دراسة سمير الفيل - نوازع اللمس واللمحات الخاطفة في نصوص تشاغب الشعائرية! قراءة في مجموعة م.ع الحليم غنيم

س

سمير الفيل

حين قرأت نصوص هذا الكاتب انتابتني دهشة شديدة ، وشعرت بأصابع ماهرة تصوغ مادة سردية غنية بالدلالات بكثير من التأنق والتعامل الحذر مع اللغة ، مع شطحات صوفية ، ومدارات جمالية أخاذة ، تأخذك إلى حيث يمكنك أن ترى المشهد القديم بأعين جديدة . في نصوصه القصصية يميل الدكتور محمد عبد الحليم غنيم إلى أن يشكل باللغة تشكيلا جماليا مفارقا ، فيضفر نصوصه ببعد تخييلي حيث لا تدرك أين ينتهي الواقع ومتى يبدأ عمل المخيلة ؟ وهو يعيد اكتشافات السري من العلاقات ، ولديه حدس قوي بالهواجس والأحلام والكوابيس والرؤى التي تقود النص في مسارب جمالية متعددة .
يركز الدكتور غنيم في مجموعته ( رجل وامرأة) (1) العدسة أكثر على الآخر حين ينعكس أثره على الذات المتأزمة ، والنفس القلقة الحائرة الوشيكة على السقوط مع مسحة فلسفية ساخرة نجد ترديداتها في أغلب النصوص المعجونة بالعفوية وسحر العوالم المختبئة خلف القشرة السطحية الساكنة بالمتواليات الحكائية في لحظات تكوينها الأول مع ما في النصوص من بعد معرفي أكيد . كذلك لا يغيب عن المتلقي ذلك الحس الشعائري الذي يكتنف أغلب النصوص فيدفع بها في ساحة المخاطبات الشعبية العتيقة .
أول تعرفي على غنيم كان من خلال مواقع الكترونية ثقافية عربية ، وقد صادف أن نشر فيها قصص المجموعة فرادى ، وقد انتبهت وقتها لأهمية ما يكتب ، وقدمت مداخلات حاولت أن ترصد سمات وملامح كاتب مثقف ، يتأمل واقعه فلا يستسلم لرتابته ولا يتماهى مع تكراريته بل أنه يعلو عليه دون أن يفارقه كلية ، وتلك إشكالية أعتقد أنها واجهت الكاتب فتغلب عليها بحسن إدراكه وبوعيه الجمالي ، حتى أنه نجح فعلا في أن تكون شفرة نصوصه غير ملغزة ، لكنها في ذات الوقت غير متاحة لأية قراءة مجانية (2)
ونحن نقدم هنا قراءة لنصوص المجموعة ، محاولين تلمس بعض السمات التي تشكل خطوطا أساسية لكتابة السرد عند غنيم ، مؤكدين على حقيقة أننا نتلمس بعض الثيمات دون أن نقدم حصرا كاملا بكل ما يمكن أن تحويه مجموعة قصصية تحتفي باللمحة الخاطفة للواقعة التي يكتب عنها دون التورط الكامل والاندماج الكلي فيها .

* كتابة الحواس :

في تجارب غنيم السردية اقتراب هائل من فكرة إدراك المعرفة بالحواس ، ومحاولة الاقتراب من الآخر عبر نطاقات سرية تؤمن بالسحر ، وتوسع من مساحته مع الولوج إلى أعماق النص . إنه الإدراك الإنساني الذي يتخطى المراحل البدائية المبنية على أبعاد مادية وقرائن حسية لما هو أشمل وأبعد . الحياة تعج بالمفارقات وتحتشد بالأضداد ، والكاتب يمتلك إمكانية اختراق السائد والمألوف فيصبح ما تراه الحواس في صيرورتها اليومية محفزا للاقتراب المعرفي الكامل من حقيقة الأشياء . ناهيك عن التحقق التاريخي من الوقائع الذي بموجبه يمكن نقل النص من مستواه التوقعي البحت إلى مستوى آخر أكثر توثيقا ، ولعلنا لا نكون قد ابتعدنا كثيرا عن الحقيقة الإبداعية حين نقترب من العالم اللامرئي في القص حيث اللمسات الخفية ، والمعارج الفنية وعوالم الشطحات التي تنصرف عما هو عياني مجسد إلى ما هو معنوي متخيل . المهم كي يصبح النص متسقا مع جذره الواقعي الحي لابد من إدراك تلك العلاقات المندسة في ثنايا الوقائع اليومية التي قد نمر بها مرورا سطحيا عابرا.
في قصة " اللمس " يبحث الأستاذ صالح عن نصفه الآخر ، وفي موقف لا يعرف كيف حدث تلامس ركبته ركبة المدرسة العارية ، صحيح أنه شعر بالحرج ، لكنه ومن خلال موقف آخر يكتشف لغة اللمس عبر الأيدي . ويضفر الكاتب أحداثا واقعية تجري في المدرسة ، مع أحداث أخرى متخيلة ، ونستشعر عبر اللغة الرقيقة التي تصل حتى مناطق الشعر أن هناك أزمة التواصل الإنساني ، فاللقاء لم يكتمل ، والجلسة الرومانسية التي ظل يحلم بها لم تصل إلاَّ إلى معنى باتر يتمثل في فقدان التواصل الحميم . اللمس هنا يلخص المسألة ، ويشكل لغة أخرى حساسة ورقيقة مع "سميرة احمد " التي بادلته نفس المشاعر ، لكن ثمة شيء يشير إلى انعدام الألفة ، وربما إلى العجز النفسي الذي أحبط كل محاولة للدفء والتواصل:
( تطلع إليها من جديد ، بدت له أجمل مما كانت عليه صباح اليوم ، كانت ركبتاه تلامس ركبتيها العاريتين أسفل المنضدة ، لكنه لم يشعر بذلك الإحساس الدافيء الحنون يسري في جسده . انتقل بنظره إلى سطح المنضدة . أطباقها فارغة تماما إلى جانب أطباقه المليئة لم تمسها يداه ، تطلع إليها مرة أخرى ، بدت عيناها جامدتين ، لم يقل شيئا : لماذا لا تأكل؟
شعر ببرودة تسري في جسده ، بدا له الجو باردا حتى الطعام نفسه بدا باردا. ـ سوف أدفع الحساب . لم يكن يسمعها . كان يحدق في الأشجار الخضراء المصنوعة من البلاستيك تزينها اللمبات الكهربائية الملونة ) " اللمــس ، ص 27" .
قد تبدو نهاية ميلودرامية هشة وبائسة ، لكنها تعبر أصدق تعبير عن مفهوم اللاتواصل ، والعجز عن الانسجام مع الآخرين ، ولم يكن " الأستاذ صالح " في النص يمثل نفسه بل يمثل جيل كامل لم يعد يعتقد في الرومانسية ، واللفتات الإنسانية بعد أن داهمت المادية كل الأشياء الجميلة في حياتنا.

* منطقة اشتباك الأحلام بالواقع:


محمد عبد الحليم غنيم يشق طريقه في حقل السرد العربي عن طريق الغرائبية الشفافة ، والأحاسيس الطفولية البريئة ، والأحلام التي تضج بالمرح والتلقائية ، حين تتدفق لغته بغنائية رشيقة تمنح نصوصه طعم الشعر . لكنه لا يتخلى عن جذوره القروية التي تنشع بها نصوصه وإن بدا محلقا في الأعالي حتى أن الأحلام تحتل حيزا لا بأس به في نصوصه وتخالط النسق الواقعي ، فيمتزجان ، ثم سرعان ما تطغي الواقعية بسحرها مرة أخرى . عملية الإزاحة المرحلية تلك مقصود بها توسيع مساحة التخييل دون أن يمس الفيض الحلمي ركائز الواقعية خاصة أن الكاتب حريص على أن تكون اختياراته من نفس البيئة التي يعايشها ، فتراه يعمد إلى اللعب الفني والإيحاء بوجود تلك المنطقة المشتركة التي تجمع العناصر المتباعدة . و" إذا كانت هناك لذة في الألعاب بالكلمات ، فعلى التعبير أن يتمسك حرفيا بأن اللعب بالكلمات يجلب اللذة . لأنه ونحن أطفال ، كانت لنا حرية اللعب بالكلمات للتلذذ بذلك . عن أحد مظاهر العملية الأولية ، وقد رأينا ذلك عند مرورنا من الحلم إلى النكتة ، هو في الخلط أو على الأصح في عدم التمييز بين الكلمات والأشياء ، بين الصور اللفظية والصور الموضوعاتية ، فالحقائق الفيزيقية غالبا ما يكون حضورها هلسيا ، وعلى أي حال فتمثيلها المتصور ليس متخيلا بمعنى وهمي " (3).
يتعامل الكاتب مع نصوصه بتلك الكيفية فيدخل من بوابة الحلم لواقع مريض ، شاحب ، رث ، ويدمج العنصرين متخذا الحلم بوابة للقبض على التطلعات والأمنيات المستحيلة ، وربما للتخفيف من الإحباطات المتوالية ومظاهر العجز . في قصته الجميلة " مادة اسمها الكرنك " يبدو الراوي في حديقة تتخللها أشجار عارية ، وهو يلبس جلبابا أبيض ، تمر به فتاة يظن أنه يعرفها ، فهي بالفعل زميلته في الكلية ، يمسك بيدها ويسألها عن نتيجة امتحانها فتخبره أن لها ملحقين في الأدب المقارن و" الكرنك" ، يشعر أنها ليست حزينة ، يسيران قليلا ثم يجلسان متجاورين . يكتشف أن قدميه عاريتين ، وقد علق بهما الروث ، تخرج من حقيبة يدها ورقة مالية من فئة الخمسة جنيهات تمنحها إياه . هذا هو العنصر التخييلي أو مادة الحلم ، وحين يفيق ويفتح عينيه تصطدم يده بورقة مالية مماثلة لكنها تختلف في شيء واحد ، إنها تحمل رائحة عرق أمه ، يذهب للكلية ليعرف نتيجة امتحان الليسانس فيقع بصره عليها في الكلية :
( وهناك في الكلية ، وجدتها ، كانت ترتدي نفس الثوب الذي كانت تلبسه في الحلم ، وتزين وجهها بشعرها القصير وابتسامتها المشرقة ، وأردت أن أحكي لها تفاصيل الحلم ، ولكنني خجلت ، وعندما عدت إلى المنزل كنت قد نسيت أن أقول : هل لدينا مادة اسمها " الكرنك ؟ ") " مادة اسمها الكرنك ، ص 21 " .
أشياء فنية كثيرة يمكن أن تقال حول هذا النص الذي ينجح نجاحا فعليا في دمج الحلم بالواقع بسلاسة ورقة ، مع المحافظة على مادة الواقع التي يعاد تشكيلها دون أن تفارق جذرها الحي . كما أن الرومانسية التي تظلل مشهد الحلم تهبط إلى طين الريف وروثه ، وفقره المادي المهين ، لكن براعة الكاتب تتأتى من قدرته على اللعب الجميل بالكلمات فنشعر بالأرواح تتحرر من قيود العوز ، ومن ضغوط المادة ، وتأتي المفردات التصويرية المغرقة في الشعبية كالسير حافي القدمين ، وكالجلوس على جذع شجرة عجوز ، وفي لمحة خاطفة يكون الصحو الذي يكتمل بالذهاب إلى الكلية ليستكمل الحلم دورته دون أن يتحقق الراوي من طبيعة ما يحدث ، حتى أنه يتساءل بعد أن ترك فتاته الجميلة : هل توجد مادة اسمها الكرنك ؟ والكلمة نفسها " الكرنك " تحيل إلى تاريخ عريق ، وتحتشد بركام هائل من المعاني كالنبوغ في فن العمارة ، ونقش الهيروغليفية ، وكوننا أحفاد الفراعنة ، وكل التداعيات الأخرى الممكنة .
إن الكاتب لا يسعى إلى استقصاء كل هذه المعاني لكنه يترك الحلم منفتحا على احتمالات عدة ، وينهي نصه بسؤال غامض . وفي أغلب نصوص الكاتب هناك مناطق يتركها غامضة أو معلقة لحدس القاريء واجتهاده ، فهو يعتقد أن مهمة القاص تتوقف عند حد سرد الوقائع بترتيب معين ، وعلى المتلقي أن يبذل جهدا في استقصاء المعاني الكامنة وراء النص .

* دراما الحياة :


الحياة التي نعيشها مليئة بالدراما ، والكاتب مفتون بما تحمله الأحداث من دراما واقعية تتجدد دائما ، ويكون دوره أن يقتنص تلك الشحنات عالية القيمة من الصراع بين الأضداد والمصالح والشخصيات ليقدم لنا عبر السرد حياة كلها عنفوان .
الجميل عند غنيم أنه يولي اللغة همه الأكبر فيختارها رقيقة في مفرداتها ، ويعمد إلى الأساليب الهامسة في الآداء ، كما أنه يلمح ولا يصرح ، ويعكف على تتبع مصائر أبطاله في مواقف الصدام دون أن تعلو النبرة فيكشف عن وجوده العياني محملا مواقفه بعناصر الدراما الممكنة . و" نظرا لمرونة مفهوم اصطلاح " دراما " وقدرته على استيعاب أشكال فنية متعددة ، فإن نظرة العصور المتعاقبة إليه كانت نظرة متغايرة متطورة وإن لم تمس جوهره الحقيقي " (4) ونؤكد هنا أن كلمة دراما باللغة اليونانية تعني " الحركة " ، ذلك أنها تحيل القضية الفكرية أو المشكلة الاجتماعية أو المسألة الإنسانية المجردة إلى حركة متجسدة عبر سرد أو حوار خلاق . في قصة " أين أنت يا أبا نواس ؟" تحضر الدراما بكل ظلالها ، وهي دراما المشاهد المتتابعة التي تقوم على مبدأ الصراع ، ولكن الكاتب يحيل الصراع المادي إلى احتدام نفسي تشكله اللغة ؛ فبطل النص وهو الراوي مدرس جامعي من أصول ريفية ، يصحبه الرجل المسئول إلى قصره في سيارته الفخمة ، كي يراجع رسالة ابنته الجامعية ، ويصوب ما بها من أخطاء ، وكالعادة في قصص غنيم تحضر المرأة فاتنة ، وجميلة حتى أنه يدهش لكل هذه الروعة ، وينكب على عمله ، وحين ينتهي منه يعرض عليه صاحب المنزل أن يتناول الغذاء على مائدته لكنه يشعر أنها " عزومة مراكبية " ، ويترك " الجنة " بتعبيره الذي يلخص به الكثير من الأشياء منها حدة الفوارق الطبقية ، ويهبط ليجد نفسه في الشارع وحيدا يسأل عن أرقام الأتوبيسات وخطوط المترو . إنتهت القصة والتلخيص يفسدها فالنص قائم على مستويات متعددة من السرد ، وشخصية الراوي نهمة ، شغوفة بالنساء ، مرتبكة ، لكنها صادقة مع نفسها . والحواس هي مفتتح النص فالرائحة هذه المرة هي التي توجهه ، كما أن فقرات ظهره تؤلمه ، وقد أمكن للقاص أن ينقلنا من نطاق شظف العيش والحياة على الهامش إلى نطاق من الترف والبذخ المتناهي بتمكن وسلاسة ، وسيكون من المفيد هنا أن أنقل المقطع الذي يعبر عن ذعر الفلاح داخله ، ومخاوفه الراسخة ، وجوعه الجنسي وعطشه النفسي :
( ليست عزومة مراكبية ، إذن هي عزومة حقيقية ، أين أنت يا أبا نواس ؟ لا يا مضيفي العزيز أنا أقرأ جيدا ما خلف الكلمات . إنها حرفتي ، صوتك مختنق وذهنك بليد ، وزوجتك وابنتك جميلتان ، وأنا فلاح ، وعيناي رصاصتان من جوع وشبق . الظهر أبيض وفي الصدر شق مبهم يحتوي حرماني المقهور ) "أين أنت يا أبا نواس ، ص 15" .
أبو نواس هو النديم الذي يتمنى أن يقارعه كئوس الخمر ، ولكنه في إشارة أخرى خفية يمكن أن يكون المقصود حياة الترف والبذخ التي شهدتها العصور السابقة والتي تلقي به أرضا في دائرة الإملاق ، ولا يغيب عن فطنة المتلقي تلك الحالة من الانكسار والإحساس بالتصاغر الذي يلف البطل رغم حصوله على أعلى الشهادات الجامعية . إن الصراع الحي أو " الدراما " في هذا النص تتشكل داخل نفس البطل ، وهو يقارن حاله بحال تلك الأسرة ، وهو ينقل بصره بين الفتاة الرشيقة وأمها المليحة ، وحتى الخادمة السمراء سمرة جذابة . صراع نفسي ملموس وجوع عاطفي بين . إنه البطل المحبط الذي تكشف الأحداث جوعه الجنسي وكبته التاريخي بل كبت طبقته الاجتماعية كلها . أنظر لهذه الافتتاحية التي تعمق إحساسنا بأزمة البطل وقد اقتطعناها من مفتتح النص :
( رائحة العرق يفحها الجسم بتؤدة وصمت ، رائحة أعرفها ، تشبه رائحة الجنود المتوحدين في الصحراء ، تذكرني بأيام الجندية والقوة والفحولة الجنسية ، والآن وأنا أسير في شوارع المدينة النظيفة ، تواجهني الفتيات بجمالهن الصارخ ، أذرع بضة ووجوه ملونة وشعر لا أعرف لونه ، أما الرجال فألامس في أيديهم رائحة الترف وكثرة النقود ، فأقول لنفسي : كان لابد أن أستحم بماء الورد لأزيل هذه الرائحة ) . " أين أنت يا أبا نواس ؟ ، ص 10" .
هذا الإحساس العارم بالتفاهة وبقلة الحيلة نتيجة هذا الصراع الجواني المحتدم في داخله والذي ينتظر فقط ملامسة الطبقة الأخرى التي يشعر في وجودها بالفارق الهائل . هي إذن ـ وحسب اعتقادي ـ أزمة شخصية ، ومحنة ذاتية لأن هناك أشخاص كثيرين يتخطون هذه الإشكالية بقناعة مؤداها أن الفقر ليس محنة ، وأن الرضا بما هو كائن وموجود افضل من السخط الذي تتأزم به النفس الإنسانية . ويبدو أن الكاتب يحرص على اختيار أبطاله في ظلال أزمة طاحنة كي يكون الصراع قويا والشحنة الانفعالية في أوجها ، وتلك هي خطته في اقتناص موضوعاته ، وسرد حكاياته.

* لوحات إنسانية :


تتضافر أليات السرد والوصف والحكي والحوار في تشكيل النص القصصي من خلال تشييد بناء غير تقليدي ، يقدم فيه الكاتب لوحات غنية متعددة الإدراك لخبرات إنسانية تحتفي بكل ما هو مهمش في الحياة . هناك الخبرة البصرية ، والتحقق الجمالي ، وإمكانية الولوج لما وراء الحدث المرحلي لرؤية ما هو قار وراسخ . قلنا أن الحلم هو الأفق المتجدد الذي يثير الحس المستقبلي ويدفع بنا نحو تشوف طاقات الغد ، ونضيف أن اللوحات الإنسانية التي يعمد الكاتب لتشكيلها بالموقف ، واللغة ، والصورة هي مرتكز غال وثمين في تجربته القصصية التي يمعن في تأكيدها عبر إخلاص واضح لفن السرد.
بالطبع هناك علاقات واضحة ومتسقة بين الأنساق التصويرية التي يعتمد عليها الكاتب وبين النتيجة النهائية لقوة الأثر عند المتلقي ، فلاشك " أن هناك مباديء علاقية تصورية يقوم عليها اتساق جزء هام من النسق التصوري الذي يؤطر أنساقا فرعية معرفية وإدراكية ، وأن هذه المباديء التصورية تمثل أساسا يمكن أن نشتق منه مجموعة من المباديء العلاقية الدلالية تهم الأنساق الدلالية في اللغات الطبيعية " (5) ولإدراك طريقة التصوير عبر النسق اللغوي سنرجع لقصة " سلمى " فهي تعتمد في مادتها السردية على عنصر التصوير ، ويكون دور الراوي استقصاء حقيقة تلك الفتاة الشاحبة التي مرت بالمصادفة البحتة من أمامهم أثناء لعب الكرة ، فإذا بالكرة تصطدم بجسدها الصغير وتطرحها أرضا ويطير صندوق كان بيدها بعيدا ، لا يتوقف الأمر على بكاء الطفلة على مالها الذي ضاع " يقصد السبارس " ، بل يتتبعها الراوي فيجدها تنحني على الأرض لالتقاط أعقاب السجائر ومن خلال حوار قصير مركز يعرض عليها أن يشتري لها رغيفا بأقراص الطعمية فتوافقه على الفور ، ويدرك لحظتها أنها تجمع تلك الأعقاب لتشتري طعاما تسد به رمقها ، وتنتهي القصة عند هذا الحد ، ولكن المسكوت عنه في هذه الكتابة أن الطفلة تجسد شريحة كاملة من الأطفال المعوزين الذين تدفعهم ظروفهم لاتخاذ هذا المسلك ، و لا يفوتنا أن نرصد الطريقة الميلودرامية في عرض المشهد ، ربما ما خفف منها ذلك الحوار الشيق والبسيط والخالي من أي فلسفة ، ويهمني هنا أن أوضح أن الكاتب كان حريصا على أن يصور المشهد بدون تزويق أو تجميل ، وقد راح يسلط الضوء على منطقة معتمة في أحياء المدينة الفقيرة لأن القرية حسب علمي لا توجد فيها هذه المهنة :
( ـ ماذا تفعلين بأعقاب السجائر التي تجمعينها يا سلمى؟ ضحكت سلمى وسارت في طريقها دون أن تجيب على سؤالي . أكان سؤالي ساذجا ؟ أم كان محرجا لها ؟ تابعت سيري خلفها ، وأنا أعيد عليها السؤال مرة بعد أخرى ، وإذا بها تتوقف فجأة ، مثل فرس حرون فكدت أصطدم بها ، ثم واجهتني قائلة ، وبسمة عريضة تفرش وجهها ، وكنا قد اقتربنا من محل لبيع الفول والطعمية : اشتر لي رغيفا وطعمية وأنا .. ولم أدعها تكمل كلامها ، قاطعتها قائلا : حاضر) " سلـمى ، ص 30" .
هذا الحوار محتشد بالمفاهيم المتراكضة ؛ فهو يعبر عن براءة الطفولة لدى الراوي ـ والذي هو طفل على أية حال ـ ويكشف عن المعاناة التي تعيشها تلك البنت البائسة ، لكن تلك العلاقة التي نمت على حافة استبصار حي ٍ ومؤكد لما في الكون من خلل تدفع بنا نحو اعتبار اللقطة مصنوعة لهذا الغرض ، فهي وإن لم تكن تطرح إدانة مباشرة للواقع إلا أنها تحمل إلينا الشعور بالمرارة دون استقصاء ما وراء الظاهرة ، غير أن ترتيب النصوص داخل المجموعة تشير إلى مسألة مهمة جدا ، وهي أن المعرفة التي نحصلها من قراءة نص ما تعود فتنعكس على النصوص التالية وهذا عنصر مؤثر جدا لكون النصوص تمثل حلقات متشابكة متداخلة قد تضيء تفصيلة أو مشهد في قصة ما تفصيلة أخرى في نص آخر رغم اختلاف الموضوع ذاته ، وتنوع مادته.
أثرت فينا شخصية الطفلة التي حاولت التغلب على ظروفها بلم أعقاب السجائر ، وكان الراوي حاضرا فأنقذها من محنتها ، ولكن الكاتب يقدم لنا في لوحة شعبية خشنة بعض الشيء صورة أخرى أكثر إيلاما ، وفيها تتضح معالم من الصور الحياتية لشرائح كثيرة تعيش على الحافة ، ويمكن أن نرى خلف السرد رنة المأساة مع تقديم اللوحة في إطار كاريكاتوري باسم كما سنرى في قصة " شاي بالنعناع " فالمكان الذي تدور فيه الأحداث بحي شعبي حيث يقف الشاب العاطل في الطابور وتقع عليه نظرات " الذئب البشري " فيقصده في خدمة بسيطة كي ينجز له طلبه وهو أن يشتري له علبة سجائر " مارلبورو " ويعود ببقية الورقة المالية من فئة عشر جنيهات. يوافق " آدم " على المهمة ، ويختفي عن عيني الذئب البشري ، وفي مقهى متواضع بأقصى المدينة يطلب شايا بالنعناع ويفتح جريدة المساء على باب وظائف خالية ، فقد قرر الاستيلاء على النقود , دون أي إحساس حقيقي بالذنب .
هذه فكرة القصة ، وقد كان الاستيلاء على مال " الذئب البشري " وسيلة للخروج من معاناة الفقر ، ولكنني أعتقد أن الكاتب لم يقدم لنا مبررات كافية ليبرر بها الفعلة المشينة للشاب ، فأغلب شبابنا يسلط سيف البطالة على أعناقهم لكنهم يجدون حلولا أخرى . أعرف أن الكاتب يريد أن يدين ظاهرة البطالة من خلال موقف حي من الممكن أن يحدث فعلا ، لكنني لم أتعاطف مع " آدم " ، فلا يوجد في تصرفات رجل الجمعية ما يبرر تسميته بـ" الذئب البشري " ، وهذا لا يقلل من كفاءة القاص في رسم المشهد وإحكام التصوير:
( تطلع الذئب متفحصا الطابور ، يمكنه على الأقل أن يرى جيدا سحنة عشرة وجوه يقفون أمامه ، كان ثالثهم آدم ، عينان غائرتان وأنف دقيق وفم ممصوص ، كأنه لعجوز تجاوز الستين ، قليل الحجم ، قصير القامة ، لا أعتقد أن بنيانه يتحمل مثل هذه الوقفة أمام طابور جمعية لشراء لحم أو دجاج أو سكر ، من المؤكد كان سيفرم بين أجساد الدلالات ) " شاي بالنعناع ، ص 40" .
الوصف الجسماني للشاب آدم وجدنا مثله في وصف الطفلة سلوى وكلاهما تعرض لموقف درامي انبنى عليه صراع أخلاقي فنجحت سلوى وسقط آدم ـ مع ما في التسمية من دلالات ـ وما يهمنا في هذه المعالجة أن الكاتب لجأ إلى تجسيد المشهد من خلال تصوير الحدث المركزي بشكل كثيف فجعلنا حاضرين بل متورطين في الفعل وتبعاته ، وهو ما يحسب لقاص يدرك أن اقتراف الكتابة ، والاقتراب من المناطق الشائكة اجتماعيا وسياسيا هو موقف ، ورؤية ، وانحياز .
ليس الفقر وحده أو البطالة هي فقط الدوافع التي تؤدي بالشخص إلى اتخاذ سلوك قد نلومه عليه فأحيانا يكون القهر أكثر بغضا واشد إيلاما من أي شيء آخر ، وهو ما نجده في نص " مطاردة محسومة " ، وفيه تصوير بارع لمدى ما تسببه مشاعر الخوف من قوة ضاغطة على النفس ، وقد اختار الكاتب أن تجري المطاردة للراوي نفسه فيجد نفسه في مواجهة متلاحقة مع من يتتبع خطواته حتى أنه ليفكر في التظاهر بالموت كما تفعل الثعالب لكنه يلوم نفسه على هذا التفكير وحين يصعد الأتوبيس يكتشف أن حافظته قد سرقت منه وأن غريمه مازال مصرا على المطاردة فيتخذ قرارا بالتماوت غير أن ازدحام العربة لم تمكنه من ذلك . موقف عبثي وشعور متزايد بالقهر يصوغه الكاتب في حنكة موظفا كل الفنون السردية لتجسيد فكرته ، وهو ـ أي الكاتب ـ سبق أن خصص مجموعة قصصية كاملة عن التلصص والتصنت باعتبارها سمات تحدد ملامح مجتمع يعيش فيه وإن كانت تلك الأفعال مسكوت عنها تحت غطاء المواءمة لا أكثر . والغريب في هذا النص أن المطاردة الدامية كانت تحدث ويتصاعد إيقاعها ،وثمة عبارة تتردد وهي " يا زمان الوصل بالأندلس ؟ " فهل يريد الكاتب أن يحدث في أنفسنا توترا حين نقارن بين مجد تليد انقضى ، حيث الأيام الخوالي بشموخها وعزتها ، وبين الانكفاء والتصاغر اليومي الذي ينتهك إنسانيته في العصر الحالي؟ ربما ، كل ما يهمنا في هذه الجزئية أن نشير إلى مقدرة الكاتب على إنشاء تلك اللوحات الإنسانية التي تتناول ذاته بنفس الكيفية التي يتناول بها حياة الآخرين ، ومواقفهم :
( ابتعدت عنه ، هكذا ظننت ، ودخلت في الزحام ، وأنا أشعر ببعض الأمان ، حتى كدت أغني من جديد ، ولكن وا أسفاه ! عندما التفت خلفي ، وجدته خلفي يكاد يصطدم بي ، والفتاة متعلقة في ذراعه ، ويالها من فتاة كانت ذات وجه قبيح مثله!) " مطاردة محسومة ، ص 45 ".
تكتسي ملامح الفتاة قبحا باضطرابه النفسي الناجم عن مطاردة لا نعرف لها سبباً ، فكأنها نتيجة أقدار لا نملك إزائها دفعا ، وهو نفس وجودي رائق يسري في خفوت بين أسطر النصوص ويلامس عصبا حائرا يكشف عن محنة الإنسان وانهزامه حتى ، ولو انتفت الأسباب .

* ذلك الهاجس الملح :


مثلما يبحث الكاتب عن تفسير لهواجس الشخصيات القصصية بالحلم ، ورموزه الدالة ، أو في تفاصيل المكان بتعرجاتها ، أو عن تحولات الزمن في انعكاساته على منظومة الحياة في الريف المصري أو في المدن القريبة التي يعمل فيها أبناء الفلاحين الذين تلقوا قسطا من التعليم أو هؤلاء الذين ذهبوا للغربة لانتزاع لقمة عيش شريفة ، فهو يبحث بنفس الدرجة من الاهتمام عن هاجس الجنس ، وكل ما يمكن أن يندرج تحت لفظ " العيب " باعتبار أنه مسكوت عنه ، ولا يكشف عنه إلاَّ في السر ، وعبر جلسات حميمية ضيقة . ولما كان " الاتجاه الأدبي أو المذهب الفني ، هو عصارة المكان والزمان اللذين ولد فيهما . من هنا يستحيل العمل الفني إلى ظاهرة مفتعلة ، لو جاءت نظرته والبناء الذي شكلهما مغايرين لتركيب المجتمع الحضاري الذي عاشه الفنان .. وهذا لا يمنع أبدا ، أن يتلون النسيج الفكري لحضارة المجتمع الواحد بأكثر من لون . بل إن ذلك شيء طبيعي ـ وحتمي ـ في عالمنا الحديث الذي تتنازعه أنظمة اجتماعية مختلفة بصفة عامة ، وفي المجتمعات التي تتباين فيها مصالح الناس وأساليب حياتهم في ظل نظام واحد بصفة خاصة " (6) وفي تجوالنا بين نصوص المجموعة سنعثر على لوحات حية مترقرقة بالضوء تصور معنى العلاقة الجنسية بين المرأة والرجل ، مستغلا الخيال الجميل ، والعبارة الطازجة ، والموقف الدلالي المؤطر بروح الدعابة ، فثمة رؤى إنسانية تحدد طبيعة هذه العلاقة التي قد يتحرج الناس في توصيفها والاقتراب منها ، غير أن عالم الريف البسيط ، بشمسه الساطعة ، وبانكشاف الأمكنة فيه جعل من الحكي " حول الجنس أمرا ممكنا . فهاهو إبراهيم الفقي يعاني الأمرين بعد أن هجرت " عسرانة " بيتها وتركته خاليا بعد أن ذهبت غاضبة إلى بيت والدها كما لحق بها الأولاد . حين يعود يلقي بالفأس والمقطف بعد أن فشل في إيجاد عمل ، وحالما يستريح قليلا يذهب لأولاد الحلال كي يرجعوها إليه لكنهم يفشلون جميعا كما توقع . حينها يتحامل على نفسه ، ويذهب إليها ليقنعها بالعودة ، فيراها جالسة أمام طست الغسيل ، وفيما هو مستغرق في همومه موجها كلامه إليها ، في تلك اللحظات بالذات كان عضوه نهبا مشاعا لنظرات عسرانة الشبقة ، فضحكت في حياء وهي تشير له أن يسبقها للدار مع الأولاد ، وسوف تلحق به. عسرانة هنا تلخص الموقف كله فهي في نظر أهل القرية " جمل ابراهيم الفقي " وهي قبل هذا وبعده تحتاج إلى " فحل " وقد جاءها الآن ، وهي ترفض نصيحة الأم العجوز بطلب الطلاق . عليها الآن أن تطيع غريزتها التي تحركت في موقف ساخر ضاحك. قد يجد القاريء تناصا بين هذه القصة وبين قصة محمد عبد الله الهادي والمسماة "جمل حمدان " ، لكن يمكن بالتدقيق اكتشاف فروق أساسية في أسلوب القص واللغة المستخدمة ، وفي موقع الراوي ،وفي طريقة المعالجة نفسها ، وأظن أن سبب هذا الاقتراب الشديد بين العملين ربما يرجع إلى استقاء المادة السردية من منبع " حكائي " واحد ، وقد قام كل كاتب بترتيب أوراق الحكاية ، وقدم كل منهما نصا يختلف في إيقاعه وشخوصه وحركته الداخلية ، وتفاصيله عن الآخر ، وإن اتفقت " الحدوتة ". وهنا نحاول أن نقدم الفروق بين النصين بكل حياد:
1 ـ تلعب الشخصيات الهامشية دورا أساسيا في نص الهادي ومنها تسلط الشيخ تهامي ، وتلكؤ الأب عيسى ، فيما لا تلعب تلك الشخصيات نفس الدورعند غنيم بل تبدو شخصية هامشية مثل الحاج سعدني متعاطفة إلى أقصى حد مع الفلاح الأجير الذي لا يجد قوت يومه.
2ـ يفرد الهادي مساحة لا بأس بها لسوق الاثنين ، ولغضب شلبية حين يعود خالي الوفاض لبيته ، فيما لا نعرف الشيء الكثير عن تصرفات " عسرانة " . لقد عمق الهادي الحفر في جيولوجية النفس البشرية ، وبحث في تاريخها بينما اتجه غنيم نحو تلخيص القضية لأنه سعى إلى الاقتصاد اللغوي واكتناز الحكي .
3ـ المتأمل لعلاقة متولي الجمل بشلبية يجد أن علاقتهما بدأت مرحلة الجدية نتيجة ما حدث في غيط الطماطم حين طلب منها أن يشرب جرعة ماء ، فتحايلت عليه بالكلام الحلو ، ولم يدر بنفسه إلاَّ وهي مكشوفة بين أحضانه تنهمر دموعها بغزارة على وجه معذب بالخطيئة ،في حين أن كل ما نعرفه عن المرأة الأخرى "عسرانة " أنها وافقت على الاقتران بابراهيم الفقي لأنه رجل " فحل " ربما في جثته ، أو لأنه وحيد بلا أب أو أم كما تقول لأمها العجوز .
4ـ في نص الهادي حكايات فرعية ، وعلاقات متباينة بين متولي الجمل وأهل القرية فيما يأتي نص غنيم خاليا من تلك الحكايات ، فهو يتكيء على عنصر قص رئيسي ووحيد .
5ـ أما عن اللغة فهي واقعية مشحونة بالصور البلاغية عند الهادي في ذات الوقت الذي نراها متقشفة ، مقتصدة وبلا أي زخارف أسلوبية لدى غنيم . وعلى وجه الإجمال فنحن أمام نسقين من الكتابة . الأول تجيء فيه الكتابة محتشدة بتفصيلات هائلة ، بحيث ترسم صورة الريف المصري باللون والحركة والرائحة والصوت بينما يتجه غنيم في الثاني نحو التجريد ، وتخليص النص من تلك التفريعات السردية .
ولعلنا نتفق في كون الجنس يمثل إحدى القضايا الملحة في عالم الأدب ، و" لئن كانت العلاقات الاقتصادية والإجتماعية ، تكشف لنا جانبا هاما من جوانب الحرية لدى المرأة ، بمعنى أننا نتعرف على نوعية التحرر عند الأنثى إذا تعرفنا على نوعية المجتمع الذي تعيش فيه ، ونظامه الاقتصادي ، فإننا نعثر في علاقات الجنس بصورة خاصة على الدلالة الحاسمة للحرية ـ في مفهومها الحقيقي العميق ـ كما تمارسها المرأة وتحيا في إطارها . أي أن العلاقة الجنسية ، كانت وما تزال ، بمثابة المحك الاجتماعي الذي يحدد لنا الخطوط العامة والتفصيلية كما تراها المرأة بل كما يراها المجتمع " (7).
على أن التفات الكاتب لأهمية الجنس كعنصر مؤثر في حياة القرية المصرية لم تدفعه للاستخدام المجاني له بل كانت اختياراته متسقة إلى حد كبير مع عامل الموضوعية والصدق دون أي محاولة للإخفاء والتمويه . لقد كانت المرأة دوما حاضرة ، وقد اقترنت في كتاباته بفكرة الجمال ، ولا أظن أن قصة خلت من وجودها العياني المؤثر والخلاق .

* التشكيل باللغة :


لاشك أن القصة القصيرة المعاصرة بتقنياتها الحديثة ومناخاتها النفسية المتراكبة قد أضحت إيقاعا شديد الملاءمة مع ظروف العصر بتغيراته المتلاحقة المتوترة . تلعب اللغة دورا أساسيا في تحقيق وظيفة التعبير داخل السرد ، وهي لا تقتصر على ذلك بل تشكل الجو النفسي الذي يحوي الحدث، ذلك بسبب " إن الكلمات بالنسبة للغة المتكلمة تؤدي وظائفها داخل الموقف باعتبارها فهارس على حد تعبير " بيرس " ، وهي تصاحب الإيحاءات والإشارات التي تزود بالمراجع ، وفي داخل اللغة المكتوبة تقود الكلمات إلى شيء تم حدوثه من قبل الرسالة ذاتها ، لكنها في داخل القصيدة تفقد هذا وذاك " (8)
سوف نستبدل القصة بالشعر ، ونزعم أنه في وجود سرد متماسك يتم بناء تصور درامي عبر اللغة ، فالكلمات هنا لا يقتصر دورها على نقل التجربة بل يتخطى الأمر ذلك لمهمة أساسية ضرورية وملحة للغاية هي التدخل بقوة في تشكيل الحدث بصبغة معينة ، مع ما في ذلك من طبيعة مهمة الكاتب في تشكيل هذه اللغة لتتسق مع هدفه من فكرة " القص" . إن المعلومة تتكرر ، والأحداث تمضي ، وقد يقدم الكاتب على تفكيك المشاهد وعدم تحديد الذوات والأشياء تاركا ذلك للمتلقي ، وهذا الانطباع بالغموض النسبي تجده عند غنيم حيث الولوج إلى منطقة في الفن بعيدة وعسيرة ، وحيث الكلام يتلون بإحساس الذات وطبيعة الصورة المشعة أو المنطفئة . في نص " رجل وامرأة " يتم رصد حالة الملل الزوجي الرتيب من خلال ثلاثة أصوات . الراوي يتحدث عن بطل غائب ، يشرب قهوته الباردة التي صنعها لنفسه ، ويقبل زوجته النائمة ، فيما طفله يتقلب في سريره ، حينها بالضبط يصدر الباب صوتا مزعجا أثناء فتحه ، فيحرص على ألا يتكرر ذلك أثناء الغلق .
هي تفصيلات صغيرة تدلل على حالة السأم وتكون خطة الكاتب أن يعبر عن هذه الأحاسيس من خلال صوت المرأة ( الزوجة ) مرة ، ثم يتبعه صوت الرجل ( الزوج ) مرة أخرى ، وهو في هذه الفقرة الختامية يثور على رتابة الحياة ، ومألوفية الأفعال ، فهو بحاجة إلى أن يحرر نفسه من ضغوط الحياة الزوجية التي تبدو له كسجن ، وفي الحقيقة أن كل إحباطات الواقع التي لامسناها في نصوص الكاتب السابقة تقع خارج إطار البيت أو الدار ، وهي التي تدفع شخوصه إلى هذه الحالة من التمرد ، ولنتوقف مع رؤية الزوجة لأفعال زوجها فهي تعكس الموقف النقيض الذي يحتل في النص أقل مساحة :
( لا أطيق رائحة القهوة ، باردة كانت أم ساخنة ، وقبلني وأنا نائمة ، لماذا يوقظني؟ رائحة فمه كريهة ، خليط من رائحة التبغ والقهوة وبقايا طعام متخمر ، أقول له أغسل أسنانك ، فيهز رأسه بالإيجاب ، ومع ذلك يعتبرني متخلفة ولا أفهمه ، فنان ، يظن نفسه فنانا ، وهذا الطفل الذي سهرّني طوال الليل نسخة أخرى من أبيه) " رجل وامرأة ، ص 17" .
هذا الرفض المتبادل يبدو أنه يأخذ أشكالا متكررة في النصوص ، ودعونا نقف أمام العنوان فـي" رجل وامرأة " تأتي على سبيل التنكير لتفيد العموم ، ومجرد اختيار الكاتب لعنوان تحتل فيه المرأة مساحة تساوي الرجل أراه هنا أقرب إلى الاحتجاج أكثر منه اعتراف بالأمر الواقع . تلك القصة التي أرى فيها تجريدا شكليا تختلف عن قصة أخرى لنفس الكاتب تبحث عن الزوجة النكداء العاقر التي تلح على زوجها كي يخلع طاقيته ، كما ترفض أن تنام معه إلاَّ بعد أن ينفذ طلبها ، وهو حزين لأن والده باع الحصان يوم أن عرس بأمه ، والعصا تصلح لقرع المرأة الغبية وبها ينخس الحصان الذي يركبه ، ولا يكون أمام الزوج المثقل بأحزانه إلا أن يذهب إلى دنيا الخيال فيفرح بظهور جنية رائعة الجمال تعطيه الطاقية ليلبسها ، وتدس في يده العصا كما تسلم له فرسا يطير به نحو القصر ، فيجده خاليا . إن القصة داخل قصة تقنية ألفناها في " ألف ليلة وليلة " وهي موظفة هنا بتوفيق كبير ، ويكشف النص عن تلك الزوجة المتسلطة النكدية التي تمرر عيش الزوج البائس فلا يجد مفر سوى الدخول في أعطاف حكاية وربما كان الباعث على ذلك افتتاح العمل بوجود صورة الجدة ، والجدات غالبا مفاتيح طيعة للحكي . هو إذن تنويع على نفس اللحن بصورة تحتفي بالأسطورة ، ومن خلالها يمرر الخطاب المناويء عن مفاسد المرأة ، ومباذلها ، وسوء حظ الشاعر إذا ما اقترن بامرأة عقلها فارغ :
( هي بالفعل نكداء ، والمنكود هو أنا ، تجعل من ليلي نهارا ومن نهاري ليلا ، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله ، ما علينا ، المهم أن النكداء ترى دمي ثقيلا وأنا مرتد هذه الطاقية ، لا تخرج معي إلاَّ إذا خلعتها ، وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد ، وإلاَّ ما كان هناك مشكلة بالمرَّة ، إنها باختصار تريد حرق الطاقية ، ياللغباء ) " حكاية الشاعر المنكود وزوجته النكداء ، ص 91 " .
رغم الظرف البادي في أسلوب الكاتب ، والسخرية التي تتقاطر من الأسطر ، وجمال سرده ، فثمة عرق دساس يتحدث عن كون المرأة في الغالب تبحث عن مرارة الحياة ، وهو رأي للكاتب يصل لدرجة اليقين بدليل اختياراته رغم أنه مولع لأقصى درجة بجنس الحريم حالة كونهن جميلات كاعبات.

* الترميز ، و قص اللمحات الخاطفة :


تتفجر مجموعة من الدلالات الحية واليقظة مع عدد من النصوص القصيرة التي تقدم شكلا خاطفا يعتمد على اللمحة والإيماءة وحسن التصرف في المواقف السردية . محمد غنيم لديه حدس قوي بأن القص الحديث ينبغي أن يتخلص من الثرثرة اللغوية ، وأن يعمد إلى قلب التوتر الناشيء عن حدث رئيسي كي يتم من خلاله فكرة التدوين السردي . وهو يعتمد على خبرته الشخصية وعلى جوانب الإلهام التي تشبه الخفقات الإبداعية واللوامع الصوفية ، ونجدنا في هذا الصدد نستشهد بالباحث الأسباني " آمادو ألونسو" الذي يرى " إن المنابع الأدبية تتصل بعملية الإبداع على هيئة خفقات حافزة ، وعلى هيئة ردود فعل " (9) والفرصة التي توفرها هذه النصوص القصيرة للقاص ثرية فهناك مساحة للاكتناز اللغوي ، ولفيض الدلالات ، وللتكثيف في رصد المشهد بالإضافة إلى اختراق النثري بسند شعري أصيل ، وهي كلها مسائل ترتبط بقدرة الكاتب على الإبداع ، " والحق أن الإبداع من مسائل علم النفس ، وهو ـ من حيث هو فعل ينصب على الشاعر ـ يفترض وجودا مسبقا لخبرة شخصية تترك على سبيل الاستثناء آثارا مرئية . الإلهام هناك حيث يمجده الممجدون باعتباره موهبة إلهية ، ويحيطونه بهالة قدسية. الإلهام بحسب الاستخدام اللغوي هو العنصر الفني الذي لا يمكن نقله ولا يمكن التحدث عنه . الإلهام هو تلك النقطة التي يومض فيها كيان العمل الجاري ابتداعه ، ومضة كالبرق تظهر من بين كمية المواد الممكنة وإمكانات التشكيل المختلفة " ( 10) هل في كل كتابة إبداع ؟ هذا سؤال أساله نفسي كثيرا ، ولي اجتهاد حول هذا الموضوع مؤداه أن هناك كتابة تنحو نحو تكرار النموذج والاحتذاء بالمثال السابق ، وهي بسبب التقليد تقف جامدة لا تعطي جديدا ولا تمنح دهشة ، وثمة كتابة أخرى تحاول ضرب سقف النص الجاهز والاجتهاد في تلمس طريقة جديدة من الأداء .
هذه المجموعة من النصوص القصيرة تمتلك الصفة الأخيرة ؛ فهي ترتكز على الترميز ، وتقد م خطابها السردي في حساسية بالغة تكشف عن شدة الوعي بقضايا الإنسان المعاصر ، وهمومه ، وارتباكاته ، ومحنه الذاتية وانكساراته القومية في آن . تقدم كل ذلك مع تفادي التصريح الواضح ، لأنها تقع في تلك المنطقة المتجاذبة بين الوضوح والخفاء ، وهي تتلمس لغة شفيفة تقترب من لغة الشعر دون أن تقع في أسره ، وهي ترج الأحداث رجاً وتشتبك مع متغيرات السياسة ومكائد التاريخ عبر هموم شخصية شديدة الخصوصية .
إنها " قصص قصيرة جدا " ولكنها تملك خامة فنية تتسع لهموم ومفاهيم وقضايا دالة متعددة ، ففي نص " بينما تشير بإصبعها نحوي " نجد الأستاذ يقرأ قصة " الراوي " فيما يده تعيد ترتيب زهور البلاستيك البيضاء ، وحين تبتسم الفتاة الحسناء في نفس الجلسة ينتبه لها الأستاذ ويشملها برعايته ، فهي تمتلك صدر عار وعاطل إلاَّ من نهدين بدا أنهما على غير وفاق ، يتحدث الأستاذ عن القصة وفنياتها فيما يكون الراوي مشغول بالحسناء التي توشك أن تقع في قبضة الأستاذ . حين يتهيأ للخروج متراجعاً إلى الخلف تشير الحسناء بإصبعها نحوه. شكل كابوسي نتلمس فيه رائحة كافكاوية ، واقتصاد في الحكي ، وانعدام مقصود للترابط السببي داخل العمل ، مع وضوح فكرة النكوص التي تتلبس أبطال محمد غنيم ، فشخصياته في هذه الباقة القصصية مستغرقون في متاعبهم الصغيرة ، يختزنونها داخل صدورهم دون أن يجرأوا على البوح بها .
في نص " لأنه تحسس جيبي " نجد شابا نحيلا يجلس في مقهى ، ويأتي الجرسون كي يضع كوب الشاي ، وينصرف غير أنه يعود ثانية ويضع قطعة سكر في الكوب ، ويقلبها بالملعقة . بمجرد أن يفعل ذلك يمتليء ذهن الشاب بالهواجس وتحيط به الظنون ، يفكر في الانسحاب وترك ثمن الشاي والبقشيش . ينتهي النص بتلك النهاية المفتوحة ، بعد أن يصـدر لنا القلق ، ويدفعنا لتساؤلات وجودية عن المعنى الكامن خلف حركة الأشياء ، وهي تساؤلات وجدناها مبثوثة بصورة جنينية في القصص الطويلة ، ولكنها تتكثف هنا بقوة ، حيث نتأكد أن الخط موصول بين أسلوب اللغة وطريقة القص ، فهناك مكابدة من نوع ما ، وألم خافت لكنه عصي على التصنيف ، وأسئلة تُـترك بلا أي إجابات ؛ لأنه لا يوجد لها إجابات أصلا ؟ فمن الذي دفع الزوجة مثلا لترك بيت زوجها في " عسرانة" ، وما السبب الحقيقي الذي يجعل الجد يصحب حفيده بالذات إلى الصيد الباكر في " يوم الصيد " ؟ كلها أسئلة لم ننشغل بها لأن مساحة القص كانت تمنحنا فرصة للتدقيق في مناطق أخرى وتلمس السرد مقترنا بتفصيلات تبهرنا بتقلباتها ؛ لكنه في تلك المجموعة من النصوص يطرق الحديد ساخنا بعد أن يضع النقطة الأخيرة بعد جملته النهائية . ولأن السرد مكتنز بلغة موحية ، وحمالة أوجه ، فإن الأسئلة تظهر على السطح ، وإن كان القاص يترك لقارئه فرصة للتأويل ، وهو ما نراه في نص " الوقوف في المنتصف " حيث يمكن لنا أن نصنفه كنص عبثي في لغته وتوجهاته ؛ فالمرأة ذات الصلعة والتي ترتدي باروكة شعر زرقاء اللون تدعي أن البطل هو أخوها السفلي لذا تسحبه من يده وتأمره أن يخلع ملابسه قطعة قطعة ، كي يصير عاريا ، وحين يرفض ، ويهم بالخروج من الغرفة بعد أن يرتدي ملابسه يجد الباب مغلقا وينحبس صوته حين يراها تخلع ملابسها كي تنفرد به .
فكرة العري عبر عنها " فرويد " في كتبه لتفسير الأحلام ، وهي تحمل معنى فقدان الأمن ، والخوف من الآخر ، وجل شخصيات غنيم لديها نفس الأحاسيس بشكل أو بآخر . تتفجر اللحظة الدرامية لهذا التعري المخيف ، لأن فيه انكشاف وفضح وإحساس شديد بالذنب . إنه فزع ميتافيزيقي ، وفراغ كوني ، وتشتت ذاتي ، يؤدي إلى هذه المشاعر المتضاربة كما في نص " الخوف " والعنوان يشي بالفكرة الأساسية التي تتجلى في أن الأب يوشك على فقد عقله ، فهو خائف من الفقر والجنون ، أما الراوي فيده تؤلمه حيث لا يكف عن الضغط بسن القلم حتى يخترق الورقة ، يعز عليه أن يكتشف أنه لم يخلق للكتابة . في شوارع المدينة يسير جائعا ويتصفح بعض روايات مكتبة قريبة من الشارع ويكتشف أنه لم يعد لديه رغبة في تناول الطعام ويقترح أن يعود بنصيبه من الطعام لأمه المسكينة التي تبدو حزينة أما الأب فهو مكدر ومكدود ، وهو كشاب ينتظر الغد حتى يذهب لاستلام عمله كمدرس . يتجدد شعور الراوي بالخوف ، وتقنية الكتابة التي اتبعها الكاتب في هذا النص تعتمد على منطق التداعي مع استخدام الطاقات الإيحائية للمفردة اللغوية ، ونلاحظ أنه على مستوى التواصل والتعرف على البطل وصديقه لا يحدث إلاَّ عبر وسائط مادية كتناول الطعام ، وربما لجأ الكاتب إلى شحن طاقته الوصفية بصدق حقيقي تأتى من تورطه في المشهد حتى ليظن المتلقي أن القص هنا هو جزء من سيرة ذاتية أو هو " عرض حال" بطريقة يلعب فيها فن الإزاحة الدور الرئيسي . قد تنحو المعالجة باتجاه الترميز مثلما نقرأ في نص " صورة معلقة على جدار " فهناك رجل يتجول في المدينة ، متعجبا مما يراه في السوق حيث للناس ذيول ! فجأة يقتاده ثلاثة رجال ضخام الجثة إلى المخفر ، وفي غرفة مظلمة يسجن ، ويكتشف أن تهمته أنه قد بتر ذيله ، وفي المواجهة كانت ثمة صورة معلقة لحمار ضخم .
الترميز هنا مكشوف ، وأعتقد أن الكاتب لم يترك الحكاية لتختمر في ذهنه وسارع بالكتابة الأولى ، فهو في وصفه للبطل لم يمنحنا فرصة اكتشاف الأزمة بل توالت المحنة بتداعياتها في مساحة جد صغيرة فلم يترك النص الأثر المطلوب رغم أن الكاتب قد عمد إلى نهاية صادمة . وأظن أن الاستخدام الملح لهذا الرمز دفعته لكتابة نص آخر متفرع عن هذا النص لكنه ينتمي إلى مجموعة القصص غير القصيرة وأقصد به نص " حكاية رجل بلا ذيل" فالحدوتة واحدة ، حين يصحو الرجل من نومه ويقرر أن يمتنع عن تنفيذ قانون حاكم المدينة بعدم مغادرة البيت . في الشارع تضايقه الرائحة الكريهة التي تكاد أن تخنقه ، وحين تقع عيناه على امرأة ساحرة بقوام رشيق ووجه شفاف يكتشف وجود ذيل لها موضوع في جراب أنيق . إنها الرؤية الصدمة ، ويكون الأمر محرجا عندما يكتشف أن وجود إنسان بلا ذيل في هذه المدينة " المنكوبة بالتأكيد" يمثل مشكلة لا حل لها. يحاول أن يتذكر طريق العودة إلى البيت بلا طائل ويشعر بالضيق فما من رجل أو امراة يسير إلاَّ وتحاصره سهام العيون من كل جانب . في صباح اليوم التالي ومع إحساسه بالتآلف والتعود على ما رآه يهجم عليه ثلاثة رجال بالملابس الرسمية ويقتادونه إلى المخفر ، وهناك يأمره المسئول بخلع ملابسه كلها أمامه فيكتشفون خلوه من الذيل ، فتوجه إليه تهمة بتره ، وهي كما يقول الرجل ذو النظارات بدعة يعاقب عليها القانون في شريعة المدينة المقدسة .
الترميز السياسي واضح ، والمساحة التي يلعب فيها القاص اتسعت هذه المرة لتقديم تفصيلات تبرر ما حدث ، وأن تنتهي القصة بموت البطل بعد أن منعوا عنه الطعام والشراب أمر حتمي . لكنني لم أستسغ نهاية النص التي جاءت كالتالي " فحبسوه ومنعوا عنه الطعام والشراب لمدة ، فنفق ومات " ، ذلك أنه لم يدجن ، ولم يوافق على ما رآه فهو الموت إذن أما من ينفق فهي الحيوانات . وقد يتبادر إلى ذهني سؤال : هل تحتمل مجموعة مكونة من 96 صفحة من القطع الصغير أن تضم نصين يتناولان نفس القضية ؟ وهل كان من الأوفق للكاتب أن يحذف أحد النصين أم لا ؟ وجهة نظري الشخصية أن القصة الأخيرة رغم طولها كانت الأقرب إلىّ فنيا فهي تكشف عن اضطراب القيم ، والتحولات المهينة في واقعنا العربي ، وهي محاولة لإدانة الصمت ، لكنني في نفس الوقت لم أتعاطف مع هذا الرمز بالذات ، لأن الناس ـ أقصد ناس هؤلاء المدينة الافتراضية ـ مغلوبون على أمرهم ، وكون البطل هنا يبدو وحيدا غير مدرك لما حدث من تشوهات لا يعفيه من التورط الكامل في كم التشوه والنفاق والكذب الذي ألم بواقعه الفانتازي ، وترميزه الغريب .
لكنني أعود لسلسلة النصوص القصيرة مرة أخرى فأجد روح الحكمة ومظان الأمثولة في نص " لأجل أن يكون في يدك صنعة تنفعك " وهي حكاية صياد يكلم الخليفة فيشير عليه بأنه إذا أراد أن يتعلم الصيد لكي تكون في يده حرفة تنفعه فلابد له من جبة يرتديها. وحين يتلفت الخليفة لا يرى أحدا ، لكنه يسمع صليل المفاتيح في يد الحارس . مثل هذه الأمثولة وغيرها من نصوص متكئة على مادة تراثية تحتاج إلى حيز أوسع للعب الفني كي يمكن إعادة صياغة الحكاية بزخرفة فنية عالية تمنحها الرونق والبهاء . إن عناصر اللمس ، والشم ، والمضي في استنطاق الحكايات التراثية ، والترميز السياسي ، وتراسل الحواس ، واقتناص البهيج من قلب المأساة ، كلها عناصر للنص القصير عند غنيم ، على أن أهم ما في هذه الأعمال هو شجاعة الخروج من الأنساق التقليدية للقص إلى مناطق تجريبية ، وامتلاك المقدرة على التلوين السردي .

* نصوص طقسية :


بعض نصوص غنيم تحمل سمة السرد الطقسي حيث تحوّم اللغة ،وتصدر إحساسا عارما بالسحر ، والخفاء ، وكل ما من شأنه ابتعاث ظنوننا القديمة ، بعتاقتها الملغزة . نحن دائما ما نميل إلى تلك المناطق الخفية ، والمضببة ، ربما لأنها تخضع لعنصر الاحتمال . نصوص لا غناء فيها ولا توقيع ، لكنها تملك طرافة اللفتة ، وبكارة الوصف ، وتشعر معها بنوع من المتعة المضاعفة .
ثمة نوايا تتوزع على مثل هذه الأعمال . خيرة أو شريرة ، فيها من المستويات الدلالية ما يجعلنا نتقصى عنفوانها وترجيعاتها الحكائية . الشخصيات تمد حبل الكلام حتى نهايته ثم تمنحنا تأويلا يتسق مع ما نستشعره من إضمار أو علن.
" إن الناثر لا ينقي خطاباته من نواياها ومن نبرات الآخرين ولا يقتل فيها أجنة التعدد اللساني الإجتماعي ، ولا يستبعد تلك الوجوه اللسانية وطرائق الكلام ، وتلك الشخوص الحاكية المضمرة التي تتراءى في شفافية خلف كلمات لغته وأشكالها ، وإنما يرتب جميع تلك الخطابات والأشكال على مسافات مختلفة من النواة الدلالية النهائية لعمله الأدبي ، ولمركز نواياه الشخصية " (11)
وهو يستشرف ما في داخل المشهد من معان وطاقات خلاقة ، ويعتصر تلك اللحظات المأساوية التي يمكن رغم قتامتها أن تمدنا بفهم متجدد وأصيل للغز الحياة .
في نص " شعرة ملح" نجد الراوي يرصد بكاء الطفل والأم عاجزة عن فعل شيء لأن اللبن قد جف من ثدييها ، وعندما يعود الأب لا يفعل هو الآخر شيئا ، وتحضر الجارة العجوز كي تطلب شعرة ملح . ثمة أخبار عن الحرب نصف كاذبة ومع البيان الحربي الذي يطلقه المذياع تبدأ راقصة معروفة في الشدو بأغنية وطنية حماسية ، وفي التلفزيون يشاهد الرقص ، ويتكرر العري ذاته ، كما يستمر بكاء الطفل :
( كانت الراقصة لا تزال ترقص عندما عادت جارتنا العجوز مرة أخرى ، ومالت على أبي هذه المرة . قالت كلاما في أذنه كنا نسمعه لكننا لم نفهمه . عندما انتهت قام أبي ، أطفأ التلفزيون وبصق في وجه أمي ثم خرج مع العجوز ، هنا فقط أجهشت أمي بالبكاء ) " شعرة ملح ، ص 84" .
هذا الطقس العبثي ، وما فيه من رقص يحاط بغموض شديد ، وجفاف اللبن من صدر الأم مع طلب الجارة شعرة ملح ، وما يتبع ذلك من أخبار الحروب ، كلها تصب في تيار حكائي شعائري ، مع إبراز ما في هذه العلاقات من تفسخ وتشتت ، وكتابة مثل هذه النصوص يحتمل الظن والاجتهاد وإمكانية واسعة للتأويل . تلك النكهة المميزة نستشعرها منذ أول جملة في النص وحتى مشهد الخروج المريب للأب مع الجارة التي تقوم هنا بنفس دور الساحرات في المسرح الإغريقي القديم .
ثيمة الرقص كشعيرة تؤدى في الاحتفالات الجماهيرية ، وتحتل مكانا في نصوص أخرى للكاتب ، ففي نص " المتفرجون" تتوشح المرأة بالسواد ، وتخفي كل معالم الجمال في جسدها وتتوجه نحو المنصة المنصوبة وسط الميدان الكبير الذي يتوسط البلدة ثم تصيح تاركة يديها طليقة في الهواء ومع تقاطر المارة بين مشفق وخائف راح كل يرميها بما جادت به نفسه من أوراق مالية . تخلع المرأة ثوبها الأسود ويشع من عينيها بريق الشهوة وتبدأ همهمة الجماهير في التصاعد ، ومع هتافهم المدوي يبدأ رقصها ، وما تلبث أن تختفي من على المنصة ، وهنا يضج الجمهور بالصياح ، ويتحولون جميع إلى الرقص العنيف .
لا أريد أن أفسر القصة ، ولا أن أبحث عن طاقاتها الترميزية ، وإنما سأشير إلى هذا النهج في الكتابة الذي يقدم لنا مشاهد أقرب إلى الأفعال الطقسية حيث يكمن السر في النزعة الاستعراضية لدى الناس ، فحين يغيب وعيهم ترتفع الصرخات ويبدأ الرقص المحموم . هو ترميز مقبول ، لا يجرح المتلقي الذي وجد نفسه في نصوص سابقة للكاتب أقرب للحمار بذيل أو بدونه. إنه شكل من أشكال تقديم القرابين بعد تحويره ، ففي المعابد القديمة كان على عامة القوم أن يقدموا القرابين للآلهة كي ترضى عنهم ، بمباركة الكهان ، وكانت بعض الديانات تسفك الدم ، وهنا ـ وللملاءمة العصرية ـ تحولت المسألة إلى مجرد تقديم رقص عنيف ، والانخراط في جماعات تصرخ صرخات محمومة ، ويصل الأمر إلى درجة غريبة من التوحد مع الظلال التي يبتعثها المشهد كله . إنها محاولة للاقتراب من حافة الحياة في منطقة برزخية حافلة بالغرائب والمسرات الغامضة ، والظنون المعتمة ، والخفقات المرتبكة .
طقس يقتنصه محمد غنيم بالسرد كي يزيح الواقعية ـ في نسقها الريفي المتأصل ـ من معمله الفني غير أنه ما يلبث أن يجد نفسه متورطا في تيار الحياة الكاسح الذي يكشف كل حيلنا من أجل تأجيل الصدام مع القتلة العصريين!




دمياط في 22 / 10/ ‏2006‏‏‏

* سمير الفيل - نوازع اللمس واللمحات الخاطفة في نصوص تشاغب الشعائرية !
قراءة في مجموعة " رجل وامرأة" للدكتور محمد عبدالحليم غنيم .

(1) رجل وامرأة ، د. محمد عبدالحليم غنيم ، سلسلة أصوات معاصرة ، العدد 162، 2006 .
(2) راجع موقع القصة العربية ، ويمكن قراءة بعض ما كتبنا على الرابطين التاليين:
http://arabicstory.n...emarks&tid=6272
http://arabicstory.n...emarks&tid=6273
(3) جان بيلمان نويل ، التحليل النفسي والأدب ، ترجمة حسن المودن ، المشروع القومي للترجمة ، القاهرة ، 1997، ص 32.
(4) د. نبيل راغب ، دليل الناقد الأدبي ، مكتبة غريب ، القاهرة ، 1982، ص 65 .
(5) محمد غاليم ، التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، 1987، ص 102.
(6) د. غالي شكري ، أزمة الجنس في القصة العربية ، دار الآفاق ، بيروت ، ط3 ، بيروت ، 1978 .
( 7) المصدر السابق ، ص 268.
( 8) جون كوين ، بناء لغة الشعر ، ترجمة د. احمد درويش ، مكتبة الزهراء ، القاهرة ، 1985، ص 184.
( 9) أولريش فايسشتاين ، التأثير والتقليد ، ترجمة الدكتور مصطفى ماهر ، فصول ، المجلد 3 ، العدد3 ،القاهرة ، إبريل ـ يونيو 1983 ، ص 24.
(10) المصدر السابق ، ص 24.
(11) ميخائيل باختين ، الخطاب الروائي ، ترجمة الدكتور محمد برادة ، دار الفكر للدراسات ، ط1 ، القاهرة ، 1987 ، ص 67.

سمير الفيل
 
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

شكرا نقوس المهدى
شكرا سمير الفيل
هذه الدراسة من أرقى ما كتب من نقد عن إبداعى القصصى
شكرا لصديقى العزيزين سمير الفيل ونقوس المهدى الذى أتاح نشر هذه الدراسة على هذا الموقع العظيم الذى أتمن يكون مرجعا للنقاد والمبدعين فى وطننا العربى
مودتى بلا حدود
د.محمد عبدالحليم غنيم
 
تحية اخي الدكتور المحترم محمد عبد الحليم غنيم ونفتخر بك رفيقا للكلمة و قاصا ومترجما وكاتبا يسعى لنشر المعرفة ورفعتها ونثمن سعيكم الصادق لتشجيعنا في هذا العمل التطوعي .. ونشكر القاص الاستاذ الرائع سمير الفيل الذي اعجبنا بما يكتب و تشرفنا اكثر من مرة بنشر امداداته الادبية وسروده القصصية وتقاسمها مع القراء هنا او بمنتدى مطر منذ ازيد من عشر سنين
اضطررنا لحذف عنوان المجموعة لان الشريط العناوين لم يستوعب كل العنواان بأكمله..
نحييكم ونشد على ايديكم ونتمنى لكم كل النجاح واطيب المنى
 
أعلى