منقول - بورخيس: سبع ليال

أعتبر نفسي قارئاً في الأساس، وقد تجرأت كما تعرفون على الكتابة؛ ولكنني أظن أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته. فالمرء يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه، وإنما ما يستطيعه.
خورخي لويس بورخيس.

قبل سنوات قليلة، كانت قراءة قصص بورخيس القصيرة أشبه بالسحر؛ بصورها الغريبة وأشكالها التي لم أقرأ مثيلاً لها من قبل. قصة على شكل مقالة نقدية، قصة تبدو وكأنها تقرير، قصة لا تبدو وكأنها من عالم القصص، قصة على شكل مراجعة للتاريخ، وما يجمع بين هذه القصص هي الثيمات المفضلة لبورخيس: اللانهاية، المرايا، النمور، التاريخ، المتاهة، وغيرها من الرموز والثيمات التي يستخدمها ببراعة. بورخيس بعوالمه القصصية يُدخل القارئ معه في رحلة سحرية فكرية قل أن توجد في عمل أدبي قصير. في كتاب الرمل يظهر للقارئ كتاب ليس له نهاية، رغم محدودية حجمه: إن فكرت بقراءته لن تنتهي، إن فكرت بحرقه قد يحرق المكان ويختنق العالم بدخانه، فكيف يمكن التصرف معه؟ قصة بحث ابن رشد يبحث من خلالها مشكلة في الترجمة من خلال شخصية ابن رشد، حين كان يترجم كتاب لأرسطو: كيف لابن رشد أن ينقل التراجيديا والكوميديا التي وردتا في مؤلف أرسطو إلى العربية؟ حين يكتب تشعر بأنه متمكن من مادته السردية حتى لو كانت بعيدة عن ثقافته ولغته، وكم من قصة كتبها كانت من خلال التاريخ وثقافات وشعوب أخرى لا يشاركهم إياها ممارسة لكنه يتحاور معها ويقرأ عنها الكثير مثل قصة المقنع، حكيم مرو الذي يتناول فيه شخصية المقنع الخرساني اعتماداً على مصادر تاريخية، منها مراجع في التاريخ الإسلامي. قصص عديدة لبورخيس لا يخرج منها القارئ إلا ويشعر معها بأثر شبيه بالسحر، مثل قصة الآخر التي تتحاور فيها شخصيتان: بورخيس العجوز، وبورخيس الشاب.

قبل أيام قليلة قمت بإعادة ما كنت قد قرأته قبل سنوات من أعمال بورخيس، لكن هذه المرة بتوسع أكبر: أن أقرأ القصص والمقالات وبعض القصائد والمحاضرات، أي أن أقرأ غالبية أعمال بورخيس كما أحب بورخيس أن يكتب: قاصاً وشاعراً ومحاضراً وكاتب مقالة. لا أفقد كثيراً من متعة القراءة حين أعيد قراءة الأعمال الأدبية. هناك أعمال أدبية وروائية ضخمة أعدت قراءتها ولم أفقد شيئاً من لحظات المتعة التي صادفتها في القراءة الأولى. بل إن القراءة الثانية تعطيني أشياء لم أستطع أن ألمحها وانتبه إليها في القراءة الأولى. لكن، مع بورخيس كانت القراءة مختلفة. القصص التي قرأتها مرة ثانية لم أشعر بمفعول القراءة الأولى. قرأت قصص أخرى لم أقرأها في القراءة الأولى ولم أجد صدى للقراءة الأولى والمفاجأة وتأثير بورخيس السحري، بل كنت أتوقع ثيمات بورخيس قبل نهايتها. لماذا حدث مثل هذا التأثير: عدم المفاجأة، عدم الإعجاب كثيراً كما قرأتها في المرة الأولى؟ توصلت لرأي مفاده أن قصص بورخيس لا تقرأ إلا مرة واحدة أو مرتين في زمن قصير وتنتهي. مفعول السحر ينتهي حين يُكشف للمرة الأولى. شخصيات بورخيس الإنسانية لا يمكن النظر إليها أو الاطلاع عليها من الداخل، لا أشعر بحرارة الدم المتدفق فيهم: كائنات لها شعور ووجدان وحياة، في غالبية قصصه لم أجد شخصية يشعر معها القارئ بالتعاطف أو التساؤل معه أو أن يكون مثيراً للاهتمام، هي شخصيات مسخرة في اتجاه ثيمات بورخيس الأساسية ومعبرة عنها: اللانهاية، المرايا، الآخر، الدوائر، المتاهة. هذا الرأي لا يقلل من قيمة أعمال بورخيس وبراعتها. لكنها تصلح كقراءة أولى، يدخل فيها القارئ عوالم بورخيس السحرية، ثم يختفي الأثر الذي يحدثه بورخيس باختفاء مفعول السحر الذي يغلف فيه بورخيس قصصه القصيرة.

هل بورخيس كاتب أوروبي أكثر منه أمريكي لاتيني؟ أم أنه كاتب أمريكي لاتيني استطاع أن يعبر عن المكنون الثقافي لأمريكا اللاتينية عالمياً؟ في مؤلف إدوارد غاليانو ذاكرة النار، كتب غاليانو طويلاً عن بعض أدباء أمريكا اللاتينية مثل نيرودا وماركيز، لكنه أفرد سطور قليلة لبورخيس. فسر غاليانو نظرته لبورخيس في حوار جاء فيه أنه لا يشعر بأي مكانة لبورخيس في قلبه ولا يشعر بتدفق الحياة في أعماله. يقدر كثيراً أسلوبه، وهو مثقف كبير قطعاً لكنه رجل بمحض رأس ولا شيء غيره، لا قلب، لا جنس، رأس وحسب، رأس لامع في غاية الذكاء ونخبوي غارقاً في نخبويته وعنصرياً يعيش على حنينه الدائم للدكتاتوريين العسكريين، كان نيرودا مهموماً بالعالم من حوله، أما بورخيس فهو مجرد مثقف قابع في مكتبته. رؤية غاليانو تتضمن نقطتين: سياسية وأدبية. النقطة الأدبية قد اتفق معها قليلاً، أعمال بورخيس القصصية لا يشعر القارئ بقراءتها بمباهج الحياة وأهوالها، بتدفق الحياة فيها والتعاطف، لكن فيها نوع من السحر والمتعة العقلية النابعة من أساليب بورخيس ونثره بلا شك. أما النقطة السياسية: منطقة أمريكا اللاتينية كانت من أكثر المناطق سخونة وتفجرت فيها حركات التحرر واليسار. بورخيس لم يمارس السياسة ولم يفكر فيها، كان يعتبرها شكلاً من أشكال الضجر. وفي فترة من الفترات كان يؤخذ على بورخيس مداهنته للديكتاتورية العسكرية في الارجنتين ولم يطلق كلمة إدانة بحقها.

لكن من الظلم أن ينظر إلى بورخيس من زاوية اليساري إدوارد غاليانو. لو تتبعنا مؤلفات بعض مؤلفي أمريكا اللاتينية لوجدنا إشادة عالية لبورخيس، وبعضهم يعتبر هذا الكاتب الارجنتيني الذي لم يكتب الرواية مطلقاً وتنبأ بموتها واحد من أكثر كتاب القارة تجديداً في الأدب اللاتيني. من الواجب النظر لبورخيس من زاوية الأدب لمعرفة أهميته في القارة اللاتينية. ولعل الروائي والناقد ماريو يوسا هو أفضل من تحدث عن بورخيس وأهميته في القارة كتابه الكاتب وواقعه. طرح يوسا السؤال مرة أخرى: هل بورخيس كاتب أوروبي أكثر منه أمريكي لاتيني؟ قبل أن يبحر في بورخيس الأديب توقف يوسا عند بورخيس كحالة استثنائية لفنان منسحب عن الواقع الاجتماعي والسياسي، انسحاب الفنان من العالم ولجوئه إلى عالم الفكر والمعرفة الواسعة والفنتازيا. بورخيس يتحمل نوعاً ما مسئولية تجاه حالة أمريكا اللاتينية وأمراضها، ذلك بأنه ذلك المفكر الذي لم ينتقد العقائد المغلقة ومثالية اليسار وحسب، بل وانضمامه للحزب المحافظ وسوغ قراره بأن السادة يفضلون القضايا الخاسرة. بداية مشاغبة في المقالة، وكأنه يريد القول لنتفق بأن بورخيس يمثل هذه الحالة من انسحاب الفنان من الحياة الواقعية والاتجاه صوب ذاته ومكتبته، صوب الفن والإبداع والأدب. لكن يوسا يعود فوراً ويعترف رغم كراهيته لأشكال بورخيس المنسحبين، فهو يقرأ في عزلته أعمال بورخيس ويجد فيها سحر لا يقاوم، ويقرأ قصصه ومقالاته بدهشة مطلقة. من المحتمل حسب تصور يوسا أن تكون تصوراتنا الأدبية عابرة، يطويها النسيان لعدم صدقها واستنادها على معايير غير واقعية وغير حقيقية، لكن في حالة بورخيس يجب الاعتراف بأنه الكاتب الأكثر أهمية الذي حدث للأدب المكتوب باللغة الإسبانية في الأزمنة الحديثة، وأنه من أكثر فناني عصرنا حضوراً في الذاكرة. حتى الأدباء اللاتين الذيم لم يكتبوا قصة فنتازية خالصة ولم يشعروا خاصة بأي قرابة مع ثيمات بورخيس، عليهم دين تجاه بورخيس. بورخيس أنهى عقدة النقص التي منعت الأديب اللاتيني من إثارة موضوعات معينة، ومشاركته في الثقافة العالمية لم تأخذ من أصالة الكاتب الأمريكي اللاتيني. بورخيس جاء من الأطراف لكي يستوعب ما استوعبته القلة القليلة من الغرب استوعب بسهولة: الأساطير الاسكندنافية والشعر الأنكلوساكسوني والفلسفة الألمانية، أدب العصر الذهبي في أسبانيا، الشعر الإنجليزي، دانتي، هوميروس وأساطير وخرافات الشرقين الأوسط والأقصى. انخراط بورخيس في الثقافة العالمية كانت طريقة لتشكيل جغرافيته الشخصية وخصوصيته، إنه ينسج –يقول يوسا-من خلال اهتماماته الواسعة وعفاريته الخاصة نسيجاً من الأصالة العظيمة مصنوعاً من خلائط عجيبة يتواشج فيها نثر ستيفنسون وألف ليلة وليلة مع رعاة بقر من قصيدة وشخصيات من الجزر، ويتعارك فيها قاطعا طريق من الزمن السحيق من يوينس آيرس-متخيلان أكثر مما هما مسترجعان من الذاكرة-بالسكاكين بسبب نزاع يبدو امتداد لصراع قروسطي ينتهي بإطلاق النار على عالمي لاهوت مسيحيين.

ثقافة بورخيس تشكلت لعوامل الشغف تجاه الأدب، وبسبب عوامل أخرى أسهمت في ذلك مثل حياته العائلية. لم يكن يحب الخروج إلى الشارع أو التجمع مع الآخرين. القراءة والمكتبة أشبه بالجنة لديه. والمعرفة لا تتوقف، قرأ ألف ليلة وليلة في سنوات الشباب الأولى، وتعلم الشعر والثقافة الأنكلوساكسونية عندما فقد بصره وأصبح مديراً للمكتبة الوطنية. عندما تفقد البصر بعد سنوات من النظر والاطلاع على ثقافات وأمم شتى، من الطبيعي أن تعيش على ذكرى الأيام الماضية، وأن يقرأُ عليك ما هو جديد، لكن أن يكون هذا الجديد رافد أساسي في أدبك في فترة العمى، هذه والله عبقرية قل أن توجد.

ماذا يعني لي بورخيس؟ لقد أمتعني بقصصه القصيرة بكل عوالمها وتخيلاتها السحرية. لكن بورخيس الأعظم بالنسبة لي هو المفكر الموسوعي الذي يتحدث، المثقف الذي يلقي محاضرة عن موضوع محدد دون أن يقرأ، يعتمد على الذاكرة في الإلقاء، يتشهد بمصادر عديدة ويوصلها إلى المستمع والقارئ في أبهى صورة وأكثرها جمالاً. بورخيس يتحدث للآخرين كقارئ موسوعي لا متخصص. أن يكون متخصصاً معناه أن يركز على نقطة واحدة بتشعباتها العديدة. لكن كقارئ موسوعي يطرح عدة موضوعات: أدبية وفلسفية وتاريخية وشخصية وشعرية. وكل موضوع يبحث في زواياه وأركانه، يقدم الجميل والجليل ويطمح من الآخرين أن يشاركوه إياه.

ما هو أعظم من قراءة القصة؟ من قراءة الشعر؟ أن تجد قارئاً آخراً أو أي شخص آخر يتحدث عن القصة والشعر والأدب بكل عوالمها، بصورة أخاذة وجميلة، يشحذ فيك الرغبة للتوجه مباشرة إلى المكتبة والبحث عن الكتاب الذي يتحدث عنه هذا القارئ. بعض الحديث عن الكتب يكون أفضل من الكتب بحد ذاتها. وهذا ما يجيده بورخيس بكل براعة لسبب جد رئيسي: بورخيس يعطي أهمية لتاريخ النقد والحركات النقدية، لكن-إذا تناولنا شخصية أدبية مثل شكسبير أو دانتي، يجب ألا نتجه لتاريخهم أو للببليوغرافيا، بل نتجه مباشرة إلى النصوص مباشرة. إذا أحببنا النصوص والكتاب هذا حسن وجيد، ولكن-إذا لم يعجبنا الكتاب أو النص الشكسبيري ماذا نفعل؟ لا تقرأه! هكذا مباشرة، لا يحتاج الأمر للبحث في الأسباب. فكرة القراءة الإجبارية حسب تصور بورخيس سخيفة، إذ أن الشعر هو شيء يشعر به المرء. إذا لم تشعروا بالشعرـ لم يكن لديكم إحساس بالجمال، لم تستطع القصة أن تجعلكم تريدون أن تعرفوا ماذا سيحدث لاحقاً، فإن الكاتب لا يكتب لكم، دع ذلك جانباً، الأدب غني بما فيه الكفاية لكي يقدم مؤلفاً يستحق انتباهكم.

كنت قد قرأت محاضرات بورخيس بعنوان صنعة الشعر-من ترجمة صالح علماني، كانت القراءة رائعة لكن موضوعها مخصص حول الشعر: لغزاً واستعارة وحكاية وموسيقى الكلمات ومعتقد الشاعر. رغم تخصصية المحاضرات إلا أن أجمل محاضرة كانت الأخيرة المسماة: معتقد الشاعر، يتحدث فيها عن نفسه كقارئ من سنوات الشباب إلى أن أصبح مديراً للمكتبة الوطنية، يتحدث بشغف عن الاكتشاف الأول لألف ليلة وليلة بترجمات إنجليزية حفرت بذاكرته طويلاً، ومغامرة الدون كيخوته ومارك توين وأعمال أخرى. حين يقول بورخيس أنه لطالما تخيل الجنة على شكل مكتبة، لم يكن هذا القول رمزاً أو قولاً شعرياً. كانت حياة في المكتبة تماماً، بين كتبها ورفوفها وما تحويه من أساطير وتاريخ وموسوعات.

أفضل كتاب قرأته لبورخيس هو كتاب: سبع ليال. وهي محاضرات ألقاها في ثمانينات القرن المنصرم في بيونس آيرس. هذه المحاضرات أحد أجمل النصوص الأدبية التي قرأتها مؤخراً، إذ تضمنت ما يمكن بتسميته بالتحريض لقراءة آداب ونصوص أدبية، وهي كذلك أشبه بالنصوص الأدبية البديعة لأن بورخيس لو فكر بكتابة قصة قصيرة عن البوذية مثلاً، لما استطاع أن يبدع قلمه بمثل ما قاله في محاضرة البوذية عن بوذا الغني، وبوذا المتسائل، وبوذا الذي تخلى عن كل شيء. بل إن محاضرته عن البوذية تفوق رواية سدهارتا لهرمان هسه. موضوعات المحاضرات هي: الكوميديا الإلهية، العمى، الكوابيس، القابالا، الشعر، ألف ليلة وليلة، البوذية. قرأت كثيراً عن الكوميديا الإلهية؛ مقالات وكتب ونقد وتاريخ، لكن أياً منها لا يملك طاقة دفع القارئ لأن يقرأ كوميديا دانتي بمثل ما قاله بورخيس وحرض عليه في محاضرته. كوميديا دانتي حسب تصوره هي ذروة كتب الأدب، وبغض النظر عن أساطيرها التي هي مزيج بين الوثنية والمسيحية، فإن ما من كتاب أدبي استطاع أن يثير عواطف جمالية عميقة بمثل ما يفعل دانتي في الكوميديا. في حديثه عن الكوميديا يشير إلى شخصيات الكوميديا من زوايا جمالية إنسانية صرفه، لا يتناول الجانب اللغوي فيها-رغم أنه فسر كيف قرأها وبأي لغة قرأها-لكن التناول يتناول الموضوع والشخصيات والأحداث. إن رواية معاصرة حسب قول بورخيس قد تحتاج إلى خمسمائة صفحة حتى نفهم شخصاً ما، بالنسبة لدانتي لحظة واحدة تكفي، حينها يُعرف الشخص مرة واحدة وإلى الأبد. لدى دانتي شخصيات تتألف حيواتها من بعض أبيات شعرية، لكنها مع ذلك خالدة. إنها تعيش في كلمة، في إيماءة، وهي لا تحتاج أن تفعل أكثر من ذلك. إنها جزء من كانتو، لكن ذلك الجزء خالد، لهذا هي تعيش وتتجدد دائماً في ذاكرة البشر.

بورخيس قال مباشرة للقراء والمستمعين: الكوميديا كتاب يجب على كل قارئ أن يقرأه. ألا تفعل ذلك يعني أن تحرم نفسك من أعظم هبه يستطيع الأدب أن يقدمها لنا. وأنا أقول: عليكم بقراءة بورخيس المفكر القارئ، بورخيس المحاضر الذي يتحدث عن روائع الأدب والثقافة بنثر بليغ في محاضراته الأدبية، كما في كتاب سبع ليال.




*mamdouhawordpresscom


/
 
أعلى