دراسة عبد الفتاح أحمد يوسف - سيميائيات العُزْلَة وتحليل الخطاب رسالة ( حي بن يقظان) لابن طُفيل أنموذجًا

  • بادئ الموضوع د/ عبد الفتاح أحمد يوسف
  • تاريخ البدء
د

د/ عبد الفتاح أحمد يوسف

عبد الفتاح أحمد يوسف


سيميائيات العُزْلَة وتحليل الخطاب

لماذا السيميائية؟!

إذا كان الهدف من الدراسة السيميائية، هو الكشف عن المعنى في الخطاب عبر طريقة منهجية في تحليله، فإن عملية تحليله في سياق سيميائي، تطمح إلى إبرازٍ نوعيٍّ لموضوع الخطاب الذي تستهدفه الدارسة، حيث تسعى هذه الممارسات النقدية إلى إعادة فهم الموضوع ضمن أفق إبستمولوجي يكشف عن خصوصية الخطاب وأهميته. لهذا السبب اخترنا أن ندرس موضوع العُزلة - كما تناولها ابن طُفيل- ضمن أفق إبستمولجي خاص. فدراسة العزلة سيميائيا قد تختلف عن دراستها في سياقات أخرى تخرج بها عن خطاب ابن طُفيل، وهو أمر طبيعي في السيميائية عمومًا، إذ تهتم بمستوى تحليل الموضوع داخل الخطاب، مع الوضع في الاعتبار تواصلها مع مقاربات أخرى للموضوع نفسه في سياقات أخرى مرجعية، أو معاصرة ترتبط معها بعلاقة تفاعليّة. فيمكن على سبيل المثال دراسة ( المطر) بطرائق مختلفة ومتنوعة، فدراسته كظاهرة ظاهرة طبيعية – في سياق علم الفيزياء- تُعطيه معنى ما لدى الباحث في علوم الطبيعة، وهي تختلف بطبيعة الحال عن دراسته لدى الناقد – في مجال تحليل الخطاب الأدبي- في مقدمة لقصيدة عربية تقليدية يتساقط على أطلال المحبوبة، ويختلف معناه بالنسبة إلى البدوي عندما يتحول إلى سيل جارف يأتي على الأخضر واليابس. فالسيميائية من وجهة نظرنا تعني إضفاء معنى مختلف على العلامة في سياق ما، تحدّده فلسفة الخطاب، والعلامة هنا هي ( العُزلة) وما يتعلق بها من ممارسات داخل برنامج السرد في رسالة ابن طُفيل.



من المعروف أن دلالات الخطاب تتنوع بتنوّع سياقاته، خاصة حينما يتناول الخطاب موضوعات إبستمولوجية نوعيّة، مثل موضوع العُزلة. وهو ما يفعله ابن طُفيل في رسالته كموضوع، بحيث تحيل العزلة عنده على دلالات نوعيّة حول مصير الإنسان وعلاقته بنفسه وجسده، وعلاقته بالطبيعة والآخر، باعتبار ذلك كله من المصادر المهمة للمعرفة، تزيد من شُحنة الخطاب الدلالية/ الإبستولوجية؛ ومن ثمّة يمكننا دراسة موضوع العُزلة بصفتها فعلا سيميائيا يكشف عن نوعيّة المعارف التي يطرحها الخطاب، ويراهن على إحداث تغيّرات جوهريّة في تقدير الإنسان لذاته، وعلاقته بالآخرين. وهذا الإجراء سيمهّد الطريق لدراسة ما يُعرف بسيميائيات الأفكار، وفهم آليّات اشتغالها، ودراسة علائقها المولّدة للدلالة داخل الخطاب، وحركيتها الخارجية/ أثرها في المتلقي، بما يمنحها بُعدها التداولي – إلى جانب بُعدها السيميائي- بوصفها إخبارًا عن معرفة جديدة أو دليلاً عليها.

ويندرج هذا البحث ضمن موضوع سيميائيات العمل، وليس ضمن سيميائيات الهوى أو الكلام؛ لأنه يبحث في الشروط التي تتوفّر عليها الذات لإنجاز فعلها الإبستمولوجي الخاص، لاسيما فيما يتعلّق بأدوارها المختلفة في الحياة، وأنماط وجودها، ومنزلتها عندما تقع أسيرة للعُزلة؛ ومن ثمّة ينطلق البحث من دراسة موضوع العُزلة بوصفه فضاءً معرفيًّا يسبق فعل إنتاج الخطاب، ويُعد هذا الفضاء شرطًا من شروط إنتاجه، ويمكن دراسته بوصفه علامة رمزيّة على موضوع العُزلة ( تكون العلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية – عُرفيّة- وغير معلّلة).ويُمكن دراسة العُزلة – في هذا الخطاب-باعتبارها إشارة/ علامة إبستمولوجيّة على رغبة الذّات في إعادة اكتشاف المعرفة من خلال العُزلة ( تكون العلاقة بين الدال والمدلول علاقة سببيّة ومنطقيّة).

لقد خاض ابن طُفيل معركة حقيقية لكي يُقنع القارئ بالقيمة الإبستمولوجية لموضوع العُزلة، وبانتصار للعقل على نمط الحياة الثقافي المؤدلج، وتقديم إجابة لسؤال جوهري: إلى أي مدى يمكن أن تؤثّر الاكتشافات الجديدة على علاقتنا بأنفسنا؟! أملاً في لفت انتباه القارئ إلى أهمية التقارب بين الإنسان وذاته من خلال العُزلة.

ويهدف البحث إلى:

· التساؤل حول جدوى المقاربات السيميائية في الكشف عن جوانب نوعيّة لموضوعات الخطاب السردي العربي القديم تُعدّ إضافة إلى اكتشافات المقاربات المنهجيّة الأخرى.

· تفكيك العلامات الخطابية الفارقة في رسالة ( حي بن يقظان) وإعادة صياغتها في خطاب نقدي يكشف عن آفاقها المعرفيّة، ويناقش تحوّلات الذات وقدراتها على إنتاج خطاب معرفي عندما تقع أسيرة محنة العزل.

· الكشف عن الإيحاءات الإبستمولوجيّة للخطاب وإحالاته الثقافيّة على المرجعيّات المختلفة.

تُعدّ سيميائيات العُزلة في رسالة ابن طُفيل علامةً على أنموذج خطابي يستوعب قدرات الذّات المعرفيّة على اختراق الحدود الفاصلة لعدد من الثنائيات المعرفيّة مثل: النقل/ العقل، الانفصال/ الاتصال، الموت/ الحياة.. حيث تقوم الذّات بفعلها المعرفي في هذا الفضاء بما يمكّنها من العيش خارج إطار العُزلة؛ ويجيب البحث عن التساؤلات التالية:

1 ـ كيف يمكننا فهم علامات الخطاب بوصفها حضورًا ( لغة) يُضمر غيابًا ( معرفة)؟ وتفسير إحالات الغياب على الحضور من خلال دراسة الحضور بوصفه علامات إبستمولوجية على هذا الغياب؟

2 ـ هل ثمّة علاقة خاصة بين الكلمات بوصفها حضورًا، والأشياء بوصفها غيابًا في خطاب السرد العربي القديم لاختلاف مرجعياته؟!

3 ـ كيف يمكننا فهم جماليّات خطاب العُزلة من خلال دراسة ثنائياته المعرفيّة سيميائيًّا؟

وتمكننا الإجابة عن هذه الأسئلة كلها عبر المحاور التالية:

المحور الأول: العُزلة وسيميائية الممارسات المعرفية.

المحور الثاني: البُعد السيميائي للثنائيات المعرفيّة في خطاب العُزلة.

المحور الثالث: سيميائية اللغة في خطاب العُزلة.















































المحور الأول

العُزلة وسيميائية الممارسات المعرفية


موضوع الخطاب/ برنامج السرد:

يذهب باتريك شارودوPatrick Charaudeau ودومينيك منغنو Dominique Maingueneau إلى أن موضوع الخطاب يتكوّن حدسيًّا " من الأجزاء القولية التي تُحيل في نص أو محادثة على ما هو معنيٌّ من الأمور ... وفي إطار المنطق الطبيعي، يشير هذا المصطلح إلى كائنات منطقيّة وسيميائية في آن واحد تم تحيينها في النصوص بعبارات اسمية، ويمكن حسب الصيغة الدينامية للترسيمة، أن تُعاد صياغتها بإثرائها، أو تبسيطها في مجرى الخطاب".(1) ورسالة ابن طُفيل هي خطاب إبداعي يُحيل على قضايا إبستمولوجية يمكن من خلال دراستها سيميائيًّا، إدراك قدرة العقل الإنساني في الاعتماد على نفسه كمرجعيّة، من خلال ممارساته: التأمّل، والاستنتاج، والاستنباط، والاكتشاف؛ لتأسيس خطاب إبستمولوجي يكشف عن أسرار الحياة، ويقدّم تفسيرات مهمة لعلاقة الإنسان بنفسه، وبخالقه، وبالطبيعة.ومن ثمة فالمتأمّل في رسالة ابن طُفيل، يكتشف أن البحث عن المعرفة، وطرائق استنتاجها، وارتباط الاثنين بقدرة العقل الإنساني على التأمّل، هو موضوع الخطاب الأساس. وتمثّل العُزلة فضاءً إبستمولوجيًّا يسمح للعقل بالتأمّل وإنتاج المعرفة؛ ومن ثمة اتساع هذا الفضاء لاستيعاب الفعل الإبستمولجي الذي تترتب عليه جميع نتائج الفاعل، وتُعد العُزلة ضربًا من تحرر الذات، وملاذًا آمنًا للذات بعد هروبها من هيمنة الأنساق السائدة وسلطتها ومعارف أصحابها، ويستطيع العقل من خلال عُزلته التألّق والإبداع والاكتشاف، بعيدًا عن القُيود والشروط المسبقة؛ ومن ثمّة تُصبح العُزلة سببًا مهمًا من أسباب الوعي بالذات وتطور معارفها؛ لأن فضاءها الإبستمولوجي يسمح بنضج الوعي الذاتي من خلال أفعال الإبستمولوجيا: التأمّل، والملاحظة، والمراجعة؛ والنقد؛ وانتهاءً بالقدرة على الاكتشاف والإبداع.

فالمعرفة الإنسانية، وأسباب الحصول عليها، وطرائق استيعابها، وآليّات تأملها، وإعادة إنتاجها، هي موضوع الخطاب الأساس في رسالة حي بن يقظان، حيث يتوسّل ابن طُفيل للكشف عن هذه المعاني والممارسات بأسلوب سرديٍّ متدرّج تدرّجًا تصاعديًّا مراعيًا الأسباب المنطقيّة للحصول على المعرفة؛ ولهذا يُمكننا دراسة هذا الخطاب باعتباره " أصل تمشّيات تهدف إلى التمكين من اكتساب المعارف أو إثارة مواقف أو أحكام قيميّة".(2) فالرسالة تحكي باختصار سيرة الطفل ( حي) الذي ولد من أم شقيقة ملك إحدى الجزر الهندية، ومن أب قريب لها يُدعى ( يقظان) كانت الأم قد تزوجته سرًا خوفًا من شقيقها الملك الذي منعها من الزواج منه، وبعد أن وضعت الأم الطفل أرضعته ووضعته في التابوت وألقته في اليم خوفًا من بطش الملك، وحملت الأمواج التابوت وبداخله الطفل إلى جزيرة مجاورة تسمى ( جزيرة الوقواق)، وهي جزيرة لا يسكنها سوى الحيوانات ، وصادف أن مرّت ظبية تبحث عن وليدها الذي فقدته، فسمعت بكاء الطفل، فأخذته وأرضعته حتى كبر، ومرّ الطفل (حي) بمراحل مهمة في حياته داخل هذه الجزيرة المعزولة عن البشر. ويمكننا من خلال دراسة هذه المراحل تتبع برنامج السرد الذي عمد إليه ابن طُفيل للبحث في أسباب المعرفة الإنسانية، ويطلق جريماس( Greimas) عبارة البرنامج السردي على " تتابع الحالات والتحوّلات التي تترابط انطلاقًا من علاقة بين ذات معينة وموضوع محدد وما يطرأ عليها من تحوّل، فالبرنامج السردي يضم عددًا من التحوّلات المترابطة التي تندرج في سلّم تراتبي. إن سلسلة الحالات والتحوّلات التي يتكون منها البرنامج السردي تخضع لقواعد منطقيّة، وهو ما يُفسّر الحديث عن برنامج. وما هدف التحليل السردي إلا أن يصف تنظيم البرنامج السردي ويبرز هذا التتابع المنظّم الذي يظهر فيه".(3) ولعل المتأمّل في رسالة ابن طُفيل يكتشف ارتباط تتابع التحولات السردية، بنمو التفكير عند ( حي) من ناحية، وارتباطها أيضًا بموضوع المعرفة الإنسانية وتطورها وارتقائها من ناحية ثانية، والملاحظ أن (حي) مرّ في حياته بسبع مراحل تمكن من خلالها الحصول على المعرفة بنفسه لأنه عاش معزولاً بمفرده وسط هذه الجزيرة يتعايش مع الحيوانات التي تسكنها، وهذه المراحل هي:(4)

المرحلة الأولى: حضانة الظبية للطفل (حي) ورعايتها له، حتى إذا بلغ سن السابعة كان قد تعلّم محاكاة أصوات الحيوانات وألف عددًا منها، وتعلّم ستر عورته، واستعمال العصا للدفاع عن نفسه، فالمحاكاة، يمكن تأويلها في هذا السياق بوصفها علامة على رغبة الإنسان في التواصل، وستر العورة علامة على خصوصية الجنس البشري واختلافه – بالعقل- عن بقية الأجناس الأخرى، واستعمال العصا علامة على الإحساس بالخطر والأخذ بأسباب الدفاع عن النفس.

المرحلة الثانية: مرحلة تعلمه التشريح، حيث قام بتشريح الظبيه لمعرفة سبب وفاتها، وفي هذه المرحلة اكتشف ما في نفسه من قوى عقلية ونفسية تمكِّنه من التذكّر، والملاحظة، والتمييز، وتُعد هذه الممارسة علامة على إدراك العقل الإنساني لقيمة المعرفة من خلال الحواس والتجربة.

المرحلة الثالثة: اكتشاف النار، والتوصل إلى وجود الروح الحيواني في الجسم، وتُعد ممارسات " الاكتشاف والتأمّل" في هذه المرحلة علامة على تطوّر معارف الإنسان نحو بلوغه الحقيقة، ودورهما المؤثر في ارتقاء التفكير العقلي.

المرحلة الرابعة: عندما بلغ سن الثامنة والعشرين واكتشف أوجه الاتفاق والاختلاف بين الكائنات، فأدرك اتفاق الكائنات في المادة واختلافها في الصور، ثم صنف الأجسام إلى ثقيل وخفيف، وتفهم علّة الحوادث، وتُعد هذه الممارسات علامة على تطوّر معارف العقل بالاعتماد على المقارنات بين الأشياء؛ لاكتشاف فروق جوهرية بينها؛ ومن ثمة التعرّف على خصوصية الأنواع.

المرحلة الخامسة: وهي المرحلة التي انتقلت فيها معارفه من الأرض إلى السماء، فبدأ يرصد حركة الكواكب والأفلاك، وخرج من هذه المرحلة بمعلومات حول قدم العالم وحداثته، وتُعد هذه الممارسات علامة على شغف العقل الإنساني بالمعرفة، وتطلعاته المستمرة نحوها.

المرحلة السادسة: عندما بلغ سن الخامسة والثلاثين، وتسمى مرحلة التأمّل وإعمال العقل، فتوصل إلى أن النفس منفصلة عن الجسد، وتختلف عنه في المصير، وفي التوق إلى واجب الوجود، ويخلد حي إلى التأمل فيتجلّى له أن سعادة النفس تكون بمشاهدة واجب الوجود، وأن الخلود للنفس التي تدرك واجب الوجود، أما التي لا تدركه فمصيرها الفناء.، وتعد الممارسات في هذه المرحلة علامة على بحث العقل في أسباب السعادة داخل النفس الإنسانية، وعلاقة هذه النفس بخالقها.

المرحلة السابعة: يقف ( حي) في هذه المرحلة على أسباب السعادة وتتمثّل السعادة عنده في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، وأخذ (حي) يفرض على نفسه حدودًا لا يتعدّاها ومقادير لا يتجاوزها، فكان يأخذ من الغذاء ما يسدّ الجوع، ولا يزيد على ذلك، وتعرّف على حركة الأفلاك، وتعلّم نظافة جسمه من الأفلاك المتلألئة، وعرف أيضًا كيفية قطع فكره عن المحسوسات واهتمامه بالروحانيات، وهذه الممارسات يمكن تأويلها سيميائيًّا بوصفها علامة على تسامي النفس العارفة وتعاليها، وأن الروحانيات هي السبب الدائم للسعادة؛ ومن ثمة يمكننا إدراك سبب اهتمام الصوفية بالروحانيات.

وكان هناك جزيرة قريبة من تلك التي عاش فيها ( حي)، وهذه الجزيرة انتقلت إليها ملّة من الملل الصحيحة المأخوذة عن بعض أنبياء الله الصالحين، وكان فيها فتيان يُسمى أحدهما ( أبسال) والآخر ( سلامان)، وكان ( أبسال) ميالاً إلى المعاني الروحانيّة والاهتمام بالتأويل، وكان ( سلامان) يهتم بالظاهر، وقد سمع ( أبسال) عن الجزيرة التي يعيش فيها ( حي بن يقظان) فارتحل إليها، وتقابل معه، وتعرّفا على بعضهما بعض، وشرع ( أبسال) في تعليم ( حي) اللغة والكلام، واتفق ( أبسال) و ( حي) على الذهاب إلى الجزيرة التي يعيش فيها سلامان؛ لهداية أهلها، وتعليمهم الدين الصحيح، ولكن أهل الجزيرة أدبروا عن نصائح ( حي) و ( أبسال) فيئسا من إصلاحهم، فانصرفا وقررا العودة إلى جزيرتهما التي يعيش فيها ( حي) حتى أتاهما اليقين.

وإذا كان " البرنامج السردي يُحدد دائمًا بالحالة – أي العلاقة بموضوع القيمة- التي يؤدي إليها"، (5) فإن القيمة التي تطرحها هذه المراحل السبعة تتعلّق بقدرة العقل الإنساني على تحقيق الإنجاز من خلال ممارسات: التأمّل، والاكتشاف، والاستنتاج؛ ومن ثمّة إنتاج المعرفة للوصول إلى الحقيقة، وعلى هذا يمكننا القول: إن ( الإنجاز، والذات الفاعلة) محددان رئيسان لبرنامج السرد في رسالة ابن طُفيل، فالإنجاز ممثّل في مجموع المعارف التي توصل إليها ( حي بن يقظان) في عزلته، والإنجاز هو " العملية التي تُغيّر الحالات. أي أنها تنقل حالة الاتصال بين الذات والموضوع إلى حالة انفصال أو العكس".(6) فالموت ( موت الظبية) يُعد علامة على الانفصال، انفصال ( حي) عن أمه الظبية، وهذا الانفصال كان سببًا في اتصال ( حي) بالمعرفة، عندما حاول جاهدًا اكتشاف سبب انفصال النفس عن الجسد، وعلاقة هذا بالانفصال عن الحياة، وتُعد المعرفة علامة على الاتصال، كما الموت علامة على الانفصال، فلحظة انفصال ( حي) عن أمه " الظبية"، كانت إرهاصًا للحظات الاتصال بالمعرفة، ومن الملاحظ أن الإنجاز هنا ذو طبيعة إبستمولوجيّة معقّدة أو مركّبة، تتمثّل في الفقدان والتملك في آن واحد، والذات الفاعلة هي التي تحقق هذا التحوّل في علاقة الإنسان بالمعرفة من خلال إدراكها حقيقة الفقد/ الموت " وتشتت فكره في ذلك كلّه، وسلا عن ذلك الجسد وطرحه، وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته، إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه كانت تصدر تلك الأفعال كلها، لا هذا الجسد العاطل، وأن هذا الجسد بجملته، إنما هو كالآلة وبمنزلة العصي التي اتخذها هو لقتال الوحوش. فانتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحرّكه، ولم يبق له شوق إلا إليه".(7)

فالذات في الملفوظ السردي عند ابن طُفيل ذات فاعلة؛ لأنها حققت إنجازًا، من خلال انفصالها عن المجتمع، واتصالها بالمعرفة، فـ ذات ( حي) حققت التحوّل في علاقة الإنسان بالمعرفة من خلال إعمال العقل، والقدرة على التأمّل، وإدراك ارتباط انفصال النفس عن الجسد بالموت، وأنه بعد الموت يجب تحوّل علاقة الإنسان من الجسد إلى صاحب الجسد، ومشاعر الشوق فقط هي التي تربط الأحياء بأجساد الأموات، فالتحوّلات المعرفية في الخطاب السردي عند ابن طُفيل، تتأتّى من خلال الفعل - المتجسّد في كل مرحلة من المراحل السبعة المذكورة آنفًا- والمثير حقًا هو أن ابن طُفيل يتخيّر عمرًا مناسبًا لكل مرحلة من هذه المراحل، وفعلاً فكريًّا يُناسب كل مرحلة، فالمرحلة الأولى: مرحلة التقليد، أي محاكاة أصوات الحيوانات، والثانية: تعلّم التشريح من خلال الاعتماد على التجربة لبلوغ الحقيقة، والثالثة: الاكتشاف، من خلال اكتشاف النار، والرابعة: إدراك الحقيقة من خلال المقارنات بين الأشياء المتشابهة والمختلفة، والخامسة: تطور معارفه من خلال نقل المعرفة من الأرض إلى السماء، ورصد حركة النجوم والأفلاك، والسادسة: اكتشاف أسباب السعادة من خلال إعمال العقل، والسابعة: الاهتمام بالروحانيات، فتطوّر الشخصية الزمني يصاحبه إنجاز أفعال على المستوى الإبستمولوجي، والتحوّل السردي للشخصية صاحبة بالضرورة تحولاً في الخطاب يتجلّى في الدور الغرضي لشخصيّة ( حي) وهو دور المتأمّل الذي يبحث عن المعرفة باستمرار " وبقى يتفكّر في ذلك الشيء المصرف للجسد ولا يدري ما هو، غير أنه كان ينظر إلى الظباء كلها، فيراها على شكل أمه، وعلى صورتها، فكان يغلب على ظنّه، أن كل واحد منها إنما يحرّكه ويصرفه شيء هو مثل الشيء الذي كان يحرّك أمه ويصرفها، فكان يألف الظباء ويحنّ إليها لمكان ذلك الشبه. وبقى على ذلك برهة من الزمن، يتصفح أنواع الحيوان والنبات، ويطوف بساحل الجزيرة، ويتطلّب هل يرى أو يجد لنفسه شبيهًا حسبما يرى لكل واحد من أشخاص الحيوان والنبات أشباهًا كثيرة، فلا يجد شيئًا من ذلك ..." (8) وهذا الدور السردي يوازيه في المقام الخطابي صورة الطفل الذي يحاكي أصوات الحيوانات، وصورة الشاب الذي يبحث عن المعرفة من خلال ممارسات التشريح، والاكتشاف، والمقارنة، والرجل الذي يُعمل العقل للحصول على السعادة، فالملفوظ السردي يعبّر عن علاقة الاتصال بين الذات والمعرفة، ويمكننا النظر إلى هذه المراحل السبعة بوصفها مقاطع سردية، يؤدي فيها كل مقطع إلى المقطع الذي يليه، والمقطع السردي، هو " وحدة سرديّة مركبة من مجموع أحداث تخضع في تتابعها لتطوّر مخصوص" (9)، وعلى هذا يمكننا القول: إن المقوّم السردي في رسالة ابن طُفيل يتجلّى في الجهد المعرفي، ومسافات التأمّل الذاتي نحو بلوغ المعرفة، وكأن هذه الشخصية ( شخصيّة حي بن يقظان) تنفصل عن المجتمع لتتواصل مع المعرفة، وتنشد المعرفة لبلوغ السعادة.

الفضاء السيميوطيقي للعُزلة:

يمكننا طرح فرضيّة مفادها أن العُزلة – بوصفها سلوكًا إنسانيًّا في رسالة ابن طُفيل- تمثّل نظامًا دالاً يُمكننا تأويله سيميائيًّا في سياق إبستمولوجي، لعلّه يتقدّم بنا خطوات نحو فهم أعمق للظواهر السيكولوجيّة في الخطاب السردي العربي القديم؛ وذلك من خلال تأمّل طبيعة المعارف الإنسانية التي يمكن للعقل إنتاجها عندما يقع أسيرًا للعُزلة، ولفهم البُعد الإبستمولوجي للعلامات في رسالة ابن طُفيل يمكننا أن نعرّج قليلاً على طرح تشارلز موريس Ch.w.Morris) في كتابه المهم أسس نظرية العلامات Foundation of the theory of signs) الذي أكد فيه أن العلامة لا تقوّم إلا ضمن عملية السيميوزيس Semiosis وهي تتضمن أربعة عناصر:

العنصر الأول: حامل العلامة Sign vehicle وهو ما يقوم بدور العلامة.

العنصر الثاني: المدلول Designatum أي ما تدل عليه العلامة.

العنصر الثالث: التعبير Interpretant وهو الأثر الذي يُحدثه المتلقي في العلامة.

العنصر الرابع: المعبِّر Interpreter وهو الشيء الذي يصدر عنه التعبير ( إنسان ـ حيوان ـ جماد ..).( 10)

ويمكننا فهم عملية التدليل في رسالة ابن طُفيل كما طرحها موريس على النحو التالي:

العنصر الأول: حامل العلامة ويتمثل في رسالة ابن طُفيل.

العنصر الثاني: المدلول، ويتمثل في المعرفة الإنسانية وتطورها.

العنصرالثالث: التعبير، ويتمثل في استعدادات ( حي بن يقظان) وسلوكياته المعرفية وتناسبها مع تطور قدراته العقلية، والترتيب المنطقي لتطور المعارف الإنسانية ( التقليد، المقارنة، الاكتشاف، التأمّل، الاستنتاج)

العنصر الرابع: المعبِّر، ويتمثل في ( حي بن يقظان) نفسه.

ويمكننا تطبيق شرح ( تشارلز موريس Ch.w.Morris) للعلامة على رسالة ابن طُفيل على النحو التالي: إذا كان موريس قد اقترح تعريف العلامة على النحو التالي ( ع) هي علامة على مدلول (م) بالنسبة للتعبير (ت)، بقدر ما يأخذ (ت) بالاعتبار (م) بمقتضى حضور (ع). (11). فإنه يمكننا شرح العلامة على هذا النحو: (ع ـ هي رسالة ابن طُفيل) علامة على مدلول (م ـ المعرفة الإنسانية) بالنسبة للتعبير ( ت ـ ممارسات حي بن يقظان وسلوكياته لبلوغ المعرفة)، بقدر ما تأخذ( ت ـ هذه الممارسات) بالاعتبار( م ـ المعرفة الإنسانية وتطورها داخل العقل البشري) بحضور العلامة (ع ـ رسالة ابن طُفيل).

تستند دراستنا في هذا السياق إلى قاعدة نظرية/ تطبيقية يمكن أن نفحص من خلالها التحوّلات الدلالية المحورية لمجموعة من الممارسات الفكرية ( التقليد ـ المقارنة ـ الاستنتاج..) في سبيل حصول العقل على المعرفة، باعتبار هذه الممارسات علامات سيميائية/ إبستمولوجية يمكن تأويلها سيميائيًّا بما يسهم في تقدم الدرس النقدي نحو فهم مختلف للظواهر الخطابية وعلاقتها السيميائية بما هو خارج الخطاب، فإذا كانت السيميائية – في جانبها اللغوي- تهتم بدراسة المعرفة التي تثيرها العلامات اللغوية، فإنها لا تغفل – في جانبها الإبستمولوجي- دراسة المعرفة التي يمكن أن تثيرها الممارسات العقلية – بوصفها علامات سلوكيّة حمّالة دلالة - نحو المعرفة، وإذا كانت اللغة هي الأداة الرئيسة لحضور العلامة في الخطاب للتعبير عن الغياب/ الدلالة، فإن إنجازات العقل الإنساني يمكن اعتبارها قرائن على قدرة العقل الإنساني لبلوغ الحقيقة؛ ومن ثمّة يمكننا دراسة موضوع العُزلة بوصفه موضوعًا يشتغل بالمعرفة بما هي ممارسة دالة، أي بوصفه حقلاً للعلامات، باعتباره – في رسالة ابن طُفيل- فعلاً معرفيًّا يولّد دلالة معرفية تمنحه جميع مسوّغاته ووجوده داخل الخطاب السردي، "فمما لا شك فيه أن الإنسان يشكّل مع محيطه نسيجًا متشابكًا من العلاقات، وهذه العلاقات مبنية على أنظمة مكونة من علامات، أي أنظمة سيميوطيقية، فنحن نتفاعل مع الآخرين، ومع الطبيعة عبر علامات. يُخيفنا البرق والرّعد فنختفي في الكهوف، تُحزننا الأطلال فنتوقف عندها باكين، يقهرنا العدو فنثور، فالبرق والرعد علامتا غضب الطبيعة غند الإنسان البدائي، والأطلال علامة على ضيم الأيام عند البدوي".( 12). فالعُزلة في هذا السياق، تُعدّ قرينة على خطيئة بشرية ما، سواء ارتكبها الإنسان نفسه أم غيره، وعلامة إبستمولوجية على قدرة العقل الإنساني على تصحيح هذه الخطيئة بالانفراد وحيدًا بعيدًا عن الجماعة؛ رغبة في إعادة صياغة الواقع من خلال مرجعيّات جديدة يؤدي فيها الوعي والعقل دورهما الفاعل؛ ومن ثمّة تُشير العُزلة إلى الانقطاع المعرفي عن جميع المعارف الإنسانية التي نشأت بفعل استجابة نوعيّة للواقع. فهل يمكن إعادة إنتاج المعارف نفسها مرة أخرى من خلال واقع آخر معزول؟ أم أن المعارف الإنسانية تتغيّر بتغيّر الواقع؟!.

يمثّل موضوع العُزلة في رسالة ابن طُفيل نمطًا نوعيًّا من أنماط العُزلة، يستقي تشكّله من رغبة الذات المسرودة في التأمّل للحصول على المعرفة؛ من أجل إدراك اختلاف طبيعتها عن غيرها، ثم معرفة ما يدور حولها تمهيدًا لامتلاك المعارف التي تمكّنها من تطوير أدوات الحياة؛ ولكن هذا الشكل من أشكال العُزلة ينزاح عن أشكال العُزلة الأخرى ( النفسيّة/ الانسحاب، الاجتماعية/ الإقصاء، المنفى/ الطرد...) من حيث المعنى الإبستمولوجي والكثافة الرمزيّة، فهذا شكل من أشكال العُزلة يهتم بالبُعد الإبستمولوجي لموضوع العُزلة، فلم يكن موضوع العُزلة في رسالة ( حي بن يقظان) مادة أساسيّة لسردها، بل المعرفة الإنسانية وآليات تطورها هي مادة السرد الأساسية، يقول ( نيقولاي برديائف Nicolas Berdyaev) في كتابه ( العُزلة والمجتمع): " ليس من شك أن طلب المعرفة وسيلة من وسائل التغلّب على العُزلة، إذ تدفعنا المعرفة إلى الانصراف عن عُزلتنا المركزة في ذواتنا، وتنقلنا إلى مكان آخر وزمان آخر، حيث نتصل بالذات الأخرى، فهي فرار من العُزلة، ومخرج لمعرفة أنا أخرى، أعني العالم الإلهي. وعن طريق المعرفة يخرج الإنسان من توحّده، ويتوقف عن الحياة في نفسه ولنفسه".( 13)

ومن ثمّة فرسالة ابن طُفيل تسرد العُزلة استنادًا إلى غاية إبستيمولوجيّة تلفت انتباهنا لخطورة الخطيئة الإنسانية من ناحية، وتقدّم من ناحية ثانية، رسمًا جديدًا لطرائق الحصول على المعرفة، من خلال طرح أنموذج ترنسندنتالي للذات الإنسانية ورغبتها في تحصيل المعرفة، وتقدّم من ناحية ثالثة مناهج واضحة للحصول على المعرفة السليمة مثل: الاستقراء، والتشريح، والمقارنة .. وتحضر هذه الغايات في الرسالة من خلال آليّات السرد المعروفة.

إن إدراك النفس الإنسانية لقيمتها ووعيها باختلافها وتمايزها، يشكّل الفكرة الأساسيّة والمركزيّة التي تتمحور حولها جميع الأفكار في رسالة ابن طُفيل، وتُعدّ العُزلة مجالاً معرفيًّا لممارسة هذا الوعي؛ ومن ثمّة يمكن دراسة موضوع العُزلة بوصفها فضاءً معرفيًّا مهمًا لإدراك هذه القيمة، وملاذًا آمنًا لتحقيق جميع أشكال التأمّل والمُراجعة، وربما تكون هذه هي الفرضيّة الأساسيّة التي تقوم عليها فكرة العُزلة بوصفها علامة إبستمولوجيّة على تجاوز النفس المتأمّلة لأخطائها وأخطاء الآخرين؛ ولذا فإن استعارة السارد ( ابن طُفيل) لعناصر من السرد في القصص القرآني، والأسطوري مثل: قصة آدم عليه السلام (14)، قصة موسى عليه السلام (15)، وقصة الغراب (16) .. وغيرها من القصص، يتم في سياق إبستمولوجي، يتحوّل من خلالها الحدث التاريخي بوصفه علامة تاريخيّة، إلى استعارة سيميائية، بوصفه علامة دالة على وعي مسبق للسارد بتجارب إنسانية كان لها أكبر الأثر في نقل المعرفة بالاعتماد على قرائن دالة؛ لإعادة إنتاج التاريخ في سياق إبستمولوجي يشير إلى تطوّر المعرفة المنهجية وتطوّر الدلالة عند الإنسان. وكما يقول بيير جيرو: " كل معرفة تهدف في الواقع إلى بناء نسق من العلاقات بين العناصر المكوّنة لحقل التجربة، ويجب على هذه العلاقات عندما تصبح قيد الملاحظة وبديهيّة أن تؤدي معنى ما".(17)

تمثّل القصص الثلاثة شرطًا من شروط النشاط السردي الخاص بالبناء المعرفي في الرسالة، فبلورة خطاب سردي حول أفق الوجود الإنساني من خلال تجربته مع العُزلة، يمنحها بُعدًا سيميائيًّا خاصًا يتمثّل في كونها فضاءً معرفيّا يراجع فيه الإنسان تجربته مع الواقع؛ ليؤسس واقعًا جديدًا، وهو مافعله الأنبياء في تجاربهم الروحانية مع الخالق عز وجل؛ أملا في إنقاذ البشرية من الضلال، ولنا في تجربة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- في غار حراء مثالاً واضحًا على أهمية العُزلة، وتؤكّد قيمة العُزلة بوصفها شرطًا من شروط تجاوز الذات الإنسانية لأخطائها، وقدرة العقل الإنساني على إعادة صياغة الحياة رغم صعوبة ذلك، وإحالات السارد على تجارب أخرى تراثية، يعني سيميائيًّا الإمساك بالدلالة ضمن ما يمكن أن تُقدّمه هذه الموجودات ( القصص الثلاثة) من خلال اندراجها ضمن فضاء إبستمولوجي يستوعب حضور الماضي في الحاضر، بالشكل الذي يُعطي الحاضر معناه الإبستمولوجي، فكما بدأت مأساة (آدم) عليه السلام بالخطيئة ممثلة في أكله من شجرة الخُلد كما وسوس له الشيطان، بدأت مأساة (حي) بالخطيئة عندما حملت أمه سفاحًا من ( أبيه) بسبب رفض الملك الهندي زواج أخته من ( يقظان)، وانتهاءً بعقاب الله سبحانه وتعالى لـ ( آدم) على خطيئته بإنزاله إلى عُزلته في الأرض؛ ليكون في اختبار حقيقي أمام الله طوال حياته، كذلك انتهى أمر (حي) بوضعه في عُزلته مع الحيوانات في اختبار حقيقي لقدراته النفسيّة والعقليّة.

وكما بدأت قصة (موسى) عليه السلام بخوف أمه من بطش فرعون فألقته في اليم، بدأت قصة (حي) أيضًا بخوف أمه من بطش الملك الهندي فألقته في اليم، وكما نجا نبي الله (موسى) عليه السلام، نجا (حي) أيضًا.

وكما بدأت قصة ( قابيل وهابيل) بالحيرة بعد أن قتل ( قابيل) أخاه ( هابيل)، بدأت محنة ( حي) مع الحيرة بعد وفاة الغزالة ( أمه) التي أرضعته، وكما أرسل الله الغُراب ليُعلّم ( قابيل) كيف يواري سوءة أخيه، جاء الغُراب أيضًا لـ ( حي) ليُعلّمه كيف يواري جسد الظبية ( أمه) بعد موتها!.


المتأمل في المعنى الذي ترمي إليه هذه القصص، يكتشف تأثّر السارد بظروف دينية أفرزت جملة من المعاني جعلتها ذات طبيعة سيميائية خاصة، وينبغي لنا فهم العلاقة بين القصص الثلاثة السابقة بوصفها أحداثًا تاريخية لها بُعدها الثقافي الخاص في وعي المتلقي، حيث استند ابن طُفيل إلى الموروث الديني والثقافي؛ لتشكيل مبناه الحكائي، فضرورات الحاضر الثقافي المتطوّر والمتسم بالتركيب والتمازج التي صاحبت إنتاج هذا الخطاب، اقتضت وجود علاقات تفاعلية بين موضوعات الرسالة والموروث الديني والثقافي على مستوى اللغة، والأساليب، والأحداث؛ لعلم ابن طُفيل نفسه بأن دلالة الخطاب الكبرى، لا تنتج عن بنية معرفيّة وثقافية منغلقة على نفسها، بل عن الانفتاح على مرجعيّات ذات مصداقية لدى المتلقي؛ لأن " ما يدفع الروائي إلى البحث داخل الماضي، لهو تعرّفه فيه على نفسه، يقوم بفرز ما يمكن أن يُفهم، وما يمكن أن يُنسى للحصول على تمثيل الوضوح داخل الحاضر".(18) فخصوصية العلامة في هذا السياق، تتمثل في درجة ارتباطها بالأفعال الدلالية في النص المرجعي، وغاية العلامة في خطاب ابن طُفيل هي استدعاء فهم القارئ وإبلاغ المعنى؛ ومن ثمة فهي علامات تتطلّب تعاونًا مباشرًا بين المرسل والمتلقي، حتى يستمر فعل الدلالة في حركته الفاعلة في الوصل بين الفعل الدلالي كحدث مرجعي، والعلامة في الخطاب، وفهم المتلقي الواضح للعلامة وعلاقتها بالحدث المرجعي، وربما عمد إلى ذلك ابن طُفيل؛ لأن الفضاء الإبستمولوجي للعُزلة، يفسح المجال أمام العلامات بوصفها أفعالاً تدعو إلى التأمّل وإعمال العقل، وليس بوصفها علامات أيقونية مثل الصور؛ حيث لا يمكن ذلك إلا في الضوء، وفي وضع جسماني معين.

فإذا تناولنا هذه القصص بوصفها علامات على أفعال دلالية، يجب أن نضع في الاعتبار حقيقة سيمائية واضحة، وهي أن المعنى سابق بالضرورة على العلامات، والسيمياء لا تدرس العلامات فحسب، بل ينصب جزء كبير من اهتمامها على دراسة ما هو سابق عليها " السيمياء لا تعني دراسة العلامات، ولكن كل ما هو سابق عليها، كل ما هو ضمني فيها، كل ما يمكن أن ينتهي إلى إنتاجها".(19) وكل قصة من هذه القصص استوعبت نصوصًا سبقتها، وسعى ابن طُفيل إلى تمثّلها وإعادة إنتاجها في سياق إبستمولوجي/ ديني جديد؛ ليقدّم للقارئ رسالة سردية ليست دينية بالأساس، ولكنها رسالة إبستمولوجية فلسفية تستند إلى مرجعية دينية لتسويقها أمام المتلقي بما يجعله ينخرط في عملية التعاون المباشر بين المرسل والفعل الدلالي، ومن المثير حقًا هو استدعاء ابن طُفيل لقصص داخل السرد! وهو ما يُبرر في نظرنا دراسة هذه القصص بوصفها علامات دالة سيميائيًّا على أفعال دلالية، بما يسمح لنا البحث في الفضاءات الحضاريّة، والأنساق الثقافيّة لهذه القصص/العلامات.

فهذه القصص تشتغل في رسالة ابن طُفيل ضمن وجود سيميائي/ إبستمولوجي، فـالمتأمل في دلالة فعل ( الخطيئة) في القصة الأولى، ودلالة فعل ( الخوف) في الثانية، ودلالة فعل ( الحيرة) في الثالثة، يكتشف أن هذه الأفعال تمثّل الأركان الأساسية للفضاء السيميائي/ الإبستمولوجي لموضوع العُزلة، حيث يمكننا دراسة هذه الأفعال والانفعالات المصاحبة لها بوصفها علامات سيميائية دالة على معارف، حيث لا يمكن الفصل بين انفعالات النفس والطرائق التي يتوسل بها الإنسان لبلوغ الهدف، فـ (حيّ/ الرضيع) وإن كان علامة مادية على فعل دلالي ( الخطيئة) خطيئة أبيه مع أمه – باعتبار أن الزواج هو العلاقة الاجتماعيّة الناضجة من وجهة نظر المجتمع- فإنه يُعدّ علامة إبستمولوجيّة على النفي الاجتماعي والإقصاء لمن يخرج على قِيم المجتمع، وتأتي العُزلة بوصفها مكانًا اجتماعيًّا/ الجزيرة المعزولة لاحتضان هذه الخطيئة، هروبًا من بطش المجتمع، وفضاءً معرفيًّا لتصحيح الخطأ، ويمكِّن الإنسان من إعادة إنتاج معرفة جديدة تكشف عن قيمة العقل الإنساني، ويقدّم نماذج حياة جديدة للبشرية يتخلّى فيها الإنسان عن شروره وظلمه.

وأخت الملك الهندي ( الأم الإنسية للطفل ( حي) والتي تخلّت عنه خوفًا من بطش أخيها الملك) وإن كانت علامة مادية على فعل دلالي (الخوف)، تُعد علامة إبستمولوجية على ضعف الإنسان وانسحاقه أمام التقاليد الاجتماعية الصارمة، إلى الحد الذي يجعله يضحي بأغلى ما يملك إرضاءً للأنساق الثقافية.

و(حي/ الشاب) بعد أن كبر وصار يافعًا، وإن كان علامة مادية على فعل دلالي ( الحيرة)، يُعد علامة إبستمولوجية على قدرة العقل الإنساني في تأمّل الأشياء واستيعاب تجارب الآخرين/ تجربة الغُراب، ويؤكّد ( سعيد بنكراد) " إن وجود بنية دلالية مولدة للنص السردي وسابقة عليه، لا يعني أننا أمام قيم مضمونية تتحرك خارج البنية الزمنية المسؤولة عن تنسيق كل كون دلالي، إنها على العكس من ذلك قيم مضمونية محددة من خلال الممارسة الاجتماعية نفسها. إن هذه القيم وليدة السلوك الإنساني بكل عناصره المعقدة والبسيطة والمتنافرة. فالسلوك الفردي يدرك في ذاته كممارسة عينية، أي كتحقق خاص لشكل سلوكي عام، ويُدرك في علاقته بالسلوك الإنساني باعتباره مجموعة من السنن المتحكمة والمؤولة لما هو متحقق في شكل خاص".( 20)

فهذه القصص الثلاثة السابقة، تُشكّل من خلال نظامها اللغوي، ومن خلال تداخلها المعرفي مع القصص التراثية، الشروط الضروريّة لعملية إنتاج الدلالة، ويكشف هذا التداخل عن مهارة السارد في إعداد فضاء إبستمولوجي/ سيميائي خاص، ليُمارس الفعل السيميائي دوره في تطوّر المعنى، فإدراج السارد للقصص الثلاثة في نسق مفاهيمي دلالي مختلف، يضمن برهانيتها على نجاح عملية السرد في التأسيس المعرفي لموضوع العُزلة، وتُعد عملية الصياغة الرمزيّة، أحد أهم المكوّنات البنائية المعرفيّة لخطاب السرد في هذا السياق، فهي تقوم بمهمة أساسية مزدوجة، ففي الوقت الذي تضمن فيه عدم وجود فجوات أو فراغات إبستمولوجية داخل الموضوع/ العُزلة، تتكفّل بالوظيفة الاتصالية عن طريق ما يُعرف بالإسنادات الإخبارية، أي بانخراط الموضوع/ العُزلة في حركة التداول المعرفي عبر التاريخ، بما يضمن تلقيه الإبستمولوجي الصحيح.

تُعدّ الجزيرة المعزولة التي يسكنها ( حي) فضاءً رحبًا تتقاطع فيه جميع المعارف الإنسانية ( العلميّة، والدينيّة، والتاريخية، والفلسفيّة..) هذا الفضاء الجغرافي المفتوح على علامات إبستمولوجية/ سيميائية، يُعدّ فضاءً مثاليًّا لإعادة الاكتشاف، وإعادة إنتاج المعارف، بعيدًا عن القيود الأبويّة، والأغلال المعرفيّة، والتمايزات العرقيّة، وعندما تصبح العُزلة سياقًا لإنتاج الفكر، تتكثّف الدلالة السيميائية لمجتمع العُزلة، وتعدد مدلولاته، وتمنحه واقعًا إبستمولوجيًّا مدهشًا، بحيث يصبح هذا المكان المعزول فضاءً جغرافيًّا لإنتاج المعرفة من خلال العُزلة التي يعيشها ساكنه.

من الملاحظ أن إنتاجية المعنى في هذه القصص، تكتمل على أساس من الظاهرة الدينية، وربما تبرهن لنا هذه الإنتاجية على ارتباط الظاهرة الدينية بالظاهرة الإبستمولوجية في قرن دلالي مشترك، فالمعرفة الدينية، عندما تكون مرجعًا، تصبح دلالة على أهمية المعرفة الإبستمولوجية، وتصبح المعرفة الإبستمولوجية الجديدة علامة على تطوّر المعرفة الدينية السابقة، وعلامة عليها في الوقت نفسه؛ ومن ثمّة، فإذا كان المعنى يتم على أساس ديني بكل ما يحمله من ثِقل ومصداقية لدى المتلقي، فإنه يتم تسويقه معرفيًّا - على المستوى الخطابي- على أساس من المصداقية والوضوح.

يتسع الفضاء السيميوطيقي للعُزلة في رسالة ابن طُفيل ليشمل المسافة المعرفيّة التي تسمح لاشتغال الذات، وإعمال العقل في تأمّل الأشياء التي تبدو خارج إدراك معارفها الذاتية، ويُعد هذا الفضاء شرطًا من شروط تطوّر معارف الذات بوصفها مركزًا لوجود الإنسان، وعلامة تميّزه عن غيره من الكائنات الأخرى، بالإضافة إلى أنها السلطة المنتجة للمعرفة عن طريق التمثّل والتأمّل من خلال المحسوسات والمُدركات، فتسعى بهذه الممارسة إلى تحويل الوجود المادي العياني إلى موضوع إبستمولوجي عن طريق تأمل هذا الوجود المادي، مرورًا بإدراك الحقيقة، وانتهاءً ببلوغ مرحلة اليقين، مما يبعث على طمأنتها واستقرارها، ويمكننا فهم نزوع الذات العشقي نحو المعرفة من خلال هذا الاقتباس " فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحال: يحكي نغمتها بصوته حتى لا يكاد يفرق بينها ... وأكثر ما كانت محاكاته لأصوات الظباء في الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع إذ للحيوانات في هذه الأحوال المختلفة أصوات مختلفة فألفته الوحوش وألفها، ولم تُنكره و لا أنكرها، فلما ثبت في نفسه أمثلة الأشياء بعد مغيبها عن مشاهدته، حدث له نزوع إلى بعضها وكراهية لبعض، وكان في ذلك كله ينظر إلى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالأوبار والأشعار وأنواع الريش، وكان يرى ما لها من العدو لمدافعة من ينازعها، مثل القرون والأنياب والحوافز والصياصي والمخالب ثم يرجع إلى نفسه، فيرى ما به من العُري وعدم السلاح، وضعف العدو، وقلة البطش".(21)

تؤدي سيميائيات الجسد دورًا مهمًا في تطوّر معارف الذات الباحثة عن نفسها، فالاستصراخ بوصفه علامة سيميائية على التواصل، والاستئلاف بوصفه علامة سيميائية على الهوى والانفعالات، والاستدعاء والاستدفاع بوصفهما علامتين سيميائيتين على التعبير عن القلق والإحساس بالخطر، تمثّل رغبات الذات المعزولة في تطور معارفها من خلال هذه العلامات الصوتية والشعورية والحركية على الترتيب، والتي اكتسبتها من المجتمع المحيط بها، والفرق بينها وبين الكائنات الأخرى، أنها سوف تطور هذه الوسائل بما يجعلها مختلفة عن الذات الحيوانية، " إن الوجود لا يوجد إلا من خلال ذات تعيه، ومن خلال وعيها به، فهي تسميه وتبتنيه وتؤسسه".(22)، وأهم الإجراءات التي تقوم بها الذات للوعي بهذا الوجود، تطبيقها لفكرة المقارنة، وتحقق لها ذلك عندما أدركت - من خلال سيميائيات الجسد ( الأوبار، والأشعار، والريش، والقرون، والأنياب، والحوافر،..)- اختلافها عن غيرها؛ ومن ثمة قدرتها على الوعي بما هو موجود لتأسيس وجود جديد " وكان ( حي) يرى أترابه من أولاد الظباء، قد نبتت لها قرون، بعد أن لم تكن، وصارت قوية بعد ضعفها في العدو. ولم يرَ لنفسه شيئًا من ذلك كله. فكان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه. وكان ينظر إلى ذوي العاهات والخلق الناقص فلا يجد لنفسه شبيهًا ... فلما طال همّه في ذلك كله، وقد قارب سبعة أعوام، ويئس من أن يكمل له ما قد أضر به نقصه، اتخذ من أوراق الشجر العريضة شيئًا جعل بعضه خلفه وقدّامه، وعمل من الخوص والحلفاء شبه حزام على وسطه، علّق به تلك الأوراق".(23)

إن سلوك ( حي بن يقظان) على النحو السابق يمكننا تأويله سيميائيًّا على أنه إظهار لملكة العقل الإنسانية بوصفها علامة فارقة بين الإنسان والحيوان، فعن طريق هذه الملكة، استطاع ( حي) إدراك الاختلافات الفسيولوجية بين جسم الإنسان وجسم الحيوان عن طريق ملاحظة العقل الإنساني لسلوك الحيوان، وخصائصه الجسدية التي تؤهله للقيام بأفعاله الحركية السابقة؛ ومن ثمة إدراك العقل الإنساني الاختلاف النوعي بين الخصائص الجسديّة للإنسان والحيوان، يذهب ميشيل فوكو Michel Foucault إلى " إن نشاط العقل لا يقوم على مقاربة الأشياء فيما بينها، والانطلاق بحثًا عن كل ما يمكن أن يكشف فيها قرابة ما، أو جاذبية، أو طبيعة مشتركة بشكل سرّي، وإنما على العكس، يقوم على التمييز: أي إقامة الحيويّات، ثم ضرورة العبور إلى كل الدرجات التي تبتعد عنها. بهذا المعنى، يفرض التمييز على المقارنة البحث الأوليّ والأساس للاختلاف: أن يُعطى المرء نفسه بالحدس تمثيلاً بيّنًا للأشياء، وأن يدرك بوضوح الانتقال الضروري لعنصر ما من عناصر السلسلة إلى العنصر الذي يعقبه مباشرة".(24)

تأتي المقارنة في هذا السياق كفعل إبستمولوجي ناتج عن نشاط عقلي تمارسه الذات الواعية بالموجود؛ لتأسيس وجود جديد، عن طريق العثور على الشكل، أي تحديده؛ ومن ثمة يمكن للعقل رصد امتداداته من حيث الاتفاق مع الأجناس الشبيهة، أو الاختلاف في الأجناس غير الشبيهة، فالذات تسعى – في هذا السياق- إلى الانتقال بالموجود/ الواقع ( الغامض) إلى وجود معرفي يتسم بخصائص الوضوح، والمقارنة كفعل إبستمولوجي، تمثّل منهجًا يساعد الذات على نقلتها الحاسمة للواقع، من وضع غامض إلى وضع معلوم تستفرغ فيه طاقاتها المعرفية؛ ومن ثمة يكون الفعل الإبستمولوجي/ المقارنة، فعلاً تحويليًّا فارقًا في إنتاج وضع جديد والتأسيس له، تشعر الذات الإنسانية فيه بالاطمئنان على مصيرها.




رسالة ( حي بن يقظان) لابن طُفيل أنموذجًا-ج1


د/ عبد الفتاح أحمد يوسف

قسم اللغة العربية وآدابها ـ كلية الآداب ـ جامعة الملك سعود
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى