جهاد فاضل - قراءة مغربية مختلفة لألف ليلة وليلة

- الليالي تضم مدداً لا يُحصى من المخطوطات والطبعات والترجمات
- سيظل هناك نصّ آخر من الليالي قابلاً للكشف والقراءة
- ألف ليلة وليلة ما يزال ملهما ودراسة كيليطو من أجود ما كُتب عنه
- الليالي كتاب متوغل في الحداثة وإن كان تاريخه يعود إلى القرون الوسطى
- شهرزاد كانت تمتلك ورقة رابحة وهى فن الحكي والجمال الفائق

لا فائدة من البحث وراء كاتب الليالي فالكتاب يهتم أساسا بالحكي

قيل إنه ليس بوسع أي أحد قراءة ألف ليلة وليلة من أولها إلى آخرها دون أن يموت، ربما توجد وراء هذا التطيّر معاينة عامة تتعلق بأن لا أحد يتوفر على الأناة الكافية لقراءة الكتاب برمّته، إلا أن هناك أيضاً الاعتقاد بأنه لا يجب أن يُقرأ ربما لأنه كان يُعتبر عديم الجدوى، وبطبيعة الحال يمكن للمرء أن يقرأ جزءاً منه دون خوف، وإلا لكان جميع الذين قرأوا شيئاً من «الليالي» أي جميع قرّاء الأرض، في عداد الموتى الآن، غير أن القراءة الكاملة لا يمكن أن تؤدي سوى إلى الهلاك.

ولكن على المرء أن يطمئن، فهو لن يموت بسبب «الليالي»، لكونه لن يتمكن، حتى وإن رغب في ذلك، من إتمام هذا الكتاب المتشظي الذي يُعتبر متناً يضمّ مدداً لا يُحصى من المخطوطات والطبعات والترجمات والإضافات والشروح والكتابات المعادة، وسيظل هناك أبداً نصّ آخر من «الليالي» قابلاً للكشف والقراءة، أما الإدانة المتطيرة فإنها تتلاشى داخل تعرجات كتاب يُعّد بحق كتاباً لا نهائياً.

الدكتور عبد الفتاح كيليطو الباحث المغربي الكبير، قرأ «الليالي» كاملة وما زال بخير. بل إنه قرأها وعاد منها بدراسة عنها تُعتبر من أجود ما كُتب عن هذا الكتاب الفريد الذي يُعتبر بحق من أجلّ الكتب التي أطلعتها الحضارة العربية الإسلامية في العصر الوسيط. الفرس يعتبرون أن «الليالي» صناعة فارسية، والعرب يقولون بدورهم إنها عربية وإنه لا يمكن فصل مناخاتها عن مناخات بغداد والقاهرة وبقية مرابض الحضارة العربية الإسلامية.

كتاب مذهل

الأكيد أن الزمن لن يمرّ على هذا الكتاب الجميل، الذي ما يزال يلهم الفنانين والروائيين والقصاصين والشعراء في العالم إلى اليوم. وقد أذهل الكتاب الغربيين كما أذهل الشرقيين. وإذا كانت نسبته إلى كاتب بعينه، أو كتّاب بعينهم، متعذرة أو مستحيلة بسبب مجهولية هذا الكاتب أو هؤلاء الكتّاب، فإن من الممكن نسبته إلى كتّاب «شعبيين» إن جاز التعبير تمثلوا، أو أبدعوا، أو جمعوا، أو استنبطوا حكايات شديدة المتعة والمؤانسة، كُتبت بلغة هي وسط بين الفصحى والعامية، وبأساليب وطرائق ما زال كتّاب اليوم يستلهمونها، وكأن كتّابها الذين كتبوها كانوا على دراية فائقة بفنّ القص أو السرد. «فالليالي» إذن، كتاب حديث، متوغل في الحداثة، وإن كان تاريخه يعود إلى القرون الوسطى.

الإطار العام «لليالي» معروف: ثمة أخوان شقيقان ملكان هما شاه زوان وشهريار. يباغت الأول زوجته وهي مع عبد أسود، فيقتل العشيقين معاً غير أنه لا يقلع عن تعذيب نفسه بعد مرحلة قصيرة من الغمّ والكرب (يتمكن بنوع من الحكمة أن يتغلب على حزنه عندما يكتشف أن شقيقه البكر أكثر تعاسة منه).

شهريار يتخذ قراراً غريباً وشنيعاً معاً يقضي بأن يقوم كل صباح بضرب عنق المرأة التي يكون قد تزوجها ليلاً. وخلال ثلاث سنوات يقتل ما يربو على ألف امرأة إلى أن يتبين ذات يوم للوزير المكلف بأن يقدّم له الضحايا أنه لم تعد هناك فتاة في جميع أرجاء البلاد!.

وتتمة الحكاية معروفة: ستنجح شهرزاد، بنت الوزير، في تخليص الملك من جنونه، وذلك بروايتها لحكايات ذات قوة علاجية، وهكذا تتمكن من خلال وضعه في حالة تنبّه طيلة ثلاث سنوات تقريباً من شفاء ضغينته وحقده، وبالتالي تتمكن من إنقاذ البشرية!

تملك شهرزاد ورقة رابحة على درجة عالية من الأهمية: فن الحكي.

طريقة رواية الحكايات

لا تكفي معرفة الحكايات، بل يجب إضافة إلى ذلك معرفة طريقة روايتها وأيضاً التمكن من إغراء المستمع بالإنصات إليها. ثم أن شهرزاد، بالإضافة إلى ذلك، تتوفر على جمال فائق. ومما يزيد في فعالية السرد أن يكون الذي يقوم به لطيف المنظر والمسمع. وهكذا تتزايد المتعة التي توفرها الحكاية بتزايد تأمل الوجه الجميل، زد على هذا أن شهرزاد لا تحكي أي شيء كان. إنها تحرص على أن تدرج حكاياتها ضمن مقولة الخارق، إذ لا مناص من أن تكون الحكاية عجيبة وغريبة، وإلا فإنها لا تكون جديرة بأن تُروى. يجب أن يتأكد المستمع من أنه ينجز ذهنياً المسافة التي يقطعها البطل من العالم المألوف إلى العالم الغريب. يحدث هذا الاستعداد الخاص منذ اللحظة التي يتم فيها تقديم الحكاية باعتبارها مدهشة ومذهلة. وأخيراً تخلق شهرزاد إحساساً من الانتظار القلق، إذ إن نهاية الحكاية لا تتطابق مع نهاية الليلة. وهكذا على الملك أن يترقب كل فجر استكمال الشمس لمسيرتها اليومية. وما أن تنتهي الحكاية حتى تبدأ أخرى جديدة بوصفها أكثر جمالاً وعجائبية من سابقتها. هكذا تمنح شهرزاد نفسها في الوقت الذي تتهرب فيه، تعد بالمتعة ثم تؤجلها.

وكلما أشبعت رغبة أثارت أخرى محملة بالذكرى الزاهية للرغائب السابقة!.

من الذي كتبها؟

ثمة سؤال يثور: من ذا الذي ابتكر الحكايات التي ترويها؟

ولكنه سؤال لا فائدة منه وغير وجيه، إذ يمليه فضول غريب عن كتّاب «الليالي» الذي لا يهتم سوى عملية الرواية. لا يتم الحديث في أي لحظة عن أصل الحكايات، كأنها دائماً معروفة ومروية. إنها تروى فقط ولا تبتكر، إذ هي موجودة دوماً.

بل لقد كانت موجودة على الدوام، متدلية مثل فواكه يانعة من شجرة أزلية يكفي أن يمدّ المرء يده لقطفها. ويعد سردها بمثابة فعل يعيد تكرار عدد غير محدد من الأفعال المماثلة السابقة، وذلك دون أن يكون ممكناً أو قابلاً لإدراك الرجوع إلى بؤرة أولية يمكن اعتبارها أصلاً ومصدراً لظهورها.

لم تبتكر شهرزاد الحكايات التي قامت بروايتها، إذ إنها تتطلع بدور الناقلة والراوية فقط. وبالفعل كل حكاية من حكاياتها تستهلّ «ببروتوكول» افتتاحي هو عبارة عن مقطع طقوس يربطها بصوت مجهول وخفي: «يُحكى» أو «بلغني».

يقول عبد الفتاح كيليطو إن من المعلوم أن الحضور الفعلي أمام الأستاذ، في الثقافة العربية الكلاسيكية، يُعد ضرورة ملحة من أجل انتقال النص. ومع ذلك لم تجمع شهرزاد حكاياتها عن طريق الرواية الشفهية بقدر ما جمعتها من الكتب.

أساتذتها هم الكتب فقط، والبالغ عددها ألفاً، حيث درست الطب والشعر والتاريخ وأقوال الحكماء والملوك. فمن هذه الذاكرة المكتوبة الزاخرة استقت مادة حكاياتها ونهلت مادة العبرة التي قدمتها لشهريار ليلة بعد ليلة.

في البدء كان هناك خزانة

ويبدو أن هذه الكتب تحتوي على كل الحكايات، أي على كل ما روي وما سوف يُروى. إلا أن هناك حكايتين، فيما يبدو، لا تتوفر عليهما: الأولى هي حكاية شهرزاد التي لن تعرف نهايتها إلا في الليلة الحادية بعد الألف والتي يتكفل بروايتها سارد مجهول: حُكي.

فشهرزاد تروي، لكنها تروى كذلك، ليس ثمة من سبب يجعلها تتولى رواية حكايتها ما دام الملك يعرفها، إذ سيكون الأمر عديم الجدوى وخطيراً في الآن نفسه: قد يسيء الملك فهم الخدعة المستعملة منذ الليلة الأولى، تلك الخدعة التي لا يجهلها، ومع ذلك يجب أن تظل خفية غير معلن عنها.

غير أن شيئاً غريباً، حسب الروائي الأرجنتيني بورخيس، حدث في الليلة الثانية بعد الستمائة: في هذه الليلة يستمع الملك إلى الملكة وهي تروي حكايته. يستمع إلى الحكاية التي تضم سائر الحكايات وتعانق نفسها بشكل غريب في حالة ما إذا واصلت الملكة، روايتها فإن الملك وهو ثابت في مكانه سينصت إلى الحكاية المبتورة لألف ليلة وليلة إلى الأبد، والتي تصير إذ ذاك لانهائية ودائرية، وفي مكان آخر يعزو بورخيس هذه السمة الدائرية إلى خطأ أحد النساخ: «تذكرت كذلك تلك الليلة الموجودة وسط ألف ليلة وليلة» حيث تعمد الملكة شهرزاد (بسبب شرود الناسخ شروداً سحرياً إلى حكاية قصة الألف ليلة وليلة نصاً، مع احتمال مجازفة الوصول مجدداً إلى نفس الليلة التي تحكي فيها تلك القصة. وهكذا إلى ما لا نهاية».

بورخيس وحديثه عن الليالي

سرعان ما ينقضّ أحد القرّاء السذّج، (وكيليطو يقول إنه واحد منهم) على مختلف طبعات «الليالي» المتوفرة لديه بغية التأكد مما أورده بورخيس. وبعد أن يعود خائباً سوف يقول إن ملاحظة بورخيس لا تتناقض في جميع الحالات مع مصير كتاب ما فتئ يغتني ويتعدل ويكتمل عبر العصور. كتاب أساساً غير مكتمل، غير مُنتهٍ، لا نهائي، ولا يلغي أي إمكانية أخرى، حتى وإن اقتضى الأمر أن ينصت الملك في الليلة الثانية بعد الستمائة إلى حكايته.

كان من المتوقع أن تروي شهرزاد هذه الحكاية في النهاية لتضع الملك وجهاً لوجه أمام صورته، ولتدعوه إلى تأمل ماضيه في ضوء العبرة التي تلقاها.

أما الحكاية الثانية التي لا توجد ضمن حكايات شهرزاد، فهي تلك التي قام والدها بروايتها لها قبل الليلة الأولى عساها تعدل عن منح نفسها للملك:

أخشى عليك أن يحصل لك ما حصل للحمار والثور مع صاحب الزرع.

ما إن يذكر هذه الحكاية حتى ترغب في معرفتها: وما الذي جرى لهما يا أبتِ؟ تستسلم للفضول منذ الوهلة الأولى رغم توفرها على علم واسع وامتلاكها الجيد لناصية الفن السردي، مع ما يحمله هذا الفضول من مجازفة، أن تقع تحت تأثير الحكاية ولا تكون لها الكلمة الأخيرة في جدالها مع والدها. غير أنها إذا كانت لم تقاوم الرغبة في المعرفة، فإنها لم تذعن للإثارة ولسلطة الحكاية المروية من طرف أبيها قصد التأثير عليها وجعلها تعدل عن قرارها. لقد برهنت، بعدم خضوعها لصيغة الأمر الذي تمثله الحكاية الأبوية، على تصميمها وشدة عزمها، وصارت بذلك أهلاً لمواجهة الاختبار الصعب من خلال لقاء شهريار. لقد كان عليها قبل الوقوف في وجه الملك، أي الزوج، أن تقف أولاً في وجه والدها وحكايته.

شهرزاد وأختها

يتزوج الملك كل عذارى مملكته ويقضي عليهن. لم يبق في مجموع أرجاء البلاد سوى فتاتين اثنتين هما: شهرزاد وأختها دنيا زاد.

يعرف الوزير ذلك أكثر من غيره، وهو الذي يقبل حزيناً جداً حينما يتعذر عليه العثور على عذراء يقدمها للملك، ليعرض مشكلته على ابنته. لماذا يتوجه إليها بالذات؟ هل يعود السبب إلى أنه يحتاج إلى استشارتها حول القرار الصائب الذي ينبغي اتخاذه لكونه يعرف ذكاءها وحكمتها؟ أم أنه - وهذا يفسّر انعدام عزمه - لا يجد أمامه اختياراً آخر سوى تقديم ابنتيه بادئاً بالبنت البكر؟.

في مثل هذه الظروف لا داعي لرواية الحكايات، إذ إن الحوار برمته يفسده تأكد المتحاورين معاً من أنه يجب، بالضرورة، تقديم إحدى العذارى كضحية. لكنهما يحرصان على تحاشي التعبير عن كل ذلك بوضوح، لقد قضي الأمر وأضحت كل مناقشة عقيمة: يتصرف الوزير كما لو أن باستطاعته الحيلولة دون التضحية بابنته. إلا أن مناورته في مجملها لا تهدف سوى إلى تأجيل اللحظة المحتومة. يقوم برواية حكاية ويتظاهر بتثبيت عزيمة ابنته، رغم أنه يعلم علم اليقين أنه حتى وإن أفلح في إقناعها، فإن الملك مع ذلك سوف يصرّ على إن تقدّم له. إن إثبات السلطة الأبوية يساوي في هذه الحال مواجهة السلطة الملكية، تواجه شهرزاد إذن أباً أعزل وعاجزاً.

ولئن شقّت عصا الطاعة وتمرّدت عليه (ذلك أن الأمر يتعلق فعلاً بتمرد) فإنها كانت تسعى إلى إنقاذه من غضب الملك أيضاً. في مثل هذه المعركة المبهمة يُعتبر الانتصار مريراً.

شهر زاد والكتب

لا يدقق النص فيما إذا كانت شهرزاد، وهي تغادر البيت الأبوي في اتجاه قصر الملك، قد أخذت معها خزانتها أم لا. لقد عاشت صحبة الكتب لمدة طويلة وتعلمت منها الشيء الكثير. إلا أن علمها لم يكن يستفيد منه أي شخص أخر سواها. ظل راقداً وسط غبار مخطوطات عديدة دون استعمال أو نفع.

لقد ظل عقيماً لا يدعم أي عمل ولا يخدم أي قضية. والحال أن العلم ينبغي أن يكون تعليماً وحثاً على العمل، فالعلم كما يقول ابن المقفع هو كالشجرة والعمل به كالثمرة، العالم الحقيقي هو من ينفتح على الآخرين، من يجعل معارفه رهن إشارتهم ويخضع علمه للاختبار ويواجه الموت إن اقتضى الأمر ذلك.
 
أعلى