هشام أصلان - بحثًا عن المؤلف البولاقي لألف ليلة

(3-3)

أهو الشيخ الشرقاوي؟

خرجت الحملة الفرنسية من مصر في 1801، وأخذت معها المطبعة التي أنشأها نابوليون. في ذلك الوقت، كانت القاهرة، التي رسمها علماء الحملة في "وصف مصر"، مكونة من ثلاث مدن تكاد تكون منفصلة عن بعضها بعضاً بمساحات من الزراعة والتلال: بولاق، القاهرة، ومصر القديمة. كانت بولاق هي الأقرب للنهر. وكان مسيو لوبير، كبير مهندسي الطرق في عهد الحملة، مهّد طريق "أبو العلا"، وغُرست الأشجار على جانبيه، ليصل بين بولاق والأزبكية. بعد انتهاء المرحلة الملكية، وبداية الجمهورية مع ثورة يوليو، سيتحول اسم الطريق إلى "26 يوليو".

بانسحاب الفرنسيين، وعودة القاهرة إلى الحكم العثماني، كانت المدينة مُخرّبة تقوم على أنقاض. ويحكي المؤرخ، الدكتور عبدالرحمن زكي، في كتاب قديم، نادر النُّسخ، بعنوان "القاهرة من جوهر القائد إلى الجبرتي المؤرخ"، إنك "إذا رغبت في الوقوف على صورة للقاهرة في تلك الآونة، فلا ترى إلا أبنية مخربة وأسوارًا وأبوابًا مهدومة، وإذا قادتك قدماك إلى الحسينية، فلا تشاهد غير تلال وأطلال. تلمح الشقاء في كل مكان وميدان".

كان ذلك قبل أن يستحوذ محمد علي على السلطة، ويبدأ بناء مصر الحديثة، بعد معارك ومؤامرات وخطط تحتاج صفحات أخرى، ليبني ضمن ما بنى: "مطبعة بولاق". ويتضح مما قرأنا، أن كلمة "بولاق" لم تكن تُعبّر عن المنطقة التي يقع فيها الحي الشهير الآن، بل كانت "ثلث المدينة". ليس مدهشًا، إذن، أن يكون مبنى المطبعة القديم، الذي حل محله مبنى الترسانة البحرية عند حدود منطقة إمبابة، منسوبًا إلى حي بولاق.

عودة إلى غارسين

ربما كان سيختلف الأمر كثيرًا، لو أن هناك ترجمة عربية لكتاب المستشرق الفرنسي، جان كلود غارسين: "من أجل قراءة تاريخية لألف ليلة وليلة"، الذي أثار الفضول بتأكيده وجود مؤلف مصري أضاف إلى الليالي في طبعتها الأكثر انتشارًا: "طبعة بولاق". غير أن الاتكاء على بعض القراءات والعروض التي تعاملت مع الكتاب ربما تكون "قشّة" مُساعدة.

قرأت للدكتور أحمد يحيى العامر في موقع مجلة "المقتطف"، وهو باحث سوري كان قريبًا من المستشرق الفرنسي في فترة إعداده الكتاب، أن غارسين "وضع خبرة ثلاثين عامًا أمضاها في دراسة وتحليل النصوص العربية من أجل القيام بدراسة دقيقة لحكايات الكتاب وتحديد تاريخها، واعتمد في ذلك على الإشارات الموجودة في النص العربي، والتي تخص هياكل الحكم، السكن، اللباس، أشكال العبادة... إلخ. وكانت النتيجة المهمة التي توصل إليها بعد تجميع الإشارات النصية، وجود مرحلتين أو أكثر لكتابة نص القصة. هذه النتيجة تؤكد ما ذكره الرحالة الألماني سيتزن، الذي مر بمصر سنة 1809، أن أصل المخطوطات التي اعتمدت عليها طبعة بولاق عام 1935، هي نتاج عمل قام به رجل دين بعد سنة 1750. وعلى الأغلب بين سنة 1760 و 1770، ولم يذكر الرحالة اسم هذا الشيخ. ويصف غارسين طريقة عرض الكتاب قبل صدور نشرة بولاق عام 1835 بقوله: كان الكتاب على شكل مخطوطة ضخمة جداً تقع في أربعة أجزاء منقولة عن مخطوطة غير مؤرخة موجود بعض منها، وكان بعنوان (ألف ليلة وقصص قديمة). القصص في هذا الكتاب كثيرة، ومواضيعها تهتم بالبلاد العربية من فترة قبل الإسلام إلى القرن الثالث عشر، لكن هذه القصص في غالب الأحيان قصيرة، ولا تملأ أكثر من 12 بالمئة من النص المنشور في هذه الطبعة. ويجب الإشارة إلى أن العنوان "ألف ليلة وقصص قديمة" اختصر في ما بعد من الناشر عام 1835 إلى ألف ليلة وليلة".

الشرقاوي، الشيخ المجهول

بصراحة، في أكثر لحظات الخيال شطحًا، لم أتصور إمكانية الوصول إلى روابط ربما تُكمل، حقًا، ما يقوله غارسين. نعم، هذا حدث، ولكن دعنا نتذكر: لا يقين في شيء. هذه محاولة للعثور على المؤلف القاهري، أو "البولاقي" لألف ليلة، ربما كل هذا يقع تحت مظلة الخيال، ولكنها، على الأقل، حكايات حُلوة، ومعومات مفيدة.

"تضم طبعة بولاق الأولى مجلدين نشرا عام 1835، وتمثل هذه الطبعة النسخة القياسية لمجموعة النصوص المصرية التي تعرف باسم نسخة "زوتنبرج المصرية المنقحة"، التي ترجع إلى مجموعة من المخطوطات يعود تاريخها للقرنين السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر. وتعتمد طبعة بولاق التي أعدها شخص يدعى الشرقاوي على مخطوطة تعود إلى القرن الثامن عشر لم تثبت صحتها. ومن المعروف أن عدة مخطوطات قد أنتجت في القاهرة أثناء هذه الفترة. ويذكر الرحالة الألماني، أولريش زيتسن، في يومياته شيخاً مجهولاً عكف على تحقيق مجموعة الليالي العربية عام 1770".

كدت أصرخ، حرفيًا، وأنا أقرأ الفقرة السابقة، في "موسوعة الليالي العربية". أعدت قراءتها مرات. لم أعرف كيف وقعت عيني عليها وسط آلاف الصفحات. "شخص يدعى الشرقاوي"، "شيخًا مجهولًا".

1770 يعتبر عامًا بعيدًا نسبيًا عن تاريخ صدور طبعة بولاق في 1835، لكنه ليس عصرًا آخر. لا أعرف ماذا لو وضعنا في الاعتبار معايير العصر وصعوبة التحقيق، بل وتأليف ليالٍ جديدة. أيضًا، ليس بالضرورة، ببعض الخيال، أن يكون الشيخ المجهول، أو من يدعى الشرقاوي، قد حضر لحظة صدور الكتاب.

الحكاية أنه بشيء من الحظ والصداقة، خصّني المترجم المصري الكبير، السيد إمام، بنسخة من مخطوط "موسوعة الليالي العربية"، التي ترجمها وكان مفترضًا صدورها منذ فترة، لكنها، كالمعتاد، حبيسة انتظار الدور وإجراءات الروتين الحكومي، داخل أدراج المركز القومي للترجمة في القاهرة.

الموسوعة عبارة عن كتاب من مجلدين كبيرين، أو أكثر، حسب الطباعة. نقله إمام إلى العربية، محتويًا على كل ما يأتي في ذهنك تقريبًا عن "ألف ليلة وليلة"، أو كما قال عنها الغرب قديمًا: "الليالي العربية". مادة مذهلة، وعدد مهول من الأبحاث والتحقيقات التي تتناول كل كبيرة وصغيرة في ما يخص كتاب الليالي وتاريخه وطبعاته المختلفة، والبلاد التي توقف عندها وأضافت إليه، والأدباء العالميين الذين نهلوا في رواياتهم من التقنيات السردية لليالي أو اشتبكوا معها.

أصل الليالي وفصلها

ما الذى تريد أن تعرفه عن ألف ليلة و ليلة أو "الليالى العربية" كما يطلق عليها الأوروبيون؟ يتساءل السيد إمام في مقدمة ترجمته: "أصلها وفصلها؟ هندية أم فارسية أم عربية؟ مخطوطاتها؟ تواريخ ظهورها؟ مؤلفها أومؤلفوها؟ نساخها أوجامعوها؟ أطوارها؟ حكاياتها الأصلية أو المنتحلة وما جرى عليها من تعديلات وتحويرات، وما تعرضت له من حذوفات وتهذيبات وإضافات على مر العصور والأجيال؟ ترجماتها؟ الأثر الذى خلفته على جمهور المستمعين أو القراء فى كل مكان وزمان، وعلى المبدعين من شعراء وروائيين ورسامين وموسيقيين وكتاب مسرح فى الشرق والغرب على حد سواء؟ بُناها وطرق تأليفها؟ موضوعاتها المتواترة وموتيفاتها المتكررة؟ سياقاتها التاريخية والثقافية والاجتماعية والنصية؟ تعالقها أو تفاعلها مع نصوص أخرى كثيرة لا حصر لها؟ مكانتها وسط المنتج الأدبى العالمى؟ لغتها وأساليب تأليفها؟".

كل هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها "موسوعة الليالي العربية" التى ألفها وجمع مادتها اثنان من أبرز المتخصصين فى الدراسات العربية و تاريخ الحكي العربي على وجه الخصوص، وفق المترجم، هما أورليش مارزوف وريتشارد فان ليفن. يعمل الأول أستاذاً للدراسات الإسلامية بجامعة جورج أوجست بجوتنجن في ألمانيا وأحد الأعضاء البارزين بلجنة تحرير"موسوعة الخرافات"، بينما يعمل الثانى أستاذاً فى قسم الدراسات الدينية بجامعة أمستردام بهولندا، وتضم أعماله المنشورة الترجمة الهولندية لـ"الليالى العربية" بالإضافة إلى العديد من المقالات حول نفس العمل.

بائع يهودي

الموسوعة، فضلًا عن مئات المقالات المترجمة في مناقشة الليالي، تضم في أحد أجزائها عدداً كبيراً من الصفحات التي تُعرّف بأشهر المصطلحات الخاصة بالكتاب الأسطوري. بين هذه المصطلحات والكلمات، كانت: "القاهرة". نعم، توقفت الموسوعة عند العاصمة المصرية، بوصفها محطة انتقالية كبيرة في تاريخ ذلك الكتاب المفتوح على الزمن. الصفحات تقول:

"رغم وجود الكثير من الخلافات حول تاريخ الليالي العربية، إلا أن هناك اتفاقاً عاماً على أن القاهرة لعبت دوراً هاماً في التاريخ النصي لمجموعة الليالي. وعلى الرغم من أن بغداد شهدت المرحلة الأولى من تجميع نص الليالي، من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر، فإن مرحلة ثانية بدأت في القاهرة، ربما، من القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر. لقد وُجدت إحدى الطبعات الموثقة لليالي في مصر في تاريخ مبكر يرجع إلى القرن التاسع، وأول دليل موثق حول العنوان الدقيق "ألف ليلة وليلة" ظهر في دفتر بائع كتب يهودي في القاهرة حوالى سنة 1150".

وتنتمي الكثير من الحكايات التي أضيفت للمجموعة القاهرية، وفق موسوعة الليالي، إلى متن الأدب الشعبي المصري في العصر المملوكي. غير أنه، وفي مرحلة لاحقة، ستُجمع طبعات منقحة كاملة لتلبية مطالب الباحثين الأوروبيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

الأمر، أيضًا، لم يتوقف عند مجرد الإشارات التي تتفق بشكل كبير مع ما يؤكده كتاب المستشرق الفرنسي، جان كلود غارسين، بل هناك ما يشبة التأكيد على تلك الإضافات المصرية، في عصر لا يبتعد كثيرًا عن تاريخ صدور طبعة بولاق.

"الشطار" مصرية

"فضلاً عن التاريخ النصي لمجموعة الليالي، يمكن التعرف على الإسهام المصري، أيضاً، فى تلك الحكايات التي تُظهر خلفية مصرية ملحوظة. وهناك اتفاق عام بين الباحثين على أن الحكايات التي يمكن نسبتها إلى مصر تضم حكايات الشطار، مثل: دليلة المحتالة، وعلي الزيبق المصري، وحكايات الجريمة التي جُمعت في الدورات الحكائية: بيبرس وولاة الشرطة الستة عشر، والى بولاق، والى القاهرة، والى مصر القديمة، والولاة الثلاثة قدام الملك الناصر. وبالإضافة إلى حكايات الشطار، ترجع قصص العشق الرومانسية مثل علي شار وزمرد، وعلي نور الدين ومريم الزنارية، بوضوح إلى أصول مصرية، وهو ما ينطبق على الحكايات العجيبة مثل حكايتي معروف الإسكافي وعلاء الدين أبو الشامات".

لا يفوت الباحث، أن تلك الحكايات لا تظهر فقط الخصائص المميزة والمعروفة على نطاق واسع في الأدب الشعبي المصري، ولكنها تتخذ أيضًا من مدينة القاهرة مسرحًا، وتتضمن أحياناً أوصافًا مفصلة لـ"طبوغرافيا القاهرة".

هل ذلك المؤلف البولاقي المجهول هو نفسه بائع الكُتب اليهودي، الذي تقول مصادر، "قيد التأكد"، إنه تحول إلى الإسلام في ما بعد؟ أم هو الشيخ الشرقاوي؟ أم هو كبير المُدقّقين بمطبعة بولاق، الشيخ قطة العدوي؟

الأكيد، وقت كتابة هذه السطور، أن عدداً من حكايات ألف ليلة، أُضيف إليها في القاهرة. ذلك أن الأحداث ومرجعيتها الأدبية، والصورة المكانية، من الصعب أن تتوفر لكُتّاب بعيدين. ولكن، دعنا نتذكّر مرة أخرى، نحن بصدد البحث عن المؤلف البولاقي، سنكون سُعداء يتملكنا شعور الإنجاز إذا وجدناه، في حلقة أو حلقات مقبلة. لكن الأصل في الحكاية، هو الرحلة.

مصادر:

ـ"القاهرة، تاريخها وآثارها.. من جوهر القائد إلى الجبرتي المؤلف"، للدكتور عبدالرحمن زكي.

-"المقتطف المصري": مجلة ربع سنوية تصدرها مؤسسة "دراسات سياسية تاريخية"، وهي شديدة التخصص على ما يبدو، حيث إنها لم تقع أمامي من قبل، إلا بصدفة البحث في أجواء الموضوع.

ـ"موسوعة الليالي العربية": كتاب قيد النشر منذ 3 سنوات في "المركز القومي للترجمة"، وربما يقدم صدوره خدمة حقيقية للثقافة العربية. غير أنه، حتى وقت كتابة هذه السطور، حبيس انتظار الدور وإجراءات الروتين داخل مؤسسة نشر حكومية، ذلك أنه، للأسف، من صعب نشره في دار نشر خاصة نظرًا لتكلفته، إضافة للأزمة التي تمر بها دور النشر الخاصة بعد تعويم سعر الجنيه أمام الدولار.



* ضفة ثالثة
 
أعلى