مقابلة محمد العتر للأنطولوجيا : يمكنني أن أختلف مع السيسي.. لكن لا يُمكن أن أنكر تحقيقه للمكاسب على الأرض!

حاوره جبران الشداني


محمد العتر


يقدم الأخ محمد العتر نفسه، ضمن أوراق مدونته كمدون و ناشط سياسي، و كاتب صحفي، محقق تراث و باحث في علوم الخطاب، و الحراك السياسي، إضافة لاهتمامه بالأدب و الفنون البصرية و السمعية و كتابته للمقالة و القصة القصيرة و السيناريو.
في تدوينة مؤرخة بتاريخ: 8/12/2012 يكتب القاص محمد العتر، عن بعض محطات تأسيس "مجموعة الجنوب" و يرصد بعض أوجه نضالها من أجل المواطن المصري و حقوق الإنسان، هذه الحركة السياسية الثقافية التي يعتبر نفسه مشاركا في تأسيسها، تصف نفسها بالتالي:
"ننطلق من قاعدة فكرية، تستخدم التحليل الماركسي و تحليل الخطاب و تدمج في التحليل العوامل الفارقة مثل الطبيعة الحضارية و الجغرافية و الخريطة السياسية العالمية، كما تتمسك برؤية إسلامية من منظور يختلف عن المنظور التقليدي لحركات الإسلام السياسي."
سؤالي هو التالي:
كيف يمكن لحركة سياسية اليوم. أن تستمر في المراهنة على أوليات التحليل الماركسي لفهم عالم متغير جذريا عن الذي عرفه ماركس.
ما المقصود هنا بالتحليل الماركسي، هل المقصود هو التراث النظري و المنهجي الذي خلفه ماركس بالذات ؟ أم أن ذلك يشمل القراءات اليسارية الحديثة التي راجعت الأسبقية المطلقة للاقتصادي على الثقافي؟
ثم كيف يمكن للتحليل المادي أن يتوافق مع رؤية دينية؟ متى ينتهي الإيمان بالقضاء و القدر؟ و متى يبدأ التسليم المطلق بقدرة الآلات على تحديد مسار البشر؟


أهلًا يا عزيزي. هذا تعريفٌ قديم لي، كان له سياقه، وتتطور هويتنا ويتغيّر فيها بمرور الوقت، لذا أُفضل أن أُعرّف نفسي الآن: صحفي من مصر. بطبيعة الحال لدي اهتمامات بالبحث العلمي في مجالات مُختلفة متعلقة بالعلوم الإنسانية، لكنني توقفت عن أي جُهد إنتاجي في هذا المضمار منذ ما لا يقل عن سنتين، وكل إنتاجي وجهدي صحفي بشكل أساسي الآن.

لدي اهتمام بالأدب، لكنني لم أكتب قصة منذ ما لا يقل عن ثلاث سنوات للأسف. وبالفنون السمعية والبصرية، وبالتراث. لكن كما قُلت توقّف إنتاجي في هذه الأمور، لذا هي الآن اهتمامات من باب الهواية إن صحّ التعبير، وحينما يسمح لنا الوقت. وعليه أُعرّف نفسي: صحفي من مصر فقط.

أمّا "مجموعة الجنوب"، فصحيح، أنا أحد ثلاثة مُؤسسيها، وهي بمثابة امتداد لمدرسة فكرية كانت في التسعينيات في مصر، وأحد أعضاء هذه المدرسة كان بمثابة الأب الروحي لمجموعة الجنوب. ولكن على كل حال أيضًا كان لمجموعة الجنوب وقتُها، حينما كانت موائمة للضرورة والظرف، أمّا الآن فقد تحللّت كمجموعة حركية، وانتهت أنشطتها.
القاعدة الفكرية للحركة وأعضائها آنذاك، والتي بالنسبة لي حدثت فيها تغيّرات، وإن كان الأساس موجود؛ هي -إن صحّ لي وصفها بذلك- إدراك ضرورة الوقت وما يقتضيه الظرف. والديالكتيك والمادية التاريخية، يُمكن بهما تفسير الكثير في هذا الصدد بشكل أساسي. بالطبع القراءات اليسارية المتقدّمة مهمة، الحديث عن الخطاب والمعرفة لدى فوكو وعن الثقافي والمجال العام لدى جرامشي، جميعها في القاعدة الفكرية للحركة. ومن مفهوم الخطاب كما لدى فوكو أنتجت المجموعة كتاب "الداخلية ومحاولة إحياء الموتى". سحبته المكتبات المصرية بعد الثالث من يوليو 2013، وأنا أتفهّم ذلك جيدًا على كل حال.
الداخلية و محاولة إحياء الموتى: غلاف الكتاب الأول لمجموعة الجنوب، تأليف: د. أسامة القفاش، م. محمد بلال، أ. محمد العتر، م. عبد الله بلال السعيد

وفقًا لقراءتي الشخصية، لا أرى تعارضًا بين المادية التاريخية من عدة أوجه وبين القضاء والقدر، إن صحت هذه الصورة، فالاثنان يسيران بشكل متوازٍ، ويتقاطعان مع كل حدثٍ فارق في مسيرة المجتمعات نحو التطور. الموضوع بنظرة مُختلفة، مرتبط بالوقت ومفهومه، وبنظرة أشعرية للقضاء والقدر، وصوفية للزمان، تستطيع أن تتفهّم معنى أنّ وعي الناس مرتبطٌ بوجودهم الاجتماعي في لحظة تاريخية معينة، عند الماركسيين.

الوعي وإرادته عند ماركس محكوم بالظرف التاريخي، وعند ابن عربي محكوم بالزمان: "كل حال يدوم زمانين لا يُعوّل عليه". حركة التاريخ حتمية عند ماركس، والوقت عندنا أيضًا سابقٌ في وجوده آنيّ في حدوثه، وعلى هذا قِس.

هذا المقصود بـ"المنظور الإسلامي المختلف"، وهو على كل حال تعبير يُمكنني أن أكون صريحًا معك الآن، وأقول لك إنه قد يكون مضللًا، وإن كان له سياقه أيضًا. فالرؤية ليست "إسلامية" بالمفهوم الحديث للإسلامية أو الإسلاموية كما أُفضّل تسميتها، وهي الممارسة الحركية التي يُفضّل أصحابها لضمان صك الشرعية المجتمعية، أن يلفقوها للإسلام. لذا فالأفضل أن نقول إنها "تتمسك برؤية معرفية إيمانية"، وإن كان ذلك أيضًا غير دقيق بما يكفي.

شكرا لصراحتك.
أود أن اكون بدوري صريحا، و أن اعترف بإعجابي بقدراتك على استثمار المعرفة الفلسفية و تلك التي تنتمي لحقل العلوم الإنسانية ضمن مقالاتك السياسية.
نشرتَ في «ساسة بوست» سنة 2016 مقالا بعنوان:
هل تتجه الدولة المصرية نحو الفاشية؟
ينطلق المقال من مقولة ماركس الشهيرة: التاريخ «يُكرر نفسه مرتين، الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة» ليبحث في أوجه التشابه بين أداء الرئيس المصري السيسي، و بعض لحظات سيرة موسوليني... و ينتهي بمقارنة معبرة بين شعار هتلر: «ألمانيا فوق الجميع» و «مصر أم الدنيا، وهتبقى قد الدنيا» التي تضمنها خطاب ألقاه السيسي سنة 2013 في قاعة تابعة للجيش .
لو كنت مصريا ( و أظن أن العرب جميعا، يرون أنفسهم، بشكل أو آخر مصريين) لما امتلكتُ الشجاعة الكافية لكتابة مثل هذا الكلام.. ألا تخشى على حياتك أو حريتك حين تنتقد بهذه الجرأة نظاما موسولينيا حسب مقالتك؟


بالطبع ينتابني الخوف ما بين الحين والآخر، مع حالة الرقابة الشديدة خصوصًا. لكن في النهاية تدفعنا لذّة العمل على إنتاج قصّة أو مشهد تقريري لم يُلتفت إليه كثيرًا من قِبَل المعارضة المصرية الحركية والفكرية؛ إلى الاستمرار وإكمال القطعة التي أعمل عليها، وهكذا كان الحال مع مقال الفاشية في مصر، ومع غيره من المقالات والتقارير.
نعم تشهد مصر صعودًا للفاشية بمفهومها المعرفي، لكنّ هذا الصُعود للحقيقة هيّأت له أوضاع تسبق على السيسي. الإخوان كانوا يُمثّلون صعودًا للفاشية في المجتمع من وجه آخر. هناك العديد من الأحزاب السياسية التي تصف نفسها معتدلة، كحزب مصر القوية، كانت تتبنى خطابًا فاشيًا شديد الخطورة بالمناسبة، وللسخرية لم تكن على دراية بذلك.
أرى الفاشية الآن خطابًا عامًا في المجتمع، بتفاعلٍ من الأعلى للأسفل، من السلطة للجماهير ومن الجماهير للسلطة. والحق أنّه في السياسة، ومع خصوصية مجتماعتنا، فإنّ إدراك طبيعة اللحظة التاريخية وما تقتضيه هو ما فعله السيسي، وهذا حديث سيغضب الكثيرين منّي.
يُمكنني أن أختلف مع السيسي حقوقيًا وأخلاقيًا ومبادئيًا حتى، وأن أندد بالمظالم والمقاتل، وبالعديد من تحركاته، لكن في النهاية لا يمكنني إلا أن أقول إنّ الرجل يُحقق المكاسب على أرض السياسة، بما تحمله كلمة السياسة من كل سوء، وسبب ذلك للأسف أنّ المشهد السياسي المصري، ومنذ 25 يناير، لم تطرح الفصائل السياسية فيه خطابًا حقيقيًا متبلورًا، يتماس مع تطلعات الشعب، وفي نفس الوقت يُدرك ماهيّة "الدولة" وما يُحيط بها من أخطار حقيقية، ليست أقلها الجماعات الإرهابية، فضلًا عن الخطابات الفاشية.

حتى الإخوان، ورغم أنّ الرهان كان عليهم كونهم المجموعة الأكثر تنظيمًا ومن داخل الشريحة الأكثر وطنية في الطبقة البرجوازية، أو هكذا كانت؛ إلا أنّهم للأسف الشديد أغبياء بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وانكشف خواءهم. ليس لديهم مشروع محدد على عكس ما كانوا يُسوّقون. دعموا الأجهزة المعادية لهم داخل النظام (الشرطة)، وخاضوا حربًا خاسرة شديدة الخسران مع أولاد عمهم كما أحب تسميتهم، أي الجيش، والذي أرى أنه يمثل هو الآخر البرجوازية الوطنية، وأن التحالف بينه وبين الإخوان كان ليثمر الكثير في صالح مصر.
لكن الإخوان يا عزيزي، انحازوا أكثر لـ"الجماعة" على حساب "الدولة"، كرّسوا لكونهم "مجموعة وظيفية" داخل الدولة والمجتمع، وصعّدوا لذلك أشد التصعيد، وتخيلوا أنهم كانوا قادرين على شراء ولاء الشرطة بمزيد الدعم والتمويل وشراء الأسلحة الجديدة وإدخال الطائرات الهيليكوبتر في الخدمة الشرطية لأوّل مرة، وزيادة ميزانية وزارة الداخلية إجمالًا. ولكونهم في النهاية جماعة وظيفية منغلقة، كانت لديهم بعض الشكوك التي دفعتهم للأسف الشديد إلى بناء تنظيم موازٍ مُسلّح، وتدريب أعضائه هنا وهناك، وهذا كلام أقوله بناءً على شهادات داخلية، وليس كلامًا مُرسل. وهكذا كان الحال أيضًا في التعامل مع اقتصادهم الخاص الموازي لاقتصاد الدولة.
باختصار كان مُستحيلًا مع غباء الإخوان أن يستمروا في الحكم، وتحركاتهم كُلّها تشي باستمرارهم في التعامل مع نفسهم كمعارضة داخل الدولة، وتنظيم موازٍ لا تتقاطع مصالحه كثيرًا مع الدولة، وإن كان يستفيد منها ومن سلطته داخلها.
ما آمل إليه الآن في ظل هذه الأجواء المشحونة، وهو أيضًا ما كتبت عنه من قبل مرارًا، أن تحدث المصالحة الوطنية الحقيقية، وأن تنتهي القبضة الأمنية في البلاد، وذلك لن يحدث إلا بأن يُقدّم الإخوان تنازلات حقيقية خصوصًا أنّهم الطرف الخاسر. تنازلات تصل إلى إعلان القيادات الكبيرة حلّ التنظيم، وإذا أرادوا العودة للعمل الخيري الاجتماعي في النطاق القانوني، واعتزالهم العمل السياسي لسنوات، وإعادة هيكلية وجودهم في حزب سياسي مُشهر وقانوني، والتبرأ من كل أعمال العنف في البلد.
إلى الآن هناك مجموعة إرهابية واحدة على الأقل مُسلّحة، وهي "حسم" لم يتبرأ منها الإخوان حتى الآن، وهي مسؤولة عن تفجيرات واغتيالات. هذه معركة صفرية تخوضها الجماعة لن تُثمر إلا مزيدًا من الخسران المبين، وفي المقابل أبناؤها وشبابها في المعتقلات لا تسأل فيهم ولا تلقي لهم بالًا. فليقدموا التنازلات ليخرجوا المعتقلين، ويتوقفوا عن السياسة قليلًا على الأقل لمصلحة البلد. الإخوان هم السبب الرئيسي في الاحتقان الذي نشهده في مصر. لا يمكنني إلا أن أُلقيَ باللوم عليهم أوّلًا وقبل أي أحد.

بينما تبدو لغتك فيما تكتبه من مقالات، قوية و عالمة و صارمة في نقدها لأخطاء الإخوان أو إخفاقات النظام الحالي، تنزاح لغتك السردية نحو المفارقة الساخرة، و الحكي التلقائي المترفع عن التكلف و الإصطناع. قرأت نصوصك السردية المنشورة بين سنتي 2012 و 2013، و أدرك أنك لسبب ما قررت الإنقطاع عن كتابة القصة ( أو نشرها على الأقل، كما آمل ). لكني أتمسك بسؤال ما استطعت مفارقة قصصك دون طرحه.
تنشر في مدونتك ثلاثة قصص، أو ستة نصوص سردية، حيث أن القصة الواحدة قد تتضمن نصين سرديين أو أكثر. النص المعنون: "يأتيهم من بين أيديهم فيأخذونه من خلفهم"، يسرد حكاية "عايدة"، العاهرة أو الخائنة بنت "عائلة المغربي"، و هي كما يقول النص من " أعرق العائلات وقد وفدت من المغرب العربي ".
"جواهر" هي بطلة الحكاية الثانية في النص، و هي عاهرة نحكها "الشيخ درويش"، فأنجبت "رزق" و أقام لها الناس بعد موتها مقاما.. و "رزق" (ابن الحرام ) هذا، هو بطل الحكاية الثالثة المعنونة " رزق .. ابن المتناكة" و قد عاش على سيرة أمه و ظن الناس أنه صاحب كرامة، و كان يحظى بزيارات من أهل المغرب للتبرك به.
سؤالي هو طبعا عن دواعي هذا الربط الحكائي المتردد بين مسارات في الشغب الجنسي و أهل المغرب؟
هل هو ربط عرضي ؟
هل تعكس هذه النصوص مخيالا حكائيا عربيا يقرن المغرب بممارسة الدعارة؟



الحقيقة لا أفكر كثيرًا عند الحكي أو كتابة القصة يعني، تحديدًا في الفترة ما بين ٢٠١٢ و٢٠١٣، وهي الفترة التي ارتبطت فيها أكثر بمدرسة سردية، تعطي للحكي في حد ذاته وروايته قيمته باعتباره الهدف من السرد، بلا قصد ترميزٍ أو خلافه، وإن كان الترميز يخرج من الخيال واللاوعي
بهذه الطريقة، والتي كنت أجرّب فيها الحقيقة خلال هذه الفترة، أتحرر، أو قل أتجرد من وعيي إلى حد كبير، وأترك الباقي لخيالي الذي لم ينفصل يومًا عما عاينته وسمعته ومررت به.
وكان هذا أسلوبي في كتابة القصة المذكورة في سؤالك، لذا فأنا لم أقصد بوعي أي إشارة تعبر عن مخيال ما. هناك في قريتنا عائلة تسمى المغربي بالفعل ويقولون إن أصولهم مغربية، وهم من "كبارات" القرية، والكبارات في القرية قليلون، فكانت الاستعانة بلقب العائلة. هناك أيضًا ارتباط شعبي كبير بين المشرق والمغرب، من جهة أن المغرب بلد التصوف، وتحديدًا التصوف الفلسفي، ويقدم إليها المشارقة أو يستدعون أهلها لهذا السبب، فكانت مفارقة أن يحدث العكس بأن يأتي أهل المغرب للتبرك بصوفي في المشرق، ومن جهة هو قريبهم بحكم نسب رزق.
الآن وأنا خارج النص، وإن صح لي تحليله من هذا الموقف، فسأقول لك إنه إن كان من وراء النص قصد سوى الحكي، فهو إعادة الاعتبار للبناء القصصي الاسطوري التراثي. سترى ذلك بوضوح في نص آخر بعنوان "المختار فيما ورد عن الشيخ جابر من أخبار". ميزة مثل هذا الأسلوب، الذي استلهمت كثيرًا منه من الروائي المصري الرائع أحمد والي؛ هو أنه ينبش في قصص واقعية بدرجة كبيرة لكن في بعد زمني/حضاري مختلف، لتبدو للقارئ من أهل الحضر والمدينة، أسطورة، ويعزز أسلوب الحكي ذلك مع التكثيف.

هناك بالطبع حضور قوي للحكاية ضمن نصوصك، هذا ما أحبه شخصيا كقارئ، لكن بنية هذه النصوص، بما تتضمنه من سلوك غير متوقع للشخصيات، و إيقاع حكائي متسارع، و نهايات مفاجئة ، سوداوية غالبا، إضافة للحضور اللافت و المكثف للسارد كما في نص "أهل الله" يجعلها في نظري تتجاوز عتبة الحكاية التقليدية نحو قصص قصيرة تنبني على اقتناع خاص بقيمة الحكاية ، صحيح أن الموت يختم بشكل ضمني أو صريح أغلب نصوصك، لكنه يحضر باستمرار كلازمة دائمة لفعلي الحب و الجنس، إنه حضور فلسفي في نظري.
عن هذا أود أن أستفسرك، إن سمحت لي بسؤال أخير، هذا الحضور اللافت لتيمة الجنس داخل نصوصك السردية و عدد من أبحاثك في الثقافة العربية، هل ولى بشكل دائم اليوم؟ لماذا تكتب عن الجنس كقاص و باحث لكنك لا تكتب عنه كصحفي؟


الحب ثم الجنس، هما مفتتحا الحياة، والموت ختامها؛ لابد أن أهتم بهما اهتمامًا خاصًا، وأن يظهرا في معظم سردي، تحديدًا الموت الذي شهدناه مرارًا في مصر السنين الماضية.
لي تجاربي الخاصة مع الموت، الموت على السرير وفي الميدان. وأزعم أن قضية الموت بسبب ما شهدته كان لها تأثير كبير عليّ. بالنسبة لي، وأعتقد لغيري الكثير؛ الموت هو سؤال ملح، كونه حلقة وصل وباب بين الدنيوي والغيبي. وللعجب أن علاقتي بسؤال الموت سابقة على علاقتي بسؤال الحب والجنس. الأمر بدأ معي بالعكس إن صح القول، وهذا مرتبط بالثورة المصرية ومشاهدها التي تكرر فيها الموت وعبر أمام عيني.
أما الحب ثم الجنس، فهما السؤالان الأكثر شغلًا البال والتفكير الشعبي والنخبوي إن صحت هذه التسمية الأخيرة. وبالنسبة لي أحب دائما أن أقول إنني تعلمت الحب بالطريقة الصعبة، تعلمته كمفهوم وفلسفة ومعتقد بعد التجربة الصعبة على المستوى الشخصي، وأصبحت لديّ رؤية للحياة تنطلق من مفهومي عن الحب الذي يمكن اختصاره في بيت ابن عربي "أدين بدين الحب" ، وأتمنى أن أكون قادرًا على أداء فرض هذا الدين.
أما الجنس، وباعتباره حلقة الكمال في الحب، والمزج ما بين الروحاني والشهواني، وطريق الوصول في التنترا وعند بعض المتصوفة، فالاهتمام به ليس من جهة طرق التابوه الكلاشيه، وإنما من جهة التمعّن والبحث في كنهه وماهيته.
على جانب آخر الحكي في الجنس في اعتقادي هو طريقة للتجرد من مثالب الحداثة المُحافظة وما تركته فيّ كأحد الأبناء الصالحين للبرجوازية المحافظة جدًا في أحيانٍ كثيرة. وربما إجمالًا هذا النزع بين انتمائي الثقافي الطبقي وبين ما أؤمن به، دفعني للجوء إلى بيئة مختلفة، فيها الجنس ممارسة معتادة، ويقولون "ناك" و"كس" بدلًا من "نكح" و"فرْج" وعلى هذا المنوال قِس. قد يبدو الأمر مضحكًا أو حتى طفوليًا، لكنها تظل تجربتي للانعتاق من أسر خطاب وثقافة نشأتُ داخلها.
في نفس السياق أكتب عن الجنس من جهة البحث، يمكنك القول إنها بمثابة محاولة للتأكيد على أن السائد الآن من جهة المحافظة الدينية والعرفية، لا يرتبط كثيرًا بماضينا.
لم أكتب قصصًا صحفية عن الجنس، ربما لم يتسن لي ذلك. وعلى كلّ لدي قصة صحفية أفكر فيها تتماس مع الجنس بشكل ما، ربما أتحمس لكتابتها في وقت ما.

محمد العتر
 
التعديل الأخير:
تحية للاخوين السي جبران الشداني ومحمد العتر ..
ونشكر المبدع محمد العتر على مكاشفته وصراحته .. محمد العتر من جيل تربى ادبيا على موجة ما اطلق عليه ادوار الخراط الحساسية الجديدة .. جيل يحيى الطاهر عبد الله وعبد الحيم قاسم وعبده جبير واحمد هاشم شريف وغيرهم .. سرد ثائر يفجر اللغة ويعيد شعرنتها وسبكها في قوالب حداثية رائقة .. وهي احدى السمات الاساسية للتعامل مع النصوص و التي راقت ذائقتي الادبية زيادة على توجهه التنويري ووضوحه واختياره الايديولوجي المنفتح ومواقفه الجريئة
 
أعلى