دراسة محمد عبدالحليم غنيم - نقد الواقع عبر الرمز ودقة التفاصيل قراءة في القصص القصيرة

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

تتناول هذه الدراسة ست مجموعات قصصية قصيرة متفاوتة المستوى ومختلفة الاتجاهات , فمن كتابها من هو متحقق ومعروف في الساحة الأدبية في الوطن وخارجه , ومنهم من يكتب القصة القصيرة لأول مرة .

من هنا كان أحد صعاب البحث كيفية وضع هذا الخليط غير المتجانس في سلة واحدة , ودراستهم دراسة عرضية بالوقوف عند تيمة محددة أو تقنية من تقنيات السرد , ولما كان بعض هؤلاء الكتاب لم يسبق دراسته من قبل , رأيت أن تكون دراستي طولية , لكي يأخذ كل كاتب حقه , وتجنبا للإطالة من ناحية وبعد قراءة أعمالهم قراءة أولى وجدت أن أدرسها عبر محاور ثلاثة , أدرس في كل محور كاتب أو أكثر , ففي المحور الأول تناولت مجموعة نجلاء محرم " لأنك لم تعرفي معنى افتقادك " وفي المحور الثاني تناولت مجموعتي " كائنات فائضة عن الحاجة " و " الموت ضحكا " لأحمد والى ومحمد الحديدي على الترتيب , وفي الثالث تناولت المجموعات الثلاثة الأخيرة " من يحمل الراية " و " حماري في مستشفى المجانين " و " الليل يرحل دائما " للأساتذة محمد أحمد على ومحمد الأطير ومحمد على الفقي



المحور الأول : " لأنك لم تعرفي زمن افتقادك " بين استخدام الرمز والحكاية الرمزية :

الأستاذة نجلاء محرم من الأصوات النسائية الجادة في ساحة الإبداع الأدبي , استطاعت خلال سنوات معدودة أن تحفر لنفسها اسما في لوحة كتاب وكاتبات القصة القصيرة والرواية فأصدرت حتى الآن ثلاث مجموعات قصصية وروايتين , وربما كان لها تحت الطبع أعمال أخرى , هذا إلى جانب دورها الفعال ويديها البيضاء في إثراء الحركة الأدبية في مصر والعالم العربي , وذلك بتنظيم مسابقة أدبية للقصة القصيرة , اجتذبت إليها إبداعات من خارج مصر , ولا نريد أن نطيل في ذلك , ولكن لابد من ذكر هذا الفضل لها .

والكتاب الذي بين أيدينا " لأنك لم تعرفي معنى افتقادك " أحدث ما صدر للكاتبة في القصة القصيرة , يحتوى على أربعة وعشرين نصا قصصيا , تتراوح هذه النصوص في معظمها بين استخدام الرمز وتوظيف الحكاية الرمزية , وأقول معظمها لأن هناك نصين فقط يمكن إخراجهما من دائرة الرمزية , هما " حوار" و " سعيد " .

وبعيدا عن اختلافات النقاد حول تعريف الرمز نرى مع صبحي البستاني في عبارة مختصرة أن " الرمز تجاوز للدلالة الاصطلاحية إلى دلالة ثانية هي الدلالة الرمزية " (1)

ولأن نجلاء محرم تجمع في نصوصها بين استخدام الرمز والحكاية الرمزية , لزم أن نفرق بينهما , فإذا كان الرمز يتجلى في عبارة أو لفظة محددة , فإن " الحكاية الرمزية لا تكون بلفظة مفردة , وإنما تقوم كما يدل اسمها على إحياء عالم معين مؤلف من عدة عناصر متداخلة ومتكاملة , ولهذا العالم جانبان , جانب مباشر وحرفي وجانب آخر هو جانب الدلالة الأخلاقية أو النفسية أو الدينية " (2)

وبلا شك أن الرمز على المستوى الفني أرقى وأثبت من الحكاية الرمزية , يقول تودروف في كتابة نظريات الرمز : " الحكاية الرمزية تدل مباشرة يعنى أن وجهها الحسي لا مبرر لوجوده إلا من أجل نقل المعنى , بينما الرمز لا يدل إلا بشكل غير مباشر وبطريقة ثانوية , فهو في الكتابة لأجل ذاته , ولا تكشف دلالته إلا في مرحلة ثانية , في الحكاية الرمزية الدلالة أولية بينما هي ثانوية في الرمز " (3) .

ويترتب على المباشرة وغير المباشرة في الحكاية الرمزية والرمز على الرغم من اشتراكهما معا في القدرة على بعث الإيحاء الشعري " أن المعنى في الحكاية الرمزية نهائي , أما معنى الرمز فهو لا نهائي ولا يمكن استنفاذه , وبكلام آخر عندما يصل إلى غايته يصبح بشكل من الأشكال ميتا بينما هو فاعل وحي دائما في الرمز " (4) .

تتجلى مظاهر الاستخدام الرمزي في المجموعة على مستويين : المستوى الأول مستوى الشكل , والثاني تقنيات الاستخدام الرمزي ومصادره فتحت المستوى الأول تتوزع معظم القصص بين استخدام الرمز بشكل جزئي أو كلي وهذا في معظم قصص المجموعة وإن تجلى بصورة واضحة في قصة العنوان " لأنك لم تعرفي معنى افتقادك " و" تسلل" و "خروج" وغيرها , واستخدام الحكاية الرمزية , وهذا واضح في حكاياتها الرمزية القصيرة جدا مثل ( عناد وعقول وغربة ودهاء ) وبعض الحكايات الرمزية الطويلة مثل ( جدي وأنا وللكلاب ذاكرة ).

وعلى مستوى تقنيات الرمز ومصادره , فتعتمد الكاتبة اللغة الموحية والجمل القصيرة ذات الإيقاع الشعري , كما تنأى عن التفصيلات , ومن ثم يقل الوصف ويكثر الحوار في معظم القصص , أما مصادر الرمز فتكاد تنحصر في الرمز التوراتى ـ الديني ـ المتمثل في استدعاء شخصية المسيح , والرمز الأسطوري الذي يتمثل في استدعاء الرموز الحيوانية كالنمل والحمير وغيرها .

في القصة الأولى " لأنك لم تعرفي معنى افتقادك " تستدعي الكاتبة شخصية يسوع المسيح عبر لغة شعرية موحية هي لغة المسيح , تضع بين أيدينا رحلة المسيح إلى أورشليم وصراعه مع اليهود كدلالة مباشرة لتستدعي دلالة أخرى غير مباشرة أو ثانوية هي الصراع بين العرب وإسرائيل , علينا أن نقاوم مقاومة المسيح , بل علينا أن نموت من أجل الوطن , لتقوم قيامته من جديد , وهو ما تلخصه الكاتبة في نهاية القصة , إذا جاز التعبير " سنموت نحن وتقوم أنت وتظل قائما .. وتتجدد الأجيال حولك .. حتى يأتي الجيل الذي لا يسلمك ولا ينكرك .. وعندئذ تكون القيامة قد حانت "(5) ص 60

إننا في هذه القصة لسنا أمام حكاية رمزية إننا أمام رمز أو شخصية رمزية تشكل عبر لغة ومقاطع سردية قصيرة أقرب إلى الشعر , وليس عبر حكاية ذات بداية ووسط ونهاية , لذلك جاءت الدلالة الرمزية عريضة ولا نهائية , إذ تحتمل القصة أكثر من تفسير ففي كل قراءة جديدة يمكن تلمس معنى جديد .

أما قصة " للكلاب ذاكرة " فتعد نموذجا لاستخدام الحكاية الرمزية , ولكنه استخدام يتجاوز استنفاد المعنى المباشر في الحكاية الرمزية التي تميل إلى ترك عظة أو عبرة أخلاقية إن الكاتبة توظف في هذه القصة ـ التي تروى على لسان كلب ـ الحكاية الرمزية توظيفا راقيا يقترب من الرمز الكلي , ربما لأنها مزجت بين عالم الحيوان وعالم الإنسان في الحكاية فالعنوان " للكلاب ذاكرة" يعد ردا على قول الصبي لصاحبه وهو يقذف الكلب بحجر " ليس للكلاب ذاكرة " , وإن كنت أرى أن الجملة كبيرة على الصبي , فهي بالأحرى جملة أو فكرة الكاتبة نفسها , يؤكد ذلك أن الكاتبة في موضع آخر تنفي أن راوي الأحداث هو الكلب , فيظهر صوتها واضحا , مثلا :

" مسحت بوزي في وجنتها ففتحت فمها وعضت بأنيابها الجميلة عنقي وجرت .. جريت وراءها وتبادلنا العض والخمس .. هو الحب ولا شك " (6) ص49 .

إن جملة " هو الحب ولا شك " للكاتبة وليست للكلب . والقصة قبل كل هذا تصوير دقيق لمشاعر الكلب في لغة عفوية بسيطة شفافة تنقل إلينا خبرة بعالم الكلاب , غير أن الكاتبة كادت أن تفسدها بهذه الجملة التي اشتقت منها عنوان القصة , حيث يقول الولد قاذف الطوب : " سينسى فورا .. ليس للكلاب ذاكرة " (7) ص 52 .

لقد انتهت القصة قبل هذه الجملة , وذلك عندما صدمت السيارة الكلبة المحبوبة , فسقطت ميتة بين يدي الراوي كانت أسفل هذا الشيء الذي يبعث الدخان تشممتها .. لعقت عنقها .. رفعت رأسها نحوي .. لم تقدر أن تمنحني نظرة من عينيها العذبتين .. أعادت رأسها إلى الإسفلت " (8) ص52 .

وإذا كنا توقفنا عند نموذجين لتوظيف الرمز والحكاية الرمزية لدى الكاتبة فقط , فإننا نغمط الكاتبة حقها إذا لم نشر إلى نصوصها الأخرى التي عبرت فيها بصدق عن تعاطفها ونظرتها الإنسانية إلى الشخصيات المهمشة في المجتمع , مثل قصتها البديعة " حوار " وقصتي " سعيد " و " العودة " حيث تتجاوز فيها الهم الفردي إلى الهم الجماعي الذي يشمل الوطن العربي كله .

أما حكاياتها الرمزية القصيرة فلا تخرج عن كونها حكايات رمزية تنتهي وظيفيا بمجرد فهم دلالتها , مثل قصص ( غباء ـ عقول ـ جدي وأنا ) وغيرها .

* * *

المحور الثاني : الاهتمام بالحدث ودقة التفاصيل في مجموعتي " كائنات فائضة عن الحاجة " و " الموت ضحكا " لأحمد والي ومحمد الحديدي :

ـــــــــــــــــــــــــــ

نلتقي في هذا المحور مع مجموعتي " كائنات فائضة عن الحاجة " و " الموت ضحكا" للكاتب الروائي أحمد والي والقصاص محمد الحديدي , وبداية لابد من تقديم نبذة مختصرة عن المؤلفين ,فهذه هي المرة الأولى التي تدرس فيها أعمالهما عبر مؤتمر إقليمي , فالأول يعمل طبيبا كمهنة يأكل بها عيشه أو يسد بالأحرى رمقه , يكتب أحمد والي القصة القصيرة منذ ربع قرن تقريبا , أصدر أول مجموعة قصصية له بعنوان (ثلاث شمعات للنهر) عام 1987 على نفقته الخاصة , بعد أن ذاع صيت قصصها جميعا في مجلات أدب ونقد والثقافة الجديدة وإبداع وصوت الشرقية , ثم صدر كتابه الثاني ( المتنصتون ) عن دار رياض الريس في لندن عام 2001 م , وقد جمع الناشر فيه بين رواية قصيرة بعنوان " المتنصتون " ومجموعة قصص قصيرة هي التي بين أيدينا الآن . ولكن الناشر أثابه الله وجزاه على قدر نيته أساء للكاتب والكتاب معا , عندما خلط الأوراق وأدخل قصص المجموعة بين فصول الرواية , وجعلها جميعا كتابا واحدا بعنوان المتنصتون وتحت هذا العنوان كتب كلمة " قصص " , لذلك لم يعرف القارئ حدود الرواية من القصص القصيرة .

ولما كنت متابعا لما ينشره صديقي أحمد والي ولما يكتبه لم ألجأ إلى من يدلني على فرز القصص القصيرة من الرواية , ولأن الكتاب مطبوع ومرقمة صفحاته ومرتبة فصوله , انبه القارئ المتلقي له , أن الأرقام الفردية تمثل فصول الرواية , أم الأرقام الزوجية (2 , 4, 6, .. ) فتمثل قصص المجموعة . وهنا اقترح على الكاتب أن يعيد نشر قصص المجموعة في كتاب منفصل واضعا لها عنوانها الأصلي ," كائنات فائضة عن الحاجة " وهذا ما قمنا به عبر هذه الدراسة .

جدير بالذكر أيضا القول أن لأحمد والي رواية طويلة بعنوان " شارع البحر " ستصدر قريبا عن دار ميريت , ولعلها في المطبعة الآن .

والكاتب الثاني محمد الحديدي فصاحب مهنة مثل أحمد والي , إذ يعمل محاميا , ولكن يبدو أن مهنة المحاماة شغلت معظم وقته , وجعلته لا يتفرغ ولو قليلا لمواصلة الكتابة , فالحديدي الذي اقترب من الأربعين وربما تخطاها , لم تصدر له سوى مجموعة قصصية يتيمة هي التي بين أيدينا الآن , وقد علمت أن لديه مجموعة جديدة مخطوطة تنتظر النشر .

ونعود إلى المجموعتين , فيقفز أمامنا السؤال التالي : ما الذي يجمع بين أحمد والي ومحمد الحديدي في قصصهما ؟ إنه في إيجاز الاهتمام بالشخصيات المهمشة والمسحوقة في المجتمع المحيط بهما في المدينة والقرية , ولنلاحظ أن كلا الكاتبين يعيش في مدينة الأول في ههيا والثاني فاقوس , غير أن المدينتين أقرب في بنائهما الاجتماعي إلى بناء القرية في علاقتها الاجتماعية وبنيتها الاقتصادية ,غير أنك مع أحمد والي على الرغم من قسوة الأحداث وكثرة الشخصيات المسحوقة نجده ينظر إليها من مسافة بعيدة , وإن شارك أحيانا في بعض الأحداث بوصفه راويا طفلا يتقنع بالبراءة والسذاجة , بينما نرى الحديدي قريب من شخصياته مشاركا لها بوصفه راويا طفلا أم ناضجا على السواء , وإن ظل الراوي في معظم القصص يقف خارج الأحداث , ربما لأن معظم القصص تعتمد في بنائها على حبكة الحدث كما ستشير بعد قليل .

تشتمل مجموعة (كائنات فائضة عن الحاجة ) على ثلاثة وعشرين نصا هي على الترتيب : الحاوي ـ الأهل الآخرون ـ جنازة ـ سارق الأحباب ـ الذبيح ـ الحوذي ـ تين الشوك ـ طيب القلب ـ ذلك المساء ـ رقصة ـ رحلتا الشتاء والصيف ـ مدينة العيون الزرق ـ رحلة وشيكة ـ عصفور معلق بين الأسلاك ـ امرأة ملتحفة بالسواد ـ خيول كالبشر ـ زيارة ـ اسم قبيح للمرابي العجوز ـ التمثال ـ خالة وحيدة ـ كائنات فائضة عن الحاجة ـ بقايا مرآة لجسد شاحب ـ وظيفة بحذاء لماع .

وهي جميعا نصوصا قصيرة لا يتعدى أكبرها المس صفحات من القطع الصغير , بينما لا يتجاوز معظمها الصفحتين من القطع ذاته , وهي تروي جميعا على لسان الراوي العليم الذي يقف خارج الحدث في معظم القصص عدا بعض القصص التي يكون فيها الراوي طفلا فنجده يشارك في الحدث , لكنه لا يقوم وحده ببطولة الحدث . وهذا يرجع إلى أن الرواية السردية الغالبة على قصص هذه المجموعة وربما على معظم قصص والي رؤية موضوعية و لذلك تظهر بين حين وآخر أنف المؤلف حمراء كبيرة وسط الأحداث , انظر مثلا قصة ( سارق الأحباب ) فالجملة الأخيرة في القصة للمؤلف وليست للراوي : " قبيح أنت يا شم النسيم وخوان فلا تجيء هذا العام يا سارق الأحباب " (9) ص48 , ومثلها أيضا قصة ( طيب القلب ) إذ يكرر المؤلف / الراوي " ما كان من الأشرار ولا كان خنزيرا إنما ظل طيب القلب حنونا ومعه يحمل الأشياء الحلوة " وكأن المؤلف أراد أن يوصل إلينا رؤيته شعرا عبر التكرار اللفظي وليس عبر سرد الأحداث .

على أية حال أتاحت هذه الرؤية الموضوعية في السرد أن تجعل الراوي يلقي علينا كما كبيرا من الأحداث المؤلمة في عدد محدود من الصفحات , دون أن يتحرك له ساكن , في الوقت الذي يقف فيه المتلقي مذهولاً أحيانا ، ومتعاطفاً في معظم الأحيان هذه الشخصيات المسحوقة مثل بائعة تين الشوك في قصة ( تين الشوك ) وشخوص قصة ( كائنات فائضة عن الحاجة ) الذين يجدون المقهى مغلقا , فيقومون هم أنفسهم بفتح المقهى وخدمة أنفسهم بأنفسهم , ويجعلون صاحب المقهى يأخذ إجازة من عمله ويشاركهم العمل . وغيرها كثير .

يكتب أحمد والي قصته بحرفيه شديدة , وهو واع شديد الوعي بطرائق الكتابة , ومع ذلك تخونه أحيانا تلك المهارة ، لكن القصة أو النص رغم كل ذلك لا يصبح مسخا , إنه يصبح لوحة قصصية , ولا أقصد اللوحة القصصية بمفهومها التقليدي الذي كنا نقرأها في أربعينات أو خمسينات القرن الماضي عند المازني أو محمود تيمور , إنها بالضبط إذا شئنا ضبط اللفظ والمصطلح القصة / اللوحة فهي ليست " " مجرد وصف أو تصوير ثابت , بل إن الحدث والصراع الدرامي جزء جوهري كامن وفعال في هذا الوصف , ومن ثم فإن الزمن جزء لا يتجزأ منه , مع أن النص يتخلص من الحبكة الزمنية التقليدية , إنها الدرامية التي تزيد في صفاء القصة القصيرة وتجعلها مضادة للأحدوثة والزمن الخطي " (10)

تتراوح نصوص أحمد والي إذن بين القصة / اللوحة والقصة القصيرة وإن مالت في معظمها إلى النوع الأول , مثل قصص : الأهل الآخرون , جنازة , سارق الأحباب , طيب القلب , خيول كالبشر , خالة وحيدة , وغيرها .

أما القصة القصيرة ذات البناء المكتمل فتمثلها قصص : الحاوي , ذلك المساء , رحلتا الشتاء والصيف , عصفور معلق بين الأسلاك , زيارة , بقايا مرآة لجسد شاحب , كائنات فائضة عن الحاجة .

وتستحق القصة الأخيرة أن نقف عندها ولو قليلا : تبدأ القصة بعبارة لصاحب المقهى هي إجابة عن سؤال , فجملة البداية تدفعنا إلى وسط الأحداث وليست إلى بدايتها , أما العبارة فهي قول صاحب المقهي :

" حامل الطلبات وعامل النصبة ماتت أمهما بالأمس , فماذا أصنع ؟ اذهبوا إلى مكان آخر " (10) ص 157 .

والمتأمل في مفردات هذه الجملة يجد الموت والحيرة والأمر الذي هو أقرب إلى الرجاء , وهي مفردات تمثل المخاوف الحقيقية لأبطال القصة , تلك الكائنات الهشة الفائضة عن الحاجة التي لا تجد مكانا يأويها بعد أن أغلق المقهى أبوابه , لذلك يذهبون جميعا إلى منزل صاحب المقهى في الدور الأخير , ويطرقون بابه لكي يفتح لهم المقهى , فيستجيب لهم متعاطفا معهم ربما لأنه استشعر أن مصيره سيكون ذات يوم مثلهم ويفتح لهم المقهى ويقومون بأنفسهم بالخدمة فيه .

لقد استطاع أحمد والى أن يوظف البداية توظيفا جيدا في القصة , وتنقل بالأحداث من منزل صاحب المقهى إلى المقهى نفسه , ولم يتدخل كثيرا في السرد , ربما جملة واحدة جاءت في نهاية القصة هي قول الراوي : " ترف سعادة عصية على الوصف " (12) ص 155. ولماذا تكون هذه السعادة عصية على الوصف ؟ لأن أحمد والي هو الذي يرى ذلك .

يبقى أن أقول بصدق هناك كتاب تقرأ لهم وبعد أن تنتهي من قراءتهم تقول الحمد لله إنني انتهيت منها , أما أحمد والي فتتمنى أن تقرأ له المزيد لتعرف ماذا يريد أن يقول بعد ذلك , ونحن متشوقون لشارع البحر ولأعمال أخرى نأمل أن نراها قريبا .

أما مجموعة " الموت ضحكا " لمحمد الحديدي فتشتمل على خمس عشرة قصة قصيرة هي على الترتيب : حدث مع هذا الكلب ـ الموت ضحكا ـ فيضان ـ عناقيد الوهم ـ الأغنية ـ كفر البسطاء ـ أبو عكاشة ـ ثمن التذكرة ـ طبق الفول ـ أشياء يحدث كثيرا ـ الدجاجة البيضاء ـ النخلة القصيرة ـ المصيدة ـ حكاية البنت هنية ـ هزيمة روميو , يعتمد فيها المؤلف أسلوبا واحدا في القص , وهو القصة ذات الحبكة القائمة على الحدث , فالقصة عند الحديدي , تقوم في بنائها على حدث واحد صغير في الغالب , أو مجموعة من الأحداث تؤول إلى حدث واحد بانتهائه تنتهي القصة , وهو في الغالب لا يمهد للحدث . ولكن يدخل فيه مباشرة ولذلك جاءت معظم القصص قصيرة , تتراوح بين الصفحتين والثلاث صفحات فيما عدا قصتين وصل عدد صفحاتهما إلى ست وهما ( كفر البسطاء وحدث مع هذا الكلب ) ولعل هذا يذكرنا بقصص أحمد والى , ولكنك لا يمكنك أن تقول أن هذه قصص قصيرة جداً .

وهذا النوع من القصص أي القصة القائمة على حبكة الحدث , تحتاج من كاتبها إلى يقظة ودقة , وإلا انفرط عقد القصة , واهتز إيقاع السرد ومن ثم عمت الرؤية وفقدت القصة وحدة الانطباع الذي أراد المؤلف أن يتركه في القارئ . وقد لا حظنا ذلك في قصتي " الموت ضحكا , النخلة القصيرة " ففي القصة الأولى على الرغم من الاستهلال الجيد الذي بدأ به القصة و يفلت خيط الأحداث من الكاتب , فالراوي يمنع أذى الأطفال عن ذلك الفقير الغلبان المسكين المدعو ( طلبة ) ويحنو عليه , ثم يتركه إلى العمل بعد أن ربت على رأسه وأشعل له سيجارة , ليبقى طلبة بجوار محطة القطار تحت شجرة الكازورينا , وبعد عودة الراوي من العمل يذهب إلى طلبة ليجده كما هو تحت الشجرة فيدعوه إليه ويقول انتظرني حتى أعود إليك في المساء , وفي المساء يعود الراوي ليجد طلبة ميتا من شدة البرد وهنا يصرخ الراوي :

ـ " جيت علشان أخدك معايا يا طلبة .. حاول تسمعني وما تسبنيش " .

كان الليل قد أرخى سدوله على المكان بأسره .. فاختفت خضرة الأشجار .. خفقت الأضواء من حولي .. صرت شاردا عبر نتوءات أفكار مبهمة .. لا ألوي على شيء .. أصبحت خطواتي كخطى طفل يتيم " ( 13) ص 17

وواضح في هذه النهاية المبالغة في عاطفة الراوي تجاه طلبة , وإن كان المؤلف قد حاول أن يعمق علاقة الراوي بطلبة , في مقطع استرجاعي فهمنا منه أنه سبق أن أخذ طلبة يوما وقدم له اللحم والأرز في مطعم ط أبو سيد أحمد " وقدم له الشاي والسجائر في مقهى الشبراوي ( 14) ص 16 .

وفي قصة " النخلة القصيرة " على الرغم من تماسك الأحداث حيث يطلب الراوي من زوجته أن تري أثر جرح في جبهته , ورغم عدم اهتمامها يصر أن يسرد عليها وبالتالي علينا سبب هذا الجرح , عندما راهن صديقه أن يعطيه قرشا لو أكل ثلاث بلحات من النخلة القصيرة الكائنة في المقابر والتي تنتج بلحا أصفر بقلب أحمر لأنها تروى من دم الموتى , وعندما أراد أن يفلت بالقرش سقط على وجهه وجرح , أقول على الرغم من تماسك الحدث , والتوتر الدرامي الذي بدا من عدم اهتمام الزوجة فجعلنا نتعاطف مع الراوي , فإن الرؤية غائمة , فالعنوان النخلة القصيرة يبدو غير مرتبط بمضمون القصة .

وفيما عدا ذلك , فإن الحديدي عندما يمسك بالحدث جيدا فيسيطر على مفرداته لغة وشخوصا , تكتمل عناصر القصة وتتضح رؤيته , فيصل إلينا المغزى في يسر وسهولة مع اللفظة الأخيرة في القصة , ولعل قصة " فيضان " تعد نموذجا لذلك . في " فيضان " تجلس امرأة وحيدة في غرفتها الفقيرة , تتناثر فوق رأسها حبات التراب , تشعل مصباح الكيروسين ليضيء لها الغرفة وربما ليضيء لها الماضي أيضا , وهنا يبدو لنا جمال البداية أو الاستهلال السردي , تبدأ القصة : " تناثرت حبات التراب فوق رأسها .. نظرت إلى سقف حجرتها الوحيدة أشعلت عود ثقاب وأضاءت اللمبة " نمرة 10 " فبدت الأشياء شاحبة .. أمسكت بالكوز وغطته في " الزير" شربت قرأت اسمها المكتوب على الحائط ( وفاء ) "(15) ص21 .

من مفردات هذه البداية سيتولد الحدث وتكتمل الرؤية , فهذه المرأة الوحيدة تقلب في ماضيها البعيد , فتتذكر زوجها سالم وحبه لـه وليلة الدخلة والمحرمة البيضاء ذات البقع الحمراء دليل الشرف , وهي إذ تفعل ذلك يبدو لها الماضي جميلا وضيئا , ولكنه ماض متصل بالحاضر , وهو حاضر جميل أيضا , يطرق الباب ابنها حاملا بين يديه حفيدها الصغير " سالم " فتقول وهي جملة النهاية أيضا وما أجملها من نهاية : " تشبه المرحوم جدك كثيرا يا سالم " (16) ص22 . في هذه القصة لا يمكننا حذف كلمة واحدة , إن كل شيء قد وضع في مكانه تماما .

ملمح آخر في قصص محمد الحديدي , وإن جاء شحيحا , ألا وهو شعرية اللغة , وهو ملمح يبدو ملائما لهذا النوع من القص , لأنه يرقى بها ويخفف قليلا من حدة الحدث , فعل الحديدي ذلك في قصة " فيضان " التي توقفنا عندها آنفا وبصورة أفضل في قصة " حكاية البنت هبة " وهي قصة في رأيي من أفضل قصص المجموعة , فهذه الفتاة الجميلة البسيطة التي تربت على حب محمد تقول له أنها خائفة عليه , وعندما يطلب منها التوضيح , تقول :

ـ " أمنا الغولة لما بتاخد حد بتغير شكله وملامحه " (17) ص84 .

وقد أخذت محمد المدينة وغيرته فعاد إلى هبة مسخا " مرتديا قميصا مشجرا بألوان زاهية وبنطلونا ملتصقا بفخذيه .. تتخلل أصابعه سيجارة أجنبية .. واضعا انسيالا ذهبيا حول معصم يده اليمنى " (18) ص 84 . لذلك ترفضه وهي تجري .

على أية حال لقد أجدت يا حديدي ونأمل أن نقرأ لك قصصا أخرى , وهذه المجموعة وإن كانت الأولى فإنها تنبئ عن وجود كاتب سيكون له شأن لو استمر .



المحور الثالث : تجارب متنوعة في القصة القصيرة :

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

أتوقف في هذا المحور عند ثلاثة من كتاب القصة في الشرقية لا يجمع بينهم سوى الاختلاف والتباين , الأول محمود أحمد على , وهو أصغر الثلاثة سنا , كاتب متمرس على فن القصة وعضو فعال في الحركة الأدبية , نشر معظم قصصه في المجلات الأدبية المعروفة والصفحات الثقافية في الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية , والثاني محمد الأطير كاتب مخضرم يقرض الشعر ويكتب المسرحية , وكتابه الذي بين أيدينا يقع على تخوم القصة والمسرحية وربما الرواية أيضا , والثالث محمد أحمد الفقي , عضو النادي الأدبي بالزقازيق وشاعر أصدر ديوانين بالفصحى , والكتاب الذي بين أيدينا يدخل به عالم القصة القصيرة لأول مرة .



1 ـ محمود أحمد علي ( من يحمل الراية ؟ ) :

ـــــــــــــــــــــــ

تمسك مجموعة ( من يحمل الراية ؟ ) بين يديك , فيقابلك بعد الغلاف الجميل المعبر حيث صورة رجل ولهان وبجواره وجه حسناء يقابلك هذا الإهداء العجيب , ولتقرأ معي :

" إلى حبيبة الأمس واليوم وغدا قصتي القصيرة .. آسف زوجتي , فلم أعد أستطيع كتمان هذا السر "

" محمود … "

فكاتبنا قد تزوج القصة القصيرة ولم يعد يستطع كتمان الأمر , لذلك فهو يهدي إليها كتابه ومعنى هذا أن المؤلف شديد الإخلاص لفن القصة القصيرة , ويبدو أن هذا الإخلاص الشديد جعله حريصا على ألا يفرط في قصة من قصصه , لذلك حشد كل إبداعه في هذه المجموعة , وبالأحرى تجاربه المتنوعة في كتابة القصة , فثمة أساليب مختلفة في الكتابة وكأنها لأكثر من كاتب , ولكن سيبقى الأسلوب اللغوي واحدا , فالجمل بسيطة غير معقدة والإيقاع السردي يتميز بالسرعة والانسياب , إن محمود أحمد علي في هذه المجموعة يكشف لنا عن كاتب قادر على كتابة قصص قصيرة ذات مستوى فني راق , فلديه من المهارة ما يؤهله للتجديد واللعب بالأشكال الفنية .

وسأتوقف عند بعض من هذه القصص التي تؤكد مهارته في الكتابة من ناحية وتقديم مضمون واحد يترك أثرا أو انطباعا مؤثرا في المتلقي , فقصص مثل ( من يحمل الراية ؟ ـ دوران ـ غريق الهوى ) على سبيل المثال قصص يغلب عليها الصنعة الفنية , بينما يبدو مضمونها عاديا , لكن قصص مثل ( الحاوي ـ تكرار الصمت ـ لحظة ميلاد ـ والمشهد الأخير من حياة السيد م الفنية ) أعتقد أنها قصص جيدة تفوق فيها المؤلف على نفسه , ولعله بها يكون جديرا بالزواج من القصة القصيرة كما يزعم ويكفينا أن نقف عند قصتي (الحاوي , ولحظة ميلاد ) .

في قصة " الحاوي " يأخذ الراوي وهو طفل صغير إلى سوق الثلاثاء في فاقوس حيث يذهب مع أمه في ذلك اليوم العجيب والذي يكون أعجب ما فيه الحاوي وما يقوم به من ألعاب تلفت , نظر رواد السوق والراوي على وجه الخصوص , تستشعر الأم رغبة الطفل في مشاهدة الحاوي , فتسمح لـه بالانفلات من بين يديها على أن تلحق به عند الحاوي , وهناك يرى الراوي عجائب الحاوي , ولكن العجيبة الكبرى في المشهد الأخير, حيث يربط الحاوي من قبل امرأة ربطة قوية فلا يستطيع فك نفسه , وعند ذلك تفسد اللعبة ويترك المتفرجون والراوي الحاوي وهو يعاني الخزي والعار ولا نعرف من فكه , غير أنه في الثلاثاء القادم يخبرنا الراوي أنه بحث عن الحاوي فلم يجده حتى الآن . واللافت للنظر في هذه القصة إن الرؤية السردية التي تصل إلينا عبر عين الطفل على الرغم من مشاركته في الأحداث , تبدو رؤية موضوعية , فهو ـ أي الراوي الطفل ـ يترك لنا الأحداث لتقول لنا كل شيء فالسرد شفاف لا تظهر فيه أنف الراوي أو رأسه كما رأينا في قصة بالعنوان نفسه للدكتور أحمد والي وفوق هذا يكتب محمود أحمد علي بلغة بسيطة سهلة تجعل السرد سلسلا سريع الإيقاع , وهي ميزة يمكنك أن تجدها في معظم قصص المجموعة .

والقصة الثانية " لحظة ميلاد " يصور الكاتب لنا في مهارة فنية عالية بناء سرديا يجمع بين الواقع والفنتازيا لحظة ميلاد قصة قصيرة , وتبدو هذه المهارة في استهلال القصة , الذي يعد في رأيي بنية سردية صغرى مكتملة , تعد نواة لبناء أكبر هو القصة ذاتها , تقول عبارة البداية :

" عندما رأيتها وهي تسير بجواري أعجبتني كثيرا , رحت أتتبع سير خطواتها , شعرت بوجودي , أسرعت في خطواتها , أسرعت وراءها , أسرعت هاربة , ما زلت خافها , بعد طول عناء أمسكت بها " (19) ص42 . فهذه العبارة الاستهلالية هي القصة نفسها في صورة قصة قصيرة جدا , حيث تصور إمساك المبدع بلحظة الإبداع لإنتاج عمل جديد .

والقصة فيما بعد عبارة عن حدث واحد مكتمل حيث يدخل الراوي غرفته محاولا كتابة القصة داخل مكتبه , تعاونه زوجته بتقديم العديد من فناجين القهوة , وكانت قد أغلقت التلفزيون وحبست الأولاد في غرفتهم , وبميلاد القصة , يخرج الأولاد من حبسهم ويفتح التلفزيون , ويبتسم رجل واقف في شرفة مقابلة بعد أن اطمأن على خروج المولود .

وبعد فمحمود أحمد علي كاتب ماهر كما أشرت من قبل ولكن مشكلته أنه يحتاج إلى موضوع كبير تظهر فيه هذه المهارة , فيمكنك أن تقول دون تحفظ أنه كاتب جيد يحتاج إلى موضوع .



2 ـ "حماري في مستشفى المجانين " و " الليل يرحل دائما " وإشكالية النوع الأدبي :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عند قراءة هذين الكتابين لمحمد حسين الأطير ومحمد أحمد الفقي تتمثل أمام الناقد منذ الصفحات الأولى قضية النوع الأدبي , هل ما يقرأه قصة قصيرة أم رواية أم مسرحية أم شعر منثور أم هو خليط من كل ما سبق ؟



أ ـ في الكتاب الأول " حماري في مستشفى المجانين " مجموعة من الحوارات الطريفة بين الراوي وحماره وهو ما يذكر على الفور بحمار توفيق الحكيم وما قاله له , تبدأ بحوارات الأطير بحماري الفيلسوف , حيث يقنع هذا الحمار الراوي بأنه ليس غبيا , بل هو أذكى من الإنسان , وإذ يقتنع الراوي بذكاء الحمير يشرع في استبدال مخه بمخ حمار , وهي تيمة لم يستغلها القاص , حيث كان يمكن من خلالها إثراء الحوارات , وتتواصل الحوارات بين الحمار والراوي للحديث عن الطرب , إلى أن يطلب الحمار من الراوي الذهاب إلى حديقة الحيوان , وهناك يتهم الراوي بالجنون , والسر في ذلك أن الحمار يتحدث لغة البشر , فيسب ويشتم أحد رواد الحديقة , فيظن أن الساب الشاتم هو الراوي , وعليه يساق الحمار وصاحبه إلى مستشفى المجانين , وفى المستشفى يستطيع بذكائه أن يخرج الراوي من المستشفى , ثم يتواصل الحوار بين الحمار وصاحبه للحديث عن قضايا مختلفة مثل الإرهاب والحروب والانتخابات والدروس الخصوصية , والزواج , حيث يزوج الراوي صاحبه الحمار من حمارة الجيران , إلى أن تنتهي هذه الحوارات بإعدام الحمار في الفصل الأخير والتهمة المسببة لهذا الإعدام هي أن الحمار يتحدث بلغة البشر .

وفصول الكتاب بهذا الشكل أقرب إلى بناء الرواية منها إلى الحوارات الانتقادية التي رأيناها عند توفيق الحكيم أو القصة القصيرة , وإن كانت حوارية " حماري في مستشفى المجانين " أقربها إلى القصة القصيرة .



وحمار الأخير يختلف عن حمار الحكيم في أنه حمار ليس ذكيا على طول الخط , صحيح هو فيلسوف ومجادل ولكن أحيانا يكون على خطأ , فيقتنع بخطئه كما حدث في فصلي " حماري والإرهاب " و " حماري والسياسة " ثم أنه في النهاية حمار غبي , فقد كان السبب في إصدار الحكم ضده من القاضي بإعدامه , فبعد أن استطاع المحامي الأريب في قاعة المحكمة إقناع القاضي بأن الحمار لا يتكلم ومن ثم انتزع حكم البراءة , صاح الحمار أو نهق : " ـ يحيا العدل . . يحيا العدل . . يحيا العدل " (20) ص 93 .

وهكذا يحكم على حمار الأطير بالإعدام , ولأن الراوي شرقاوي كريم ذو مروءة , بكاه بحرارة وطمأنه على تركته , فسوف يقوم بتربية ابنه الذي سيولد من حمارة الجيران ورعايته , وربما جعله بطلا لمجموعته القصصية القادمة , أما زوجته السابقة فربما تزوجها وفاء لصديقه الحمار .

" ـ اطمئن يا صديقي العزيز .. المرحوم مقدما فزوجتك حمارة الجيران كانت حاملا يوم أن طلقتها , وهي دائما تبكي حزنا عليك وسوف تضع المولود الحمار الصغير ابنك قريبا وسوف أقوم بتربيته ورعايته وريما أتزوجها أنا وفاء لك . . أما ابنك الحمار الذي سيولد قريبا فسوف يكون معي لمجمعتي القصصية القادمة " (21) ص 97 .



ب ـ في " الليل يرحل دائما " يقدم لنا الشاعر محمد أحمد الفقي إنتاجه في مجال القصة القصيرة , بعد أن أصدر ديوانين شعريين , الأول فصيح والثاني عامي , فيضع بين أيدينا أربعة وثلاثين نصا نثريا , لا يزيد أطولها عن أربعة صفحات , على حين تتراوح معظم هذه النصوص بين الصفحة الواحدة والصفحتين وكل هذا في ستين صفحة من القطع الصغير .

والواقع أن نصوص الفقي في هذا الكتاب بكل مفرداتها بدءا من العنوان وانتهاء باللغة أقرب إلى الشعر وأبعد كثيرا عن القصة القصيرة , وعليك وسط هذا الكم الغزير من النصوص والصور القلمية أن تبحث عن القصة القصيرة , وقد وجدت بعد عناء بعضا من النصوص التي تقرب من القصة القصيرة أو يمكن أن يقال عنها بقليل من التجاوز قصة قصيرة وهي : المدينة ـ الدمية ـ نعسة ـ شنطة سفر , وفيما عدا هذه النصوص الأربعة , تبدو نصوص الفقي عصية ومفتقدة للكثير من عناصر القصة .

وأعتقد أن مشكلة محمد أحمد الفقي تكمن في المقام الأول في لغته , لأن لغة الشعر لا تصلح دائما للقصة القصيرة , وإن كان يمكن الاستفادة من هذه اللغة الشعرية في كتابة القصة القصيرة , وهو ما لم يفعله المؤلف , ونلاحظ أن الفقي مولع بالصور الخيالية حيث تزدحم نصوصه بعدد كبير من الصور المتتابعة المتداخلة أحيانا , فتختفي الأحداث والشخوص ولا يبقى سوى الألفاظ المفردة الجميلة , وأقدم مثالا لذلك حيثما اتفق دون تعمد للاختيار , لأن الأمثلة كثيرة : في نص ( جراح متمردة ) يبدأها المؤلف بقوله :

" حاولت البنت أن تمسك الشفق بيديها وهي تسبح في الفضاء المتعلق يرمي بساقيه إلى جانب الأرض البعيدة . . ! وجاهدت نفسها ألا تذوب في الفضاءات القاتمة تحلم بالبدر يأتي عقد سواد الليل الكالح فيمشط شعرها ويجدل ضفائرها لكنها لم تأخذ حظها من الحلم فقد رجعت أمها من غيطان الذرة تحمل فوق رأسها ما جادت به شواشي الذرة مع طول العصاري جانب خط النجيل السامق " (22 ) ص 47 .

وفي " الليل يرحل دائما " عنوان المجموعة نقرأ :

" تذوب الشمس في ألوان الشفق المترامية مع الأفق المنتهى معانقا ألوان القمح الذهبية المستسلمة للجفاف بينما ينسكب الهواء أمواجا تحت أجنحة أبو قردان العائدة مختلطا برائحة المساء ورأت خطواتها وهي تنقش فوق الطريق أجنحة للحلم المسافر ليلنا الخجول " ، وفي الفقرة التالية مباشر :

" يأخذني الظمأ لوجهها الندي وأنا أحمل أقدامى وأجرها في تكاسل ... " (23 ) ص 48 .

ولذلك أرى أن يضبط الكاتب لغته ويحررها من قيود الصور المختزنة بذاكرته الشعرية المزدحمة , لكي ينطلق السرد , فيقدم لنا قصصا قصيرا نشم فيه رائحة القرى في الشرقية , ونتعرف فيه الواقع الاجتماعي في القرى والعزب , وهو واقع زاخر يمكن أن يقدم مادة خصبة للمبدع .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- صبحي البستاني ،الصورة الفنية في الكتابة الفنية ، دار الفكر اللبناني ، بيروت 1986،ص172.

2- نفسه ،ص174.

3، 4- نفسه ،ص178.

5- نجلاء محمود محرم ،لأنك لم تعرفي زمن افتقادك ،مركز الحضارة العربية ،القاهرة 2003،ص6 .

6- المصدر نفسه ،ص49.

7،8 - المصدر نفسه ،ص52.

9 ـ أحمد والي , المتنصتون , رياض الريس للكتب والنشر , لندن 2001 , ص 48 .

10 ـ خيري دومة , تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة , الهيئة المصرية العامة للكتاب , القاهرة 1998 , ص 213 .

11 ـ أحمد والي , المتنصتون , مصدر سابق , ص 157 .

12 ـ ــــ , المصدر نفسه , ص 159 .

13 ـ محمد الحديدي , الموت ضحكا , مطبعة أحمد صالح , القاهرة 1997 , ص 17 .

14 ـ ـــــــ , المصدر نفسه , ص 16 .

15 ـ ـــــــ , المصدر نفسه , ص 21 .

16 ـ ـــــــ , المصدر نفسه , ص 22 .

17 , 18 ـ ـــــــ , المصدر نفسه , ص 84 .

19 ـ محمود على أحمد ,من يحمل الراية, إشراقة للطبع والنشر , القاهرة 1999 , ص 42.

20 ـ محمد حسين الأطير , حماري في مستشفى المجانين , رؤى شرقية , فرع ثقافة الشرقية , الزقازيق 2003 , ص 93 .

21 ـ ـــــــ , المصدر نفسه , ص 97 .

22 ـ محمد أحمد الفقي , الليل يرحل دائما , الراعي للطباعة والنشر , الزقازيق 2004 , ص 47 .

23 ـ ـــــــ , المصدر نفسه , ص 48 .






ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[SIZE=6]نقد الواقع عبر الرمز ودقة التفاصيل[/SIZE]
[SIZE=5]قراءة في القصص القصير[/SIZE]
[SIZE=4] بقلم الدكتور/ محمد عبدالحليم غنيم
[/SIZE]
 
أعلى