دراسة محمد عبد الحليم غنيم: قراءة فى مجموعة هرش دماغ للكاتب إبراهيم عطية

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

إبراهيم عطية


هذه هى المجموعة القصصية الرابعة للكاتب ابراهيم عطية ، والصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة تأتى تحت عنوان’’ هرش دماغ‘‘. والمجموعة تضم إحدى عشرة قصة يسبقها إهداء شاعرى مؤثر من المؤلف الى والدته ، وهو ما سنأتى إليه فيما بعد ، أما القصص فهى على الترتيب : كلام ليل – الناموس - حرامى الورق – المماليك – النوافذ- ثوار الأسمنت – تل بسطة – عطر الحرية – هرش دماغ – فوران دم – دموع سعيدة " لا تزيد أطول قصة عن اثنتى عشرة صفحة ، وأقصر قصة عن صفحتين ، على حين معظم القصص فى المجموعة لا تزيد عن خمس صفحات ، أما القصص الطويلة إذا جاز التعبير فعددها أربعة وهى حسب ترتيبها فى الطول : كلام ليل – هرش دماغ- فوران دم – دموع سعيدة

دفعنى الى الحديث عن طول القصص وقصرها فى المجموعة مسألة مهمة جدا تفرضها علينا قراءة المجموعة ألا وهى بناء القصة القصيرة وشكلها ، إذ يبدو أننا فى حاجة فى بعض الاحيان إلى أن نذكر كتاب القصة القصيرة بسمات هذا النوع وأصوله الفنية وذلك لاستسهال بعض الكتاب كتابة القصة والادعاء أنها قصة فى حين أنها تفتقد إلى أبسط قواعد القص والقصص القصير بشكل خاص .

وابراهيم عطية ليس بالكاتب المبتدئ فهذه مجموعته الرابعة ، والتجريب السردى هو مفتاح فهم هذه المجموعة ، ولربما فهم سرود الكاتب ، إذ يحاول فى كل مجموعاته السابقة ممارسة هذا التجريب ففى المجموعة السابقة( صيد المطر) على سبيل المثال حاول الاستفادة من التراث الشعبى الممثل فى أسلوب الحكى و توظيف الأغانى الشعبية ، أما التجريب هنا ، فيتطرق فيه الكاتب إلى الشكل القصصى .

" كلام الليل "

"مع بزوغ نور الفجر انصرفنا نحن الثلاثة إلى بيوتنا ، و لم يبق من كلام الليل البارد سزى آهات وجع ووعد باللقاء و مواء قطط واوا واوا "ص 14
هذه العبارة هى الجملة الأخيرة فى القصة أو نهايتها ، وقد بدأت الحديث عن القصة بالنهاية التى سأدخل منها إلى المتن ، وفى المتن ثلاثة أصوات ، أولها صوت الراوى الذى يقوم بدورين : الأول تنظيمى فنى و الثانى سرد قصته الذاتية أو وجعه الخاص وربما كان الوجع الأشد والرئيسى قى القصة ، أما الصوت الثانى فيخص من شاهد الفعل وسمع صرخة القطة بوسى و حكى أصلها وكيف صارت إلى ما صارت إليه ، أما الثالث فصوت الخبير بالنساء وهو صوت مؤيد لما حكاه الثانى ومؤكد لما عناه الأول مع حبيبته بوسى أيضا والتى تعادل القطة بوسى ، إلا أن الفرق بين قطة الراوى الرئيسى وبين القطة بوسى هو أن الثانية استطاعت أن تتحدى التقاليد واختارت من تريده ومارست حقها الفطرى وإن تم فى الطريق العام ، على العكس من قطة الراوى الأول التى خضعت للتقاليد ورفضت أن تستجيب له ، بل أصرت على تعذيبه والدلال عليه وتلك طبيعة النساء فى رأى الصوت الثالث فى القصة ، ويمكنا أن تقرأ ذلك فى قول الراوى أو الصوت الرئيسى فى القصة :

" فيالتك يا بوسى كنت ترفضين الضعف وتقلعين عن عادتك التى تسكرنى كلما التقينا وتكفين عن الدلال وتتركينى أعانى الوحدة المريرة ، تصدين وتتمنعين ، لكأنك يا بوسى تتلذذين بحيرتى وعذاباتى ... يا لقسوة قبلك يا بوسى حين تركتينى وتزوجت المال ... ’’ ص 10 ، 11

ويقطع النظر عن الأخطاء الطباعية الكثيرة فى القصة وتكرار بعض الجمل ، فإن الكاتب نجح فى مزج هذه الأصوات الثلاثة فصارت صوتاً واحداً ، يؤكد وجهة النظر التى تريد أن توصلها القصة وإن اختلفت أنت معها كقارئ أو اتفققت ولكنها وجهة النظر النص المتماسك ، وهو فى النهاية كلام ليل خذه كما هو أو ارفضه ، ومفتاح القصة فى الختام هو كلمة ’’ الوجع ‘‘ التى تتردد على لسان الراوى وهو يروى تاريخ حياة تلك القطة الحقيقية التى تعادل طفل الشارع المتشرد ، بل الأصدقاء الثلاثة الذين يجتمعون فى سكون الليل بعد يوم من التعب والمشقة ، يخففون عن أنفسهم بكلام الليل .


تلى هذه القصة مجموعة من النصوص القصيرة يجمعها شيئان القصر على مستوى الشكل ، والشاعرية على مستوى الأسلوب . وهذا الذى يجعلنى أطلق عليها نصوصاً وليس قصصاً قصيراً ، فالقصص على الترتيب : الناموس ( صفحتان ) وحرامى الورق (صفحتان) والمماليك ( أربع صفحات ) والنوافذ ( أربع صفحات ) وثوار الأسمنت (خمس صفحات ) وتل بسطة (خمس صفحات) وعطر الحرية ( ثلاث صفحات ).

فى هذه النصوص السبعة يتغلب الجانب الشعرى على الجانب السردى وقد أتى هذا التغليب بنتائج سلبية ، فبهتت وجهة النظر وضعف البناء السردى ، وافتقدت النص بصورة عامة إلى وجهة النظر القائمة صراع بين وجهتين ومن ثم الانحياز إلى وجهة ما تعطى للنص فى النهاية مغزى أو فكرة أو رسالة يمكن توصليها . ولن يعدم المتلقى وجود هذه الرسالة ، بيد أنها رسالة لا تميز كل نص على حدة بقدر ما هى رسالة تجمع هذه النصوص السبعة وتستخلص منها ، والتى يمكن تلخيصها فى كلمة أو عبارة مؤداها غلبة صوت الشاعر على صوت الراوى .وهذا لا يقلل من شأن هذه القصص أو قيمتها الفنية بيد أنها تحتاج إلى قراءة أخرى ، لربما نعود إليها فى وقت آخر .

وإذا تجاوزنا هذه النصوص السبعة فسنلقى المؤلف سارداً متمكنا وموهوباً فى القسم الثانى من الكتاب ، أقصد القصص الأتية : كلام ليل – هرش دماغ – فوران دم – دموع سعيدة .

وسنقف بالتفصيل عند القصص الثلاثة الأخيرة ، بعد أن وقفنا من قبل بالتفصيل عند القصة الأولى كلام الليل

’’ هرش دماغ ‘‘ والقصة الدائرية

يتخذ المؤلف من هذه القصة عنواناً للكتاب كله . هل يريد أن يقول أن القصص كلها هرش دماغ بالمفهوم الشعبى ؟ إن أهم ما يميز قصة ’’ هرش دماغ ‘‘ انها تأخذ شكل القصة الدائرية ، فالقصة تبدأ بعد أن انتهاء الحدث فالراوى يقف منتظراً كل صباح فى الميدان بجوار جامع الفتح يسأل بل يبحث عن الرجل ذى الجلباب الكحلى الذى أخذ منه تحويشة العمر بخدعة خلاصتها أن هذا الرجل ذى الجلباب الكحلى أوهم الراوى أنه سيحول النقود إلى دولارات واستخدام حيل الدين والتأثير المناطيسى وغيرها من والوسائل لكى يحصل من الراوى على ماريد من أموال حيث تنتهى القصة والرواى ما زال يبحث عن الرجل ذى الجلباب الكحلى .. وفى ذات الوقت لديه أمل ، يهرش فى دماغه أنه قادم لا محالة .

و أقف عند جملة البداية التى يوظفها المؤلف فى نسيج القصة وختامها، تبدأ القصة بجملة : " الغراب فوق الشجرة يتأهب للطيران " ص52

لقد جعل المؤلف الغراب هنا يتأهب للطيران . مع أننا فى نسيج الأحداث سنعرف أن الغراب أخذ كل شئ وطار بالفعل . لكن كون الراوى يأمل فى عودة الغائب أو الغراب ، فربما لا يعتقد أنه قد طار ، فجعل الفعل مضارعاً ولم يجعله فى الماضى . على أية حال ، يمكن القول أن الكاتب وظف لفظ الغراب فى نسيج القصة وخاتمتها بشكل جيد . ولذلك لم يكن الكاتب فى حاجة مطلقا أن يقول لنا بشكل مباشر أن الغراب هو نفسه الغريب ، حيث يقول الرواى :

’’ منتظراً حتى المساء ... والفرحة لم تتم ، أخذها الغراب وطار أقصد الغريب الذى يلبس جلباباً كحلياً ، طويل العود على رأسه عمامة بيضاء ، عيناه العسيلتان تشعان بربقاً يخطف القلب ، ذو شارب مهذب متصل بلحية مخفية بالبياض وبشرة قمحى ..." ص 63،62

ومن ثم يمكن حذف هذه العبارة من القصة دون أن تتأثر.

فوران دم :

تعتمد القصة هنا على استراتيجية الراوى الشعبى الذى يفترض وجود مستمعين متنوعين له ، والراوى هنا صاحب محل لبيع عصافير الزينة ، لكن هل نجحت هذه الاستراتيجية ى إبراز وجهة النظر التى يريدها الراوى/ المؤلف ؟ ، إن العنوان " فوران دم " يتحقق عبر مفردات السرد البسيط المتواصل والجامع بين اللغة الفصيحة واللهجة العامية ، حيث يفور دم الراوى بل ويفور دم المتلقى أيضاً عندما يستمع لتفاصيل الحكاية . وفوران الدم يأتى من اتخاذ موقف مضاد من الراوى الداخل صاحب الأحداث ذلك الغنى الأروستقراطى الذى يصرف ألفين من الجنيهات بسبب بعض الفاش فى جوز حمام ، إن الصراع فى القصة قائم هنا بين طرفين الأول الراوى والثانى هذا الغنى ، بينما يقف الصديق صديق الغنى على الحياد وإن مال أحياناً إلى الطرف الأول ، فنجده يرفض ساخراً لغة وأسلوب حياة هذا الأروستقراطى على الرغم من الصداقة التى تجمعهما . ’’ قال صاحبه ووقف على حيله وتمطع فاتحاً فمه بتثاؤب مغلف بضحكة ساخرة ...

- يعنى بمختصر العبارة كده جوزين يمام ما يساووش خمسة تعريفة كلفوك أكثر من ألفين جنيه أنت مش شايفها واسعة شوية ‘‘ ص73

دموع سعيدة :

هذه هى القصة الأخيرة فى المجموعة ، وهى فى ظاهرها وطريقة حكيها ، حكاية ترويها امرأة تعيسة على الراوى/ المؤلف / الصحفى ، فهى أقرب إلى الحكايات الواقعية التى كنت تقرأها لعبد الوهاب مطاوع فى بريد أهرام الجمعة منذ سنوات لكننا مع ذلك سنتجاوز هذا التشابه نتلقى هذه القصة بوصفها نصاً سردياً يأخذ شكل القصة القصيرة ، ولنبدأ بالعنوان – دموع سعيدة . العنوان تقليدى أو قل صحافى ، يهدف إلى استدرار العطف والشفقة ، أما اللغة فنحن أمام لغتين : لغة الرواى / المؤلف وهى لغة فصيحة ولغة سعيدة وهى هنا لغة خليط بين العامية والفصحى ، بل هى أقرب إلى العامية ، وفوق هذا تعتمد على التكرار والشرح والتفصيل ، إنها لغة تأتى بكل عبلها ، دون تنقية أو اختيار وكأن الكاتب أفرع شريط تسجيل لحكاية سعيدة وهى حكاية مؤثرة مدرة للعطف، فضلا عن المفارقة الفجة فى الاسم فسعيدة فى الواقع تعيسة ، السؤال الآن : هل تعاطفنا - بوصفنا متلقين- مع سعيدة ؟ وبمعنى آخر وبلغة نقدية ، هل اكتسبت هذه الأحداث وجهة نظر جعلتنا نميل إليها أوحتى نأخذ موقفا مضادا ؟ يفترض أن هذه الأحداث ستجعلنا نتعاطف مع سعيدة ونبكى معها أو من أجلها ، ولكن الحقيقة أننى شخصياً بوصفى قارئاً – نظرت إلى سعيدة نظرة أخرى ، إذا رأيتها مثالاً للمرأة المصرية القوية الصبورة القادرة على التحدث وتجاوز الأزمات ، وهى بعد ما حدث لها من أذى من أزواجها الأربعة وخاصة الأخير تعيش فى كنت أسرة طيبة وتأتى للراوى تحكى له بطولاتها ، ولا مانع من نزول دمعتين أو أكثر .وما أريد أن أهمس به فى إذن الكاتب إن مثل هذه القصص التى يعتمد فيها الكاتب على حدث واقعى تحتاج إلى جهد أكبر من الكاتب ، للمحافظة على وحدة الأسلوب ومن ثم البعد عن المباشرة . أما الاهداء الشاعرى الذى سطره الكاتب لوالدته فى بداية المجموعة ، فيعد العتبة الأولى للكتاب بعد العنوان " هرش دماغ "، ولنقرأه أولا:" إهــداء إلى أمى نبض الحنان التى رحلت تاركة الحياة بلا معنى ، لكن روحها تعانقنى كل مساء ." إن ظلال بعض كلمات هذا الاهداء الشاعرى العاطفى مثل " الحنان " و" رحلت " و " الحياة بلا معنى " لتتمدد فوق معظم قصص المجموعة ، حيث ذلك الوجع الذى لمسناه فى قصة " كلام ليل" وتلك الدفقة العاطفية " دموع سعيدة " وبين هاتين القصتين هناك الضياع واليأس ومرارة السخرية والحزن فى " هرش دماغ" و" فوران دم " ، وفيض الشعر فى نصوص " نوافذ- ثوار الأسمنت – تل بسطة - عطر الحرية "

وفى ختام هذه القراءة لمجموعة ’’ هرش دماغ ‘‘ للكاتب إبراهيم عطية ، اتمنى له التوفيق والمزيد من الإبداع وآمل منه عند إعادة طبع الكتاب أن يعمد إلى تصحيح الأخطاء اللغوية والطباعية الكثيرة ، وإلى إعادة ترتيب القصص من جديد داخل الكتاب وأقترح أن يقسم الى قسمين : القسم الأول يضم القصص الواقعية الطويلة : كلام ليل – تل بسطة – هرش دماغ – فوران دم – دموع سعيدة . والقسم الثانى يضم النصوص والقصص القصيرة جميعاً .


د/محمد عبد الحليم غنيم
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى