخ رمضان الذي كان في عامه الأخير من المعهد الديني الثانوي، ونجحت في استفزازه وادعاء أنني أعرف في النحو أكثر منه، وكان ذلك أمام أصدقاء القراءة من أبناء المحلة، وقلت للشيخ رمضان تعالى نختبر معرفتك ومعرفتي في النحو أمام هؤلاء الأصدقاء فقال كيف؟ قلت نقرأ كل يوم باباً من أبواب النحو من بدايته إلى نهايته، ونطرح على أنفسنا أسئلة فيه في اليوم الثاني، والفائز هو الذي يثبت جدارته في الإجابة عن كل الأسئلة أو معظمها على الأقل ووقع الشيخ رمضان، رحمه الله، في الفخ، فقد كان واثقاً من النتيجة، فهو يدرس أبواب النحو، سنوياً، منذ المرحلة الابتدائية في المعهد الديني في المحلة الكبرى واختار سلاح التحدي، وهو كتاب شرح ابن هشام على ألفية ابن مالك"أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك"وبدأنا وكان حتماً علي أن أقرأ كل يوم باباً من أبواب"أوضح المسالك"وأقضي الليل كله في فهم فروعه وتفاصيله، ولا أنسى حفظه ألفية ابن مالك، خصوصاً الأبيات التي يدور حول موضوعها الباب، ابتداء من:

"قال أحمد هو ابن مالك/ أحمد الله خير مالك".
إلى آخر أبيات الألفية والأبواب.

وكنا نلتقي في الساعة السادسة في تجمعنا في المقهى المجاور لعربة كتب طلعت قنديل، صبي عم كامل الذي استقل عنه، وسرعان ما أصبحت العربة دكاناً خشبياً، ملحقاً بإحدى البنايات القديمة التي تطل على شارع العباسي.

ومضت أيام المنافسة التي كنت أستعد لها طوال الليل وفي الصباح، كما لو أني أستعد لامتحان يحسم حياتي في اليوم التالي، وما أكثر ما تغلبت على الشيخ رمضان الذي كان يقابل الهزيمة بابتسامة عريضة، تعقبها ضحكة محبة وكان ذلك طبيعياً لأنه كان يعتمد على ذاكرته ومخزونه القديم، ولم يكن في حاجة إلى الاستقتال في الاستعداد، وقد كان واثقاً من هزيمة هذا الصديق المغرم مثله بنجيب محفوظ ويوسف إدريس، ولا يعرف شيئاً عن النحو القديم، فقد كانت هذه ميزة طلاب الأزهر علينا نحن أبناء المدارس المدنية وانتهت أيام المناظرة والمنافسة التي مررنا فيها على معظم، إن لم يكن كل، أبواب النحو في كتاب ابن هشام وأصبحت مستعداً لمنافسة زميلين معي في"الدفعة"، هما ثابت الخطيب، مد الله في عمره، فقد رأيته آخر مرة، مسؤولاً مهماً في وزارة التعليم في الإمارات، وحسني محمود الذي حصل على الدكتوراه في شعر المقاومة الفلسطيني، وعمل في جامعة اليرموك إلى أن توفاه الله وكلاهما فلسطيني الأصل، تخرجا من معهد المعلمين، درساً فيه أبواب النحو التي قاما بتدريسها إلى أن حصلا على منحة للدراسة في قسم اللغة العربية في آداب القاهرة، فتفوقا منذ السنة الأولى، وحصلا على تقدير جيد جداً وبالطبع أثار تفوقهما رغبة المنافسة والتفوق عليهما، خصوصاً بعد أن حصلا على ما لم أحصل عليه في السنة الأولى.

وعدنا إلى القسم مع بداية السنة الدراسية، وكانت الجامعة قد قامت بإلغاء نظام الفصلين وبدأت الدراسة بروح جديدة من التوثب والحماسة والعناد، وأخذت أعوّد نفسي على عدم ترك مذاكرة اليوم إلى الغد، والتهمت كتابي شوقي ضيف عن التجديد في الشعر الأموي والعصر الإسلامي، وكنت أذهب إلى القاعة الشرقية، يومياً، بعد المحاضرات، وفى الفراغ الذي بينها، وكانت هذه القاعة التي تطل على كافتيريا كلية الآداب في ذلك الوقت عامرة بكتب التراث في التراجم ومصادر الأدب القديم والموسوعات العربية القديمة والحديثة، فضلاً عن كتب التاريخ وأجلس للاطلاع على مراجع الموضوعات التي درسناها، خصوصاً في الأدب والتاريخ، فضلاً عن علوم التفسير الحديث وفى هذه القاعة التهمت صفحات السيوطي"الإتقان في علوم القرآن"وكتاب الزركشي في الموضوع نفسه، فضلاً عن"الباعث الحثيث في علم الحديث"ولا أنسى مجلدات"الأغاني"التي كنت أستمتع بقراءتها، خصوصاً لما فيها، فضلاً عن المعلومات والأشعار، من حكايات ونوادر ووصلت الأغاني بدواوين العصر الإسلامي الذي يضم المخضرمين وشعراء فترة الخلفاء الراشدين إلى شعراء العصر الأموي هكذا قرأت ما عثرت عليه من شعر الحطيئة والراعي النميري وجرير والفرزدق والأخطل، وشغفت بشعر العذريين أمثال قيس بن زريح مجنون ليلى، وجميل بثينة، وغيرهما من الشعراء الذين جمع أشعارهم أستاذي حسين نصار، وأغواني شعر الأحوص بن محمد الأنصاري وعمر بن أبي ربيعة وأمثالهما وقد أخذت ذاكرتي في النشاط، وتزايدت قدرتها على حفظ الشعر وبالطبع، كنت أكتب في كشكول كل عام، أمام ما كنت أكتبه وراء الأساتذة من دروس، ما يكمل ما قالوه من معلومات ونصوص منقولة من مصادرها القديمة، فضلاً عن الأشعار التي كنت أنقلها عن الدواوين أو عن المختارات الشعرية القديمة، مثل الأصمعيات والمفضليات وحماسة أبي تمام وحماسة البحتري، فضلاً عن الحماسة البصرية، فإذا أكملت المادة المعرفية لكل درس، انتقلت إلى غيره في مجاله وهكذا إلى أن أعود إلى غرفتي لأعيد كتابة المحاضرة مع ما أفدته من المكتبة في كشكول خاص في كل علم، فتنقش المحاضرة بمراجعها في ذهني ولم أكن أطلع أحداً على هذه المحاضرات في كشاكيلها الخاصة، فقد كانت من صنعي وتعبي وظللت محافظاً على هذه العادة، إلى أن كسرتها في السنة الرابعة، فأعطيت كشكول النقد للفتاة التي اخترتها حبيبة وزوجة، فأعطتها لطيبتها لصديقتها الحميمة التي أعطتها، بدورها، لصديقة أخرى أعطت المحاضرات لزميلها الذي تحبه، وأخذها منه أحد زملائنا ونسخ منها نسخاً لمن يريد في أحد مكاتب الآلة الكاتبة، وباعها للراغبين الذين فاجأونى بعد الامتحان بها، ولم أملك شيئاً سوى الغيظ وتأنيب زميلتي التي أصبحت زوجتي على طيبة قلبها التي لم تفارقها إلى اليوم، بعد كل هذه السنوات العديدة التي عاركنا فيها الحياة وعاركتنا.

وبالطبع لم أكن أخرج من القاعة الشرقية حتى بعد فراغي من استقصاء معلومات المحاضرات والمعارف الخاصة بها، فقد كانت شهوة المعرفة تغويني، فأنطلق إلى الكتب المتراصة على أرفف القاعة الطويلة، وأنتقي منها ما أعرف وما لا أعرف، وأهيم في صفحاتها بلا هدف محدد سوى فضول المعرفة وما أكثر ما عرفت بسبب هذه الشهوة التي أصبحت ملازمة لي طوال سنوات الجامعة، وما بعدها، وبالطبع لم أكن أنسى النحو، خصوصاً أن الكتاب المقرر كان هو"أوضح المسالك"الذي راجعته في المحلة الكبرى في المنافسة الصيفية مع الشيخ رمضان ومن الطرائف التي أذكرها، في هذا العام، أن شكري عياد كان يقوم بتدريس مادة البلاغة لنا، وكان من عادته، رحمه الله، أن يتمشى في المستطيل الذي يقع أمام المدرجات، ويلقى علينا الدرس في تؤدة، متوقفاً بعد الكلمات، باحثاً عن الكلمة المناسبة، وكانت هذه العادة تقطع تركيز الطلاب، خصوصاً حين كان يهمهم، ويهم بإلقاء كلمة ثم يتراجع عنها متصيداً من ذاكرته الكلمة الأكثر دقة ولذلك كان الطلاب الذين فقدوا التركيز لا يفهمون منه شيئاً أما أنا فكنت أكتب كل ما يقول، بلا ملل من توقفه بين كلمة وأخرى، فقد أحببته منذ أن قرأت مجموعته القصصية الأولى وزادني إعجاباً به أنني عندما كنت أذهب إلى المنزل، أو المكتبة، وأعاود قراءة محاضرته أجد كلاماً دقيقاً متصلاً، لا ينقطع تسلسله على الورق، وإن كان ينقطع كثيراً في الإملاء ولا أنسى محاضرة ألقاها علينا في المفاهيم الحديثة للتشبيه والاستعارة، بعد أن فرغنا من دراسة ما جاء عنهما في باب"البيان"من كتاب"الإيضاح في شرح المفتاح"للخطيب القزويني وقد ظللت أحتفظ بكشكول محاضرات شكري عياد في البلاغة لوقت طويل، معتزاً به، حتى بعد أن أصبحت ألقي محاضرات في المقرر نفسه، ولكن سرعان ما ضاع الكشكول مع ما ضاع من كتب وأوراق.

وقد جعلتني محاضرات شكري عياد أبحث عن كتاب"المفتاح"للسكاكي اسم مشتق من صناعة"السَّكة"التي منها"سكّ العملة"وأقرأ ما كتبه أمين الخولي، أستاذ شكري عياد، عن البلاغة في المكتبة، خارج القاعة الشرقية التي كانت للمصادر الأساسية، ولكني وجدت كتباً قديمة أخرى، في القاعة الشرقية، تدور حول علوم البلاغة، أو تضم بعض أبوابها وكان ذلك في تجوالي الحر في القاعة التي لم أكن أفارقها إلا بعد أن يعضني الجوع، فأخرج من المكتبة إلى الكافتيريا، وأشتري"ساندويتش"خفيفاً، كي يهدأ جوعي نسبياً، ومعه كوب شاي في الغالب، وألتهم هذا الغذاء المتواضع على منضدة نائية، فقد كانت الكافتيريا مليئة بالطلاب والطالبات وقد استبدل الكثيرون الجلوس عليها بدخول المحاضرات، فضلاً عن امتلائها بطلاب الكليات الأخرى بحثاً عن الفتيات الجميلات، فقد كانت كلية الآداب مشهورة بين بقية الكليات بجمال طالباتها، خصوصاً في قسمي اللغة الإنكليزية والفرنسية، ولكي تجمع الكافتيريا المتناقضات كانت تضم طلاباً عرباً ينتمون إلى الأحزاب التقدمية، في مصر وخارجها، فضلاً عن رهبان العلم من أمثالي، فقد كتبت على كل كشاكيلي فقرة نقلتها من أحد كتب طه حسين تقول إن الطالب إذا لم ينغمس في مغامرات سياسية أو عاطفية، فيما أذكر، فإنه ينبغ في العلم، ولذلك كنت أجلس وحيداً على الكافتيريا، ولا أطيل البقاء بعد تصبيرة الغذاء، وأعود إلى محاضراتي أو إلى القاعة الشرقية التي أصبحت أحب الأماكن إلى قلبي وقد تعرفت على أمينها المرحوم محمد قنديل البقلي الذي كان عالماً محققاً، نشر عدداً من كتب التراث، مثل"الناشوش في حكم قراقوش"وفهارس شاملة جامعة لكتب أخرى وكان، رحمه الله، جهماً باستمرار، لكنه كان يخصني بالمودة، خصوصاً بعد آن رآني"زبوناً"دائماً للقاعة، وعاشقاً لكتبها، فلم يكن يبخل علي بما أريد أن أعرفه، ولا يتردد في أن يأخذني إلى الكتب التي تفيدني فيما أرغب في الاستزادة من معرفته وقد عرفت منه أن أستاذي عبدالعزيز الأهواني، ومعه عبدالقادر القط وغيرهما، رحم الله الجميع، عملوا في القاعة الشرقية بعد تخرجهم وتعيينهم معيدين في الجامعة.




.../...
 
2-2

ومن المؤكد أن القاعة الشرقية هي التي فتحت عيني على كتب التراث العربي القديمة، فكان حبي لها، ولا يزال، حباً للتراث العربي الذي أتاحت لي أن أعرفه، عبر سنوات التلمذة، فما أكثر الوقت الذي كنت أقضيه فيها، متجولاً، مبهوراً بآفاق المعرفة التي كانت تتيحها لي مجلداتها، ففي ركن منها كانت تتراص كتب التاريخ للطبري وابن الأثير والمسعودي والمقريزي على سبيل المثال، وفي ركن آخر تتراص الموسوعات الأدبية، ومنها"الأغاني"التي عرفتها أول ما عرفتها في طبعة الساسي، وإلى جانبها"العقد الفريد"، و"الكامل"للمبرد بشرح الشيخ سيد بن علي المرصفي الذي تتلمذ عليه طه حسين، وهو غير حسين المرصفي الذي تتلمذ عليه الشاعران محمود سامي البارودي وأحمد شوقي، وأضف إلى ذلك كتب المجموعات الشعرية القديمة، ابتداء من المفضليات والأصمعيات، مروراً بكتب الحماسة التي تضم حماسة أبي تمام، وحماسة البحتري، وحماسة أبي زيد القرشي، فضلاً عن غيرها من المجموعات التي مضت على درب الشاعر أبي تمام الذي جمع ما راقه من التراث وأطلق عليه اسم أول الأبواب، وهو الحماسة، وانتهاء بالمجموعات الأخرى التي جمعها قدماء ومحدثون، وشعراء من العصر الحديث أمثال البارودي والزهاوي اللذين مضيا على درب جدهما الأكبر المتنبي. وفي ما بعد تخرجي، عرفت أن أدونيس علي أحمد سعيد سار على الدرب نفسه، وأصدر مجموعته"ديوان الشعر العربي"وقد تعلمت، من تصفح هذه المجموعات، وقراءة ما تيسر لي منها، أو ما احتجت إليه في دراستي، أن اختيار المرء دليل على عقله وصورة من ذوقه ولذلك اختلفت المفضليات نسبة إلى المفضّل الضبي عن الأصمعيات نسبة إلى الأصمعي عبدالملك بن قريب، وعرفت كذلك أن اختيارات كل امرئ تقف عند مرحلة بعينها من الزمن الذي أدركه عياناً أو قراءة صاحب المختارات.

وقد تعلمت من مجلدات القاعة الشرقية، على نحو غير مباشر، فضل الاستشراق على التراث العربي، فقد قرأت الطبعة البريطانية من المفضليات بتحقيق لايل، ولا أذكر الدواوين التي حققها كرنكو أو غيره، وعرفت عن ما كتبه بلاشير الفرنسي عن تاريخ الأدب العربي عموماً، والمتنبي خصوصاً، فضلاً عن اكتشاف ماسينيون لنصوص الحلاج وتحقيقها، ولولا كتابه العمدة عن الحلاج ما استطاع صلاح عبدالصبور أن يكتب"مأساة الحلاج"متابعاً ما سبقه إليه أدونيس الذي أضاء معرفة الحلاج لعبد الوهاب البياتي وغيره، وكم أفدت في دراسة التراث الإسلامي من كتاب جولد تسيهر عن"العقيدة والشريعة في الإسلام"أو ما كتبه عن التفسير عموماً، ولا يزال"معجم مفردات الحديث"الذي قام به الألماني زامباور هو أهم معجم لألفاظ الحديث إلى اليوم وكيف أنسى كتاب دي بور الفرنسي عن الفلسفة الإسلامية بترجمة وتعليقات محمد عبدالهادي أبو ريدة، بل كيف أنسى أن"نقد الشعر"لقدامة بن جعفر قد عرفناه، أولاً، بفضل بونيباكر الإنكليزي، ومثله كتاب"أسرار البلاغة"لعبدالقاهر الجرجاني الذي طُبع، أولاً، في إسطنبول، وتجرني كتب البلاغة إلى"كتاب البديع"لابن المعتز الذي حققه وكشف عن أهميته المستشرق الروسي كراتشكوفسكي، ولا أنسى أن طبعات"ألف ليلة وليلة"ما كانت تصلنا لولا الجهد الاستشراقي، وينطبق الأمر نفسه على السير والملاحم ودواوين الشعراء.

القاعة الشرقية

المؤكد أن القاعة الشرقية جعلتني أدرك أننا ندين في معرفتنا بالتراث العربي إلى جهود المستشرقين، صحيح أن بعض هؤلاء المستشرقين كانوا يعملون لخدمة أهداف استعمارية، ولنشر مقولة الشرق الغريب، العجيب، الطريف، كما ذهب إدوارد سعيد في كتابه عن"الاستشراق"، متوسعاً في استخدام مبادئ ميشيل فوكو عن القوة والسلطة والهيمنة التخييلية لكن كل هذا من قبيل الاستثناء، ولا ينطبق إلا على فريق بعينه، وبعض الأقطار الاستعمارية لكن الحق أننا أفدنا من الجهود الاستشراقية في كل الأقطار الأوروبية، ومن أصالة النظر أن نفصل بين العلم والسياسة، خصوصاً حين يكون الهدف من البحث في الشرق علمياً خالصاً، ولا ينطوي على أيديولوجيا هيمنة، بل على رغبة في المعرفة والكشف، ولولا كل هذه المجلدات التي كانت متراصة على أرفف القاعة الشرقية، ما أدركت هذه الحقيقة، خصوصاً أنني أتحدث عن سنوات قريبة من السنوات التي كانت جامعة القاهرة على صلة وثيقة بدور النشر العالمية وبمراكز طبع وتوزيع كتب الاستشراق في عواصمها الغربية وكم كانت متعتي وأنا أطالع الحروف العربية المسكوكة في مطابع أوروبية، حيث يختلف رسم الخط وعلامات الترقيم، ولذلك أجد جيلي أسعد حظاً من الأجيال التي عاصرت فترات الانهيار، فأصاب القاعة الشرقية ما أصاب غيرها، ولكنني لا أزال أحلم بأن يأتي يوم تعود فيها القاعة الشرقية إلى بهائها القديم.

شيء أخير أدين به لمجلدات القاعة الشرقية، وهو تحريكها لشهوة اقتناء الكتب داخلي، فقد دفعني حبي لمجلداتها أن أشتري مثلها المتاح أو المحقق تحقيقاً جديداً، مثل دواوين أبي تمام والبحتري وأبي نواس وغيرهم، فضلاً عن المجموعات الشعرية والأدبية التي حقق منها عبدالسلام هارون، تحقيقاً حديثاً، المفضليات والأصمعيات، فضلاً عن البيان والتبيين والحيوان وغيرهما من كتب الجاحظ التي عمل على تحقيقها فكان مثالاً للمحقق العربي الحديث الذي تعلم من المستشرقين أفضل ما فيهم، وأضاف إليهم معارفه التراثية، رحمه الله، فقد درست على يديه كتابه عن علم تحقيق التراث العربي، في معهد الدراسات والبحوث التابع لجامعة الدول العربية، وذلك بعد تخرجي من الجامعة، وحصولي على منحة دراسية في هذا المعهد.

المهم أن كتب القاعة الشرقية دفعتني إلى اقتناء المحقق حديثاً منها، ولذلك عرفت طريقي، فضلاً عن مكتبات وسط البلد وسور الأزبكية، إلى مكتبات الأزهر والحسين، وأهمها مكتبة صبيح التي كانت تقع في ميدان الأزهر، ومكتبتا آل الحلبي، إن لم تخني الذاكرة، في الشوارع القديمة المحيطة بالجامع الأزهر، فضلاً عن مكتبة الخانجي في شارع عبدالعزيز وكانت النتيجة أن انضم إلى رحلة سور الأزبكية رحلة المكتبات المتخصصة في الكتب القديمة ولا تزال بعض الطبعات التي اشتريتها من هذه المكتبات تحتفظ بها مكتبتي التراثية إلى اليوم وأذكر"دار الكتب"في هذا السياق، فقد اقتنيت عدداً من مطبوعاتها للدواوين القديمة، فضلاً عن أنها كانت محطة بالغة الأهمية، تعودت الذهاب إليها، والتنقل بين قاعاتها، إلى أن انتهى بي الأمر بقاعة القومية العربية التي كانت نسخة من القاعة الشرقية، ولكنها كانت مكونة من غرفتين متصلتين الأولى تشمل المصادر والموسوعات الحديثة، وأذكر منها موسوعة البستاني، والثانية للمصادر القديمة وكانت دار الكتب تفتح في الصباح إلى ساعة الغداء، ثم تعاود العمل ابتداء من الخامسة بعد الظهر، فإذا لم ألحق الفترة الصباحية ذهبت في الفترة المسائية وكنت إذا وصلت مبكراً عن الخامسة أنتظر في مقهى مجاور لدار الكتب وما أكثر الأساتذة الذين قابلتهم في المقهى، أو قاعات دار الكتب وكانوا يرشونني بابتسامة مشجعة وفرحة لوجود طالب شغوف بالمعرفة.

وما لم أنسه، في هذه السنة الدراسية، أنني أخذت في مقاطعة الأنشطة الطلابية الحفلات، الرحلات إلخ، ولم أكن أقابل زملائي وزميلاتي إلا في الفترات القصيرة بين المحاضرات، فإذا انتهى اليوم، عدت إلى غرفتي وجلست على مكتبي، أقوم بتبييض المحاضرات أولاً، بعد الإضافة، ثم أستعيد دروس النحو مع ما بدأنا ندرسه من علوم القرآن وعلم مصطلح الحديث، فقد كان كلاهما مجالاً جديداً، عرفت منه أسباب النزول والفوارق بين الآيات والسور المكية والمدنية وغير ذلك من تفاصيل"الإتقان في علوم القرآن"ومعها أنواع الأحاديث الصحيح، والمتواتر، والمنقطع، والضعيف. وكنت أحفظ تعريف كل نوع، وسلاسل الذهب في الإسناد، وتاريخ جمع الأحاديث والفارق بين الصحاح والمسانيد وغيرها وأظل على مكتبي، منهمكاً في الدراسة التي كانت تسرقني من كل شيء، وما أكثر ما كنت أنام، بعد أن يأخذ مني الإعياء مبلغه، قرب الصباح من دون عشاء.

وكنت إذا تعب ذهني من الاستذكار أذكّر نفسي بأن هناك من يتفوق عليّ، وأنني لا أحب لنفسي أن أكون الثاني أو الثالث، فإما أن أكون الأول أو لا أكون، قياساً على مونولوج هاملت الشهير أكون أو لا أكون.

وما أكثر ما كنت أتطلع إلى جدران الغرفة الصامتة، وإلى الركن القصي حيث الكتب المتراصة في زاوية الغرفة، وكنت قد عرفت ديوان أحمد حجازي"مدينة بلا قلب"وكنت أسترجع، أحياناً، أبيات قصيدته"حلم ليلة فارغة"فكنت أنشد لنفسي:"أيتها المقاعد الصامتة/ تحركي ليلتنا جديدة / لا تشبه الليالي الفائتة / ليلتنا واسعة مضيئة / وهذه الجدران / تراجعت لنجمةٍ تدور / لريح صيف أقبلت بشهقة الزهور".

ولم يكن في الغرفــة مــقاعد صامتة أو ناطقة، فلا مقاعد سوى الذي أجلس عليه متكئاً على مكتبي، ولم تكن الليلة جديدة سوى بالحلم المتجدد بالتفوق، الحلم الذي يتسع بكل ولكل ما حولي، مقروناً بضوء الأمل الذي يشبه نجمة تدور عبر الفراغ حولي، تتخلله شهقة زهور لريح صيف تهب حتى في الشــتاء، وأمضي مع بقية أبيات القصـــيدة وأحــلم بأن زائراً ما، يقطع الطريق حاملاً بشرى نهاية الطريق، حاملاً إياها طائر أخضر المنقار، فتسري في أعماقي حماسة الثقة والأمل، وأعاود المذاكرة، حتى إن ظلت الغرفة صامتة، لا شيء فيها سوى نجوى النــفس، والـجدران والكتب والأحلام، العالم الجميل فيها كومة من سطور المحاضرات والكتب، أقضي معها الليل، واثقاً أن بعد الليل فجراً مشرقاً، وعندما تأتي الطيور في المنام، بعد إرهاق الذاكرة، أسمعها تقول لي غداً وغداً وبعد غد، يمضي الطريق الذي يدل عليه طائر التفوق أخضر المنقار.

كم أحببت هذه اللحظات، وكم أحب ذكراها، وأنا أسترجعها الآن، بعد ما يقرب من نصف قرن، وكم أفتقد عافية الشباب التي كانت تجعلني أصل النهار بالليل، وأخرج إلى الجامعة من دون نوم، وأحضر المحاضرات بذهن مفتوح، وأذهب إلى القاعة الشرقية كالمعتاد، وأعود إلى المنزل، كي أنام ساعات، أستيقظ بعدها لمواصلة المجاهدة التي تحلم بطائر التفوق أخضر المنقار ومرت الليالي الصامتة، ووصلنا إلى آخر العام، ودخلت الامتحانات بقلب واجف، وجسد هزيل، أقرأ الفاتحة في مبتدا كل امتحان، وأقرأ ورق الأسئلة، وتنهال الإجابات من دون صعوبة وسرعان ما تأتي لحظة النجاح، وأصل إلى أول سلم التفوق وأتخطى حسني وثابت، وأصبح أول دفعتي، وأعود إلى المحلة في الإجازة الصيفية، هانئاً، سعيداً، مقبّلاً الشيخ رمضان بحماسة زائدة لم يعرف سببها، حالماً بالخطوة التالية في سلم التفوق، فقد كان تقديري جيد جداً، لكنه يفصل بينه والامتياز درجات، فيصبح الامتياز هو الدرجة التالية من سلم الليالي التي تدور بنجمة الأمل، وسرعان ما تنتهي العطلة الصيفية لأعود إلى القاهرة، محتفى بي من زملائي وزميلاتي بالأخص، وتتكرر الدورة نفسها، والسهر، وانتظار الطائر أخضر المنقار، وتنتهي السنة الثالثة، وتكون النتيجة نفسها جيد جداً فيفصل بينها والامتياز درجات معدودة، وأقضي العطلة، وأعود بعدها لأواصل سهر الليالي، وأقول لنفسي صحيح صارت الأحوال المالية أفضل، بالحصول على مكافأة شهرية قدرها ستة جنيهات ونصف تقريباً وهي مبلغ لا بأس به بمقاييس عامي 1963 و1964، ولكن لا بد من لقاء الطائر أخضر المنقار، والوصول إلى تقدير ممتاز الذي لم أكف عن الحلم به ويعمل القدر في صالحي، فأنتقل منذ السنة الثالثة إلى شقة رحيبة في شارع سكة الناصر في ميدان الجيزة، أستأجرها مع زميل هندي مسلم هو محمد حياة الله، على شرط أن أذاكر له ما لا يفهمه من المحاضرات، وكان يعمل مذيعاً للغة البنغالية والأردية في قنوات الإذاعة الموجهة للهند وباكستان، وأخبرني أنه مقابل مساعدتي له علمياً، سيتولى عني أعباء طهو الطعام، وشراء كل ما نحتاج من مراجع، وأتاح لي ذلك تفرغاً أكثر وحماسة أشد، ومواصلة سهر الليالي في انتظار الطائر أخضر المنقار، وانتهينا من امتحانات السنة الرابعة، وصديقاتي وأصدقائي يضحكون من تناقص وزني اللافت، ويطلق عليّ صديق مصري، اسمه حسني، لا أعرف أين هو الآن، جملة جابر المتلاشي، لأنه كان يرى أن وزني كان يتناقص يوماً بعد يوم، وكان يمازحني قائلاً: الصراع بيني وبينك هو الصراع بين الحصول على مقبول والحصول على ممتاز.
 
أعلى