دراسة أيمن تعيلب - بنـــية الشكل الروائى في رواية ( الجميل الأخير) لصلاح والى - ج2

أ

أ.د / أيمن تعيلب

2.jpg

بنـــية الشكل الروائى في رواية ( الجميل الأخير) لصلاح والى - ج2



تحولات الواقع وبنية الشكل الروائى



ونظرا لجدة هذه التصورات والمفاهيم على مستوى إدراك الواقع،وتجاوز فكرة العلاقات مفهوم الثنائيات الفكرية والسياسية والجمالية،ودخولها إلى فكرة المنظومات التداخلية، لجأ الراوى مضطرا اضطرارا جماليا لا مختارا، لأن يبنى عالما استعاريا أسطوريا افنراضيا،فالرواية تقوم فى شكلها الروائي على تقنية الخيال الافتراضي الأسطوري حيث تتحرك شخوصه ذوات عدة تتحرك فى وقت واحد ملتحمة مع أحداثها التى تتجاوز فكرة الحدث فى ذاته، التي تسير هى الأخرى فى تعدد حدثي تشعبى فى وقت واحد، فكأن الشخوص والأحداث تتحرك متقلبة فى حركة سردية تعددية تشعبية على جسر معلق من الوهم إلى الواقع ومن الحقيقة إلى الزيف، والعكس أيضا،وهنا لا تكون هوية النسق السردى كامنة فى انتظام بنى السرد فى نسق سردى تصاعدى، بل فى تفتيت هذه البنى وتشذيرها، وفضح وهمية تشابكاته الظاهرة، بما يتفق والعقل الجمالى ما بعد الحداثى، يقول كيدج فى توصيف هوية أعمال مابعد الحداثية)) إنك حين تستمع إلى أصوات تشترك فى إيقاع منتظم فإنك بالضرورة تسمع شيئا يختلف عن الأصوات نفسها،إنك لاتسمع الأصوات بل تسمع حقيقة كونها أصوات منظمة فى نسق ما (34)))ومن هنا تكمن القيمة الجمالية والمعرفية الجديدة للسرد الروائى فى الرواية،حيث تختفى أنظمة العلاقات السردية القائمة على الجدل الجمالى التقليدى بين الثنائيات الفكرية والجمالية والسياسية والحضارية،لتستبدل بانظمة سردية علائقية تعددية تقارب روح العالم المعاصر ومايمور فيه أشكال متعددة متشذرة،ومن الإمكانات الواقعية الاحتمالية التى لاتنتهى، حيث يخترق السرد الأسطورى الافتراضى حدود الأزمنة والأمكنة ومحددات الشخصيات والحداث الروائية،ومن هنا كان السرد فى هذه الرواية لايكتفى بوضع المادة الفنية موضع البناء والتركيب النهائى أو حتى المتطور، بل كان معنيا على الدوام بإثارة تغيير المنظور السردى، إن لم يكن هدمه ونقضه فى كل حين، وإعادة بنائه من جديد،لإثارة التناقض والصراع الكامنين فى بنى الذات والواقع والتاريخ وجميع صور علاقاتنا الثقافية المحيطة بنا، وهذا ما دفع الكاتب لأن يغامر فى تجريب مستويات سردية عديدة من الوعي السردى والإدراك الجمالى والأنساق والتصورات والرؤى فى النظر إلى تركيب الشخوص والأحداث وتجليات الزمان والمكان والأحداث الروائية نفسها، ولقد كانت تقنية الحلم وطلاقة الخيال الافتراضى الأسطورى معيناً على خلق جميع ذلك .

والكاتب يفيد فى روايته من منجزات العلم وتطبيقات التكنولوجيا فى خلق أحداث ومواقف افتراضية تمتلك القدرة الخيالية على الحركة المزدوجة والنمو والتكاثر بين الحقيقة والوهم أو فى التداخل التعددى الشبكى المراوغ بين ما هو حقيقي، وما هو وهمي فى ذات الوقت ، فليس بالضرورة ما نراه فعلاً يكون شروط الحقيقة الوحيدة، بل ربما ما غاب كان الحقيقة،وما سكت عنه كان الصدق، وما شاع ورسخ فى أذهاننا هو الوهم الوحيد ، فدائماً الأشياء والموجودات والأحداث والشخوص والمواقف – كل ذلك يثبت بقدر ما ينفى، وينفى بقدر ما يثبت ، وسيلعب جدل الإثبات والنفي السردى فى هذه الرواية دوراً فكرياً رؤيوياً عميقاً من خلال الازدواج السردي فى اطراد الأحداث وتحركات الأشخاص وتقلبات صور الزمان وتعينات المكان ، ومن هنا كانت الرواية )الجميل االأخير) رواية غير تقليدية على غرار أختها السابقة (فتنة الأسر)بل فيها من الجديد السردى التشكيلي ما يتجاوز بناء رواية فتنة الأسر ، إلا أنها تصنع معها هماً إنسانيا متصلا، وجهداً جمالياً مشتركاً ، وكأن الروايتين رواية واحدة انقسمت إلى جزئين.

إن الكاتب فى )الجميل الأخير(يحاول أن يفترع شكلاً سردياً جديدا فى الإدراك والوعي الجمالي والمعرفي لدى شخوصه وأحداثه، وذلك من خلال ممارسته جدلية الذوات وتعددها، وجدلية الأحداث وتعددها فى ذات الوقت، فى محاولة منه لاستيعاب العالم الجديد البالغ التعقيد والكثافة والمراوغة والالتباس ولكشف طرائق التناقض والصراع الكامنة فى بنية رموزنا الثقافية العامة، فالكاتب فى تجريبه لذلك يحاول أن يصالح بين مستويات الإدراك والوعي من خلال تعددية تركيب شخوصه وأحداثه وزمانه ومكانه ، ففي غياب الوعي بالموجود الفعلي الحقيقي دون زيف يذهب الراوي لتحضير الوعي الغائب فى وعي وهمي آخر لدى الشخصية ، إن الكاتب يتجاوز الرواية النفسية وتيار الوعي التى كان الكاتب يتنقل فيها بين الوعي واللاوعي لتصوير الأحداث والمواقف ولشخوص لكنه يعدد صور الوجود المتراوحة بين أشكال الوعى واللاوعى،فى حرية طليقة محسوبة، وذلك من أجل تدعيم التماسك الداخلي له والمصالحة بين مستويات وعيه المنقسمة، بفعل التسلط الرمزي الخارجي الواقع عليه،ونظرا لتعدد مستويات الوعى والإدراك لدى الشخصيات وتعدد صور الواقع السياسى والحضارى المحيط به،نراى الكاتب يوظف الفضاء النصى للسرد))وهو الفضاء المكانى الذى تشغله الكتابة على الأوراق((طريقة تصميم الغلاف وتغير الحروف المطبعية وتشكيل العنوانات وهو مكان محدود تتحرك فيه عين القارىء))(35)فقد وظف الكاتب تقنية تغير شكل الحروف الطباعية على على طوال الفضاء المكانى للسرد ليعدد من وعى الشخصية الروائية بين المستويات الظاهرة والمستويات الباطنة، عبر الذاكرة والتذكر والاستشراف،حيث لايقف اللاوعى معادلا للوعى كما هو سائد فى الكتابات الروائية بل يقف اللاوعى السردى معادلا للوعى نفسه مما دفع الكاتب ليجرب هنا تقنية الفضاء النصي التعددى للسرد ليجسد أكناه العالم الجديد الموار بالرموز والأفكار والمفاهيم المتداخلة المتزامنة فى آن ، ولقد حاول الكاتب ان يكون على مستوى نقد اللحظة الحضارية المعاصرة فابتكر هذه التقنيات الروائية الافتراضية عبر خيال افتراضي أسطوري يحاول تجلية غوامض العالم المحيط به، والكشف عن خبيئاته المراوغة المتسلطة علينا ،وإعادة استحضار مخبئاته الكمينة فى السكوت،الذى هو ضد الصمت،لأن السكوت كلام ساكت،لكنه أيضا قدرة على الكلام مع اطراح الرغبة في الكلام، ربما يقال أن الكاتب يوظف السرد الغرائبي العجائبي فى بناء رواياته مفيدا من الكتاب الغربيين فى ذلك مثل جارسيا ماركيز مثلا ، لكن هذا ما يبدو على المستوى الظاهري السطحي للسرد ، وعند التعمق نجد الكاتب يتجاوز ذلك فعلى الرغم من أن جارسيا ماركيز ليس مبتدعاً للعجائبي والغرائبي فى عالم السرد ، فمن يقرأ ألف ليلة وليلة وكرامات الصوفية فى تراثنا السردى العربي، يوقن بأن تراثنا العربي كان خلاقاً حقاً فى عجائبيته وغرائبيته ، لكن ما لدى صلاح والي فى هذه الرواية هو ادخل فى أساطير التحول الخيالي الافتراضى الناتج على استثمار طرائق الوعى العلمى المعاصر عبر تحولاته المفهومية والقيمية، من خلال نظريات الاستنساخ وتطبيقات التكنولوجيا فى عالم الإنترنت وشبكات الاتصال العالمية- حيث يركب الكاتب خيالاً تحولياً يبلغ كثافة الأساطير فى تصوير شخوصه وأحداثه وتجليات الزمان والمكان، فالعلم والخيال والتكنولوجيا والأسطورة والشعر يلتقون جميعاً فى سبك الفضاء السردي للرواية ، إن الأدب فى عصر العلوم البينية التداخلية قد قطع شوطاً بعيداً فى تطوير أدبيته، فبعد أن انتفت الحدود الصارمة بين الثقافة والأدب والفلسفة والعلوم، أفاد السرد الروائي حرية واسعة فى صياغة رؤيته للعالم ، فلم تعد الرؤيا الروائية كونية روحية إطلاقية كما لدى هيجل، ولا مادية تاريخية جدلية كما لدى ماركس ،لقد تغيرت شروط الجدل فى بنية العلوم نفسها،وفى بنية الفنون أيضا،وصارت رؤية تداخليه بينيه بين العلوم والآداب تكشف عن المستور والهامشى والمسكوت عنه،وما يمثل مراكز غائبة فى بنية الوعى الواحدى المسيطر، كما نرى ذلك فى مرحلة ما بعد الحداثة كما هو لدى )ميشيل فوكو- امبرتو ايكو، جاك ديريدا،جان فرانسوا ليوتار،ليتش،…الخ (لقد دفعت ثورة الاتصالات الحديثة وتحولات مفاهيم الأشياء إلى التصورات الشبكية العلائقية للفن وللخيال:فخلقت أبعاداً ثرية ومعقدة ومتداخلة فى الرؤية والخيال والتشكيل الجمالى معا، فلم يعد الكاتب يكتفي بنظريات الصراع الطبقي ، ولا نظريات اللاوعي الجمعي والفردي، ولا نظريات السوق والرأسمالية التي تجدد جلدها، ولا حتى مجرد التعقيد المتشابك لنظرية المعرفة المعاصرة ، حيث الكل المعقد لا يعنى مجموع أجزائه، لقد صار الواقع اعقد وأعمق من هذا بكثير،لقد صار كوناً معلوماتياً مفتوحاً على سماوات لا نهائية من العلم والذوق والتجريب والمغامرة والمراكز والهوامش التى لاتحد ، بل صارت اجندة ثورة المعلومات نفسها رؤى روائية وشعرية وفلسفية، بعد أن تحولت أجندة الخيال العلمى نفسها إلى عوالم حقيقة تسعى وتأكل الطعام فى الأسواق، من خلال ممارستنا اليومية المعتادة، ومن خلال تصوراتنا السابقة أرى أن تجريب صلاح والي فى روايته )الجميل الأخير(فى توظيف نظريات الاستنساخ، وعوالم الإنترنت، وشبكات الاتصال العنكبوتية، كان أدخل فى تلمس جوهر الواقع العالمي الجديد، وما آل إليه من نظم سياسية واجتماعية وحضارية جديدة.

إن رواية ) الجميل الأخير( تفيد من آليات التحول الخيالي التي يعج بها تراثنا السردي القديم، ويزاوج بينها وبين الخيال العلمي المعاصر الذي يفيد من ثمرات التكنولوجيا ومنجزات العلم، ويخرج من هذا المزيج السردى، بخيال أسطوري افتراضى قادر على تجسيد تجربة القهر والحصار على كافة المستويات المؤسسية داخل الوطن وخارجها، ولكن يقع الجانب الأكبر من تجسيد هذا القهر المؤسسى خارج الوطن، إذ كانت اللحظة الأولى فى الرواية تمثل نهاية علاقته بالوطن بعد أن غادره الراوى إثر خروجه من سجنه مباشرة إلى )لاهاى(عبر طائرة فرنسية لتسلم جائزة حقوق الإنسان بعد انتهاك حريته فى وطنه، وإذا حاولنا ربط نهاية الرواية ببدايتها، سنرى أن ما تم على طوال الرواية من سفر وانتقال بين البلاد، وانتصار الدول الغربية الحرة لحريته السليبة ،كل ذلك كان حلما – وهماً - يقول الراوي، بعد صحوة من حلمه فى السفر إلى لاهاى : (التفت من شدة الخوف وصرخت فزعاً :يا ساتر يارب:فاصطدمت رأسي بالمنضدة التى بجوار السرير، انتفضت من نومي واقفاً، ثم جلست متعباً مكدودا،ً وأحسست جفافاً فى حلقي، والحجرة على ما هى عليه :ما الذي حدث ؟امتدت يدي إلى زجاجة الماء، شربته لكن لفت نظري وجود مظروف طويل على التسريحة، اللجنة العالمية للحريات –لاهاى، نتشرف بدعوة سيادتكم باستلام جائزة الحريات العالمية التي استحققتها عن جدارة لمواقفكم الشجاعة باتجاه قضايا االحرية.....واللجنة إذ تشرف بإخباركم فإنها ترسل طيه تذاكر السفر إلى مقر اللجنة بلاهاى ، والبرنامج به برنامج خاص بكم للترفيه، وزيارة الأماكن التى ترغبون فى زيارتها،" مقرر عام اللجنة) وتنتهي الرواية إلى نفس بدايتها، وكأن الكاتب بهذا التصور فى خلق بدايته الروائية ونهايتها، يضع أيدينا على جوهر عمله الروائي كله، الذي يكمن فى عبثية ووهمية البدايات والنهايات،أو قل تداخلهما الدورى العبثى، فالأمور مقننة سلفا، منتهية قبل أن تبدأ،ً حيث إحكام النهاية قبل اجتراح البداية، فقط نحن الذين لا نعرف الحقيقة، ونسلم لأنفسنا بأوهام كثيرة، نمسك بأهدابها السرابيه علها تكون الحقيقة، ثم تنكشف الحقائق بعد ذلك على أن ما نظنه حرية كان قيداً موجعاً، وما نحسبه انتقالاً وسفراً فى الزمان والمكان لتجديد الذات والوجود ما هو إلا إيغالا عنيفا للقهر فى السير عكس الاتجاه، إننا فاقدوا الاتجاه ، ومتلبسوا الهوية، وليست شخصياتنا سواءً كانت فى الرواية او فى الواقع سوى آلات تحركها أصابع خفية مراوغة يوجهها حزب سري بالغ القهر والتسلط والرمزية، يحرك العالم بموجوداته وأناسه وأفكاره ورموزه كدمي ميتة صوب نهايتها الفاجعة، ربما نكون محدسين إلى حد كبير فى رؤيتنا النقدية للعلاقة العميقة بين بداية الرواية ونهايتها وجدلية وسطها البنائي مع البداية والنهاية، فكما يقول صبري حافظ فإن ))" البداية عادة ما تكون أصعب أجزاء العمل، وإنها تستنفد جهداً يفوق ما يبذل فى إي جزء مساوي لها من حيث الحجم وتستغرق أكثر من غيرها من حيث التفكير والتنفيذ على السواء (36) ))

إن صبري حافظ يلفت الانتباه إلى أهمية بنية البداية القصصية فى علاقتها برؤية الكاتب فى عمله، والناقد يلفت الانتباه أيضاً إلى خطورة البداية فى قدرتها على أن تكون عنصراً روائياً جاذباً إلى العوالم البنائية للرواية أو القصة أو تصير عنصر صد عن مواصلة قراءة الرواية، والحقيقة ان البداية القصصية فيما أرى تتجاوز فى أهميتها الفنية والفكرية ما يشير إليه صبري حافظ بكثير، فهى تتجاوز مجرد التعبير الرومانسي بالجذب أو الصد .بل تقع فى العمق من المخطط البنائي القصصي القادر على خلق جدلياته الجمالية والفكرية المتعددة بين بداية القصة ووسطها ونهايتها إن سلمنا جدلا بهذا التصور البنائى التشكيلى التقليدى، إن البداية القصصية تمثل جدلاً خلاقا محكما بين جمع عناصر القصة، والرواية، تخضع للتخطيط الإبداعي المقصود، وما لم يتمتع الكاتب بموهبتين معاً وهما موهبة التشكيل وموهبة خلق التوازن بين عناصر التشكيل، لما استطاع ان يبتكر بداية فنية موفقة مع كافة تشابكات البناء الروائي ، وهذا ما نراه لدى صلاح والي فى روايته القصيرة )الجميل الأخير(إذ نجد البداية هى ذاتها النهاية، وما بينهما من جدل جمالي معرفي كان نتيجة فنية حتمية فالسرد الروائي كان مؤد بهذه البداية تحديدا إلى هذه النهاية تحديدا، ومن هنا تصح نظرة ياسين النصير عندما أجمل الوظائف الأساسية للبدايات القصصية فقال ضمن هذه الوظائف )أن يكون للبداية علاقة ممهدة بالنهاية حيث اقتسام الخلق التكويني ((37) ،وعلى الرغم من أن الناقد يلمح فقط فى جملة نقدية مجملة إلى أن للبداية علاقة ممهدة بالنهاية ، غير أنه لم يفصل الآليات الإجرائية فنياً التى ترسم شكل هذه العلاقات من خلال بنية العمل الأدبي ذاته، فق مر على ذلك لماماً، ولكن يظل تعميق النظر النقدي مرهوناً بآليات التطبيق المتعددة لدى الكتاب ومحاولة النقاد فى استخلاص قواعد الفن وآليات النظرية من داخل النسيج الجمالي للإبداع، وهذا عمل شاق وجاد وأظن أن نقادنا يبذلون جهداً كبيراً فى ذلك .

بنية الشخصيات الروائية



الشخصيات الروائية مجازات رمزية سردية، تنتمي لعالم الخيال أكثر مما تنتمي لعالم الواقع ، على الرغم من تصويرها لأعماق هذا الواقع بصورة تجعله أكثر جدلاً مع ذاته، ليتجاوز حالته المادية البحتة،إلى حالات جمالية وافتراضية واستشرافية، فدائماً هناك هذا الجدل الخلاق بين ضرورة الواقع، وحرية حركة الخيال السردى، ولقد كانت الشخصيات الروائية فى رواية (الجميل الأخير)كائنات مجازية موغلة فى اقتصادها السردى ،وهذا يتماشى بنائياً مع بنية الرواية القصيرة التى تتطلب باستمرار قدرات فنية متعددة، قادرة على تحقيق التوازن الفني الرهيف بين (الإيجاز الدقيق والتوسع المطلق ، وهم العنصران اللذان يسمح بهما فن الرواية القصيرة بشكل واضح )فلدينا فى الرواية شخصيتان مركزيتان ـ أو قل يبدوان كذلك ـ وهما شخصية الكاتب الروائي اللابطل ، وشخصية "عاليا" البطلة الحقيقة للرواية، بوصفها المحركة للأحداث والمواقف وأشكال الزمان والمكان ، ودائما تقع شخصية الكاتب الروائي فى صورة اللاهث وراء مخططاتها وتحركاتها فى الزمان والمكان ولدينا شخصية "إبراهيم العايدى "السياسي اللعوب الانتهازي فى صورة الواقع السياسي العربي المعاصر، وصورة "سيف"المثقف المضطهد صديق الراوي ، وكلاهما رد فعل للأحداث والمواقف، وخلفية تصويرية لما تبلوره الشخصية الرئيسية المحورية شخصية الكاتب الراوي والمتأمل فى شخصية عاليا والكاتب على طوال السرد الروائي يلحظ إنها هياكل عظمية تتحرك بقوة خفية متسلطة، وكانها ذوات آلية ميكانيكية مبرمجة آنفا، تنفذ ما يراد منها بالضبط وذلك يتماشى مع البناء الفني للرواية حيث يتقاسم بنائها أكثر من واقع ويتحرك كل ذلك فى وقت واحد، عبر البناء الروائي كله فى موازاة عضوية تشابكية ،وكأن الواقع يسير دائماً بجانب ظله،أو قل الواقع يتجادل مع اللاواقع، بفعل خطط الالتباس والتمويه والتشوش التى تحركها الأصابع الخفيفة المسئولة عن ذلك حيث تحدد اتجاه البطل العربي المصري الكاتب الروائي، والبطلة اليهودية ((عاليا))المركبة جمالياً من جميع جنسيات العالم ،ودائماً الأحداث والمواقف وصور الزمان وتعينات المكان – كل ذلك يتحرك كأنما يتحرك فى ظل واقع محتمل بينما الواقع الحقيقي الذي يقودهما يظل احتمال آخر من الاحتمالات الممكنة، وهذه تقنية روائية مبتكرة من الكاتب فى محاولته الخيالية الخلاقة لاستيعاب تعقيد التسلط الرمزي، والفكري الهائل فى الحضارة العالمية المعاصرة، وعلاقته الوطنية بهذا الوضع العالمي الجديد، كما توجه الكاتب وكما بينا آنفاً فى مدخل هذه الدراسة إلى رصد آليات تعدد الإدراك والوعي بالخطاب التسلطي المتشعب الاتجاهات وذلك من خلال تعدد الذوات والأحداث فعاليا :( كانت تتجه إلى الخارج ، ولكن خارج أي شئ لا أعرف، ولكني أيضاً كنت أحس إنها تتجه إلى الداخل أيضا ، كانت ترتدي بنطلوناً أزرق بروسيا وجاكت أبيض به كرات زرقاء منتظمة ومن نفس درجة لون البنطلون والحذاء خفيف أبيض، ولكن كانت خطواتها واسعة جدا، لدرجة أنني كنت أحس أنها لا تلمس الأرض…. كانت تسير أمامي، وكنت أحاول أن أتذكر وجهها ولكن باءت كل محاولاتي بالفشل )

فالمتأمل فى ملامح البطلة من خلال المشهد لروائي السابق يدرك هوية هذه الشخصية التي تجمع بين صفات أبطال البشر، وصفات أبطال الخوارق،وصفات ملتبسة أخرى تبين ولاتبين، فدائما تفاصيل هويتها الشخصية تتجاوز الزمان والمكان وحدود الجسد المألوف، وذلك لأنها ستتمتع بعد ذلك بقدراتها القاهرة المتسلطة القادرة على صنع أي شئ، فى سبيل قيادة البطل أنى تريد (هى) وليس الوجه التى يوليها (هو)- ولننظر إلى ملامح أخرى لعاليا : (والتفت إليها كانت بيضاء كالحليب (رغم أن البياض كالحليب لا يمت إلى الجمال بصلة، كما لا يمت البياض إلى النقاء، والسائل عديم الشوائب إلى الصفاء بصلة، ربما لأن مستعمرنا كان دائماً أبيض( وهنا ينتقل الكاتب إلى رصد هوية شخصية (عاليا)من جوانب أخرى،ولعله لا تخفى علينا الدلالات الجمالية والسياسية والاجتماعية للون الأبيض القادر على استيعاب جميع الألوان داخله ، بما يؤهل للعب أدوار شتى مركزية، كما لا يخفى علينا تلميح الكاتب إلى العلاقة بين اللون الأبيض – لون عاليا- وشكل المستعمر ثم يطور الكاتب من هوية شخصيته فيجعلها ذات نسب مركبة متشعبة، وكأنها تمتد كالأخطبوط فى كل مناحي الأرض "وقالت)):عاليا إبراهيم سارووس ، من أزباكستان وأنت تناديني كأمنية من أعوام وابحث عنك ، أمي تركية ، وأبي يهودي،أو ربما بلا ديانة لأنه أسلم وبعد موت أمي تزوج مسيحية وتنصر، ثم ختفى ))

ثم يطور الكاتب من بناء شخوصه ليصل بها إلى مراحل جد متطورة من القدرة على الفعل، وبداية بذر بذور التسلط والتزاوج مع الآخر بصورة أسطورية مرعبة، توضح مدى هيمنة الطرف القاهر- عاليا – لبطل الكاتب الراوي المقهور فنرى الكاتب يجسد هذا المشهد الأسطوري العجائبي لعلاقته بعاليا تمهيداً لإنماء بذور الحدث الروائي المتبلور فى هيمنة هذه المرأة المطلقة اللعوب بعلاقتها السياسية والثقافية المتسلطة على الكاتب- الراوي يقول الكاتب "((ولكنها أخذتني إليها، وكنت أحس كأنما آلة تسحبني مني إليها ويكاد عظمي يفرغ مما فيه ، إنى كنت مغرماً بالوصف ،إلا أن ما حدث لا يوصف: تأملتها بعد الانتهاء فكانت كالقتيل ، فتشاغلت بالنوم، فقامت إلى نفس الحجرة التى دخلتها سابقاً، وأمسكت بمفك من النوع الكبير الحجم (حجم)ووجدتها تضعه مكان سرتها وتديره رويداً رويداً ، فيبرز بيت ولادتها إلى الأمام ثم سحبته، وضغطت على جوانبه وشدت زراراً وأفرغت ما فيه من قوتي، التى سحبت مني، ثم أدخلت إلى جهاز كثيف التكوين وبعد قليل أخرجته ووضعته فى صندوق زجاجي ثم أقفلت عليه وأقفلت مكانه فى جسدها بقطعة من نوع جسدها"(( وهنا تتجلى قدرة الخيال الروائي على خلق فضاء سردي يشتبك فيه الآلي بالمجازي،والأسطورى الافتراضى بالواقعى والمحتمل، من أجل رسم ملامح أسطورية خارقة للبطلة "اليهودية"القادرة على امتصاص قوى البشر وتفريغها ، من جوهرها الداخلي، وهذا الخيال الأسطوري الافتراضي قد دفع الكاتب نفسه إلى الشك فيه مرة أخرى،وكأن الكاتب ليس معنيا بالبناء قدر عنايته بتفكيك البناء، والنقض المستمرلكل حقيقة متبلورة أو بسبيلها إلى البلورة،، رغبة منه فى الوصول بالقارئ إلى درجة الإيهام الموضوعي التعددى، لما يحكى ويسرد فنراه يقول)): ربما تكون هذه رواية من روايات صلاح والي السخيفة والتي يحول فيها الناس إلى آلات، ولكنك لا تكشف هذا إلا فى أخر الرواية، إلا أنه ينبهك طوال الرواية بأنه يشك فى إنسانية هذه الشخوص((وهذا التوجيه الفني –ربما رآه –الكاتب صلاح والي حيلة فنية مقبولة لتوجيه أفق القارئ لمغزى الدلالة والخيال فى الرواية ، ولكنا نرى حقيقة الفن على غير هذا، فهذا التوجه يبدو للقارئ المتمرس ـ

والناقد بالطبع قارئ متمرس-تهرباً من مقتضيات البناء الفني القادر على السيطرة على موضوعه بصورة فنية موضوعية قادرة على النمو الفني الداخلي دون تدخل مباشر فج من الكاتب ، لكن ما يهمنا هو معرفة هوية شخصية )عاليا(ودورها البنائي المركزي التعددى فى الرواية ، وعلى الرغم من وضوح شخصية عاليا كما أبان الوصف السردي السابق غير أن الكاتب يقدم صورتها لنا عبر أمشاج طيفية موغلة فى اللالتباس والحيرة والتعدد،بما يجعلنا نشك فيها معه، ولا نقف معه على حقيقة وجودها ومغزى هدفها، فقد كان الكاتب الراوي مسحوبا بقوة سحرية حتمية إلى الهدف المراد منه، و الذى حدد أنفاً والكاتب يوضح ذلك قائلاً :(( هل أفقت بعد ذلك ؟ هل حاولت أن أشك أو أتراجع ، أبداً فالإنسان جبان طماع ، ويبرر كأن يقول خليك مع الكذاب وهو الكاذب ، هو يريد الاستمرار….ظللت فى مكاني إلى أن سحبتني من يدي، وأنا ملقى على السرير فرحت فى نوم عميق))،وبعد الدخول فى النوم العميق وهى تقنية روائية تنقل الراوي من عالم اليقظة المتوهم إلى عالم الغيبوبة المقصود، فدائما الكاتب مؤرجح بين الحقيقة والوهم،بين الطيف والظل والحقيقة، ذلك بأن تفاصيل الحياة السانحة فى نسيج الزمان والمكان من حولنا قد صنعت على يد وعين الآخرين، فهم يوجهونا أنى شاؤا توجيهاً ودائما يقابلنا تعبير )سحبتني)من الكاتب –الراوي مع عاليا فنراه يقول (سحبتني إلى غرفة المعرفة ) " وعادت وسحبتني إلى حجرة النوم ، (كانت خالية من أى أثاث ومزروعة بالحشيش الأخضر ))" ودائماً البطل مؤرجح كما قلت بين الوهم والحقيقة، لكن الحقيقة الكبرى التي لا مراء فيها أنه ليس له من الأمر شئ، فهو يقول بعد أن سافر إلى "لاهاى"لتسلم الجائزة))" لقد سافرت واستلمت الجائزة ، ألم ترى ذلك الآن ؟ فيرد على عاليا قائلاً :-

فى الحلم ؟

فترد عليه: ليس هناك ما هو الحلم وما هو حقيقة ، فأحلامك حقيقتك .

يعنى هل ما رأيته قد حدث فعلاً ؟ وان هناك من استلم الجائزة مدعياً أنه أنا؟؟

•لا … كل ما رأيته كان أنت

كان أنا؟

ربما هو تخيلي عن الحفل؟

ربما رأيته وحضرته فعلاً؟

ربما قصته على فعشته كما حدث).

إن الوقوع فى الالتباس هنا ليس مجرد تقنية روائية يوظفها الكاتب من أجل السيطرة على كلية الزمان اليومي بين ماضي وحاضر ومستقبل، أو امتلاك حرية الانتقال فى الحلم، بل الأمر أعمق من هذا بكثير فالكاتب- البطل يصور مأساة حقيقية تبتلع واقعه الاجتماعي والسياسي والحضاري كله ، بل تبتلع الواقع الثقافي العالمي كله أيضا، إن هذا الالتباس المقيم بين الحقيقة والوهم هو سيطرة صناعة القهر الرمزى العالمية التى تمتد شبكتها العنكبوتية عبر العالم كله بما يجعل جميع البشر بما فيهم الكاتب-الراوي يعيشون على جسر معلق تتداخل فيه الزيوف والأوهام، بنفس تداخل الحقائق والثوابت ، فلا تدري بالضبط أين الحد الفاصل بين الحق والباطل فيه، لقد صار الحق تصنعا، والباطل طبعا بريئا، وأصبح توجيه الشعوب والتداخل فى حنايا ضمائرهم ونواياهم صناعة وربما كانت هذا الهم الروائى يمثل الفكرة المركزية ـ عن صح الاصطلاح الروائى هنا ـ على طوال الفضاء السردي للرواية، كما ألمحنا من قبل. بعد ان كشفت الرواية عن أن جميع المعايير السياسية والثقافية والحضارية التى تستند إلى طمأنينة مصداقيتها وهم فى وهم، وليس الأمر دائما كما نتصور،وليس ماحدث كما حدث، واستنبط من قبل،لقد انتقل الاغتراب هنا من مفاهيم )دور كايم(عن تفكك نسق القيم عندما صور تفكك المعايير فى العالم على إنها صورة من صور الاغتراب الاجتماعي القيمي وأطلق عليها ( الأنومي) بل الأمر يتجاوز ذلك بكثير إلى ما أبان عنه " ))أدوريو((" كما بينا آنفا من تسلط الرموز والسلطة الفكرية الذي ينبع من العقل الجمعي اليومي بصورة مألوفة معتادة، بحيث لا يشعر من يندغم فى تنظيمها الاجتماعي السياسي بأنه واهم مغترب ، بل هو متسق سعيد فى رحاب التسلط الجمعي الأخطبوطي الذى لا يسيطر على الواقع الاجتماعي والسياسي للبطل الكاتب- الراوي وحده، بل والمجتمع العالمي المعاصر وبنية خطابه الثقافي والعلمي معاً فبعد سقوط حائط برلين،وسقوط الاتحاد السوفيتى السابق،واحتلال العراق،وسقوط الحق الفلسطينى،وتصاعد حدة التعصب الدولى،وظهور النظام العالمى الجديد، وبدأ بعض المفكرين الغربيين يعبرون عن نهاية الديمقراطية،ونهاية التاريخ، لقد تحول المجتمع العالمي المعاصر إلى بنية حضارة تعددية، علائقية شبكية تحتل تكنولوجيا الاتصالات والثروة والقوة،فيها مركز الحركة، وفى هذا التصور الجديد للمجتمعات يتلاش المكان وحدوده سواءً كانت زراعية أو صناعية بل تناقش فكرة الحدود العلمية والسياسية والجمالية والثقافية من جديد ،وفق التصور الاتصالى الشبكي ، كما تلاشت فكرة المؤسسات فى الدول فقد انحل تدريجيا ما يعرف بجهاز الدولة، وصارت فكرة التسلط الرمزي العام هى المهيمنة على ضوء قوة المعرفة،ونفوذ الثروة، وإدارة المعلومات، وهندسة الأفكار، مما حدا بالكاتب الأمريكي (جان ماري جونيو)أن يطلق على هذا العصر اسم ((العصر الإمبراطوري))المركب الذى لم يعد يحكمه أي نظام سياسي أو فلسفي ، ليس بمقدرنا أن نتوق فيه نحن أنفسنا إلى وحدة داخلية، فحيواتنا تمضي عابقة بالحسيات ، وخاضعة للذبذبات المتعددة، كمر حيات لخيال الظل ، فلا يبقي لذا سوى أن نبعد غرسه نبات أو إشعاع قمر ، أو عاطفة عابرة وهى ما تصبح كنوزاً بائسة صغيرة بعالمنا المفكك …. لقد سقطت فكرة المركز وانتصرت العلاقة على المبدأ(((38)

لقد تم هذا ))التمييع الوجودي والثقافى))لوصح التعبير وهو ما أحس به بطل الرواية فدائماً يحس بأنه لا وطن يحتويه، بل ربما تسائل عن:أين هى حدود الوطن ؟ فالكاتب الراوي يقول للوزير الذى يحاوره على أرض وطنه

· أنت ولد فقير

· قلت له : يامعالى الوزير يكفيني باكو معسل بخمسة قرش.

· قال لي بعد أن قام واقفاً : عد الى بلدك

· هل صرت من بلد غير هذا؟

· ولماذا بلا وطن أنا؟

· صار معنى الوطن ملتبساً ، ثم أي الأوطان يصلح لي"

· 35 ـ الرواية صـ 56

وبعد أن فقد الراوى الوطن بالمعنى التقليدي أى بوصفه حدودا جغرافية، وعمقا تاريخيا، يقع البطل أسيراً لفكرة العولمة الشبكية التى جر إليها العلم المعاصر فنرى البطل يقول مناجياً نفسه :((فى هذه الحالة ستعرف أنه لم يظلمك سوى العلم والعقل الذي آمنت به طوال حياتك –حتى ما تؤمن به تم ذبحه ووجه ضدك ، سيصبح كل شئ باطل))(39)

ثم يعلن فداحة التغير المفهومى والقيمى الذى غير طبيعة العالم من حولنا، فى متن سردى هامشى، كتب فى نفس صفحة المتن الأصلي ولكن بخط مختلف فى شكله وحجمه عن الخط الطبيعي لمتن الرواية : يقول الراوى)) معنى زمن ما العمل، وصار الزمن من عمل العمل، وربما كيفية تنفيذه، والعمل دائماً ليس لصالحك وليس حلاً يرضيك ولكن فى كل الأحوال ضدك حتى لو بدا لك غير ذلك ،من هنا أو من هناك كانت فرحتي بالجائزة، وبالنشر لأعمالي حقيقة لم أفكر فيها للحظة، أن هذه الجائزة ميناء، وهى نصب لي فى عرض الفرح ملئ بالإشراك الخداعية ، كدعوى أن الحرب ضرورية للسلام، يا سلام((،أين حدود المواطنة وسط هذه الأشراك الخداعية، ووسط عنف الرموز والأفكار التي تجتاحنا من أعماق ضمائرنا وحتى ملامحنا الخارجية ، والأمر ما جمع خيال الراوي فصور عاليا أسطورة رمزية بالغة العنف فى توجيهه حتى لا يدري هل هو فى وهم أم فى حقيقة ، ورصد الراوي حقيقة هويتها عندما تم زواج أمها من أبيها على شبكة الإنترنت وعندما تداخلت فى تكوينها جميع الأديان ، وهى التي أخرجته من بلاده مسجوناً لينال حريته فى العالم الغربي فى سجن أكبر ،إن عاليا محركة العالم الإمبراطوري الكبير الذي يصفه جان ماري جونيو فى كتابه (نهاية الديمقراطية قائلاً )):العصر الإمبراطوري هو عصر شيوع العنف واستمراره، فلن تكون هناك بعد أراضي وطنية ، ولا حدود يدافع عنها ، بل سيكون هناك فقط انساق ، ومناهج للتيسير تعوزها الحماية ، وهذا "الأمن المجرد " يطرح صعوبة أكبر بما لا يقاس الصعوبة التى كانت مطروحة فى عالم كانت فيه الجغرافيا تحكم التاريخ ، فلا الأنهار ولا المحيطات بوسعها أن تحمى الآلية المعقدة للعصر الإمبراطوري من تهديد متعدد الأشكال (40)))

إن الدخول فى هذا الأفق الرمزى الإمبراطوري المتسلط الذى يوجهه من يملك المعرفة والثروة القادرين على توزيع الأدوار فى التنظيمات السياسية والاجتماعية المعاصرة- إن الدخول فى هذا الأفق الجديد هو ما يمثل أزمة البطل الراوي حيث انتمائه إلى الكتلة المتخلفة من العالم الثالث، حيث يتمزق وعيه الشقي بين إدراكه لجوهر ما يحدث له فى وطنه ونوم هذا الوطن فى عسل الغفلة، وعنف آليات التخلف، ومحاربة شروط الحرية والإبداع ، وهى نفس الشروط التي أسلمته للآخر الغربى، يفعل ما يريد به، إنه كالمستجير من الرمضاء بالنار ، إن وعي الراوي بأزمته يأخذ منحى متطورا فى هذا المشهد السردى،((إنه كلما راجع معلومات اكتشف أن كل المعادلات والمعلومات بها قد اختلت تماماً، فمثلاً لم تعد هذه المسلمات تتشابك لتعطي نفس النتائج السابقة ، المال، السياسة، المافيا، الجنس ، الجماع، العلم ، الثقافة ، الآثار، النظم السياسية ، الديمقراطية، الحريات، الحكم ، الخضوع، الشذوذ، البزنس، الدين مع أى شئ وضد أي شئ، ونحن فى عصر قد خطط له ليكون قادته شواذ، ويصبح للشواذ كل شئ، ويحاكمون حتى تصبح الكلمات والصفات متداولة ليست غريبة عن كل الناس ولفظ يستعمل بشكل يومي ثم تأخذ القضية براءة وربما تندرج تحت الحريات وسلم لي على المترو، فلم تستطع لا أنا ولا أنت أن تفلت من هذا الكابوس، وها أنا ذا أكتب فى هذا الموضوع وأنت تقرأ، والجريدة الموجودة أمامك الآن بها نفس الموضوع ، أي حصار ياربي وسط هذا المحفل))،إن هذا العالم الذي "تمكنن"فى يد السلطة الإلكترونية الجديدة التي يدير دفتها المحافل الأوربية وعلى رأسها اليهودية عاليا كما أشار الكاتب مراراً – إن هذا العالم لم يعد استنساخه من جديد وفق شروط قهر الآخر، بل تمكن هذا الاستنساخ البشري من أعماق الضمائر، وحنايا العقول ومطارح الأفكار وشوارد الخواطر والأشواق،ومكمن الذواكر، حتى خلايا الدماغ نفسها لم تعد ملكاً لأصحابها وصارت تصرفات وعيها ولا وعيها معاً عائمة على جسور ملتبسة بين الوهم والحقيقة، وانظر معي كيف حكى الراوي عما حدث له): ثم لابد أن أنام حتى أستطيع مقاومة الهواتف التى تدخل على موجاتي، وهذا ما فعلوه مع أوجلان وهم منتشرون تبع الـ (CIA)وهم أصبحوا جهازاً ضخماً فى كل مكان يؤدي خدمات بمقابل لأن هيئة مثل الإنترنت ويتحبسون على (CIA)ثم أنهم يرددون فى مسامع زوجتي سيلاً متدفقاً من الكلام لمدة نهار وليل كامل متصل، وهذا الكلام بصوت يشبه صوتي وأفكار تشبه أفكاري( ،ثم يقول عن "عاليا" كيف استطاعت أن تريه نفسه فى كامل توجهاتها قبل السفر إلى " لاهاى" وبعد العودة إلى القاهرة فى نفس الوقت))" ثم وضعت الشريط بالجهاز وأدارت الفيديو والتليفزيون فرأيتني ابتسم ، وأصبحت ماكينة كلام عن بلدنا والناس وأبي وأمي وأخوتي والسكاكرة والحواري يا سلام – يا دين النبي – وعائشة الخياطة وطلعت حرب صديقي وأحمد أبوشوشة …..الخ قالت :تحب أن تري نفسك بعد عودتك إلى القاهرة والذهاب إلى أولادك:

قلت لها برعب : لأ….. أرجوك اتركي شيئاً واحداً جميلاً وحقيقياً لي من دنياي، وخذي فوق ما أخذت ثم انخرطت فى بكاء الغريب الذى ليس له أحد فى هذا العالم((

· ليس هذا ما أردت

· ولكن ما أردنا)) وأمام هذا الغسيل العقلي الإلكتروني الذى يذكرنا بعالم " جورج أورويل" فى العالم عام 1984" يتساءل الكاتب الراوي بصوت عال : ولماذا نحتاج إلى الاستنساخ ؟ هذا وهم

ضحكت ضحكات طويلة وعميقة وقالت:

أرجوك كرر هذه العبارة ،أرجوك كرر هذه العبارة

قلت لها: كوني كما تبغين ……. لكن الحقيقة

قالت : أليست الحقيقة هى ما يقع فى نطاق حواسنا الخمس واستنتاجاتنا ….. أليس هذا كلامك؟

قلت: لكنني أحس بشيء باطل وسط كل هذا

قالت: العلم لا يخدع أحداً لكننا ننسى ، هل تذكر مادلين .

" السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما " وهنا تتفتق ذاكرتي وكل كياني ومعلوماتي((

ومن واقع التصوير السردي السابق للشخصيات والأحداث، نرى الكاتب والبطلة وكأنهما هياكل شبحية عظمية يتحركان تحركاً آلياً بوعى وبدون وعي عبر تقطعات زمنية، وتمزقات مكانية، ولقد تعددت صور الأشباح كمواز سردى لتعدد مستويات الواقع الذى تعيش فيه ، ودائماً كانت الأحداث والأشخاص تعيش أكثر من زمان واكثر من مكان فى وقت واحد ذلك ليكشف الكاتب عن تعدد مستويات الواقع وتعدد مستويات الوعي لدى الشخوص، فهو واقع معقد مركب من تعدد هائل من حقائق شبه مستقرة، وأوهام تمثل الحقيقة الممكنة،وواقع يتعدد فى تجسيداته بل هو ملتبس لا يكاد من يعيش بين ظهرانية أن يتبين أول حدود الواقع وآخر حدود الوهم فيه، ولقد أفاد صلاح والي فى خلق هذه الأجواء السردية من خلال دمج تقنيات تيار الوعى،وآليات الخيال الافتراضى،والتشذر الأسلوبى لتقنيات مابعد الحداثة، لتجسيد هذا الواقع المعقد المتشابك على مستوى الشخصيات والأحداث والزمان والمكان، ليكشف بذلك من خلال جدل الفن والواقع عن القاعدة اللامرئية العميقة التى تحرك الظاهر المرئي وتوجهه بما يجعلنا نرى العالم بصورة أدق تكون قادرة مساءلة وهز قناعاته الزائفة وإعادة تأسيسه من جديد، ولعلَ المتأمل فى هذه المشاهد الروائية عبر الفضاء السردي لها يتخلق لديه شيئاً فشيئاً هذا الإحساس العميق بآلية الحياة،ووهمية الحقائق، وسطوة التكنولوجيا فى خلق منازع الإنسان على هواها ورغبتها الوحشية فى السيطرة الرمزية على العقل والوجدان والكيان الإنساني كله سواءً فى الغرب الذى أطلق وحشها الكاسر ولم يعد يستطيع الإمساك به ، أو لدى الشرق التابع الأمين، الذى يُعاد إنتاج مؤسساته وناسه وفق الاستهلاك القبيح لآليات التكنولوجيا، وأقصد بالاستهلاك القبيح هنا ما عنيته على طوال هذا البحث من طمس الخطوط الفاصلة بين ما هو وهمي وما هو حقيقي ونفى الذاكرة الإنسانية وتخليق ذواكر اصطناعية وهمية متسلطة لتكون ضد أصحابها، ذواكر تدمر أدمغة من يفكرون بها، فمنذ التزاوج الهجين بين الكاتب وعاليا إبراهيم، إلى استنساخ ذاكرة للكاتب لتكون ضد ذاته، وضد هويته الوطنية حتى ليتساءل الكاتب الراوي على لسان بطله: " ((ولماذا تحتاج إلى الاستنساخ؟ هذا وهم))" ثم تضحك البطلة عند سماعها هذه العبارة وتطلب إلى البطل أن يكررها ثم تضحك فى سخرية مريرة من هشاشة وعيه، وتهافت إدراكه للمفاهيم والمعايير والنظم التى تكون تصوراً مجدداً للحقيقة فى عصر العولمة وتكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات فتقول للبطل :أليست الحقيقة هى ما يقع فى نطاق حواسنا الخمس واستنتاجنا كما كنت تتخيل؟هل تتذكر مادلين أمي التي ضيعتها بيديك، لكن الراوي ينسى أنه صانعها وموجوها رغم تأكيده على أنه لم ينسى ثم يطلب إلى ربه أن لا تضيق عليه رحمته حتى يوسعه نسياناً ثم ينداح فى مونولوج نفسي عميق الدلالة عن مادلين والدة عاليا : "كيف ؟ ….لقد تبددت وهماً وضيعتها تجربة ،....وجعلتها متدينة بكل الأديان ، ووضعت لها عمراً قصيراً شهراً واحداً ، ومقداراً عنيفاً من الشهوة ....، ومنطقتها بفصاحة الكلام والعشق ، وعندما أعطيتها قدرة التجسيم وأطلقتها على شبكي الإنترنت العنكبوتية ومعها كل مؤلفاتي ، نسيتها))إن والدة عاليا من برمجة الكاتب الراوي وأبيها من تكوين مبرمج يهودي التقط والدتها من على شبكة الإنترنت ، وولدت عاليا إبراهيم ((انجبتني أمي على شبكة الإنترنت المغربية فمهدت إلى الدعاية الكامنة وأطلقوني بعد أن علمتني اليهوديات هناك فى المغرب كل فنون نساء بني صهيون وطقوس المحفل الماسوني وكان الهدف الثاني أنت ولأنك صاحب عداء أكبر لكل ما هو صهيوني فكان لزاماً علينا أن نقدم لك خدمة ممتازة من عمل يديك فانطلقت على شبكة الإنترنت أوزع مؤلفاتك وقام الفريق المنتظر بالتقاط الاشارة وتغطيتها نقدياً وإعلامياً وكنا قد رتبنا مسألة القبض عليك ((لقد قلت آنفاً أن المتأمل فى هذه المشاهد السردية لبنية الشخصيات وآليات حركتها وفعلها يدرك شبحية وآلية هذا الوجود المبرمج آنفاً، والمنظم تنظيما رمزياً دقيقا،ً فى عنف وتسلط، وربما أشار الكاتب إلى دور الصهيونية العالمية فى برمجة العالم كله برمجة تكنولوجية تسمح بأن يكون تحت سلطة قمعهم الرمزي وربما أشار أيضاً إلى سطوة المعرفة عبر رموزها التكنولوجية فى العالم كله والتي يقودها حزب سري خفي قصاراه تدمير هويات الأفراد والأوطان، لإعادة إنتاج البشر داخل وجدانات وعقول اصطناعية آلية تكون ملكاً لغيرها بإرادتها الذاتية أو أن يكون الإنسان كما يقول أريك فروم ((الإنسان ضد نفسه، والمجتمع ضد نفسه حيث أن قوانين السلطة المجهولة خفية شأن قوانين السوق فمن ذا الذى يستطيع أن يهاجم المجهول الخفي ؟ من ذا الذي يستطيع أن يثور ضد شئ غير محدد، ضد لا شئ بعينه…….إن السلطة بدل أن تختفي قد جعلت نفسها خفية….إنها مثل الحس المشترك والعلم والصحة والسرية والرأي العام إنها لا تطالب بأي شئ سوى البداهة (41)

ومن ثمة يصير الموغل فى بداهته فى الظاهر موغلاً فى اصطناعية ووهميته عند التحقيق والتمحيص، وما نراه حقاً فعلياً نختلط به، ويختلط بنا، يصير هو الوهم الوحيد فى حياتنا، لقد تغير العالم كله الآن، وصار يموج فى غاية من الرموز والأفكار والعلاقات المشوهة التى تبلغ حد الأسطورة فى غموضها وعنف سيطرتها على الوجدان والعقول ، لقد استبدل الإنسان المعاصر الرعب الأسطورى البدائى القديم، بالقهر الأسطورى العلمى الحديث، حيث خلق العالم المعاصر أسطورته الخاصة وفق تصورات آلية تكنولوجية يقودها العقل المادي المسيطر، والعلم التطبيقي الموجه سياسياً وما تموج به علاقات المجاز السردي على مستوى الأفراد فى الرواية هو ما يموج به العالم كله وسط بحار المجازات السياسية والعلمية على مستوى الشعوب والأوطان، لقد أمحت الخصوصية وصار الجزء الخاص صورة كربونية مستنسخة من العام الكلى المشترك لقد حارب العقل الأسطورة فى بدايات النهضة العلمية فى أروبا ولكن باسم العقل أيضاً رجعت الأسطورة فى آليات رمزية جديدة تمارس عنف همينتها، وسطوة رموزها على الإنساني المعاصر سواءً فى الغرب المنتج لغول التكنولوجيا أو لدى الشرق المستهلك القبيح لأحط صورة من صور توظيف التكنولوجيا والآلة وثورة المعلومات وذلك لنفى الإنسان سياسياً واجتماعيا، إن الكاتب صلاح والى يقدم تنويعاتً سرديةً عميقة تطور من خط سردى عالمى بأده قديما روائيون عالميون مهمومون بمشاكل العقل العلمي المعاصر،نجد ذلك لدى جورج أورويل فى روايته ))العالم عام 1984"((ولدى "كاريل تشايبك"فى مسرحيته الشهيرة (مدينة بلا عقول)حيث تعانى الشخصيات كلها من الاغتراب التكنولوجي المقيت، إن سيكولوجية الأغلبية اللامعقولة لدى جورج استيوارت مل،هى ديكتاتورية القطيع الحاشد لدى مارتين هيدجر، و )الإمتثال الآلي الأتوماتيكي( لدى أريك فروم، والطاعون العام لدى ألبير كاميه، كل هذا يعود من جديد لدى الكتاب العرب المعاصرين، ومنهم صلاح والى، ولكن من زاوية حضارية وجمالية مختلفة،تتسق وبنية الهموم الحضارية العربية، فكل ما حدث لشخصيات رواية )الجميل الأخير(كان مبرمجاً آنفاً ، تغير تحركات الشخصيات وتخلق الحوادث والأشياء هى منظمة بصورة قبلية وكأن كل ما حدث قد حدث من قبل سفر البطل إلى لاهاى ، تزاوجه من عاليا إبراهيم وتزاوج والد عاليا من والدتها ، أحداث المؤتمر والتقارير وطقوس نيل الجائزة ، البرنامج السياحي الذى أعدته عاليا للكاتب بمناسبة فوزه بجائزة حقوق الانسان، تذكره لوطنه وناسه وشعبه كل ذلك يدور أمامنا فى الفضاء السردي للرواية وكأنه ما يحدث قد حدث قبل أن يحدث، وهو ما يشف عن هول العنف الآلي الرمزي للمعرفة العلمية الجديدة التي صارت أداه تدمير لا أساس تعمير، حيث تختلط المفاهيم والتصورات والمعايير،ويبدأ العالم دورة جد جديدة من دورت التغير الحضارى العالمى،تتغير فيه الجغرافيا والتاريخ والذات والآخر والثقافة والحقيقة،وجميع انسقة الأفكار والعلاقات، فباسم العقل يتم تدمير العقل وباسم التطور يتم خلق الكوابح لكل تطور، فأين الحقيقة التى صرخ بطل الرواية أكثر من مرة معلناً : ((فى هذه الحالة ستعرف أنه لم يظلمك سوى العلم والعقل الذى آمنت بها طوال حياتك ، حتى ما تؤمن به تم ذبحه وجند ضدك، سيصبح كل شئ باطل إلا حياتك وبذلك تحصد ضدك ما زرعت((إن هذه الجملة )تحصد ضد ما زرعت(هى تجريد عميق لجوهر علاقات الواقع الذي نعيش فيه، واقع الوهم والسيطرة وعنف الرموز والأفكار، الواقع الذى بات ينتمي إلى ما قبل الأمس ، الواقع الذي غدا منذ أمد طويل شبحاًَ لما كان عليه نجده محفوظاً فى إطار جامد من العبارات والأحكام المسبقة ، (وإن الإنتاج الأخير لتلك الآلة الضخمة للبحث والاستقصاء، والتحليل والإحصاء وعقد المؤتمرات وتقديم التقارير وعناوين الصحف هو هذه الصورة المضحكة التي تجسد ماكانً موهوماً يقال إنه ملك لكل انسان وهو فى نفس الوقت ليس ملكاً لأي إنسان ، فالوهم يحل محل التناقض ، وينتج عن التعدد الهائل فى ( وجهات النظر) أن يفرض تماثل الرأي البغيض، وتسبق الإجابة السؤال ، وتقدم المرة بعد المرة عشرات من الأكليشيهات التى كان بعضها فى يوم من الأيام انعكاساً صحيحاً للواقع ، ولم يعد اليوم من شبه بينها وبين الواقع إلا بقدر ما نجد من شبه بين ملوك البترول وصور القديسين

إن أزمة البطل فى رواية ( الجميل الأخير تكمن كما قلنا آنفاً فى البحث عن الحقيقة وسط عالم يموج بالوهم والزيف وتسلط الرموز و الأفكار والقيم، انه يبحث عن الحقيقة بآليات وهمية من صنع واقعه، فيكتشف فى النهاية بأنه نتاج للواقع . انه يسعى ليرى الأشياء والموجودات والناس والحوادث والوطن يرى كل ذلك فى ذاته ولكنه دائماً يقبض على الوهم إنه يتحول باستمرار عبر مخلوقات عالم وهمي مركب من أشباه حقائق وأشباه مصطلحات وأشباه مكان ، وزمان وهوية ، وفى عمق هذه المعاناة الهائلة يقدم لنا هذا المشهد السردي الكثيف المجاز ، العميق الإيحاء، وكأنه يمثل فواقاً روحياً وفكرياً لحقيقة ما يحدث : ((كانت البلاد تخرج من تحت إبط الأشياء نازحة معها وحولها هماً ثقيلاً وداخلة فى دوامات من التوهان والدوخان، مغلف بدخان أزرق وجحوظ فى العيون واتساع فى إنسان العين، لذلك صعب عليها أن ترصد الذى أمامها أو أن تحلل ظواهره ، وبالطبع استحال عليها الغوص إلى أبعد من السطح، لذلك ظلت تسبح فى عماء المجهول وترى المصادفة قانوناً لكل شئ ))،هل نستطيع أن نقول من خلال هذا المجاز السردي الرفيع أن الفن الأصيل هو الذي يبحث عن الغائب الحقيقي من خلال الحاضر الوهمي ، أو هو الذى يرتقي بالواقعي المتسلط والمتجذر إلى الحقيقي المستشرف والأصيل . ربما قصد الكاتب إلى ذلك من خلال بنية شخوصه وأحداثه وتوالي الناس الزمان وتعينات المكان فى النص السردي ، وربما كان مخلصاً أصيلاً فى توصيف – وليس وصف – جوهر العلاقات السياسية والاجتماعية والحضارية التي حركت شخصياته وخلقت أحداثه

بنية المكان الروائي:


إن المكان يمثل أحد الأساسات الوجودية التى صاحبت وجود الانسان فوق الأرض فحس المكان لدى الانسان حس عميق وأصيل فى وجدانه وعقله ومجموع كيانه كله. بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن ما ينسحب على الانسان بخصوص أساسية المكان لديه ينسحب على جميع المخلوقات والموجودات والأشياء فى هذا الكون العريض ، والانسان بصفته قادراً على وعى بذاته والوجود المحيط به يعد المكان لديه إحدى الأساسيات المعرفية والشعورية بله الخيالية المكونة لوعيه الإنساني، بل يمكن لي أن أقول بأننا موجدات مكانية فى المقام الأول فلا نستطيع أن نعيش فى أي مرحلة من مراحل أعمارنا،أو نتعين فى أى وجهة من جهات حركتنا، إلا ونحن منغمرين فى سياق وجودي مكاني حتى ونحن موتى يضمنا أيضاً مكان له عالمه الخاص، وهذا يؤكد أن تصورات عقولنا ومطارح أفكارنا وهواجس أحلامنا،ومستشرف أحلامنا دائماً متلبسة بالمكان وخيالات المكان هذا من جهة النظام المعرفي للإنسان، أما من جهة الفن الروائي فالمكان يعد مرتكزاً أساسياً فى بنائه وتشكيله غير أن المكان بوصفه مساحات وأبعاد هندسية مادية فيزيقية يحكمها الحجم والمقاس والمساحة، غير المكان الخيالي فى الفضاء السردي فهنا المكان لا يتشكل تشكيلاً مادياً عمليا وكفى،ً بل يتشكل عبر بنية اللغة السردية التخييلية، يتشكل عبر الأفكار والأحلام وشوارد الأماني والذكريات، إنه حر عبر تحولات الشكل والحركة والبناء ، إنه مكان خياليً طليق قادر على نثر الموجودات والأشياء وإعادة خلقها وتنظيمها وترتيبها من جديد ،فهو وجود جمالى لازمنى يستقطب إليه كل محتويات الزمن والتاريخ والثقافة، وبذلك فالمكان فى الرواية يتجاوز قشرة الواقع إلى ما يناقضه أو يعيد بنائه، سواء على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحضاري، ولكنه مع ذلك يظل فى علاقة معرفية وجمالية جدلية خلاقة مع الأبعاد الواقعية المادية لشكل المكان فى الواقع. وإذا كان الأدب يدخل ضمن اللغة وينتمي إلى نظامها العام فإنه يملك نسقاً خاصاً من العلامات والقوانين تتحول معه لغة الأدب إلى لغة ثانية داخل اللغة الأم، وانطلاقاً من هذا التقابل بين اللغة الجمالية واللغة الطبيعية نظر ( يوري لوثمان)إلى لغة الخطاب الأدبي باعتبارها (بنية شديدة التعقيد مقارنة مع اللغة الطبيعية ، وإذا كان الخبر الذى يتضمنه الخطاب الشعري –وبالتالي الروائي-مشابهاً للذي فى الخطاب الاعتيادي فإن الخطاب الفني يفقد كل حق فى الوجود ويختفي بدون شك(وبذلك تتعدد أنظمة العالمات فى آليات التوصيل والاتصال باللغة فثمة اللغة الطبيعية واللغة المصطنعة كلغة العلو والإشارات واللغة الثانوية التي يدخل فى نطاقها النص الفني ونصوص الأساطير والخرافات والطقوس والروايات (42) وإذا كانت هذه اللغات تسعى فى تواصلها مع العالم المحيط بها إلى أن يتطابق الدال والمدلول اذ تفيد الدلالة العملية المباشرة، فإن لغة الأدب تختلف عن ذلك اختلافاً جذرياً، إذ تتبع الدلالة العملية المباشرة على الهامش وتحتل الدلالة المجازية الانفعالية بؤرة المعنى، ولكن )يوري لوثمان(يوسع من حدود الدلالة المجازية حيث يدمج اللغة الفنية باعتبارها فرعاً لغوياً له خصوصيته ضمن المجال السيمولوجي العام الذي هو بنية الثقافة بصورة عامة فقد صاغ " يوري لوثمان" معظم النظريات المتصلة بالثقافة إنطلاقاً من مفهومين أساسين:-

المفهوم الأول:- وهو مفهوم العلامة وعلاقتها بالعلامات الأخرى ووظيفتها داخل الثقافة.

المفهوم الثاني:-مفهوم النظام حيث يرى أن مجموع الأنظمة السيمولوجية هو الذي يكون الثقافة وبذلك يرتبط النظام الأدبي كنمط مخصص من أنماط التواصل بالنظام الثقافي ككل (43)

وهذا يعني أن المدخل الجامع لدراسة كل الظواهر الإنسانية والعلمية هو المدخل الثقافي العام، الذي يعتبر فى مفهوم )لوثمان(ليس نظاماً من العلامات والمعارف والخبرات المتراكمة فى حال جدلها مع الأدب، بل تصير بنية رمزية كليه قادرة على خلق النصوص الأدبية بما يربط المتخيل السردي بالواقع فى علاقة بنيوية جدلية مركبة، ولننظر كيف حدد لوثمان الثقافة حتى نعي عمق هذا الجدل المتراكب بين بنية النص و بين الثقافة (فالثقافة ذاكرة غير موروثة لمجموعة من البشر ، وهى مجموعة من النصوص ، لأن الثقافة لا تنتج إلا فى نصوص وفيها تصب، وهى دائرة مشتركة أو نظام من القواعد أو الفروض التي تسمح بتطور الحياة الجماعية، والثقافة بوصفها آليات مولدة ليست مجموعة من النصوص فى وضع فوضوي أو غير مركب، وإنما هى ترميم وتنظيم ومزج، فالثقافة لا تعين إلا من خلال العلامات وهى تتفاعل إذن بوصفها نظاماً ....تقع اللغة الطبيعية-النظام الأول- فى مركزه المحوري- وفى محيطه تقع أنظمة ذات طبيعية أنثروبولوجية وفلسفية وأخلاقية وأدبية ، ……الخ ، وهى أيضاً أبنية، وتعمل فى أوضاع ذات دلالية اتصاليه((44)

وبهذا المعنى تكون الثقافة هى البنية الرمزية الأساسية التي ترسي فوقها التقاليد الفنية والجمالية للنص من جهة، والمعايير النقدية الجمالية لتلقي النص من جهة أخرى. ويقع المكان فى العمق من هذه الأنظمة الرمزية المعقدة المولدة لنظام الثقافة العامة ، ونظام النص الأدبي ، وتتدافع إلى مكونات المكان آلاف التفاصيل الصغيرة الظاهرة والمختفية المسموعة واللامسموعة المرئية واللامرئية التى تتشكل منها بنية الثقافة نفسها–يتدافع جميع ذلك إلى بنية المكان داخل النص حتى لا يكاد يكون مركزاً دلالياً لكافة تفاصيل المجتمع والعالم كله وفى ذلك يقول " E .Rohemed A-Moles" ) الانسان فى علاقته بحيزه المكاني مثل البصلة عندما يحتل الفرد قلبها بينما تمثل طبقاتها الأماكن المحيطة به. فكل فرد تحيط به مجموعة من الطبقات يكون جلده أقربها إليه ثم ثيابه ثم بنية فخيه فمدينته، وانتهاء بالحيز الكوني الفسيح((45)

وبهذا المفهوم يعد المكان مركزا دلاليا حيويا يقع فى عمق الجدل المعرفى والجمالى المعقد، بين الفرد والعالم المحيط به، فثمة دائماً هذا النزوع الحي لدى الإنسان ليكون ذاته وأكبر من ذاته فى الوقت نفسه، وفى هذا النزوع الجدلي بين الذات الإنسانية والعالم المحيط بها تتخلق المفاهيم والتصورات ذاهبة من الذات المدركة إلى العالم المدرك، وراجعة من العالم المدرك إلى الذات المدركة،فى صيرورة جدلية لاتكون نهايتها مجموع مركبات بدايتها، ومن ثمة نستطيع كما تلاحظ )سيزا قاسم( أن ( نرمز إلى كثير من القيم والمفاهيم المجردة بأسماء المكان كأن ترمز مثلاً إلى ثنائية ) الخير – الشر( بعنصر مكاني يتضمن ثنائية ) يمين- يسار( كما تشير ثنائية ) عال –منخفض( إلى بعض المفاهيم المعنوية مثل ) حركة- سكون( أو )( حرية- عبودية( أو( روح- مادة ) ……وهذا يؤكد عليه لوثمان فى دراسته للمكان الفني فيذكر أن المكان الذي يعيش فيه البشر هو مكان ثقافي بعد أن يحوله الانسان من واقع فيزيقي ويدخله ضمن نسق ثقافيً ، يمنحه دلالة رمزية وقيمة معنوية (46)) وإذا كان المكان الفيزيقي العياني ينتقل إلى بنية الثقافة عبر رموز معنوية وفكرية وشعورية فانه ينتقل عبرة بنية الخيال فى الأدب عبر تصور تخيلي للعالم يبلور رؤيا جمالية ومعرفية خاصة للمبدع تجاه واقعه الذي يعيش فيه ، والعالم المحيط به، ولقد استطاع الكاتب صلاح والي فى روايته ( الجميل الأخير) (نص للوقت 1999( أن يقدم لنا المكان عبرة فضاء سردي مركب ومتنوع، يتمتع بالثراء الفني، والخصوبة الدلالية، ولقد لاحظنا فيما سبق من تحليلنا للشخصيات والأحداث والزمان والمكان فى الرواية – أن الكاتب قد نوع من تقنيات السرد الروائي بين التعبير بالضمير الثالث)هو (وضمير المتكلم)أنا- نحن(وضمير المخاطب )هو – هي – هم (ومعنى ذلك أن الكاتب سوف يقدم لنا عبر هذا التنوع السردي الخصيب صوراً جمالية مكانية متعددة قادرة على بلورة رؤيته اللامركزية فى الرواية. أضف إلى ذلك أن الرواية كما قلنا تحلق فى الأفق الإنساني العام بقدر ما كانت تحدق فى حدود واقعها الاجتماعي التاريخي الخاص بها، ونتيجة لهذا الخصب السردي سوف نرى المكان الروائي على المستوى ذاته من الخصوبة ، وفى بداية الرواية يحدد الراوي وجهة المكان الروائي فنراه مكاناً خارج حدود الوطن ، إذ انتقل الراوي من المتناهي فى الضيق والاختناق -مكان السجن –إلى المتناهي فى الانطلاق والحرية – مكان ))ركوب الطائرة إلى لاهاى)) لنيل جائزة حقوق الانسان - ، يقول الراوي بضمير المتكلم على لسان بطله " ((لم يكن يخطر على بالي أبداً أن يصل صوتي طوال هذه الأعوام إلى كل بقاع الأرض وأكون مسموع ـ يبدو ان هناك خطأ مطبعيا فى مسموع حيث يجب ان تكون منصوبة هكذا((مسموعا ـ ، وهناك تقرير ما لدعوتي ، وكنت أود أن تكون الاستجابة بانتشار الدعوة فى بلادي التي قابلتها بالعنف والسجن))".

وهنا تتضح ثنائية الداخل المكاني (الوطن – السجن)الطارد والخارج المكاني (الغرب – الانفتاح )الجاذب ، ولكن علينا أن نتناول هنا الدلالة الجزئية للمشهد السردي السابق ضمن الدلالة الجمالية للمكان(الوطن)والمكان (الآخر)،فهل كانت الدلالة المكانية متخلقة عبر ثنائيتين انثنتين، أم ثمة جدليات عديدة بين الداخل – الداخل (الوطن ) والداخل – الخارج ( الغرب )؟! ولنتأمل التتابع السردي للمكان داخل البنية التخيلية للمكان فى الرواية ، ففي بداية الرواية يحدد الراوي على لسان البطل المتكلم بداية علاقاته بالمسئولة الأجنبية عن رحلته فيقول:" ((تبعت هذا الصوت (لو سمحت) بلا حول ولا طول وكانت تتجه إلى الخارج ولكن خارج أي شئ ؟ لا أعرف ، ولكني كنت أحس إنها تتجه إلى الداخل أيضاً، …….وكانت خطواتها واسعة جداً لدرجة أنني كنت أحس إنها لا تلمس الأرض ……….وكنت أحاول أن أتذكر وجهها ولكن باءت كل محاولاتي بالفشل، فقررت أن أسبقها ثم التفت إليها أتصنع سؤال ما……… كنا نهبط السلم ، وربما نصعد وعند الدرجة الأخيرة التفت إليها وقالت بسرعة شديدة …..اركب) ثم يواصل الكاتب وصف المكان من خلال المسئولة الأجنبية :" (توقفت السيارة ونزلت فنزلت ، وامسكتني من يدي ودخلت بناية واسعة ، ذات دور واحد وحولها حديقة ربما غاب ولكنها أشجار ، واستمرت فى السير داخل البنايه فقلت …. لو سمحت …… إلى أين(.....)انعطفت ناحية اليمين فأسرعت فى السير وجاورتها وأمسكت يدها وأوقفتها فأخذتني فى حضنها وقبلتني باعتصار شفتي ………..هل لهذا علاقة بالحب أو أى شئ؟ولهذا كنت شيئا لا علاقة له بما يحدث حوله ، فتملصت منها وقلت:وإلى أين )

والمتأمل فى النصوص السردية السابقة من خلال ضمير الأنا للمتكلم البطل على لسان الراوي يلحظ انسياح المكان عبرة دلالات مكانية مجهولة غامضة إن لم تكن منعدمة الوجهة والهوية ، ترى ما الحد الفاصل ببين المكان الوهمي والمكان الحقيقي ؟ وكلاهما مواز سردي لضياع مركزية أى شىء على طوال البناء السردى للرواية، فعندما نتأمل التعبير ( كانت تتجه إلى الخارج ولكن خارج أي شئ – لا أعرف ولكني كنت أحس إنها تتجه إلى الداخل أيضا- خطواتها لا تلمس الأرض- كنا نهبط السلم وربما كنا نصعد- لو سمحتي إلى أين –انعطفت ناحية اليمين ، فتملصت منها وقلت إلى أين )إن التنويع السردي هنا للمكان بين (أنا للمتكلم)وهى للغائب ، وانطماس هوية المكان بينهما ، وانعدام جهته المحددة يشى ببداية تخلق بذرة الفكرة المركزية ـ لو صح التعبير ـ فى الرواية التى ألمحنا إليها آنفاً فى انعدام التحدد والتيقن ووضوح الجهة والمعنى…إن الخيال الروائي هنا يقوم بترميز دلالات المكان لتكون قادرة على احتواء عوالم الشخصيات الوهمية الافتراضية التي تتحرك خالقة حوادثها الوهمية فى الأساس، إن المكان هنا وهم من الأوهام، فإذا كان الوطن سجناً خانقاً للحريات فهو على أحسن الأحوال أفضل بكثير من انعدام كامل وانطماس تام نحياه لدى الآخر باسم وهم الحرية والمساواة أيضا، وإلا فأية حرية ومساواة فى عالم موكول بآليات العنف والقهر وطمس هويات الآخرين على كافة المستويات، إن دلالات المكان فى النصوص السابقة وعبر السياقات الجمالية للسرد تشير إلى المكان اللامكان أو إلى المكان المتلاشي فى إطلاقية محو كلية .

فثمة محو كامل وتلاشي تام باسم الانفتاح والحرية لدى الآخر فعندما يخرج الانسان من جذوره المكانية لن يسعه مكان وزمان الآخرين ناهيك عن صيده وقنصه خلالهما بكافة النظم الرمزية المتعددة. ويصير التلاشي المكاني عبر سياق السرد هو الموازي المرئي للتلاشي الفكري والروحي على المستوى النفسي حيث يتبع الكاتب النصوص السابقة المكتوبة ببنط معتدل بنص سردي مكتوب ببنط مائل نابع من أحشاء الذاكرة التي تلاشت هى الأخري على مستوى الجسد- المكان الملاصق لهويته الإنسانية :

يقول الكاتب))كلما أردت أن أتذكر تعرض الأحداث أمامي ثم أصاب بزغللة فى العين، وتتبقع صفحة المشهد كله ببقع بيضاء تأخذ فى الاتساع ثم يدكن لونها حتى تصير سوداء فيتبدد المشهد كله ويتحول المشهد إلى سواد داكن((،إن الجسد هو المكمن المكاني المباشر للذات يأخذ هو الآخر هنا فى اللاتحدد بل التلاشي خلال الذاكرة الممزقة التي تتفتت عبر الأبيض فالداكن فالأسود فالداكن إن التحولات الرمزية للألوان توازي التحلل الجسدي للذاكرة، وعلى طوال الفضاء السردي يكثف الكاتب من دلالة ) سحبتني( فى مطلع كل مشهد سردي ، هذا الفعل الماضي الموحي بالسير على غير إرادة ، وعلى غير هدى ، ويتنقل مع البطلة عبر أماكن غاية فى الغرائبية واللامعقولية مثل:(سحبتني إلى حجرة النوم كانت خالية من أى أثاث ومزروعة بالحشيش الأخضر ومساحتها خمسة وثلاثون متراً ، بطول سبعة أمتار ، عرضها خمس …… ظللت فى مكاني إلى أن سحبتني من يدي وأنا ملقى على السرير ……. وصلت الطائرة إلى لاهاي(،إن هذا الجو الأسطوري المفزع لبنية المكان يصور جواً غامضاً غير محدد لعوالم الشخصيات كما يجسد مدى السطوة التى يمارسها الآخر على البطل فهو لا حول له ولا قوة، ولكنه فى الحقيقة كان متواطئاً مع كل هذا، حتى وإن بدا مقهوراً عليه، فهو مشوق إلى تحقيق ذاته ولو بصورة وهمية فى ذات الوقت الذي يتردد كثيراً فى تحقيق هذه الذات، لكن السجين يحلم بأية بصيص من الأمل حتى ولو كان وهماً، ومن ثمة كان هذا العدوان والعنف المزدوج الواقع على البطل فى مكانه داخل الوطن، ومكانه لدى الآخر ، فهو دائماً لا يتحرك فى المكان بل يتحرك به المكان ففيزيقية المكان وغلظته المادية هما البطل، فى صورة سردية تعكس الحركة من الذات إلى خارجها المتحكم فيها، ولنري كيف يصور مكانه داخل بلاده أثناء سجنه مع سيف : (تحركت بنا السيارة فى طريقها خارج؟!)

لا أعرف ومن قال لا أعرف فقد أفتى ، فأنا أفتي بعدم المعرفة –كنا عصراً- وكانت الشمس خلفنا باهتة . فى ضاحية ريفية كانت تمرق السيارة ، مشوار طويل أنا فيه غريب والريح تكنس الشوارع النظيفة، "حقاً إن الشوارع نظيفة من البشر ملآنة الآن بالأشياء المادية فقط، وكأنها بلاد تأكل قاطنيها أو لا تتسع لهم إلا رفاتاً بعد أن ضاقت بهم أحياء لا يرزقون)فالمتأمل فى المشهد السردى المكاني هنا يحس بغموضه ويكاد لا يمسك السرد إلا بتفاصيل حادة تخفي أكثر مما تبين، وقد استطاع الكاتب بمهارة تجريدية فائقة أن يجرد المكان من أية أحاسيس أو مضامين إنسانية من خلال هذه التفاصيل الغفيرة السريعة الحصيفة القادرة على تكثيف عرى المكان وخلائه من أي شعور إنساني ، ثم يدخل الكاتب بالمكان عبر وصف كابوسي قادر على الإيحاء بطبيعة من يعيشون فيه ) تحركنا واعتدل الطريق بنا وسط غابات كثيفة مدلهمة كالهموم ودخلنا مناطق.... غامضة كبقع مكشوفة من الأشجار .... حتى واجهنا كلاب وحراس وفهود –قاومت كثيراً تحت سياط التعذيب وكنت أتذكر ( قاومت الاستعمار فشردني وطني )

ثم ينتقل الكاتب إلى مستوى سردي رفيع فى شاعريته المكتنزة فالكاتب ينوع فى طرائق سرده للمكان حتى يرينا أعماقه من عدة وجوه يقول الكاتب الراوي (كانت البلاد تخرج من تحت إبط الأشياء نازحة معها وحولها همً ثقيل،ً وداخلة فى دوامات من التوهان والدوخان مغلفة بدخان أزرق وجحوظ فى العيون واتساع فى إنسان العين لذلك صعب عليها الغوص إلى أبعد من السطح، لذلك ظلت تسبح فى عماء المجهول وترى المصادفة قانوناً لكل شئ ) إن المكان هنا يبلغ ذروة المجاز داخل التسلسل السردي فى الرواية كلها فمن خلال شعرية السرد هنا يتجلى المكان شبحاً من العمائر، ودوامات من التوهان والدوخان ، ثم يتابع الراوي مسح البنية المكانية لوطنه عبر عدسة الخيال الخلاق فيرى )الشوارع أنتظمت واتسعت واستقامت، والمنازل بحوائط زجاجية عبارة عن حجرات نوم ودورات مياه وصالات لهو، وأن هناك إيجار لمن يستعمل المنازل، وإيجار لمن يتفرجون من خلال الحوائط، وأن العمل منتظم ويجري على عشرة أقدام وعشر سوق فى جميع المدن والقرى كأحد المشروعات القومية الكبرى( لقد تبدل الوطن غير الوطن، والسماء غير السماء، لقد انتفت الخصوصية والدفء والنماء والانتماء وتحول المكان الأم إلى مكان وحشي كل وكده ان يمحو جذوره وكأنه فى احتفالية كابوسية لمحو وجوده بيده والمتأمل فى تفاصيل السرد السابق يلحظ مدى الاقتصاد اللغوي الجمالي الذي يسيطر عليه الراوي ليقدم المكان فى خطوط سريعة حادة قاسية، قادرة على أن تخلعه من جذوره وأنساقه وأوراقه وترمي به إلى اللامكان الموحش، والكاتب يفعل ذلك ساخرا كمن يقوم بمهمة قومية فى لغة سردية دامية فى تهكمها وسخريتها ، وعند هذا الحد من تلاشي حدود الوطن ))صار معنى الوطن ملتبساً ثم أي الأوطان يصلح لي، هل قامت قيامة العظماء وسرنا نحن أبناء البطة السوداء((،وعندما يبلغ المكان داخل الوطن حدود التلاشي والتصحر والمحو ينتقل الكاتب الراوي ليصير مشرداً دوليًا بعد أن كان مشرداً أهلياً- أى يصير ملكاً للآخرين –الغرب الذى اجتذبه لينيله جائزة عن حقوق الانسان، ولكن الغرب على الحقيقة وكما تصور الرواية لم يكن بأحسن حالاً من الوطن –الطارد – بل كان أنفى حتى يصل الكاتب إلى صرخة مدوية )لماذا أنا هكذا …….. ولماذا لا أكون كغيري واحد من عباد الله الطيبين الذين يملؤن المعدة ، وينامون ملئ الجفون ، عمري بكامله لم أعرف النوم ملئ الجفون)

وتأتي هذه الصرخة فى نهاية الرواية ـ على الرغم من تقريريتها الفجة ـ وكانها بلورة مفاجئة للحقيقة، ولكن الكاتب عبر منولوجه الداخلي ينتقل من حدود الأمكنة بوصفها))صورا عقلية شكلتها المجموعات والقوى التي صنعتها اكثر من الخصائص الحقيقة للأرض التي يقومون عليها(((47)أي بصفة الأمكنة حدوداً أيديولوجية أكثر منها حدوداً إنسانية خلقها الله تعالي لتحتضن الإنسان فى نموه وانتمائه وحله وترحاله، حينئذ تتجلى قيمة الفن بوصفه باحثاً عن القيمة الغائبة من خلال الاختناق المكاني الحاضر ، نرى الكاتب يسبح فى مونولوج داخلي يتخلق عبر الخيال وقدرته على صنع الحرية :

لماذا أصحو بالليل فى العتمة وسط المتاهة أبحث عن نجم او نقطة بعيدة فى الظلام أسير ورائها ، لم أسأل إلى أين؟ إنها نجمة الخلق والإبداع، خلق عالم بديل ، إنشاء مكان جمالي جديد يكون الانسان أجدر بسكناه، وأقدر على الاستيطان فيه من جديد ، إن الكاتب لا يصور حاله الفردي هنا فى بحثه عن المكان البديل، فالرواية الحديثة فى نظره كما فى نظر آندريه مالرو ((

الرواية الحديثة فى نظري ليست تصويراً لحال الفرد، وإنما هى وسيلة متميزة للتعبير عن مأساة الإنسان (48إن الروية تصور بالفعل مأساة الإنسان المعاصر من خلال تسلط الرموز والأفكار والعلاقات والنظم الجديدة التي خلفها العصر الإلكتروني أو العصر التكنولوجي الذي يعيد إنتاج نظم العالم وفق تصوراته وعلى رأسه الصهيونية العالمية، ومن ثمة نرى الكاتب ينتقل من حدود المكان خارج وطنه فيراه هى الأخرى قد تلاشت وامحت تحت سطوة القهر والاستعباد والمحاصرة لدى الآخر وانتقال مفهوم الحرية المدًَعاة إلى سجن رمزي كبير حيطانه الشعارات وردهاته آليات الشبكة المعلوماتية الجديدة وحكامه الصهيونية العالمية التي هى أشبه بحزب سري غير معلن وظيفته تدمير المكان والزمان والبشر، يخرج الكاتب من سفر التدمير إلى سفر الإنشاء عبر المجاز السردي الخالق للمكان العالمي الجديد فيقول)) كل ليلة فى تجوال أتمم على حدود الأرض واتحسس أطرافها، وأتمم على المساجد والمستشفيات والمساكن وأطمئن على أن الناس تنام وتشخر ، يعذبنى بكاء طفل أو بكاء امرأة وأراه بين عيني تبكي فى عروقي بجلبابها الأسود ثم ترد عليه عالياً فتقول :

أعرف انك ستقول هذا

· العربة وصلت ………جهز نفسك

· إلى أين

· إلى المعبد – قالتها بنفاذ صبر

وبسرعة خرجت من دورة المياه وفتحت عن مادلين وعاليا ووجدتهما تتألقان على شبكة الإنترنت بالقرب من مواقع اليهود والمغاربة فدسست فى داخل ملفاتهما أمرا بمسحهما من الجرافيك وفككتهما وما تشابه معها من ملفات…..وسمعت صوت استغاثة فى المجر وألمانيا والنمسا وأمريكا فأسرعت بكشف المواقع كانت الشخصيات تتلوى وتتفكك وتتلاشى بعيداً وأنا أستريح وأحس إنني أخرج من ثقب ضيق إلى براح الحقول

((وإذ أخذنا بفكرة –جورج ماطوري –من أن (( كل نص يتضمن كلمات شاهدة ( Most –T enoins) تقوم بإدخال مفهوم القيمة على معجم شعري معين يكون هو المحدد لهوية النص بعد أن يتحول إلى كلمات مفاتيح نستطيع أن ننفذ من خلالها إلى دلالة النص ومقصديته حيث تدل الكلمات – الشاهدة – على شعور ورؤية أو فكرة محددة تحدد انتماء الشخصية أو اختيارها الأيديولوجي (49) .حيث تهيمن الدلالة المكانية"الأرض "علي النص الروائى، وليس مجرد حدود الوطن الأم – أو حدود العالم الآخر – بل الأرض على رحبها.إن( دال الأرض) الذي صدر به الكاتب نصه السردي السابق والأخير فى روايته مقروناً إلى دال ((تجوالي السابق عليه يجسدان الدلالة الجمالية والرؤيا الفنية للمكان البديل كاختيار أيديولوجي مفتوح خارج جميع الأيديولوجيات السابقة على طوال الرواية والتي رسمت حدود المكان الجغرافي سواء بالسجن داخل الوطن، أو بالمحو والطمس خارجه حيث تأتي الأرض كلمة بريئة خارج أى تصور مكاني أيديولوجي محدد، خارج اليسار واليمين والشرق والغرب، والمركز والأطراف ، العالم الغربي والعالم الثالث – أى خارج أى سياق مكاني قيمي تحدده الأيديولوجيات المعاصرة ، فالفن دائماً فوق الحدود والسدود والأيديولوجيات، فطبيعية الإبداع الفني كما يراه البير كامي )) تنطوي على تأكيد العبث ونبذ التفسير المنطقي للواقع غير أن الدوافع الإنسانية الكامنة وراءه هى الحاجة "إلى التمرد فى وجه العالم بوضعه الحالي والرغبة فى استبداله بعالم أخر ….. إن الفن يمجد وهو فى الوقت نفسه يجحد(50)

وبذلك فلفظة الأرض فى السياق السردي السابق وما تستدعيه من قرائن لغوية (أتمم على حدود الأرض ) ( كل ليلة فى تجوالي) – (أتحسس أطراف الأرض) (سمعت صوت استغاثة فى ألمانيا والنمسا والمجر )ثم الخروج أخيراً من الثقب الضيق إلى براح الحقول – أقول أن الحقل الدلالي للأرض وما استدعاه من سياقات دلالية مكانية متعددة كما رأينا فى الجمل السردية السابقة – يرمز إلى المكان الرحب البديل الجدير باحتضان الانسان المحاصر برموز الأيديولوجية وقهر التنظيم الاجتماعي المعاصر للبشر وللأوطان معاً ، وعلى قدر ضيق المكان السياسى وتلاشيه واختناقه على طول الرواية شرقاً وغرباً يكون اتساع المكان الجمالى التخييلى وانفتاحه وتعدده عبر المجاز السردي الخالق للمكان البديل، وكما سقط الكاتب ومعه العالم كله فى ضيق المكان الإيديولوجي بواسطة تسلط العلم ورموز العقل وحصار التنظيم الاجتماعي العقلاني- ينقذ الكاتب- وطنه والعالم كله من خلال العلم أيضاً ومن خلال ثورة المعلومات والشبكة الاتصالية على مستوى العالم كله حيث قاربت الاتصالات الكونية من حدود الجغرافيا والتاريخ وصار الكون كله قرية واحدة صغيرة ينفتح أبوابها بعضها على بعض ، ترى هل يحلم الكاتب بالمكان الكوني الذي يوحد بين الذات والعالم ربما ؟!
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى