قصة قصيرة مايك ربيلينو - تونى.. ت: د. محمد عبدالحليم غنيم

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

ربما كانت الحادية والربع ليلا . فكرت أن الوقت متأخر جدا للاتصال ، حدقت فى رقم الهاتف المدون على ورقة قديمة لكنها ليست مكرمشة فى يدى .انطلقت سيارات الإطفاء خلف المبنى وصافرات الإنذار المألوفة ، أنصت لأرى إذا ما كانت السيارات قد توقفت فى مكان قريب ،عادة تلقائية لنا نحن سكان مدينة نيويورك . تلاشى عويل صافرات الإنذاروبقيت وحدى وراء طاولة المطبخ ، مازال رقم الهاتف فى يدى ، صوت أمى يشق رأسى : من المحتمل أن يكون مع امرأة أخرى يا إيزابيلا ، اللعنة، كان ذلك لوهلة .

قمت بعملية جرد ذهنى لكمية النبيذ فى الشقة ، والتى بقي من ليلة رأس السنة الجديدة . جرعات من التيكيلا ، نعم . لربما تمنحنى جرعة من النبيذ الشجاعة ، صببت بعض ماء العنبر الأصفر، ثم اخذت نفسا عميقا وتجرعته. بدأت الحرارة تصعد إلى صدرى وانتقلت إلى ذراعى ثم صارت أكثر هدوء .طلبت الرقم ، رن الجرس أربع مرات ، لابد أنه نائم أو فى الخارج ، وفى المرة الخامسة ، ردت امرأة :

- مرحبا ؟

كانت غلطة ، كان ينبغى أن أغلق الهاتف، إلا أننى لم أفعل، قلت :

- نعم ، مرحبا .

وفجأة ارتفع صوتى واحتد :

- تونى موجود ؟

تشك وأغلق الهاتف،ضربت الرقم من جديد، رفعت السماعة بعد أول رنة جرس، لكنها لم تقل شيئا ، صمت لثوان،وقلت :

- مرحبا .

أغلقت الهاتف من جديد ، فأعدت ضرب الرقم مرة أخرى ، فى سرعة، وعندما رفعت السماعة ، اندفعت موضحة :

- انتظرى ، رجاء لا تغلقى الهاتف ، هذه إيزابيلا .

سألت :

- من ؟

- إيزابيلا ، ابنة تونى .

- ليس هنا .

- هل يمكن أن أترك له رسالة ؟

الصمت من جديد .فأضفت :

- هل يمكن أن تأخذى رقم هاتفى وتقولين له أننى اتصلت ؟

- هيا ، اعطينى الرقم . لكن لا أستطيع أن أعدك بأنه سيتصل .

قلت فى نفسى ، على الأقل لم يمت .

أحلام مضطربة ومشوشة سلبتنى راحة النوم اللذيذ ، كنت فيها مع أصدقاى وكلبتى "فانى" فى حفل لموسيقى الروك، كان الحفل شديد الزحام وتكاد الجدران الملونة أن تختفى، هربت فانى بعيدا ،فبدأت فى الصراخ والبكاء، لكن الموسيقى كانت صاخبة جدا فلم يسمعنى أحد. استيقظت بعد ذلك على جرس الهاتف ، بحثت بجانى عن فانى ، لمست فروها. رد جهاز الآنسرماشين :

- بم هذه رسالة لإيزابيلا . هذا تونى يرد على اتصالك . إنها التاسعة مساء ، اتصلى بى عندما يتاح لك الوقت .

تونى . ليس " داد " أو " والدك " أو " بابا" . الآن وقد مر أسبوع منذ أن ترك رسالته ، لا أعرف لم ماتزال تجعلنى أبكى . بعد أن ولدت مباشرة جمع أشياءه ورحل بينما أمى لم تخرج من المستشفى بعد .عبر الاعوام الثلاثين التالية لم أشاهده سوى مرتين ، كانت الأخيرة منهما منذ اكثر من ستة عشرعاما.لكن الصوت يشبه صوته ، يقول :

- هذا تونى .

احتدم الحزن فى داخلى، ذلك أننى فكرت أننى توافقت وبدأت فى الراحة. الآن ماذا ؟

بدأت و"فانى"ط روتيننا الصباحى المعتاد ، ملأت الترومس بالقهوة ، وصاحبت فانى إلى الحديقة العامة ،جلست على الأريكة متجنبة الكلاب الأخرى ، شاهدت مرح "فانى" مع صديقاتها. لا أريد أن أعاود الاتصال به ، ولكننى أردت معرفة الحقيقة ،على الأقل رؤيته هو للحقيقة ، لقد نشأت دون أسمع أبدا ذكرا لاسمه ، إلا عندما لا يصل شيك نفقة الطفلة ، أو فى بعض العطلات والإجازات، وعند ذلك يمكن أسمع صوت أمى على الهاتف تكلم عمتى روز : " مرة أخرى لم يرسل تونى الشيك ، إنه يعرف أننى لا أستطيع تحمل تكاليف استئجار محام ، لذلك أعتقد أنه يفعل كل ما يسعده" ، " فلت لإيزابيلا بعد أن رجعت من المستشفى أن تونى حمل أشياءه ورحل لأنه التقى بامرأة أخرى " " نسى تونى عيد ميلادها من جديد ، لماذا ينبغى أن يدهشنى ذلك يا روزا لا كلمة واحدة من تونى فى الكريسماس كالعادة " عادت فانى لى لاهثة وهى تشعر بالرضا ربما لأننى مازلت هنا، ثم رجعت مرة أخرى إلى رفاقها من الكلاب .

اتفقت وتونى أن نلتقى على الغداء بمطعم فيتو فى القرية الغربية. وصلت مبكرا، يقوم فيتو وزوجته ماريا بتقديم الغذاء لى لأكثر من عشر سنوات ، ولم أكن متاكدة أبدا أننى أذهب إلى هناك من أجل الطعام الايطالى المنزلى أم أفعل ذلك جريا على المودة. لم أكد أصل عبر الباب إلا وحياناى كما لو كانا لم يريانى من سنولت عديدة ، صاح فيتو :

- بيلا إيزبيلا !

وقالت ماريا بالايطالية :

- كيف حال طفلتنا ؟

ثم أضافت وهى تبتسم :

- هيا ، تعالى اجلسى .

عانقنى كل من فيتو و ماريا ثم قادانى إلى مائتى المعتادة .قال فيتو :

- اليوم مناسبة خاصة ، دعى فيتو يحضر إليك كأس نبيذ من قائمته المفضلة .

قلت :

- انتظر يا فيتو .

أخذت مقعدى وراء المائدة ، طلبت منهما أن يجلسا معى لدقيقة .

- فيتو ، ماريا ، لابد أن أقول لكما شيئا .التقى بأبى هنا اليوم على الغذاء .

شهقت ماريا وبدأت ترسم إشارة الصليب وترتل شيئا ما بالايطالية ،ثم قبلتنى فى وجنتى وسألنى فيتو وهو يربت على يدى :

- إيزابيلا ذلك جيد . أليس كذلك ؟

- لا أعرف .. سوف نرى ، أعتقد أنه قد مر وقت طويل منذ رأيته آخر مرة ، لا أعرف حتى إذا ما كنت أستطيع التعرف عليه . فمن المنتظر أن يكون هنا فى أية لحظة لذك سأنتظر فى الخارج .

وقفت عند الرصيف على بعد خطوات من مدخل المطعم ، كانت فكرة رؤية أبى لأول مرة منذ سنوات عديدة تزعجنى، رحبت بهواء آخر الشتاء . رجل فى معطف صوفى ثقيل يقترب من المطعم . لا أستطيع أن أرى وجهه بسبب قبعة الفرو الروسية التى نزلت على حاجبيه ، لكننى لم أكن متاكدة أنه هو .

كان الرجل يحمل بكلتا يديه حقيبتى تسوق ، ممتلأتين بعلب الطلاء وعصا تقليب فى الأعلى. وضع الرجل الحقيبتين على الأرض وقرأ القائمة المعلقة على باب المطعم و يداه على فخذيه . رأيت نفسى وأنا فى صغرى، اللعنة ! . اليدان على الفخذين عندما أفكر وعرفت أنه تونى، إنه أبى

- أتبحث عن شىء ما ؟

قلت ذلك برعونة لكن بصوت متوتر، أستطيع أن أسمع صدى تهورى .استدار تونى و واجهنى. بدا لى أكبر سنا مما توقعت ، خطوط عميقة حول فمه . وأثر الإجهاد تحت عينيه . قال:

- واو ! هذا المكان مكلف جدا . ألا يوجد مطعم ماكدونالدز هنا ؟

قلت :

- لا تقلق بخصوص الثمن . على حسابى .

أسرع كل من فيتو وماريا للترحيب بنا ، المكان بالداخل دافىء وثمة رائحة حلوة من جراء قلى الثوم مع تحميص القهوة تملأ الفضاء .أخشى أن يقوم فيتو وماريا بإرباك تونى، الذى بدا فجأة تائها ومندهشا. مد فيتو يده للرجل الغريب :

- مرحبا , من فضلك ادخل , نحن سعداء جدا بلقائك .

تصافح الرجلان ، بينما منحت ماريا تونى حضنا كبيرا لكنه لم يرده.أعلنت ماريا :

- نحن هنا نحب إيزابيلا . هى بمثابة العائلة لنا. تفضل بالجلوس .

المطعم الصغير خال تقريبا إلا من بعض الزبائن . بمجرد أن جلسنا خلع تونى قبعته وزرر معطفه ولفه بقوة حول جسده . بينما كنت فى الخارج أنتظر تونى انشغلا فيتو وماريا بوضع زجاجة من النبيذ فى وسط المائدة ، نزعت سدادتها بالفعل وسلة كبيرة من من خبز ماريا البيتى مع قطعة من جبن البارميزان بجانب النبيذ . وضعت ماريا قائمة الطعام أمامنا وصبت النبيذ فى كأسينا وقالت :

- سأترككما وحدكما يا إيزابيلا ، فقط شاورى عندما تكونان مستعدان لتناول الطعام ؟

قالت ذلك ثم غادرت المكان مع ابتسامة عريضة .

صمت . حدقنا سويا فى سلة الخبز وشعرت أنا بقلبى يدق ، فبدأت :

- ما كل هذا الطلاء ؟

بعد كل تلك السنوات من أعياد الكريسماس المنسية وتجاهل أعياد ميلادى ومواعيد التخرح ، كان ذلك ما استطعت أن أقوله ، واجه تونى نظراتى وابتسم قائلا :

- قلت لآنا زوجتى أننى ذاهب لشراء الطلاء لغرة المعيشة ، أنت تفهمين .

وقهقه مضيفا :

- لم أستطع حتى أن أذكر اسمك أمامها وألا ستغضب . كما تعلمين تصرفات المرأة الأخرى ، كيف حال أمك؟

- جيدة .

- ألم تتزوج مرة اخرى ؟

فكرت أن أقول له أنها بعد أن هجرها التقت برجل ثرى جدا ، بينما كنا فى إجازة بروما وأحبته من أول نظرة ، خدم ومجوهرات وخيول وكروم عنب فى فيلتها . احتدم الغضب فى داخلى ، كنت أريد أن نتحدث عنا نحن ، أين كان – بحق الجحيم – كل هذه السنوات ؟؟

- بيلا . ماذا يمكن أن أقدم لك ولوالدك ؟

" تونى " قلت فى نفسى " والدى اسمه تونى "

- سأتناول مكرونتك يا ماريا .

أخذت جرعة من النبيذ ، إنه جيد وقوى ، سوبرتوسكان ، قالت ماريا وهى تتطلع غلى تونى :

- ولوالدك ؟

- سأشرب سانكا .

نظرت ماريا إلى فى ارتباك وقالت :

- ما هذا السانكا ؟ بيلا ما هى السانكا ؟

- قهوة بدون كافيين يا ماريا .

- آه قهوة ! نعم نعم سأحضر لك القهوة . لكن ماذا عن الطعام ؟

- فقط قهوة منزوعة الكافيين . ذلك كل ما فى الأمر .

حدقت وماريا فى وجه تونى ، فلم ينزعج ، ثم سالته :

- ألا تأكل ؟

- فقط القهوة من فضلك .

أسرعت ماريا نحو فيتو ، واستطعت أن أرى كليها فى الركن . ماريا تتحدث فى همس وتحرك يديها . فيتو يهز كتفيه ويغمز لى . بينما أنتظرطعام الغذاء كان تونى يشرب قهوته.

- إذن منذ متى وأنت وآنا متزوجان ؟

لا يبدو أننى كنت راغبة فى أن اعرف .

- أوه ، دعينا نرى ، لا أعرف عشرسنوات أو إحدى عشرة سنة أو نحو ذلك ؟

تململ تونى متحركاً فى مقعده وحرك فنجاله وهو يتجنب النظر فى عينى

- إذن لم تكن هى المراة التى أقمت معها علاقة غرامية وأنت مع ماما .

- أنا لم أخن أبداً أمك .

كان صوته ضعيفاً لكنه حاداً توقف عن التحرك فى مقعده .

- حسناً ، إنها تدعى أنك فعلت ذلك .

حركت الموضوع نحو الكرة العاطفية .

- إنها تكذب .

التفت عيناه بعينى ورأيت فيهما الحقيقة . إنه يقول لى الحقيقة ، أنا غاضبة ، لكن من من ؟ لست متأكدة . سألته :

- إذن ما هو تفسيرك ؟

أخذ تونى وقتة لكى يعتدل فى مقعده .

- لم أرد أبداً أطفالاً . أسف يا إيزابيلا لكنه ذلك هو الموضوع ببساطة ادعت أمك انها تشعر بنفس الطريقة ، و تناقشنا فى ذلك عدة مرات قبل ان تتزوج ، هى التى أفسدت الصفقة وليس أنا . كنا بالكاد متزوجين لمدة شهر عندما حملت وقالت لى ليس هناك من شىءأستطيع أن أعمله ، خذها أو اتركها ، لذلك رحلت .

حدفت فى الرجل ، هذا الغريب الذى هو أبى وعرفت فى أعماقى إنه صادق جداً معى . واصلت لكى أختبر تفسير أمى للحقيقة :

- ماذا عن المرأة الأخرى التى كنت تراها بينما ماما فى المستشفى تلدنى .

- لم تكن هناك امرأة أخرى يا إيزابيلا ، إنها مجرد كذبة أخرى . أحببت أمك دائماً لكنى لم أستطع أن أتعامل مع كل هذا الخداع .

تدفقت الكلمات بكل سهولة . الذكريات صامتة جداً التى أعتقد أنها القصة كامة ، شرب قهوته .كانت ثمة رجفة خفيفة فى يده . عصفت فى داخلى الرغبة فى راحته لكننى جلست بلا اكتراث فى مقعدى .

- أقدر صدقك ، أعتقد أننى كنت دائماً .لدى شك فى أن أمى تكذب ، من أسف لست مندهشة .

وقف تونى وهو مازال فى معطفه ، وضع اقبعة الفرو على رأسه . رفع حقيبتى الطلاء ثم قال :

- شكراً على القهوة . لابد أن أذهب .

اندفع الهواء البارد عبر الباب وهو يغادر المكان ، أسرعت ماريا نحو المائدة .

- بيلا ، ماذا حدث ؟ هل توصلتما إلى اتفاق ؟
ضغطت بيدها على جبينها .

- لا لا أتفاق ، أعتقد أن عليه أن يرحل .

صاح فيتو :

- ماريا . غذاء بيلا جاهز.

وضعت ماريا المكرونة على المائدة ولفت ذراعيها حولى ،فأكلت وكان الطعم لذيذاً .

" انتهت "

المؤلفة : مايك ربيلينو ، كاتبة امريكية تعيش وتعمل فى مدينة نيويورك.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى