علاء مشذوب - الجسد.. سرد.. حكايات ألف ليلة وليلة (نموذجاً)

-ج 1 -

أورثنا التراث العربي الكثير من الأمثال الشعبية والأساطير والحكايات الخرافية، وقد تجسد ذلك في بعض النصوص التي وصلت إلينا، ومنها حكايات ألف ليلة وليلة، ومن العناصر الأساسية في هذا العمل السردي الكبير هو الشخصية التي يتمحور عليها باقي العناصر المكونة لشروط الحكي،
أسوة بكل الأعمال الروائية الأخرى ويعتقد (بروب) " المهم في دراسة الحكاية هو التساؤل عما تقوم به الشخصيات، أما من فعل هذا الشيء أو ذاك، وكيف فعله، فهي أسئلة لا يمكن طرحها إلا باعتبارها توابع لا غير".
وفي دراستنا هذه للموروث الشعبي التي تتجلى من خلال هذه السردية الكبرى، فأننا نسلط الضوء على الإنسان- الرجل والمرأة – من أجل معرفة كيف كان الراوي يتصور في عقله الباطن المرأة (كجسد) والذي يعكسه على القرطاس، لأننا في الجزء الثاني سندرس تصوره عن نفسه وانعكاسه على تمثله في الروايات والقصص.
وقد سبقنا الكثير ممن لهم باع طويل ودراية أكبر في دراسة القصص الخرافية في تراث شعوبهم ومن ثم وضعها على منصة التشريح وخلص الى مجموعة خصائص اعتقدها هي البنية الحقيقية التي تتمثل في كل النصوص الأدبية وفي مجمل عرض مشكلة تركيب العمل الأدبي، يذكر (بروب Propp) من خلال تحليله لمحتوى مائة قصة شعبية روسية يجد الأخير نمطاً واحداً متكرراً:
1 - ملك يعطي نسراً لأحد الأبطال، فيحمل النسر البطل الى مملكة أخرى.
2 - رجل عجوز يعطي جواداً لآخر يدعى Susenks، فيحمل الحصان سكينز الى مملكة أخرى.
3 - يعطي ساحر رجلاً يدعى Ivan قارباً، فيحمل القارب (إفان) الى مملكة أخرى.
4 - تعطي إحدى الأميرات (إيفان) خاتماً يظهر منه شبان يحملون (إيفان) الى مملكة أخرى.
توجد عناصر واضحة للقرابة في الموضوعات الأربعة، أسماء وصفات الشخصيات قد تتغير، لكن أفعالهم ووظائفهم تكاد تتطابق.أخرى".
وهو بذلك قد عمم وجهة نظره في الأدب الروسي (بما يخص القصة الشعبية الروسية) دون أن ينزح الى التخصيص والتفريق بين المرأة وكيفية التعامل معها كجسد ومثلها الرجل، ولكننا نجد أن (عبد الله محمد الغذامي) كان أكثر دقة وتصنيف في دراسته للمرأة كذات، ومن ثم المرأة – الجسد- كموضوع ونظرة الرجل الجاهلي لها في زمنه " ولكي نتصور، هذه المفارقة فلنتذكر صور الأنثى من حيث هي نماذج كلية، ولنأخذ نماذج المرأة في العصر الجاهلي: 1- الموؤدة. 2- المعشوقة. 3- الملكة. 4- الصنم المعبود. هذه أربعة نماذج كلية تقف معلقة في الفضاء اللغوي والتاريخي لثقافة العصر الجاهلي، وهي لا تنتهي مع ذلك العصر بل تستمر وتتكرر في كل العصور والثقافات عربيا وعالمياً".
وأعتقد أن هذا التعميم والإطلاق على صورة الأنثى من قبل الكاتب فيه بعض المجانبة، أو من الصعب تعميمه وبالخصوص الفقرة الأولى (الموءودة) والتي لو رجعنا الى ظروفها الاجتماعية والمعيشية نجدها أنها وجدت كظاهرة لعدة أسباب منها أن عرب الجاهلية كانت تقوم بهذا العمل إما مخافة الحاجة والإملاق، أو بسبب طبيعة حياتها في تَعرضهم للكر والفر المستمر فيما بينهم كقبائل، وما ينتج عنه من أسرى للنساء، وما يفرزه من العار عليهم، أو البعض منهم يقول إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به، وهناك حكاية في الجاهلية عن الموءودة مفادها: أن رجلاً منهم في أول الأمر غزاه أعداء له، فأسروا أهله، وكان من ضمن الأسر ابنة له، هذه الفتاة بعد أن استطاع أبوها أن يصطلح مع أعدائه خيرت ما بين أبيها وما بين آسرها، الذي قيل: إنه تزوجها. فلما تزوجها هذا الرجل وخيرت ما بينه وهو آسر لها في الأصل وما بين أبيها، اختارت زوجها الآسر، فأعقب ذلك حنقاً في قلب أبيها، فأقسم ألا تلد له ابنة إلا ذبحها وهي حية، هذا فيما يزعمون أنه أصل الوأد في العرب، فتبعته العرب على ذلك.
وبالعموم فإن البيئة التي كان يعيش فيها العرب هي بيئة قاسية – صحراء – وهي تحتاج للرجال أكثر من النساء، وهذا لا يعني الاستغناء عن النساء، مهما كان نوع النظرة التي ينظر بها الرجل للمرأة، لسبب بسيط هو كيف يمكن لهم أن يتوالدوا ويتكاثروا، إضافة الى وجود طبقة من أشراف ونبلاء قريش، مع الطبقة المتوسطة، ومن ثم البسيطة، وهي طبيعية أسوة بكل طبقات المجتمع، وهكذا ينعكس إيجابا على النساء.
وقد جاء ذكر ذلك في القرآن الكريم {وَإِذَا الْمَؤودةُ سُئِلَتْ 8 بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ 9}، وكذلك في سورة أخرى { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ 57 وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ 58 يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ 59}.
وأعتقد أن القرآن الكريم سلط الضوء على شذرات عند العرب كنماذج، في الوقت الذي نزل فيه على صدر النبي الكريم، وبالتالي فأن من الصعب تعميم ذلك على كل العرب بقبائله المنتشرة في ربوع الجزيرة العربية، وبالتالي فمن الصعب اعتبارها أيضاً حالة كلية، تمتد بجذورها في كل أنحاء العالم حتى يومنا هذا، كما يصفها الأستاذ عبد الله محمد الغذامي. وربما النموذج الثاني – المعشوقة – هو أقرب للتعميم منه الى التشخيص لأننا نجده في مختلف الثقافات العالمية، ابتداء من العرب كما في (قيس وليلى، وجميل بثينة، وكثير عزة..الخ) وصولا الى بعض النماذج الغربية مثل (روميو وجوليت، عطيل ودزدمونة..الخ).
ومثلها نموذج الملكة، وهو أيضا ينفع كنموذج يرقى للكلية منه للفردية، كما في الملكة سبأ، أو الملكات في العصور الفرعونية، أما الصنم المعبود، الذي تمثل عند العرب في الآلهة (بمناة والعزى واللات) فأعتقد أنهم كآلهة أن وجدوا في عصر الجاهلية فمن الصعب وجودهن الآن في عصر الماديات، حتى لو كان البعض ينزح الى الروحانيات، ولكنه من الصعب اليوم تصور الإنسان الحضري أن يتجه الى الأصنام المادية قدر توجهه الى الميتافيزيقا.
فنحن عندما نتكلم عن المرأة- الجسد الأنثوي- فلسنا نقصد من وراءه التعميم، ولكن تسليط الضوء على نماذج سردية – ألف ليلة وليلة نموذجاً"- أختارها التراث ونحن نضعها على منصة التشريح لنقوم بفرزها وتصنيفها، ومن ثم نعرف كيف صنف العقل الذكوري التراثي المرأة وتعامل معها وسردها من خلال هذه الملحمة السردية التراثية الكبيرة:
1- الملكة زوجة (شاه زمان) تخونه مع خادمها (عبد أسود).
2- الملكة زوجة (شهريار) تخونه مع (مسعود وهو عبد أسود) وجواريها مع عبيد القصر.
القاعدة الأساسية التي تقوم عليها حكاية ألف ليلة وليلة بكل قصصها وأساطيرها هي: اكتشاف الملك (شهريار) خيانة زوجته مع عبد أسود فيقتلهما، ويقررا هو وأخيه أن يهجرا المُلك والمدينة، فيخرجا للصحراء ليلتقيا مع صبية قالت لهما: أن هذا العفريت قد اختطفني ليلة عرسي ثم أنه وضعني في علبة وجعل العلبة داخل الصندوق ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلني في قاع البحر العجاج المتلاطم بالأمواج ولم يعلم إن المرأة منا إذا أرادت أمراً لم يغلبها شيء. ومن ثم يأخذ على نفسه عهد بأن يتزوج في كل ليلة فتاة باكر ليقتلها في الصباح لتدوم هذه العملية لثلاث سنوات حتى تخلو المدينة من الفتيات، عندها تتبرع ابنة وزيره – شهرزاد- بأن تكون زوجته الأخيرة لهذه الليلة، وعندما قضى حاجته منها، جاءت أختها الصغيرة- دنيا زاد- وطلبت منها أن تحدثها حديثاً غريباً يقطعوا به السهر.
تستعرض لنا حكايات ألف ليلة وليلة المئات من النماذج النسائية التي في عمومها تهتدي بنمط واحد هو استحواذها على الرجل، دون أن تكون لها غاية أخرى غيره، لذلك نجدها تعمل جاهدةً على تسخير الجن والأنس من أجل رغباتها وتحقيق مآربها، وفي أغلب الحكايات يكون الزواج بين الصبية وأبن عمها، ولأن الحكايات مغمسة بالسحر والشعوذة والخرافة والجن، نراها تُمسخ الى عد أشكال من الحيوانات الأليفة، نتيجة لأعمالها الشريرة، أو قد تتخذ عدة صفات سيئة، أو قد تكون الضحية "ان المشروع الشكلاني لكتاب موروفولوجيا الحكاية يسمح بالتحليل البنيوي بتقسيمه للحكايات بحسب أجزائها المكونة بعقد مقارنات مبررة، وخلافاً للتقليد الفلكلوري لا يخلط (بروب) بين موضوعات الدراسة والمضامين أي المعطيات السردية المدروسة، كما نجد في حكايات ألف ليلة وليلة، أن شخصياتها تتحرك في حيز روائي عجائبي ويقصد به خروجه على المألوف, لأن الخيال الشعبي الحاكم فيها له القدرة على إنشاء هذا الحيز وإعطائه أسماء عجائبية يصف أماكن بجغرافيا سحرية تتصف بالعجائبية"، ويمكننا حسب تحليلنا لمحتوى الكثير من القصص والتي ظهرت بها المرأة بعدة أشكال نورد البعض منها وهي:
1- المرأة الحكيمة (شهرزاد) العفيفة النقية الحرة التقية.
2- المرأة المسخ الى غزالة، كلبة، بغلة، بقرة...الخ.
3- المرأة الخائنة، الزانية، اللعوب، الحاقدة، الساحرة، الخبيثة، الملبوسة، العجوز الشريرة، العنيدة السادية، النمامة، المحتالة، المأخوذة سفاحاً، القوادة...الكاهنة.
4- البريئة المقتولة، الساحرة الصالحة، الجارية الجميلة، الزوجة الحميمية، الحبيبة المخلصة، الحكيمة..الخ.
كما ويلاحظ أن أغلب الحكايات التي كانت تُقص فيما يخص خيانة الزوجة لزوجها – أبن عمها – تتم مع العبد الأسود الخادم في البيت، وفي هذا إشارة واضحة على أن العبد الأسود هو أكثر ذكورية من الرجل الأبيض – كما تعتقد النساء – وهذا خطأ شاع بينهن، والباقي مع رجال آخرين لغرض الخيانة فقط.
هناك ثلاثة عوامل ظلت قائمة على طول الألف ليلة وليلة، الفعل الأول هو عزم الملك (شهريار) على فعل القتل لكل صبية يأخذ وجهها ليلاً ليقتلها عند الصباح، ولكنه لن يتحقق مع (شهرزاد) على مدار ألف ليلة وليلة بعد أن خلفت منه ثلاثة أولاد ذكور، واحد منهم يمشي وواحد يحبي وواحد يرضع، حينما قال: يا شهرزاد والله أني قد عفوت عنك من قبل مجيء هؤلاء الأولاد لكوني رأيتك عفيفة نقية حرة تقية. والفعل الثاني هو الذي يطلع به أباه الوزير على عادته بالكفن تحت أبطه، كل صباح لتوقعه مقتل أبنته (شهرزاد) ولكنه لم يتحقق طوال ألف ليلة وليلة. والفعل الثالث هو فعل السرد الذي تقوم به (شهرزاد) على مدار ألف ليلة وليلة، وهي تحدث زوجها الملك (شهريار) عن الغرائب والعجائب التي حدثت في الأزمنة الغابرة، بعد أن جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم السالفة والملوك الخالية والشعراء. والذي أخذ شكل التضمين " الذي ينشأ بدافع البرهنة على أمر أو فكرة ما، أو بدافع الرغبة في تأجيل نهاية القصة، كما هو الأمر في قصص (ألف ليلة وليلة) الذي ينشأ التضمين فيها بدافع من رغبة (شهرزاد) في الإفلات من مصير بنات جنسها، عن طريق تأجيل نهاية القصة".
تُعامل المرأة في ألف ليلة وليلة على أنها جسد خُلق للمتعة، وبأنها ليست ضعيفة، ولا يمكن لرغبتها من أن تقف عند حد معين مهما أحاطت بها من ظروف صعبة، إلا عند تحقيقها، وتورد لنا (شهرزاد) في أول حكاياتها عن امرأة مخطوفة من قبل الجن حينما رأى الملك (شهريار) وأخيه وقد هاج البحر وطلع منه عامود أسود صاعد الى السماء وإذ: بجني طويل القامة عريض الهامة واسع الصدر والقامة على رأسه صندوق فطلع الى البر وأتى الشجرة التي هما فوقها (شاه زمان وشهريار) وجلس تحتها وفتح الصندوق وأخرج منه علبة ثم فتحها فخرجت صبية غراء بهية كأنها شمس مضيئة، فلما نظر إليها الجني قال: يا سيدة الحرائر التي قد اختطفتها ليلة عرسها أريد أن أنام قليلا، ثم أن الجني وضع رأسه على ركبتها ونام، فرفعت الصبية رأسها الى أعلى فرأت الملكين وهما فوق تلك الشجرة فرفعت رأس الجني من فوق ركبتها ووضعتها على الأرض ووقفت تحت الشجرة وقالت لهما بالإشارة: انزلا ولا تخافا... ثم قالت: أرصعا رصعا عنيفاً وإلا أنبه لكما العفريت...فمن خوفهما من الجني فعلا ما أمرتهما به فلما فرغا قالت لهما: أفيقا وأخرجت لهما من جيبها كيساً وأخرجت لهما منه عقداً فيه خمسمائة وسبعون خاتماً..ثم قالت أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي ما آمرهم به على غفلة قرن هذا العفريت فأعطياني خاتميكما...ثم قالت لهما: أن هذا العفريت قد اختطفني ليلة عرسي ثم أنه وضعني في علبة وجعل العلبة داخل الصندوق ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلني في قاع البحر العجاج المتلاطم بالأمواج ولم يعلم إن المرأة منا إذا أرادت أمراً لم يغلبها شيء". لتورد لنا في الليلة الأخيرة بعد الألف عن عجوز شمطاء بصورة شوهاء وسحنة معطاء أقبح من الحية الرقطاء، عن فعلها القبيح في عزمها قتل زوجها الذي أعزها وأكرمها بعد أن كانت سائبة في الشوارع دون كسرة خبز، أو مكان تنام فيه.

من كتاب الجسد...صورة...سرد

* جريدة تاتوو



.../...
 
علاء مشذوب - الجسد.. سرد.. حكايات ألف ليلة وليلة (نموذجاً)

-ج 2 -

كنا في العدد (54) السابق، قد وصلنا الى الليلة الأخيرة بعد الألف، وإن المرأة إذا أرادت شيئاً لم يغلبها أحد، وكيف ان لتلك الحكايات - حكايات ألف ليلة وليلة - قد وظفت المرأة والرجل كسرد وصفي، ومن ثم تقسيم النساء بين صالحة وطالحة، وسمة السحر الطاغية على النص السردي.
والاختلاف الذي ورد مع المفكر العربي (عبد الله محمد الغذامي).
فـ"أن الملك معروف صار لا يعتني بزوجته من أجل النكاح وإنما كان يطعمها احتساباً لوجه الله تعالى فلما رأته ممتنعاً عن وصالها ومشتغلا بغيرها بغضته وغلبت عليها الغيرة ووسوس لها إبليس أنها تأخذ خاتمه وتقتله وتكون ملكة مكانه...فلما خرجت كان ابن الملك..قد دخل بيت الراحة...رآها مجتهدة في المشي الى جهة قصر أبيه...رآها وهي تفتش..على الخاتم..حتى لقيته فقالت هاهو التقطته وأرادت أن تخرج.. فرفع بيده السيف وضربها على عنقها فزعقت زعقة واحدة ثم وقعت مقتولة". وبين أول حكاية عن المرأة المخطوفة في ليلة عرسها من قبل الجني، حتى أصبحت زانية مع خمسمائة وسبعون رجلاً، وآخر حكاية عن المرأة الحقودة التي أصرت على قتل زوجها الملك، ولكن أبن ضرتها قتلها، تتخذ المرأة عدة أشكال وألوان من المكر والخداع من أجل الوصول الى غايتها وهو الاستحواذ على الرجل.
وبالرغم من النماذج التي نحاول أن ندرسها هي نماذج روائية، هي من نسج الخيال البحت وليست من الحياة الواقعية بشيء، إلا أن في بعض أوجهها تنطبق على النماذج النسائية الموجودة في الحياة، لكن السؤال الذي يمكن أن يُطرح على منصة البحث والتشريح، هل أن مخيال السرد في هذه السردية الكبرى لألف ليلة وليلة، كان نتاج مخيال سردي صرف، أم كان من الواقع والتجارب كجزء أصيل في بلورة أكثر حكاياته، بمعنى اشتراك الخيال والواقع في بلورة أكثر النماذج الحكائية.
ولماذا جُعلت المرأة هي البطل وهي السارد في الوقت ذاته لأغلب النصوص الحكائية، ولماذا أظهرت الرجل مظلوم في أغلب أشكاله، كملك ووزير وتاجر وغيرها، هل لأن الرجل أراد الانتصار لنفسه من المرأة من خلال تلك النصوص، بعد أن غلبته في الحياة الواقعية، وبذلك تريد امتصاص غضب زوجها (شهريار)، أم أن المرأة كانت هي الأكثر حظوة، وبالتالي أنعكس ذلك جليا على تصرفاتها، فأخذت زمام السرد (الراوي) والتصدي للرجل لحماية بنات جنسها بعد أن انكشفت حقيقتهن، والتي كانت فيها النموذج السيئ، أم أنها كانت على قدم المساواة في الحياة اليومية مع الرجل، فأخذت هي جانب السرد باعتبارها تمتلك خاصية الحكي تلك الصفة التي ورثتها المرأة (الجدة) من سلفها، وفي الوقت نفسه أظهرت مظلومية الرجل.
فحكايات ألف ليلة وليلة التي تمت على لسان راوٍ (امرأة) تخالف فيما ذهب إليه الأستاذ عبد الله محمد الغذامي عندما بنا فكرته على أن النماذج التي اعتبرها كلية تنزح نحو الصمت، هي من صنع الرجل تاريخاً ولغةً، وأن ثقافة السرد والحوار منوطا به، وبأن مجرد تصديها لذلك، فأنها ستفقد أنوثتها الذي ينعكس سلباً على جسدها" ومن هنا فإن كل ما نتلقاه من أدب وتراث عن المرأة هو من ناتج هذه الصورة الخرساء لذلك الجسد النائي...ممن لم نسمع لهن صوتاً ولم نتصور وجودهن الفاعل لأن اللغة لم تردهن للكلام، وإنما أرادت سكوتهن وتعليقهن في سماء الخيال المجنح"
من كل تلك التساؤلات أرادت (شهرزاد) القول أن المرأة غير الجيدة، هي التي ستصاب أما بالمسخ كما في المرأة الغزالة، جراء الغيرة كما في إحدى حكايات الواردة في(النص) تلك التي مسخت ضرتها الى بقرة وأبنها الى عجل، والتي تشبه عجل اليهود ذا خوار، فعندما ذبحت البقرة في عيد الضحية لم يجد فيها شحما ولا لحماً غير جلد وعظم وهي زوجته ابنة عمه. أو المرأة الشريرة التي مسخت زوجها الى كلب بعد أن رآها مع عبدا أسود في فراشها، والتي تُمسَخ فيما بعد الى بغلة.
أو أنها ستكون معاقبة نتيجة أفعالها المسيئة ونواياها المبيتة، وتورد ذلك على لسان جاريتان نمامتان وزوجة سحارة التي هي ابنة عم الملك، حيث يقول الملك لم يأخذني نوم غير أن عيني مغمضة ونفسي يقظانة فسمعت التي عند رأسي تقول للتي عند رجلي يا مسعودة سيدنا مسكين شبابه ويا خسارته مع سيدتنا الخبيثة الخاطئة فقالت الأخرى لعن الله النساء الزانيات... كل ليلة تبيت في غير فراشه..تعمل له عملا في قدح شراب..كل ليلة قبل المنام فتضع فيه البنج فينام.. تلبس ثيابها وتخرج من عنده فتغيب الى الفجر وتأتي إليه وتبخره عند أنفه بشيء فيستيقظ من منامه.
أو الأخت الخبيثة التي تحب أخاها، والتي نهاها والدها عن ذلك الفحل الفاحش، فذهبت معه الى سرداب لتمارس الجنس معه، فاستحالا الى فحماً أسود، أو العجوز الشريرة، التي توصفها بأنها عجوز بوجه مسعوط وحاجب ممعوط وعيونها مفجرة وأسنانها مكسرة، ووجه أغبش، ولحظ أعمش، ورأس أغبر، وشعر أشهب، وجسم أجرب، وقد مائل، ولون حائل، ومخاطها سائل وعنقها مائل كما قال فيها الشاعر:
عجوز النحس إبليس يراها تعلمه الخديعة من سكوت
تقود عن السياسة ألف بغل إذا نفروا بخيط العنكبوت
والزوجة العنيدة (قهرمانة) التي قطعت أبهام أطراف زوجها والتي تورد الحكاية على لسان الضحية بقوله: نزلت على الزرباجة وأكلت منها ومسحت يدي ونسيت أن أغسلها..فلما خلوت بها في الفراش وعانقتها..شمت الرائحة..ثم تناولت من جانبها سوطاً ونزلت به على ظهري ثم على مقاعدي حتى غبت عن الوجود..ثم صاحت على الجواري فكتفوني وأخذت موسى ماضياً وقطعت إبهامي يدي وإبهامي رجلي.
والمرأة اللعوب التي اتفقت هي وزوجها على استعمال أحد الرجال ممن يعمل في الخياطة بلا أجرة قبل أن يضحكون عليه..ثم قالت دعني أحتال عليه بحيلة وأفضحه فضيحة يشتهر بها في المدينة وأخي لا يعلم شيئا من كيد النساء فلما أقبل المساء جاءت الجارية إلى أخي وأخذته ورجعت به إلى سيدتها..فقال لها عجلي بقبلة قبل كل شيء فلم يتم كلامه إلا وقد حضر زوج الصبية من بيت جاره فقبض على أخي..فضربه بالسياط وأركبه جملا ودوره في شوارع المدينة..وقع من فوق الجمل فانكسرت رجله فصار أعرج ثم نفاه الوالي من المدينة.ومثلها العجوز والبنات الأربعة اللعوبات.
والصبية القوادة والتي أتت بأختها لعشيقها، وتورد الحكاية على لسان الرجل بقوله: وإذا بصبية أقبلت علي وهي لابسة أفخر الملابس ما رأت عيني أفخر منها..فتمكن حبها من قلبي..وأكلنا ولعبنا وبعد اللعب شربنا حتى سكرنا ثم نمت معها في أطيب ليلة الى الصباح..ثم قالت يا حبيبي انتظرني بعد ثلاثة أيام وقت المغرب..ثم أكلنا وشربنا ونمنا.. فقالت هل تأذن لي أن أجيء معي بصبية أحسن مني وأصغر سناً مني حتى تلعب معنا ونضحك وإياها..استقبلتهما بالفرح والسرور..كشفت الصبية الجديدة عن وجهها فرأيتها كالبدر.. وصرت أقبل الصبية الجديدة وأملأ لها القدح وأشرب معها فغارت الصبية الأولى في الباطن..ثم قالت : خاطري أن تنام معها قلت على رأسي وعيني..ثم نمت مع الصبية..فلما أصبحت وجدت يدي ملوثة بدم..فنبهت الصبية فتدحرجت رأسها عن بدنها..جردوني من ثيابي وضربوني بالمقارع على جميع بدني..وقلت في نفسي أن أقول أنا سرقته ولا أقول أن صاحبته مقتولة..قطعوا يدي وقلوها في الزيت فغشي علي...قال أعلم يا ولدي أن الصبية الكبيرة بنتي وكنت أحجر عليها فلما بلغت أرسلتها الى ولد عمها بمصر..وقد تعلمت العهر..وجاءتك بأختها الصغيرة.
أو العجوز المحتالة (العاهرة الشاطرة) التي دخلت مخدعها وخرجت للسلطان بكأس مختوم وناولته له وقالت: إذا كان يوم الثلاثين فأدخل الحمام ثم أخرج منه وأدخل خلوة من الخلاوي..وأشرب هذا الكأس ونم فقد نلت ما تطلب..ونحن قاعدون في انتظاره في آخر النهار فلم يخرج من الخلوة..فانتظرناه ثاني يوم فلم يخرج...فخلعنا الباب..فوجدناه قد تمزق لحمه وتفتت عظمه.
وفي المقابل فإنها تورد نماذج عن المرأة الصالحة والمضحية من أجل الحق ومحاربة الظلم، وأن ألبستها حلت السحر لتعطيها القوة في مواجهة الشر المتمثل بالعفريت أو الشيطان، إضافة الى إعطاءها صفة ابنة ملك، وهي تقول عن المرأة الساحرة الصالحة التي هي بنت ملك في مواجهتها للعفريت، الذي قال وهو في صورة أسد يا خائنة كيف خنت اليمين أما تحالفنا على أنه لا يعترض أحد الآخر فقالت له يا لعين من أين لك بيمين فقال العفريت خذي ما جاءك ثم انقلبت أسداً وفتح فاه وهجم على الصبية فأسرعت وأخذت شعرة من شعرها بيدها وهمهمت بشفتيها فصارت الشعرة سيفاً ماضياً وضربت ذلك الأسد فصار نصفين فصارت رأسه عقرباً وانقلبت الصبية حية عظيمة وهمت على هذا العين وهو بصفة عقرب فتقاتلا قتالا شديداً ثم أنقلب العقرب عقاباً فأنقلب الحية نسراً..ثم أنقلب العقاب قطاً أسود فانقلبت الصبية ذئباً.. وتقاتلا قتالا شديداً فرأى ذلك القط نفسه مغلوباً وصار رمانة حمراء كبيرة ووقعت تلك الرمانة في بركة فقصدها الذئب فارتفعت في الهواء ووقعت في بلاط القصر فانكسرت وانتثر الحب فأنقلب الذئب ديكاً لأجل أن يلتقط ذلك الحب..فأنقض عليها ليلتقطها وإذا بالحبة سقطت في وسط الماء.. فصارت سمكة وقد غاصت بالماء فأنقلب الديك حوتا كبيراً..طلع العفريت وهو شعلة نار.. وانقلبت الصبية لجة نار.. أحرقت العفريت فنظرنا إليها فرأيناه قد صار كوم رماد.
أو في دفاعها عن الفتاة البريئة المقتولة التي تروي حكايتها بالقول وجدت في صندوق مقفول ثقيل الوزن، كسروا الصندوق فوجدوا فيه قفة خوص مخيطة بخيط أحمر فقطعوا الخياطة فرأوا فيها قطعة بساط فرفعوها فوجدوا تحتها إزار فرفعوا الإزار فوجدوا صبية كأنها سبيكة فضة مقتولة ومقطعة. قتلها زوجها أبن عمها، بعد حادثة شك لتفاحة جلبها من البصرة ووجدها عند عبد أسود، وبعدها أكتشف أن أبنه قد أخذها من أمه خلسة ومن ثم وقعت منه بالشارع وأخذها العبد الأسود بعد أن عرف مصدرها وصادف أن لقي زوجها بالطريقة وعندما سأله الثاني عن مصدر تفاحة قص له قصة المرأة المريضة التي ذهب زوجها للبصرة من أجل جلبها وأعطيته إياه، عندها تأكد أن زوجته تخونه فقتلها.
وكذلك الفتاة المخطوفة في ليلة عرسها على أبن عمها من قبل العفريت جرجيس بن رحموس بن إبليس، والتي ينقذها الحطاب الذي هو في الأصل أبن ملك. والمرأة الملبوسة من قبل الجن، والتي يفك لبسها الرجل المحسود عن طريق قط أسود في آخر ذيله نقطة بيضاء بقدر الدرهم، فلو أخذ منها سبع شعرات من الشعر الأبيض وبخرها بها، نجت من المارد ولا يعود إليها أبداً، وتبرأ لوقتها.
والنموذج الأكثر نصاعة هو الذي تجلى في الزوجة الحميمة: التي عنها يقول النصراني لم أشعر إلا والصبية قد أقبلت وعليها تاج مكلل بالدر ووضعتني على صدرها وجعلت فمها على فمي وجعلت تمص لساني وأنا كذلك...أخذنا نلعب ونتهارش مع العناق والتقبيل إلى أن أقبل الليل..فشربنا إلى نصف الليل ونمنا..فقالت لي وهل بلغت محبتك إياي إلى أن صرفت جميع مالك علي وعدمت كفك فأشهدك على والشاهد الله إني لا أفارقك وسترى صحة قولي ولعل الله استجاب دعوتي بزواجك وأرسلت تطلب الشهود فحضروا فقالت لهم أكتبوا كتابي..وأشهدوا أني قبضت المهر فكتبوا كتابي عليها ثم قالت أشهدوا أن جميع مالي الذي في هذا الصندوق وجميع ما عندي من المماليك والجواري لهذا الشاب فشهدوا عليها وقبلت أنا التمليك وانصرفوا.
ولم تنفك الراوية تورد لزوجها (شهريار) وفي الحقيقة هي تورد للقارئ نماذج مختلفة للمرأة كجزء من المجتمع، ولكن فكرها محصور بفكر الاستحواذ والسيطرة على الرجل، بمختلف أشكالها وتصرفاتها.
وهي بذلك تتكلم بصفة راوٍ عليم بكل شيء، لكنها تتلاعب بطريقة السرد، فمرة تورد السرد على لسانها، ومرة على لسان أحد الشخصيات الرئيسة في الحكاية، سواء أكانت رجل أم امرأة ولكنها تدور أغلب الأحيان في محور واحد، هو إنقاذ الرجل من براثن المرأة ومخططاتها، بطريقة الحكواتي، وبلازمة ملازمة نصها: بلغني أيها الملك السعيد...
أن طريقة السرد الحديثة قسمها توماشفسكي الى قسمين: المتن الحكائي الذي يقول عنه" مجموعة الأحداث المتصلة فيما بينها، والتي يقع إخبارنا بها خلال العمل... وفي مقابله يوجد المبنى الحكائي الذي يتألف من نفس الأحداث، بيد أنه يراعي نظام ظهورها في العمل". وهي تكاد لا تختلف عن طريق السرد الكلاسيكية في كونها أيضاً مجموعة من الأحداث المتصلة فيما بينها، وما يؤجل استمرار إخبارنا بها هو صياح الديك ليعلن صباح موت مؤجل حتى ليل اليوم التالي، مع نفس المبنى الحكائي التي يتألف من نفس الأحداث، والذي يراعي نظام سرد تلك الأحداث المتوالية، التي لو فقدت حلقة منها، لفقدت الراوية معها حياتها، لذلك فهي مع مراعاتها لاستمرار حياتها أطول فترة ممكنة، فأنها تراعي مع ذلك الطريقة التي تظهر فيها أحداث الحكايات.
لكن الراوية في سردها المستمرة للحكايات ومع تلون المرأة ومواقفها، وتلون طريقة السرد وأساليبها، فأنها لم تظهر المرأة أكثر من كونها، عبارة عن شهوة، إن أرادت رجل فعلت المستحيل من أجل الوصول إليه، وإن أرادت أن تخلص نفسها من الرجل كجسد، فعلت المستحيل من أجل الخلاص منه، فأننا لم نجد في أغلب حكاياتها تصف المرأة بكونها حكيمة وعاقلة، قدر ما تسلط الضوء على جسدها وعلى سبيل المثال فهي تقول في وصفها لأحدى فتيات حكايتها: جارية رشيقة القد قاعدة النهد بطرف كحيل وخد أسيل وخصر نحيل وردف ثقيل وعليها أحسن ما يكون من الثياب ورضابها أحلى من الجلاب وقامتها تفضح غصون البان وكلامها أرق من النسيم إذا مر على زهر البستان. وكذلك في وصفها لأخرى: كالبدر بين الكواكب عليها ديباج ملوكي وفي وسطها زنار مرصع بأنواع الجواهر وقد ضم خصرها وأبرز ردفها فصارا كأنهما كثيب بلور تحت قضيب من فضة ونهداها كفحلي رمان.
لتصل بنا الراوية في ختام حكاياتها الموسومة تحت عنوان (ألف ليلة وليلة) الى انتصار المرأة كأنثى وكجسد على الملك (شهريار) عندما استطاعت أن تعود به الى طبيعته البشرية، في تعامله معها كصنو له تمتلك من الندية ما يؤهلها لأن تكون مزدوجة الإمكانية كذات وموضوع في الوقت نفسه.

من كتاب الجسد... صورة... سرد

* جريدة تاتوو

علاء مشذوب - الجسد.. سرد.. حكايات ألف ليلة وليلة (نموذجاً)
 
أعلى