دراسة محمد عبدالحليم غنيم - قراءة نقدية فى "سهرة " للكاتب عبد الله خليفة

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

عبد الله خليفة كاتب بحريني بارز تجاوزت تجربته القصصية دائرة القطرية , ليصبح صوتا مسموعا ومميزا بين كتاب القصة العربية ، فرصيده الأدبي تجاوز العشرة كتب بين قصص قصيرة وروايات طويلة ، وتقف هذه الدراسة عند مجموعته القصصية "سهرة" لعلها تلقي بعض الضوء أو تفتح نفقا نلج منه إلى عالمه القصصي بما يتسم من فرادة التجربة وإحكام البناء السردي وشعريته .

تضم مجموعة "سهرة" عشرة قصص هي على التوالي : السفر ـ سهرة ـ قبضة ترب ـ الطوفان ـ الأضواء ـ ليلة رأس السنة ـ خميس هذا الجسد لك ـ هذا الجسد لي ـ أنا وأمي ـ الرمل والحجر .

وإذا كانت القصة والمسرحية تقدمان الرجال والنساء فى مواجهة بعضهم البعض بصورة تبدو شديدة القرب مما هي عليه الحياة الفعلية ، وتلك هي الميزة الكبرى للأدب على سائر فروع المعرفة الأخرى ، فإن عبد الله خليفة فى هذه القصص لا يجعلنا نقترب من شخوصه فحسب ، بل إنه يسمو بهذا الواقع ليصل إلى مرحلة الأسطورة ، وهذا راجع إلى قوة الخيال لديه من ناحية ، وإلى الاعتماد على رؤية سردية ـ سواء كانت ذاتية أو موضوعية ـ تتلاءم وبناء الأحداث والشخوص القائمة بها ، ففى قصة "السفر" يتخذ الراوي العليم رؤية سردية خارجية ، تجعله يتحكم فى بناء الأحداث وتحريك الشخوص والاقتراب من دواخلها مع استخدام لغة تلتقط ألفاظها من تخوم الشعر والتراث السردي ، ويتضافر كل ذلك لتقترب الأحداث من الأسطورة أو الحكاية الرمزية ، فثمة رجل بعد خمسة عشر عاما قضاها فى السجن ثمنا لكنز سرقه وخبأه فى أحد البيوت ، يخرج باحثا عن هذا الكنز ، فيكتشف أن بيته الذي يضم الكنز يضم أيضا امرأة جميلة وولدين ، فيحاول التودد إلى أهل البيت ، وينجح فى ذلك ويذوق رحيق المرأة ، وكأنها الكنز البديل ، ويتزوجها ولكنه أبدا لا ينسى كنزه القديم ، وذات ليلة بعد أن مل البحث عن الكنز يرى صورة الزوج السابق ملقاة على البساط قربه ، ولأول مرة يرى شكله واضحا ، إنه يبتسم وكأنه يهنئه بامتطاء فرسه ، صعد ذلك السؤال الغريب المفاجئ النائم تحت قمامة أيامه كيف لم يسألها أبدا عن ذلك الأب الغائب المسافر الذي لا يرجع .

ضمته إليها وقالت : لا أعرف ماذا حدث ؟ ذات يوم رأيته يعثر علي شئ في الجدار المتساقط صمت يوما كاملا , ثم زعم أنه سوف يسافر لزيارة قريب له , بعد أن أغلق الباب لم أره بعد ذلك أبدا. سمعت مرارا عنه , قيل أنه مرة في الشرق ومرة في الغرب ن لا أدري ماذا جرى له .. لماذا تسأل ؟ " ص 10 .

وهكذا يقترب الواقع من الأسطورة ، فكم من رجل عاش حياة بديلة ومغايرة لم يحلم بها ، لكن ترى هل يرضى البطل بهذا الكنز / المرأة ، أظنه قد رضي ، لأنه سفر من نوع آخر وليسعد الزوج برحلاته شرقا وغربا .

وإذا كانت الرؤية السردية الموضوعية قد أتت ثمارها بالكشف عن فحوى السفر فى القصة السابقة فإن لجوء الكاتب إلى الرؤية السردية الذاتية فى قصة "سهرة" مكنه أيضا من تحقيق أهدافه وبناء قصصه ، وتعد "سهرة" من أجمل قصص المجموعة وأقواها من الناحية الفنية ، لغة وبناء ، حيث يمتزج صوت الراوي المخاطب بصوت الراوي العليم بالمونولوج الداخلي ، إننا أمام تقنية مركبة ومعقدة ، بيد أنها فى النهاية تبقى معادلا فنيا أو شكليا لمضمون القصة السياسي ، فالقصة تدور حول شخصية رئيسية لشاب عاطل عن العمل يعيش فى وسط اجتماعي فقير بين أم و أب عجوزين ، والأب شبه عاطل ، فيذهب إلى البار ويشرب يائسا ، لذلك فهو متأكد من أن نهايته ستكون فى قاع أحد السجون ، لكن الأمر يتخذ منحى آخر عندما تطل عليه عجوز متصابية وتجلس بجواره فتدفع له ثمن الخمر والطعام ثم تأخذه إلى بيتها ليقضي ليلة فى سريرها ، وفى اليوم التالي تعطيه ثلاثين دينارا وتطلب منه المجيء ليلا ، أما الآن فعليه أن يخرج لأن زوجها قد حضر ، وعندما يسمع كلمة الزوج يخيل إليه أن السجن أفضل من الموت ، ولكن المفاجأة أن الزوج مثل زوجته العجوز " اقتربت السيارة منه ، توقف له . رأى العجوز يبتسم ويغمز بعينه أيضا ، بصق عليه واندفع يجري إلى بيته " ص 20 .

وفى البيت يتناول حبلا ويبدأ فى شنق نفسه ، إلا أنه يسمع فى اللحظة الأخيرة صوت أمه وخطواتها القريبة :

" ـ أين أنت ؟ ألا يجب أن تذهب لتهنئة صديقك الملعون بسلامة الوصول " ص 20 .

وما الصديق الملعون سوى الشاعر الذي كان يستحضره الراوي / البطل أثناء الأحداث سواء وهو فى البار يشرب أم مع المرأة فى سريرها . إن عودة الشاعر المطارد من السلطة والمغضوب عليه سالما ، لها دلالتها الواضحة ، إن السلامة هنا دليل الخيانة ومؤشر إلى تخليه عن مبادئه وقيمه التي عاش يناضل من أجلها ، تماما مثلما فعل الراوي وذهب مع العجوز وعاد بثلاثين دينار .

لعلنا أطلنا الوقوف عند هاتين القصتين ، والواقع أنهما تستحقان أكثر من ذلك ولا يعني هذا أن باقي القصص تقل عنهما أهمية ، أو أقل منهما من الناحية الفنية ، فقصص المجموعة عامة متقاربة من حيث المستوى الفني ودرجة النضج ، ونتوقف الآن عند أبرز السمات الفنية والتقنيات التي تميزت بها قصص المجموعة .

[SIZE=4] [/SIZE]
1 ـ توظيف العنوان :

يوفق عبد الله خليفة فى استخدام العنوان المناسب لقصصه ، عندما يستطيع هذا العنوان أن يلخص المضمون أو يؤشر على مغزى القصة ، كما هو الحال فى قصص : الطوفان ـ قبضة من تراب ـ الأضواء ـ الرمل والحجر ، ونقف عند العنوان الأخير ، فنجده يؤطر المضمون والشخصيات والأحداث ، فأحداث القصة تدور بين الرمال والحجارة والشخصيتان الرئيسيتان كأنما خلقا من رمل وحجارة ، فمظفر البدوي يعيش حياته وسط رمال الصحراء مهشما وطريدا من قبل السلطة ، وهو فى النهاية ليس سوى حبة رمل فى عزلته ووحدته ، أما الشخصية الثانية ، عالم الآثار المهتم بالحجارة والمدينة الحجرية المدفونة تحت الأرض ، يتمسك بالحجر رغم العاصفة و التراب ، ثم أنه فى النهاية لن يكون سوى حجر بالقياس إلى مظفر ذرة الرمل ، وهكذا يقترب العنوان فى هذه القصة من بلورة الرمز التي توحي وتومئ إلى المضمون ، هذا إلى جانب قيمة الرمز الإيحائية المولدة للمعاني وهذا لا يمنع من الإشارة إلى أن المؤلف لم يكن موفقا فى اختيار "السفر" عنوانا للقصة الأولى وكذلك "سهرة" للقصة الثانية ، أجمل قصص المجموعة كما أشرنا سابقا .

[SIZE=4] [/SIZE]
2 ـ هاجس المجاز وشعرية القص :

حين تقترض لغة النثر بعضا من اللغة الشعرية فإنها لا تفعل ذلك بطريقة مرضية تفضي بها إلى التماثل أو المطابقة ، بل تحاول أن تتحرك بهاجس داخلي شعري رؤيوي يكسر الكثير من عادات النثر وثوابته ، ويلعب المجاز دورا حاسما فى خلق هذا المناخ الشعري فى قصص عبد الله خليفة ، وهو هنا لا يوقف حركة السرد بقدر ما يساعد على الدخول إلى حنايا الشخوص والأحداث ، بل يسمو ـ كما أشرنا ـ إلى مرحلة الخيال الأسطوري . ولنقرأ هذه الفقرة من قصة "السفر" :

" وتدعوه المرأة الشهية ، ويدهش لهذا التجدد فى النار ، وتحول الكثبان إلى رمان ، وهو يسبح فى حياة رقراقة ، تشتعل حينا وتتجمد حينا ، ويرى البراري والجبال والتماثيل والكركدن يتقافز فى فضاء من القمح المشتعل " ص9 .

هذه اللغة المشحونة بالمجازات المتنوعة وإن أبطأت من حركة السرد فإنها تلج بنا إلى أعماق الشخصية لتصورها لنا من الداخل وفى ذات الوقت ، تحدد لنا خط سيرها فى الأحداث فنستطيع أن نتوقع ماذا ستفعل بعد ذلك . ولهذا لا يمكن حذفها ، فهي عنصر بناء القص والواقع أن عنصر المجاز قيمة سائدة فى جميع قصص المجموعة ، بيد أنه يوظف بدرجات متفاوتة ، وهو يستحق مقالة كاملة واحدة .

[SIZE=4] [/SIZE]
3 ـ شخصيات خارجة على القانون :

يقول فرانك أوكنر "يوجد فى القصة القصيرة دائما ذلك الإحساس بالشخصيات الخارجة على القانون التي تهيم على حواف المجتمع ، والتي ترمز في بعض الأحيان إلى شخصيات من أمثال عيسى وسقراط وموسى حيث تكون كاريكاتيرا وصدى لها " (1) . وهذا ما نجده فى معظم شخصيات المؤلف ، فثمة الخارج من السجن فى قصة "السفر" والعاطل عن العمل فى "سهرة" وأيضا فى القصة ذاتها الشاعر المطارد والهارب من السلطة هائما فى الصحراء فى قصة "الرمل والحجر" وغيرها ، وكلها شخصيات تؤكد مقولة أوكنر أنه للقصة شيء لا نجده فى الرواية ، إنه الوعي الحاد باستيحاش الإنسان "(2) . وهي فى الواقع شخصيات مرسومة بعناية بحيث تبدو فى المشهد القصصي مؤثرة وذات استقلال ، مما يجعلها حية فى الذاكرة وإن لم يسمها الكاتب ، وهذا ـ فى رأيي ـ يرجع إلى اتكائه على رؤية سردية خارجية تمتزج غالبا برؤية سردية داخلية .

[SIZE=4] [/SIZE]
4 ـ بناء القصة القصيرة والحبكة التقليدية :

إذا كان هناك من يدافع عن القصة القصيرة الحديثة بأن لها حق الادعاء بامتلاك البناء القصصي المستمد من الحبكة ، وأن بناءها لا يختلف كثيرا عن بناء القصة القديمة والنمط التقليدي ، لكن أسلوبها الفني مختلف ، وهذا الاختلاف فى الأسلوب غالبا ما يدعو القراء والنقاد إلى الوقوع فى خطأ كزنها خالية من البناء . إذا كان ذلك كذلك فإن الكاتب لا يجعلنا أبدا نقع فى هذا الخطأ ، لأن قصصه فى هذه المجموعة تتميز بإحكام البناء ، ولا نقصد البناء التقليدي ، ولكن دائما ثمة بناء محكم ، يمتلك حبكة قائمة على صراع ومؤدية إلى فعل ، وان هذا الفعل متسلسل ومتعاقب ، فهناك شيء ما يتكشف ويتنامى عن طريق سلسلة من التعقيدات بغية الاستثارة ، وينتهي هذا الفعل بحسم الصراع وبذلك تكتسب القصة وجهة نظر ولعل حسم الصراع بهذه الصورة هو العامل الرئيسي وراء استخدام الكاتب خاتمة تأتي دائما متسقة مع بناء القصة ومضمونها .

ولنأخذ قصة "الأضواء" نموذجا فنجدها تدور حول شخصين حسن ومرتضى اللذين يحلمان بالسفر إلى دول الخليج ، لم يقل الكاتب من أي بلد هما ، ولكنه حصر الحدث الرئيسي فى صراعهما مع الطبيعة الممثلة فى مد البحر وصخوره الجارحة ، فالشخصيتان استطاعتا أن تركبا مع الأغنام فى قاع سفينة شحن وذلك بالاتفاق مع ربان السفينة ، وفى الطريق بالقرب من المدينة ذات الأضواء المبهرة ينزلهما الربان ويكون عليهما أن يخوضا المياه الضحلة حتى يصلا إلى المدينة بعيدا عن دوريات الشرطة ، ولكن القدر كعنصر خارجي من عناصر الصراع يجعلهما يغفوان قليلا ، وعندما يصحوان يأتي مد البحر بمياهه وهكذا يقاومان الموج حتى الموت ، "والأضواء البعيدة تنتح جسرا مد أصابعه ، مد ذراعه وأمسك الهواء وسقط فى المياه الغامرة " ص45 . وهكذا يحسم الصراع بين الماء وكان مرتضى قد سقط قبله بدقائق .

إن عبد الله خليفة فى هذه القصة يسمو بالطبيعة بوصفها طرفا فى الصراع الدرامي إلى درجة الرمز ، فلا يتوقف صراع (حسن ومرتضى) مع الطبيعة فحسب ، بل إنه فى الواقع صراع مع الأضواء رمز الحلم والثراء والخداع أيضا .


د. محمد عبد الحليم غنيم



الهوامش :

1 ـ فرانك أوكنر : الصوت المنفرد ، ترجمة محمود الربيعي ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، القاهرة 1969 ، ص 14 .

2 ـ المرجع نفسه ، ص 14 .
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى