عمر الطباع - ألف ليلة وليلة في باب القصص الدخيل عند العرب

«6»

«الليالي» هي إحدى ثمرات العقلية العربية الفذّة التي أنفتحت – ولا سيما بعد ظهور الإسلام، وإبان الفتح – على مختلف الثقافات وراحت تروي ظمأها إلى ضروب المعرفة بالإقبال على ينابيع الفكر في السريانية والفارسية والهندية واليونانية، بالإتصال المباشر طورا وبواسطة حركة النقل طورا اخر. وفي هذا يقول المستشرق مكدونالد (1943م) مؤكدا ضخامة هذه المجموعة القصصية وما انطوت عليه من انعكاسات حضارية شتى شرقية و غربية:
«ففي القرنين السابع والثامن لميلاد المسيح بدأ الاتصال بين العرب وفارس وما يليها من البلاد الشرقية، وجدّوا في نقل مادة القصص والأساطير عن هذه البلدان . . وأخذ فن القصة مع غيره من مظاهر التطور العقلي ينتقل شيئا فشيئا من المشرق إلى المغرب، نجد هذا كله في كتاب ألف ليلة وليلة، وهواكبر مجموعة عربية للقصص وأكثرها تنوعاً».
ويتفق النقاد الذين عكفوا على دراسة الليالي على أن المسعودي من مؤرخي القرن الرابع للهجرة (الحادي عشر للميلاد) هواول من أتى على ذكر هذا الكتاب والتعريف به حين أشار إلى أن: « كتاب ألف ليلة وليلة – يقال له هزار أفسانة و تفسيرها ألف خرافة بالفارسية والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة و ليلة وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها شهرزاد ودينارزاد».
ولئن كان المسعودي أول من تحدث عن اسم الكتاب وأصله الفارسي، فإن ابن النديم في كتابه الفهرست هوالذي تطرق إلى تعليل هذه التسمية و توسع في الكلام على هذا الأصل حين قال: إن ملكاً من ملوكهم – الفرس – فاجأ زوجته وهي في أحضان عبد أسود، فأستشاط غضبا وبعد أن قتلهما أراد الأنتقام من الجنس الآخر ففرض على أهل المملكة أن يقدموا إليه كل يوم إحدى نسائهم «فكان إذا بات معها ليلة قتلها من الغد. فتزوج بجارية من أولاد الملوك لها عقل ودراية لها شهرزاد، فلما حصلت معه، أبتدأت تخرّفه وتسكت عن الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقائها و يسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة، ورزقت منه بولد أظهرته وأوقفت الملك على حيلتها.. فأستعقلها ومال إليها واستبقاها».
ولم يكتف المستشرقون بما ورد في المراجع العربية من إشارات في تفسير أصل هذا الكتاب فتصدى عدد منهم للكشف عن المزيد من الوقائع والمعطيات في مقدّمتهم أو يسترب (1938 م) ومكدونالد (1943 م) وليثمان(1958 م). لكنّ سيلفستر دي ساسي كان السباق في مطلع القرن التاسع عشر إلى البحث الجاد في أصول الليالي وهواول من رفض أن يكون الكتاب المذكور من تأليف كاتب واحد، لكنه من ناحية ثانية نفى وجود عناصر هندية أو فارسية في مجموعة الليالي، وشكّك فيما كان المسعودي قد ذهب إليه مشددا على أن تاريخ الليالي إنما يعود إلى عهد متأخر جدا.
واشتط المستشرق شوفان في تفسير اسم الكتاب وارجع هذه التسمية إلى عادة حرّمت على المسلمين أن يقصوا الحكايات الخرافية في النهار، وأن من يخالف هذه القاعدة يحلّ به شر عظيم، وتعليل قريب من هذا، اعتقاد باحثين آخرين أن العرب كانت لهم مزاعم خرافية تتصل بألف ليلة وليلة ومنها الرأي القائل بأن من يقرأ هذا الكتاب يصاب بأفدح المصائب أو يتعرض للموت.
ومن أبرز الذين بحثوا في حقيقة الليالي وطرحوا اراءهم حول أصول هذا الكتاب ومصادره وواضعيه «فون هامر» (J. V. Hammer) و«وليم لين» (William Lane) و«وده غويه» (De Goeje) فقال أولهم بأن الكتاب عمل مؤلف واحد، وردّ ثانيهم على «ده ساسي» وخطأ موقفه من رواية المسعودي وأكد صحّة ما أورده صاحب مروج الذهب. أما «ده غوية» فناقش ما ساقة «ابن النديم» في الفهرست وأدت مناقشته إلى بروز موقف جديد فحواه أن الليالي ليست طبقة واحدة من القصص بل هي طبقات عديدة، كل طبقة تنتمي إلى أصول معيّنة. وتبنّى العالم المستشرق نولدكه(Noldeke) نظرية الطبقات وكان من نتائج جهوده التوصل إلى معايير خاصة للموازنة بين مجموعات الليالي.
واذا كانت الموضوعية العلميّة تحتم علينا عدم إغفال الإتجاهات المتباينة التي تكوّنت حول «طبقات الليالي» فالحاجة إلى الإيجاز تجعلنا في حلّ من بعض التفاصيل للإكتفاء بذكر تباين بين عدد من كبار المتخصصين في الآداب الشرقية من أبرزهم «نولدكه» (Noldeke) و«أويسترب» (Oestrup) و«كرمسكي» (Krimski) لننتهي إلى حصيلة هذه الأختلافات وما أسفرت عنه مقالات هؤلاء النقاد وهو أن الليالي ليست طبقة واحدة أواثنتين. بل هي تبعا لدراسة نولدكه ومناقشاته أربع طبقات وفيما يلي عرض مقتضب لحدود هذه الأصول ومميّزاتها.
1- تتمثل الطبقتان الأولى والثانية في نواة كتاب الليالي الأصلية المأخوذة عن قصص «هزار أفسانه» الفارسي، والمنقولة إلى العربية في حدود القرن الثامن للهجرة. وقد تبين للدارسين أن معظم المادة القصصية في حكايات النواة المنقولة عن الفارسية هي من أصل هندي. لذلك فإن أصول الإطار الأول للّيالي هي أصول هندية و فارسية والأدلة على هذه الحقيقة تكمن في إن وجوه الشبه بين مادة هذا الإطار الأول وبين كتب هندية وفارسية عديدة لا سيما أن مثل هذه الكتب أبعد في الزمن والقدم من نص النواة العربي. وقد وقف المستشرقون على جملة من الدلائل الخارجية التي تؤيد هذه النظرية من أبرزها تلك المجموعة الكبيرة من الأسماء والنظم الفارسية والهندية الواردة في ثنايا قصص هاتين الطبقتين، ونحن نكتفي منها بما يلي:
1-كون المحرك الأول في قصص الليالي هو كسب الوقت للحؤول دون استمرار شهريار في عملية ثأره المنتظمة من الجنس الأنثوي. فالحيلة التي أهتدت إليها شهرزاد لتحقيق هذا الغرض وثني الملك عن عزمه الأكيد إنما هي موجودة في قصة هندية الأصل هي قصة: «صوكاسابتاتي» ففيها تحول بقاء.. بين زوجة صاحبها و بين زيارة خليلها في غيبة زوجها، بأن تشغلها في البيت بجزء من قصة تسردها عليها كل يوم، و تختمها دائما بقولها: «سأقص البقية غدا إذا بقيت في البيت الليلة». (دائرة المعارف الإسلامية).
2- ومن هذه المقاييس أيضا أن بعض الأسماء الواردة في قصة النواة مثل: شاه زنان وشهريار من الأسماء الفارسية، والخيانة الزوجية التي هي سبب غضب شهريار تماثل القصة الهندية «كاتها سارت ساكارا».
3- وفي قصص هذه الطبعة الأولى (أي الهندية – الفارسية) ظاهرة واضحة المعالم وهي تواتر الحكايات الواحدة من الثانية على غرار ما هوفي كليلة ودمنة وفي الأصول السنسكريتية والفهلوية. فهذا الدمج بين أكثر من قصة هو من معالم الأدب الهندي المتمثّل في ملحمة «المهابهاراتا» ومجموعات قصصية أخرى منها «بنجة تنترا» و«تلة بنجة ومساتي».
4-وبعض هذه المقاييس ذو صلة بالأداء والأسلوب الشائع في المصنّفات الهندية ومنها كتب الأدب الشعبي. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر العبارة المألوفة التي ترد في حكايات هذا الإطار وهي: لا تفعل ذلك، كي لا يصيبك ما أصاب فلاناً.. وعندئذ يقول السامع: وكيف ذلك؟ فيروي الحكّاء عندئذ القصة ويؤكد «ليتمان» في مقالته المثبتة في (دائرة المعارف الإسلامية) أي عبارة وكيف ذلك؟ بالعربية ليست إلا ترجمة حرفية لعبارة «كاتهام إثاث» السنسكريتية
هـ- وأكثر مما تقدم فقد بات محققاً أن «ألف ليلة وليلة» تضم عدداً غير قليل من القصص ذات الأصول الهندية والفارسية والغنية بعادات الهنود أو الفرس ومنها قصة الصياد والعفريت وإعادته الى القمقم، والصراع بين الثعبان الأبيض والثعبان الأسود، وقصة الملك والحكيم دوبان الذي عمد إلى أوراق مدهونة لقتل الملك والنجاة بنفسه، وقصة التاجر مع العفريت، والبنات مع الحمال والأحدب. هذه القصص على التوالي مقاربة لحكايات هندية أو تتريّة أو فارسية قديمة
ومن الحكايات التي ثبت أصلها الهندي – الفارسي حكاية شهريار واخيه شاه زمان، وحكاية التاجر والجني وحكاية الحصان المسحور التي نرى فيها أسماء فارسية مثل «سابور»، وتتحدث عن عادات الفرس وأعيادهم كالنيروز... وحكاية الحسن البصري التي تحتوي على سمتين هنديتين هما: سرقة الريش، واحتيال البطل لاسترجاع محبوبته, أضف إلى ما تقدم حكايات سيف الملوك وبديعة الجمال وقمر الزمان والأميرة بدور والأمير بدر والأميرة جوهر السمندلية وأردشير وحياة النفوس. ويلاحظ أن هذه الطبقة الأولى من الليالي التي تنحدر من اصول هندية وفارسية ذات طوابع مميزة لعلّ أهمها النزعة الوعظية إلى جانب الإغراق أحياناً في الانحلال الخلقي وإثارة الشهوات الغريزية، وبروز المعتقدات الوثنية.
2-وحول النواة الهندية – الفارسية التي كوّنت الطبقتين الأولى والثانية من حكايات الليالي تشكلت الطبقتان الثالثة والرابعة مستمدتان من واقع المحيط العربي، وحياة المجتمع الشرقي وأجوائه التي كانت سائدة في حواضر العباسيين والحواضر المصرية فالطبقة الثالثة هي المعروفة باسم «الطبقة البغدادية» واللافت في حكايات هذه الطبقة أنها نوعان: أحدهما خيالي يستوحي أجواء السحر والأساطير، والآخر مبني على أحداث تاريخية بصياغات أدبية. وتركيب هذه الحكايات أقرب إلى النوادر والأقاصيص القصيرة منه إلى المطولات والقصص المركبة الغالبة في الطبقة الأولى وهذه الحكايات القصيرة غنية بأخبار العشاق ونوادر المحبين المغرمين ويتردد فيها اسم هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي وأبي نواس، وأبي دلامة وتستوحي ليالي السمر البغدادية وما يسودها من اجواء الغناء والموسيقى بأسلوب بعيد عن الخوارق، وبعبارة خالية مما يخدش السامع أو يسيء الى الآداب والأعراف القويمة، فلا سباب ولا فحش كالذي يطالعنا في قصص الجانب الفارسي من الليالي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الجانب من الليالي مطبوع بالطابع الديني وتتجلّى فيه الروح الإسلامية.
3-والطبقة الرابعة من حكايات الليالي هي «الطبقة المصرية» وقد سميت كذلك لأنها كتبت في المدن المصرية ولا سيما القاهرة من ناحية ولأنها مقتبسة من حكايات مصرية قديمة أو من حكايات يونانية أو يهودية شاعت في مصر، مثل حكاية علي بابا والاربعين سارقاً، أو «الاربعين حرامي» كما هو مشهور. وفي هذه الحكايات العربية الأصول حرص كتاب الليالي على تصوير العادات التي كانت شائعة في مناسبات الأعياد ومراسم الزواج، وفي المآدب ولا سيما في الأعراس وجلوة العروس محاطة بالسيدات والبنات من ذويها ومن الأصحاب. ولعلّ أكثر الصور دلالة على المجتمع المصري وتقاليده تنقيط القيان والمواشط في الأعراس ومناسبات الزفاف، بإلقاء النقود والدراهم في الدفّ.
وفيما خص حكايات السندباد البحري فحولها رأيان: يذهب الأول إلى أنها من أصل الليالي وأنها عنوان ما وصلت اليه بغداد والبصرة في ظل الدولة العباسية من ازدهار. والثاني يزعم أن هذه الحكايات كانت قائمة بذاتها في كتاب مستقل وشاء القاصّون أن يدخلوها في سياق الليالي، وهي على الغالب مستوحاة من أصول يونانية ولا سيما من مغامرات أوليس أحد أبطال طروادة.
ويدخل الدارسون في هذه الطبقة المضافة الى الليالي الحكايات الطويلة التي تروي بطولة الفارس محمد بن النعمان وحكاية شول وشمول والحكيم هيكر وهي من الأدب اليهودي. وهناك اتجاه عند نفر من العلماء المتخصصين في دراسة النصوص أن هذه الإضافات التي طرأت على هيكل الليالي إنما ترجع إلى أواخر العهد المملوكي.
وكان اعتماد هذا الرأي على البنية اللغوية لهذه الحكايات وهي قريبة من اللهجة المصرية الدارجة اضف إلى ذلك ذكر العديد من المواضع والأماكن التي كانت معروفة في العصر المذكور.
ومع أهمية ماتقدّم من الكلام على أصول الليالي وطبقاتها يبقى شيء لايمكن إغفاله في هذا السياق وهو أن كتاب ألف ليلة وليلة – إنطلاقا من نظرية التحول والتطور في الفنون والاداب التي هي من هوامش المذهب الدارويني – حكايات تتجاوز أصولها الاداب الهندية والفارسية واليونانية واليهودية والمسيحية والإسلامية لأنها نسيج عصور طويلة وعهود متباعدة من غياهب التاريخ القديم حتى مشارف العصور الحديثة فهي كما قال صديقنا الراحل الأستاذ موسى سليمان: «مجموعة حكايات ومزيج من اداب». وما الأصول التي عددناها إلا غيض من فيض وهو ما أمكن حتى الان حصره و تمييزه.


د. عمر الطباع


* اللواء الثقافي
ألف ليلة وليلة في باب القصص الدخيل عند العرب «6»
الاربعاء,31 تموز 2013 الموافق 21 رمضان 1434 هـ
 
أعلى