دراسة محمد عبدالحليم غنيم -يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها والكتابة الجديدة فى سلطنة عمان لمحمد اليحيائي

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

اليحيائي.jpg

تأتي المجموعة القصصية " يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها " للكاتب العماني محمد اليحيائى بعد مجموعته الأولى "خرزة المشى - 1995" لتؤكد رسوخ قدمه فى تيار الكتابة الجديدة فى عمان وهو تيار متفاعل مع الكتابة الجديدة فى بقاع الوطن العربي الأخرى , فمنذ أوائل التسعينات تتشكل فى مصر والعالم العربي كتابة جديدة على مستوى الشعر والنثر ، كتابة مغايرة للمألوف . لن ترضى جيلنا فما بالك بالأجيال القديمة ، ربما لأنها من حيث الشكل قد تخرج على التقاليد الأدبية المعروفة ، وعند ذلك تلجأ إلى استخدام مصطلح وسيع هو "النص"أما من حيث المضمون أو المغزى فتبدو لأول وهلة غامضة أو غير مفهومة أو على الأقل صعبة الفهم تتطلب قدراً كبيراً من الصبر ، ومن المؤكد أن سمة علاقة بين هذا الشكل وذلك المضمون . وواجب النقد الحديث أن يقترب من هذه النصوص متسلحاً بالمنهج النقدي الملائم ليفتش عن أنساقها ويكشف عن مغزاها وقيمتها الجمالية ، إن كان ثمة قيمة .




1 - خرزة المشي ونموذج القصة القصيرة جداً :

------------------------------

فى قصص "خرزة المشي " بدت الرؤية غائمة لراو يقف خارج المشهد القصصي غالباً , إنه راو محايد ، بيد أنه يقوم بلعبته السردية فى إتقان وذكاء معاً ، من خلال وجهة نظر موضوعية ، غير أنها لم تكن كافية لإنتاج قصص قصيرة بالمعنى المفهوم لهذا المصطلح ، فثمة ضيق فى رقعة الأحداث وانكماش فى المكان والشخصيات ، وعليه لا يمكن الحديث عن حبكة وصراع درامي , وليس فى كل ما سبق ما يعيب الكتابة الجديدة ، بل إن هذا ما يميزها وإذا نظرنا إليها نظرة علمية موضوعية ، وجدنا أن قصص اليحيائى يمكن أن تندرج فى بساطة تحت مصطلح القصة القصيرة جداً , التي "لا تعنى الدخول فى التفصيلات وتتخلص من الحشو ويمكن تحديد بعض مواصفاتها على النحو التالي :

- أولاً : فيما يتعلق بطبيعتها : تقوم على اختزال اللغة وتهتم بلحظة الكشف والاكتشاف .

- ثانياً:فيما يتعلق بالبناء : تعنى بوحدة الأثر ، مثلها كمثل القصة التقليدية ، ولكن من خلال لحظة ، وإن كانت الحبكة بشكلها التقليدي تركز على الفعل فإنها فى هذا الشكل تتطلب الفعل ورد الفعل " (1).

وهذا النوع من القصص يتطلب من الكاتب مهارة فائقة وقدرة عالية على استخدام أداته الفنية ، فأي ارتباك فى البناء يجعل القصة عرضة للتهاوى . لذلك تبدو فرص النجاح أمام الكاتب . محدودة فقلما ينجو كاتبها من الإفلات من بعض المز الق , مثل الغموض أو ارتباك البناء أو الانسياق وراء جمال اللغة على حساب السرد أو فراغ المضمون , ونحن إذ نعدد هذه المزالق لا نسم اليحيائى بها جميعاً ، غير أنه قد وقع فى بعض منها , مثل الغموض فى قصتي "اسم الوردة والدار" والفجاجة فى قصة "موت المواطن الصالح" . وفى المقابل سنجد الكاتب يصل فى بعض القصص إلى درجة النموذج المكتمل للقصة القصيرة جداً شكلاً ومضمونا ً ، كما فى قصة "استدراج" آخر نصوص "خرزة المشي" ولعله من المفيد أن نقرأ التالي منها لندعم ما ذهبنا إليه آنفاً :

"قالت المياه عميقة

عميقة وخضراء ومظلمة .

وقالت تحب البحر ، وتخاف المياه العميقة واضطجعت ورأسها يلامس ركبته ويدها فى الرمل تحت فخذه " صـ66 .

وعلى الرغم مما يتميز به النص السابق من إحكام فى البناء ووضوح فى الرؤية وشاعرية فى السرد تقترب بالقصة من تخوم الشعر ، حاول اليحيائى فى مجموعته الثانية "يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها " الخروج من أسر هذا النموذج المغرى بالتكرار .



2- يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها

------------------------

تنتظم هذه المجموعة فى سبعة عشر قصة يسميها المؤلف نصوصاً , حيث يقول فى بداية الكتاب "نصوص الكتاب كتبت بين 1995-1997 " وفى الفهرس نجد العنوان : "نصوص الكتاب "صـ 103 . لكن الذي يربك الناقد أننا نقرأ على الغلاف تحت العنوان كلمة "قصص" . ماذا يعنى ذلك ؟ هل أراد الناشر أن تكون قصصاً وأراد اليحيائى أن تكون نصوصاً ؟ والواقع أن تسمية هذه القصص بالنصوص لن يغير طبيعتها أو بنائها والذي يعنينا هو أن نحللها موضوعياً ، وعند ذلك تأخذ التسمية المناسبة .

يلامس اليحيائى فى قصص هذه المجموعة الواقع العمانى من القاع إلى القمة , وذلك من خلال وجهة نظر سردية موضوعية أحياناً وذاتية فى أحيان أخرى ، تشى بتطور فى الرؤية وتمكن من الأدوات الفنية , فقد أخذت القصة القصيرة جداً – التى لم يتخل عنها الكاتب بعد – نمطاً جديداً يرتبط بالواقع متأرجحاً بين التسجيلية والشعرية الرمزية (تأمل قصص خديجة ويوسف وصباح والطابور على التوالى ). ولعل فى ذلك ارهاص للقصة القصيرة بمفهومها الاصطلاحي "التى تقدم فكرة فى المقام الأول ، ثم وجهة نظر ومعلومة عن الطبيعة البشرية بحس عميق "(2) فإذا ما أمعنا النظر وجدنا ثمة قصص مكتملة البناء خرج فيها الكاتب من أسر القصة القصيرة جداً التى غلبت على مجموعته الأولى . إذن يمكن القول أن قصص هذه المجموعة تتراوح من حيث الشكل بين نمط القصة القصيرة جدا ونمط القصة القصيرة ، ولنقف الآن فى تحليلنا عند أبرز النماذج الدالة على رؤية الكاتب , وإمكانياته الفنية .

أ - القصة القصيرة جداً والبناء الرمزي :

--------------------

يتراوح الرمز عند اليحيائى بين الغموض الذكي وبين الوضوح الشفاف , ففي قصة "الطابور" ينقل لنا الراوي المحايد مشهداً بسيطاً فى ظاهره , وهو وقوف طابور من الأطفال الصغار فى طريق عام منذ الصباح إلى قبيل الغروب انتظاراً لمرور موكب رسمي ، وعندما يلوح هذا الموكب يصفر المشرفون ويخرج الصغار أعلامهم ويهتفون وينشدون لدقيقة واحدة . ماذا فى هذه القصة ؟ لقد مر الموكب بسلام وتفرق الطابور مجهداً متعباً . إلام يرمز الطابور ربما إلى الاتحاد والتماسك . وربما إلى النظام والولاء ، وربما إلى القهر والطاعة ؟ يمكنك أن تقول كل هذا ويمكنك أن تقول عكسه ، لأن التعبير الرمزي يتسم عادة ، بعدم تحديد المعنى وإمكان تفسيره بطرق مختلفة . " (3)

وفى قصة "يوسف" يبدو الرمز واضحاً , إلا أنه يشف عن واقع رمزي قابل للتأويل وتعدد الدلالة , إن اليحيائى هنا يخوض فى المسكوت عنه بحذر , ولذلك يلجأ إلى الرمز لاعتبارات اجتماعية قبل أن تكون سياسية ، ولا تقف الرمزية فى هذه القصة عند حدود العنوان ، بل تتجاوزها إلى البناء واللغة . تروى الأحداث بضمير المتكلم "أنا يوسف" بطريقة مكثفة فليس ثمة تفصيلات , بل إنما إشارات إلى الحدث فالبطل /الراوي يلتقي شخصية كبيرة من أجل المساعدة فى إيجاد فرصة العمل ، ولكن الأخير وكأنه امرأة العزيز يعجب بالأول فيستدرجه إلى غرفة النوم وينجح فى ذلك ثم يطلب منه العودة مرة أخرى "عند البوابة الخارجية صافحت الرجل مبدياً بخجل رغبتي فى العودة ، بينما كنت قد وطدت العزم على أن لا أريه وجهي ثانية " صـ 64 وكان يمكن أن تنتهي القصة عن ذلك , إلا أن الراوي العليم وكأنه صوت المؤلف يتدخل ليعلمنا أن يوسف الفقير البائس استيقظ فى الصباح من نومه فى أحد المساجد مبكراً خشية أن تدوسه أقدام المصلين ، ومع ذلك ورغم قيمة المكافأة " طفق يفتش عن عمل ، وكان يحاذر أن يلتقي أيا من الرجال الكبار "صـ 46 ربما أراد الراوي العليم / المؤلف أن يفصح عن موقفه الأيديولوجي فهل نستطيع أن نمنعه ؟! .

ب - بناء القصة القصيرة وكسر قواعد السرد التقليدي :

-------------------------------

ونصل إلى قصة العنوان " يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها " فنجد المؤلف يكسر قواعد السرد التقليدي ، فيبدو المتن الحكائى أكثر حضوراً من المبنى الحكائى ، وهذا يرجع فى الأساس إلى اعتماد الكاتب على رؤية سردية ذاتية ( بالرغم من استخدام ضمير الغائب فى السرد ) مكنت من حضور الراوي بقوة فى الأحداث فاحتل مكان الشخوص وقام بجميع الأدوار وحده " وأنا أروى ، هذا ما يحدث الآن ، دون ذريعة مقبولة سوى تذكر ما حدث . كمن يروى الحكاية على قدر هائل من الوضوح والشفافية " صـ 75 . ومع ذلك لاتروى الحكاية بشكل مباشر - من المؤكد أن المؤلف يتعمد ذلك – والحكاية فى متنها بسيطة جداً إذ أن سليمان يهرب ليلة زواجه تاركاً أهله وضيوفه وعروساً لم يدخل بها بعد (خزينة). وبعد أن ينقضي ردحاً من الزمن , أربعة عشر عاماً , كما أشار الراوي بعد ذلك , تنقض خزينة الغبار المتراكم من على منامتها , وفى تلك اللحظة يموت سليمان فى حادث غامض " وكان موت شنيعاً على نحو لا يصدق . كان مرأى الجثة المسلوقة فى نصف برميل مغلي مروعاً " صـ74 .أما خزينة كما يراها الراوي " فملتاعة ... ترنو بعيني الغزالة التي كانت مقتل الناظر إلى الدرب الضيق الذي يظلله حقل نخيل كثيف " صـ75

توقفنا عند هذه القصة بوصفها نموذجاً لكسر البناء القصصي , والخروج على قواعده ومثلها نجد قصة صباح حيث نلحظ حضوراً قوياً للراوي فى الأحداث , أدى إلى كسر الإيهام السردي .

ج - الصوت المنفرد .. صوت المرأة :

لعل أهم ما يلاحظه الناقد فى هذه المجموعة حضور صوت المرأة بقوة ، فثمة أكثر من قصة عنوانها اسم لامرأة ، مثل قصص : خديجة وصباح ويوم نفضت خزينه … ، أو إيحاء بها مثل قصتي :وجه صديقتي ( رغم أن موضوعها ليس حول امرأة ) وبين غمامتين .

والواقع أننا لو حصرنا القصص التى تدور حول المرأة , أو تمثل فيها الأخيرة طرفاً فى الصراع , لوجدناها ثمان قصص ، وهو عدد يقترب من نصف عدد قصص المجموعة . ويمكن القول أن الاهتمام بالمرأة ووجودها كشخصية حاضرة بقوة فى السرد , يعد معادلاً للجماعة المغمورة التى تهتم بها القصة القصيرة عامة ، كما يرى فرانك أو كنور فى كتابه المعروف "الصوت المنفرد" وعند اليحيائى لا تقوم المرأة بوظيفة السرد – وإن كانت شخصية فاعلة داخل البناء القصصي – مما يشي بقهرها , فدائماً هناك راو عليم أو متكلم ينوب عنها أو يحاورها إن كان ثمة حوار .

فى قصة "صباح" تتحول المرأة إلى رجل , تحقيقاً لحلمها فى إثبات وجودها ، ولكن هذا الرجل يتحول إلى مسخ أو شيء بين الرجل والمرأة ، فلا يجد سوى ملابس صباح النسائية ليرتديها ويمارس حياته , " ومنذ ذلك الصباح البعيد والقريب جداً ، وصباح يعيش بين الناس حياة عادية وعلى نحو طبيعي ، حياة رجل فى ثياب امرأة أو حياة امرأة بأعضاء رجل أو لا حياة هذا ولا حياة تلك " صـ57 . ألا يؤشر هذا الختام على موقف الكاتب الأيديولوجي من الواقع ؟ بلى فهذا الرجل المسخ رمز لواقع مشوه .

وإذا كانت صباح ضحية لأحلامها ، فإن خديجة فى القصة التى تحمل الاسم نفسه , ضحية لتردد الرجل /زوجها , إذ تخرج ليلاً تبحث عن غنماتها فينهشها الذئب . أما خزينة فيتركها سليمان ليلة عرسها ويهرب , وعندما يعود بعد أربعة عشر عاماً وتبدأ هي فى نفض الغبار عن منامتها ، يموت قبل أن يصل إليها .

وفى قصة بين غمامتين تغدو المرأة (غمامة) رمز للخصب أو الخير أو الأمن , إلا أنها فى الأخير تبقى معادلاً للكتابة عند الراوي المتكلم الذي يتماهى مع صوت المؤلف وكأننا نلمح أصداء سيرة ذاتية ، فعندما يفشل الراوي فى كتابة قصيدة , يبرر فشله بأن قلبه احتلته المرأة الأخرى , أو قل العمامة الثانية "ويحاول تطوير القصيدة , ويجهد فى تطويع الكلمات وتخونه القصيدة والكلمات ويغص بها . ويمزق الأوراق ، وقلبه يختنق ويتمزق ، لقد احتلته المرأة الأخرى " صـ81 . ويمكن القول أننا نلمس موقفاً واضحاً للمؤلف تجاه المرأة فثمة تعاطف وثمة وعى بدورها ، وثمة توظيف جيد لعالمها ينطلق منه إلى رؤية نقدية للواقع .

د - ملاحظة أخيرة :

وهى تتعلق باختيار المؤلف عنواناً لقصتين باللغة الإنجليزية إذ ليس من المقبول يكون عنان قصة عربية GOOD MORNING أو SCAMRER , لذلك كنا نود لو أن المؤلف وضع لقصته الترجمة العربية للعنوان , أو اختار عنواناً عربياً آخر , إلا أن هذا لن يمنعنا من القول فى الأخير , إن هذه المجموعة تمثل خطوة على طريق تطوير فن القصة عند اليحيائى خاصة , وفن القصة فى سلطنة عمان عامة .

الهوامش :

1 - أحمد عبد الرازق أبو العلا : إشكاليات الشكل والرؤية فى القص المعاصر ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة 1997 صـ27 .

2 - هالى بيرنت : كتابة القصة القصيرة ، ترجمة أحمد عمر شاهين ، دار الهلال ، القاهرة ، 1996 صـ 10 ، 11 .

3 - عثمان نوية : حيرة الأدب فى عصر العلم ، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، القاهرة 1969 ، ً78




* "يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها "والكتابة الجديدة فى سلطنة عمان لمحمد اليحيائي
د.محمد عبدالحليم غنيم
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى