دراسة عبد الفتاح أحمد يوسف - سيميائيات العُزْلَة وتحليل الخطاب رسالة ( حي بن يقظان) لابن طُفيل أنموذجًا-ج2

  • بادئ الموضوع د/ عبد الفتاح أحمد يوسف
  • تاريخ البدء
د

د/ عبد الفتاح أحمد يوسف

عبد الفتاح أحمد يوسف


المحور الثاني

البُعد السيميائي للثنائيات المعرفيّة في خطاب العُزلة

تُعد الثنائيات الضدّيّة أحد أهم لوازم النقد الفلسفي الحديث والمعاصر، وجاء في المعجم الفلسفي أن " الثنائي من الأشياء ما كان ذا شقين، والثنائية هي القول بزوجية المبادئ المفسّرة للكون، كثنائية الأضداد وتعاقبها، أو ثنائية الواحد والمادة - من جهة ما هي مبدأ عدم التعيين - أو ثنائية الواحد وغير المتناهي عند الفيثاغورثيين أو ثنائية عالم المثل وعالم المحسوسات عند أفلاطون... الخ، والثنائية مرادفة للأثنينية، وهي كون الطبيعة ذات مبدأين، ويقابلها كون الطبيعة ذات مبدأ واحد، أو عدة مبادئ".(25) - ويؤكّد جان كوهين " أن الثنائية الضدية تنشأ من شعورين مختلفين يوقظان الإحساس، وواحد من هذين الشعورين فقط هو الذي يستثمر نظام الإدراك في الوعي، والثاني يظل في اللاوعي".(26) والمتأمّل في الثنائيات الضدّية في سياقها الإبستمولوجي الخاص في رسالة ابن طُفيل، يدرك أنها تنطوي على أبعاد إبستمولوجية خاصة، تهدف إلى الارتقاء بمعارف الإنسان وسلوكيّاته، وتتنوّع هذه الثنائيات بتنوّع سياقاتها، ففي سياقها المعرفي جاءت ثنائيتي ( النقل/ والعقل)، وفي سياق مصير الإنسان جاءت ثنائيتي ( الموت/ الحياة)، وفي سياق العلاقات الاجتماعية جاءت ثنائيتي ( الانفصال/ الاتصال)، وتتأسس فكرة الثنائيات الضدّيّة في رسالة ابن طُفيل على أساس التناقض بين ظاهرتين، أو معرفتين، إحداهما عكس الأخرى، ولكن لا تنفي إحداهما الأخرى، ففي ثنائية: النقل/ العقل تُعدّ المعرفة الأولى/ النقل، أساسًا إبستمولوجيًّا للمعرفة الثانية، وتُعدّ المعرفة الثانية/ العقل تطوّرًا معرفيًّا للأولى (عندما شرع حي بن يقظان في تقليد أصوات الحيوانات والطبيعة؛ ليتمكن من التعايش معهم، ثم أدرك بعد ذلك الفرق بينهم وبينه على سبيل المثال أدرك أن ليده فضلاً على أيدي الحيوانات وبدأ في استخدامها بطريقة تختلف عن استخدام الحيوان مثل ستر العورة والدفاع عن نفسه بالعصا متى أراد.

وفي ثنائية: الموت/ الحياة، تمثّل الثانية/ الحياة مجالاً لفهم غموض الأولى/ الموت ( عندما ماتت الظبية كانت دعوة للحظة تأمل الحياة وإدراك قيمتها والشروع في معرفة حقيقة الموت من قِبل حي بن يقظان، وتمثّل عملية التشريح علامة سيميائية على هذه المعرفة

وفي ثنائية: الانفصال/ الاتصال، تمثّل الأولى/ الانفصال لحظة انقطاع ليست إراديّة أو بمحض إرادته، وإنما بسبب خطيئة ارتكبها والداه، والانفصال هنا يُعد علامة على انقطاع الإنسان عن ثقافته، ورفضه لها؛ لأسباب القمع والتمييز العنصري الذي حال دون الزواج الرسمي بين الأب والأم. وتمثّل الثانية/ الاتصال، محاولة عقليه للعودة مرة أخرى إلى التواصل مع هذا العالم الذي انقطع عنه ( عندما وصل إسال إلى الجزيرة المعزولة التي يسكنها حي بن يقظان، واتفقا على الذهاب مرة أخرى للجزيرة التي كان يسكنها إسال لعلهما يفلحان في هداية أهلها). والاتصال هنا يعد علامة إبستمولوجية على اتصال الإنسان بوعيه، وكأن عملية اتصال الإنسان بوعيه لن تتم إلا بعد انفصاله عن ثقافته، والاتصال بالوعي هو الذي سيمكّنه من إعادة الاتصال بالمجتمع مرة أخرى.



النقل/ العقل:

المعرفة النقليّة نسق فكري يبحث لنفسه عن سند معرفي مسبق – تجربة أو حادثة- لتأسيس معرفة ما من خلال الاعتماد على النموذج أو المثال المنقول، وقد يكون العقل على وعي بذلك، أو لا؛ لأن هذا النموذج المنقول قد حقق جملة من الشروط والخصائص نالت إعجاب الناقل بعد اختبارها في سياق سابق وأثبتت نجاحها؛ ومن ثمة يؤكد توماس كون Kuhn ( T. S) في كتابه ( بنية الثورات العلمية) أن النماذج الإرشادية ( التجارب السابقة أو التقاليد) " أكثر إلزامًا واكتمالاً من أي مجموعة من القواعد الخاصة بالبحث والتي يمكن استخلاصها منها بصورة واضحة تمام الوضوح".( 27) ويرى أن " العلماء يعملون انطلاقًا من نماذج اكتسبوها من خلال دراستهم ومن خلال مطالعاتهم".(28) وهذا يؤكد أهمية النموذج/ التقليد في البحث عن المعرفة التأسيسية لإنتاج معرفة جديدة أكثر تطورًا، ولكن، ما الأسباب التي تجعل العقل يلجأ إلى هذا النموذج، أو النسق الفكري؟.

يحدد ( توماس كون) ثلاثة أسباب تدفع العقل إلى اتباع نسق فكري ما وهي:

1 ـ الصعوبة الشديدة التي نواجهها في سبيل اكتشاف القواعد.

2 ـ أن العلماء لا يتعلمون المفاهيم والقوانين والنظريات في صورة مجردة كشيء مستقل بذاته، بل على العكس، فالملاحظ أنهم منذ البداية يلتقون بهذه الأدوات الذهنية في وحدة تاريخية مسبقة.

3 ـ أن النماذج إنما توجّه البحث إلى الصياغة المباشرة على غرار النموذج، وكذلك من خلال القواعد المجردة.(29) وعلى هذا، تمثل المعرفة عن طريق النقل مرحلة مبكرة وأساسية في سبيل تطور معارف الإنسان، فالعمل الإنساني الذي يصدر عن رغبة ما في المعرفة، إذا كان يهدف إلى نقل واقع معرفي ليُشبع رغبة الذّات في المعرفة، فإنه يخلق واقعًا جديدًا داخل العقل من خلال هذا النقل ( تعلّم الأشياء من خلال نقلها)؛ ولذا يمكن اعتبار النقل مرحلة انتقالية، بين ظلام الجهالة ونور المعرفة، تنتقل فيها الذات من ركودها وجهلها بالمعرفة، إلى فاعليتها في إنتاج المعرفة من خلال إعمال العقل، فـ ( حي بن يقظان) حين لجأ إلى فعل النقل في أولى مراحل حياته، فإنما يصدر هذا الفعل عن رغبة ما ليشبع رغبته في المعرفة، وهذا النقل في هذه المرحلة إنما يخلق واقعًا جديدًا من خلال المحاكاة بوصفها فعلاً معرفيًّا دالاً على المعرفة النقلية، أي بوصفها إحدى ممارسات الذات العارفة في نقل المعارف. " فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحال: يحكي نغمتها بصوته حتى لا يكاد يفرق بينهما، وكذلك يحكي جميع ما يسمعه من أصوات الطير وأنواع سائر الحيوان محاكاة شديدة لقوة انفعاله لما يريده، وأكثر ما كانت محاكاته لأصوات الظباء في الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع. إذ للحيوانات في هذه الأحوال المختلفة أصوات مختلفة، فألفته الوحوش وألفها، ولم تنكره ولا أنكرها. فلما ثبت في نفسه أمثلة الأشياء بعد مغيبها عن مشاهدته، حدث له نزوع إلى بعضها، وكراهية لبعض".(30) وهو بهذا يُحوّل حقيقة مغايرة لطباعه ( محاكاة أصوات الظباء)؛ ليجعلها حقيقته هو، عن طريق نقلها وتمثّلها معرفيًّا. إن الرغبة في نقل المعرفة ربما تكون علامة إبستمولوجية على خواء معرفي، ولكنها ستكتسب – فيما بعد- محتوى حقيقيًّا عن طريق فعل التمثّل بوصفه أحد الممارسات الإبستمولوجية لإنتاج المعرفة عن طريق العقل، إما بتحويلها، أو بإعادة إنتاجها في سياق جديد.

أما العقل، فيعني إنتاج الأفكار عن طريق التأمل، والوعي بالموجود لإعادة صياغة الوجود، ولكي يكون هناك وعي بالذات، ينبغي أن يقع العقل على موضوع مختلف، يختلف عن الواقع المُعطى، أو يتجاوز إدراك الذات، ويمكننا تلمّس أولى خطوات العقل نحو الوعي بالذات، عن طريق إدراك العقل اختلاف الذات عن الآخر، فالعقل قبل إشباعه بالمعرفة – عن طريق النقل- لا يكون إلا عدمًا، إنه ليس إلا خواء، وبما أن العقل هو انكشاف لخواء، بما أنه حضور لغياب واقع، فإنه يتميّز عن الشيء المرغوب فيه ويختلف عنه، وبناء على ذلك، فإن المعرفة العقلية المنصبّة على المعرفة النقلية، ستنتج معارف أخرى عن طريق أفعال التمثّل، والتأمل، والمراجعة، والنقد، حيث تُشبع هذه الأفعال الإبستمولوجية رغبة العقل في إنتاج المعرفة؛ ومن ثمة يمكن للعقل إعادة اكتشاف نفسه، وإدراك اختلافه الجوهري عن الآخر الذي تعلّم منه، " إن المعرفة هي الانفجار نحو ما، هي أن ينزع الإنسان نفسه من باطنه العميق كي يخرج عن ذاته، هناك، نحو ما ليس ذاته".( 31)

وبما أن المعرفة الجديدة تتحقق كفعل، يتجاوز المُعطى، فإن وجود العقل هنا سيكون عبارة عن صيرورة ترمي إلى قصد وغاية، وهو تطور هادف للعقل، وتقدّم واعٍ يتم عن طواعية " فجعل يتصفح أنواع الحيوانات كلها، وينظر أفعالها وما تسعى فيه، لعله يتفطن في بعضها أنها شعرت بهذا الموجود، وجعلت تسعى نحوه، فيتعلم منها ما يكون سبب نجاته، فرآها كلها إنما تسعى في تحصيل غذائها، ومقتضى شهواتها من المطعوم والمشروب والمنكوح، والاستظلال، والاستدفاء وتجدّ في ذلك ليلها ونهارها إلى حين مماتها وانقضاء مدتها. ولم ير شيئًا منها ينحرف عن هذا الرأي، ولا يسعى لغيره في وقت من الأوقات، فبان له بذلك أنها لا تشعر بذلك الموجود ولا اشتاقت إليه، ولا تعرفت به بوجه من الوجوه، وأنها كلها صائرة إلى العدم، أو إلى حال شبيه بالعدم.

فلما حكم بذلك على الحيوان، علم أن الحكم له على النبات أولى، إذ ليس للنبات من الإدراكات إلا بعض ما للحيوان، وإذا كان الأكمل إدراكًا لم يصل إلى هذه المعرفة، فالأنقص إدراكًا أحرى أن لا يصل، مع أنه رأى أيضًا أن أفعال النبات كلها لا تتعدى الغذاء والتوليد.

ثم إنه بعد ذلك نظر إلى الكواكب والأفلاك فرآها كلها منتظمة الحركات، جارية على نسق؛ ورآها شفافة ومضيئة بعيدة عن قبول التغيّر والفساد، فحدس حدسًا قويًّا أن لها ذوات سوى أجسامها، تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود، وأن تلك الذوات العارفة ليست بأجسام، ولا منطبعة في أجسام مثل ذاته، هو، العارفة، وكيف لا يكون لها مثل تلك الذوات البريئة عن الجسمانية، ويكون لمثله هو على ما به من الضعف وشدة الاحتياج إلى الأمور المحسوسة، وأنه من جملة الأجسام الفاسدة؟ ومع ما به من النقص، فلم يعقه ذلك عن أن تكون ذاته بريئة عن الأجسام لا تفسد، فتبين له بذلك أن الأجسام السماوية أولى بذلك، وعلم أنها تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود وتشاهده على الدوام بالفعل، لأن العوائق التي قطعت به هو عن دوام المشاهدة من العوارض المحسوسة، لا يوجد مثلها للأجسام السماوية".(32)

يقول أمبرتو إيكو " إن الأفكار ليست شيئًا آخر سوى علامات مختزلة نستعملها من أجل بلورة وتنظيم بعض فرضياتنا حول الأشياء التي نسائلها".( 33)

إن تأويل الأفكار بوصفها علامات إبستمولوجية، يمثّل الرهان الحقيقي أمامنا لمعرفة كيفيّة بناء ( حي بن يقظان) لأفكاره، فالإنسان لا يصوغ الأفكار من أجل السيطرة على الأشياء فحسب، بل إن الأفكار تتبدى لنا من خلال الإنسان، فالأفكار هي صوت العقل، والإنسان ليس شيئًا آخر سوى الكشف عن هذه الأفكار من خلال صوت العقل، ومن هذا المنطلق الإبستمولوجي، نتوجّه إلى طرح تساؤلات حول آليّات تأويل العلامات، حيث تتخفّى ثقافات وإيديولوجيات خلف كثير من الأفكار، وهو ما يبرر التأسيس لقوانين التأويل السيميائي، لنتعلّم منها كيف نستوعب خزائن التقاليد الثقافية بوصفها أفكارًا.

لقد تجاوز العقل – في خطاب ابن طُفيل السابق- المُعطى الذي قُدّم له بواسطة النقل، فهذا العقل حُرٌّ لاتساع أفقه، وانفتاحه على المعارف المختلفة، في مقابل النقل المقيّد بأنموذج محدد. فالمعرفة البشرية، هي نتاج معارف أخرى تم استيعابها عقليًّا بواسطة النقل، فالنقل/ التبعيّة، يمكن أن يكون وسيلة العقل لبلوغ الحريّة، ولكي تتمكن المعرفة من أن تتشكّل داخل العقل، ينبغي لهذا الواقع أن يكون متعددًا ومتنوّعًا، ومن الملاحظ أن النموذج عن ( حي بن يقظان) ممثّل في تجربة الحيوان، وتعرّف على طبيعة هذا النموذج من خلال المشاهدة الطبيعية، ومحاكاته أفعاله، وهذا النموذج يمثّل آلية من آليات تعقّل الأشياء، ومرحلة مهمة من مراحل ارتقاء العقل، أفضت بالضرورة إلى معطيات تتعلّق بالحسّ والملاحظة وسائر مكونات المادة المعرفيّة التي جمعها الفاعل المعرفي ( حي) تمهيدًا لإعادة ترتيبها وتنظيمها داخل عقله؛ ومن ثمة إعادة إنتاجها من خلال تطبيقها أو تشغيلها على موضوع آخر، والنص المقتبس أعلاه يوضح تنوّع الموضوعات التي تأملها ( حي بن يقظان) وانتقاله في تشغيله لمعارفه بين مجالات أرضية ( الذات الإنسانية، والحيوان، والنبات) ومجالات الفضاء ( النجوم والأفلاك..)، ولكن يبدو أن ابن طُفيل لم يكتف بهذا، بل يود من خلال سرده لحركة تأمل ( حي) إحداث تحولات في توقعات ( حي) المعرفية من الافتراض إلى اليقين؛ ومن ثمة التأسيس لنموذج إبستمولوجي جديد، وكأن ممارسات ( حي) الإبستمولوجية في سياقها العقلاني تلفت الانتباه إلى لحظة ميلاد جديدة لأنموذج عقلاني، وكأن الأنموذج في المعرفة النقلية، يمكن أن يتطوّر إلى أنموذج آخر في المعرفة العقلية، وهنا يمكننا طرح سؤالين مهمين على النحو التالي:

ما أسباب نجاح النموذج في المعرفة النقليّة؟ وما أسباب نجاحه في المعرفة العقلية؟ لعلنا نجد الإجابة عن هذين السؤالين من خلال البحث في العلاقات المنطقية بين المعرفتين النقلية والعقلية في المربع السيميائي عند جريماس ( Greimas) . ومن المعروف أن المربع السيميائي يمثّل أحد أهم التقنيات التحليلية في الدراسات السيميائية الحديثة؛ حيث تُظهر القراءة التحليلية للمربع السيميائي نقاط التقاطع، ونقاط الالتقاء بين الأفكار في الخطابات والممارسات الاجتماعية. والمربع السيميائي هو " مصطلح ابتدعه جريماس للدلالة على المنوال المنطقي الذي تُصوّر من خلاله شبكة العلاقات وتمفصل الاختلافات، فالمربع السيميائي هو الذي يمثل العلاقات الرئيسة التي تخضع لها – ضرورة- وحدات الدلالة حتى يتولّد من ذلك كون دلالي يمكن أن يتجسّد ( ...) ومن شأن المربع السيميائي أن يساعد على تمثيل العلاقات التي تقوم بين هذه الوحدات حتى تتولّد الدلالات التي يضعها النص لقرّائه".(34)

ويتأسس المربع السيميائي على ثلاث علاقات: علاقة التضاد، وعلاقة التناقض، وعلاقة التضمّن، وتقوم هذه العلاقات على لعبة التنوّعات الدلالية، ومن خلال هذه التنوّعات، يمكننا إعادة ترتيب المعنى وتنظيمه، ففي هذا السياق مثلاً لا يمكننا الحديث عن النقل إلا بالحديث عن العقل، ويمكن توضيح العلاقات المنطقية للمربع السيميائي حول علاقة النقل كتجربة فكرية، والعقل كنظام فكري يعي تجربة النقل على النحو التالي:

علاقات التضاد: بين النقل والعقل.

علاقات التناقض: بين النقل واللا نقل، والعقل واللا عقل.

علاقات التضمن ( التكامل): بين النقل واللا عقل، والعقل واللا نقل.

علاقات شبه التضاد: بين اللا نقل واللا عقل.









النقل

العقل

اللا عقل

اللا نقل

تناقض

تناقض


علاقة شبه التضاد


علاقة التضاد




















يقدّم المربع السيميائي إنجازًا مهمًا لفهم الأفعال الدلالية في خطاب ابن طفيل، ويقوم هذا المربع على منطق اختلاف الدلالة لبناء المعنى، أي تفسير الخطاب من خلال البحث في اختلاف الدلالة في الخطاب، وفي سياق الحديث عن فعل المعرفة كفعل إبستمولوجي يؤطّر المعنى في خطاب ابن طفيل، ويمكننا فهم المعنى في هذا الخطاب من خلال الحديث عن عدد من الثنائيات الإبستمولوجية مثل: النقل/ العقل، الانفصال/ الاتصال، الموت/ الحياة.

وفي هذا السياق لا يمكننا الحديث عن النقل إلا بالحديث عن العقل؛ لأن المعرفة النقلية ملازمة للمعرفة العقلية، ولا يفهمان إلا من خلال تقابلهما على نحو ما يوضح المربع السيميائي السابق، فالخطاطة توضح وجود تضاد بين المعرفة عن طريق النقل، والمعرفة عن طريق العقل، ضمن المحور الدلالي الخاص بالمعرفة في خطاب ابن طُفيل، وهو ما يشير إلى نفي اجتماع المعرفتين معًا في حقل دلالي مشترك، ولكن يمكن للمعرفة عن طريق النقل أن تمثل طورًا من أطوار تقدم العقل نحو المعرفة عن طريق العقل. وعلاقة شبه تضاد بين اللا نقل واللا عقل، وتشير إلى صعوبة الحصول على المعرفة وعلاقة تناقض بين النقل واللا نقل، وعلاقة تضمن بين النقل واللا عقل والعقل واللا نقل، حيث تؤكد هذه العلاقة أهمية المعرفة العقلية في الخطاب، وهكذا يمكننا فهم العلاقات التراتبية للحصول على المعرفة في خطاب ابن طُفيل، وهي العلاقة التي تربط بين العلامة ( الفعل ) والدلالة.





الانفصال/ الاتصال:

ينهض العمل الفني في رسالة ابن طُفيل على ثنائية معرفية أخرى إضافة إلى ثنائية النقل/ العقل السابقة، وهي ثنائية " الانفصال/ الاتصال" الضدّيّة، حيث تُحيل هذه الثنائية إلى نسق إبستمولوجي خاص تؤدي فيه عملية الانفصال – انفصال حي عن أمه- إلى عملية اتصال، تكتسب فيها علامات الجسد، وإشارات الطبيعة شرعيتها في عملية التواصل الإبستمولوجي بين الإنسان وعالمه الخاص من ناحية، والإنسان والطبيعة الخارجية من ناحية ثانية، وأسهمت هذه الثنائية بشكل فاعل في إحداث تحولات إبستمولوجية في عقل ( حي) جعلته أكثر استعدادًا لفهم صيرورة الحياة؛ ومن ثمة يمكننا دراسة هذه الثنائية في رسالة ابن طُفيل بوصفها نسقًا إبستمولوجيًّا أنتجها عقل مستقل ومتحرر من جميع أشكال الإيديولوجيات أو المرجعيات الثقافية الجمعية بسبب موضوع العُزلة.

يقول برديائف في كتابه المهم ( العُزلة والمجتمع): " العُزلة المطلقة مرادفة للجحيم وللعدم، ولا يمكن تصورها إلا عن طريق السلب، والعُزلة النسبيّة تقتضي العزل والسلب، ولكن لها جانب إيجابي أيضًا حينما تعلو على ما هو مألوف ونوعيّ، وعلى العالم الموضوعي، فهي تُمثّل حينئذٍ حالة عُليا من حالات الأنا، وحينما يحدث ذلك، فإن درجة الانفصال الحادثة لا تكون عن الله والعالم الإلهي، وإنما عن الروتين الاجتماعي اليومي للعالم الوضيع، وهذا الانفصال مرحلة من مراحل نمو الإنسان الروحي".( 35)

فالفعل السلوكي/ الانفصال، يحضر في رسالة ابن طُفيل نتيجة لفعل سلوكي آخر هو الخوف من بطش الملك الهندي بأخته إذا علم بزواجها السرّي من ( يقظان)، فالاتصال الجنسي، وهو فعل سلوكي أيضًا، بين الأب ( يقظان) وأخت الملك الهندي خارج إطار النسق الثقافي السائد، أدى إلى انفصال جسدي بين الأم والابن ( حي)، وهذا ما يجعلنا نؤوّل ثنائية الانفصال/ الاتصال في هذا السياق تأويلاً إبستمولوجيًّا خاصًا، فالاتصال الجنسي خارج علاقة الزواج التي يقرّها المجتمع، أثمر عن كائن ( حي) منفصل بطبيعة الحال عن المجتمع؛ لأن انفصال ( حي) عن أمه، يُعد إشارة أو علامة على عمليات الإقصاء والتهميش والطرد التي تمارسها الأنساق الثقافية على الأفراد، حيث ينصاعوا إليها صاغرين، وأدى هذا الإقصاء بطبيعة الحال إلى انفصال الطفل الرضيع عن المجتمع. وحرص ( ابن طُفيل) على أن يُظهر ( حي) كفاعل إبستولوجي يدفع عن نفسه طُغيان الجهل والتخلّف، بعد أن ألقته أمه في تابوت العُزلة؛ ومن ثمّة اتسمت سلوكياته بنزوع نضالي نحو المعرفة، والانشغال بإعادة ترتيب عناصر الوعي الإنساني بما يُسهم في طرد عناصر الجهل والتخلف داخل العقل.

تُمثّل عملية الانفصال – إذًا- استجابة نوعية لأزمة الإنسان مع تقاليد الثقافة، وقد عمل ( ابن طُفيل) على استثمار هذه الإشكالية، بإزاحة النتاج الثقافي ( التقاليد والأعراف الاجتماعية) داخل العقل، وإحلال الإبستمولجي محله من خلال العُزلة " الإنسان لا يدرك شخصيته وأصالته وتفرّده وتميّزه عن كل شخص وعن كل شيء إلا عندما يكون وحيدًا".(36) ويمكننا دراسة عمليتي الانفصال والاتصال كعمليتين إبستمولوجيتين متقابلتين بوصفهما علامتين معرفيتين متقابلتين أيضًا، فإذا كانت عملية الانفصال في رسالة ابن طُفيل علامة على انفصال الإنسان عن الثقافة – على اعتبار أن إلقاء ( حي) في التابوت واستقراره في الجزيرة المعزولة، يُعد علامة على رفض أمه وأبيه تقاليد الثقافة السائدة والتي حالت دون زواج أخت الملك الهندي من الرجل العادي لأسباب عنصرية- فإن عملية الاتصال تُعد علامة على اتصال الإنسان مع وعيه، وكأن ثنائيتي الانفصال/ الاتصال في رسالة ابن طُفيل علامة على انفصال الإنسان عن الثقافة، واتصاله بالوعي، وإذا كان الرحيل يمثّل علامة على الانفصال، فإن العُزلة تمثّل علامة على الاتصال، اتصال الإنسان بوعيه؛ ليتمكن من إعادة تشكيل معارفه بعيدًا عن أنساق الثقافة.

ولعل تأمّلات ( حي بن يقظان) المعرفية تكشف لنا عن مدلولات مهمة في البناء المعرفي والنزوع الديني للعقل الإنساني كونه ردّ فعل منظَّم ضدّ قوة التقاليد الاجتماعية وسلطتها. " فلما رأى أن جميع الموجودات فعله، تصفحّها من بعد ذا تصفّحًا على طريق الاعتبار في قدرة فاعلها، والتعجب من غريب صنعته، ولطيف حكمته، ودقيق علمه فتبيّن له في أقل الأشياء الموجودة، فضلاً عن أكثرها من آثار الحكمة، وبدائع الصنعة، وتحقق عنده أن ذلك لا يصدر إلا عن فاعل مُختار في غاية الكمال وفوق الكمال " لا يَغْرُبُ عنه مِثقالُ ذرَّة في السَّمواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرُ مِنْ ذلك ولا أكبرُ".

ثم تأمّل في جميع أصناف الحيوان، كيف " أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" لاستعماله، فلولا أنه هداه لاستعمال تلك الأعضاء التي خلقت له في وجود المنافع المقصود بها، لما انتفع بها الحيوان، وكانت كلاًّ عليه، فعلم بذلك أنه أكرم الكرماء، وأرحم الرحماء.

ثم إنه مهما نظر شيئًا من الموجودات له حسن، أو بهاء، أو كمال، أو قوة، أو فضيلة من الفضائل تفكر وعلم أنها من فيض ذلك الفاعل المختار – جل جلاله- ومن وجوده، ومن فعله، فعلم أن الذي هو في ذاته أعظم منها، وأكمل، وأتم وأحسن.

وتتبع صفات النقص كلها فرآه بريئًا منها، ومنزّهًا عنها؛ وكيف لا يكون بريئًا منها وليس معنى النقص إلا العدم المحض، أو ما يتعلق بالعدم؟ وكيف يكون العدم تعلّق أو تلبّس، بمن هو الموجود المحض، أو الواجب الوجود بذاته، المعطى لكل ذي وجود وجوده فلا وجود إلا هو: فهو الوجود، وهو الكمال، وهو التمام، وهو الحسن، وهو البهاء، هو القدرة، وهو العلم، وهو هو و " ‏‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏"‏.

فانتهت به المعرفة إلى هذا الحد، على رأس خمسة أسابيع من منشئه، وذلك خمسة وثلاثون عامًا، وقد رسخ في قلبه من أمر هذا الفاعل، ما شغله عن الفكرة في كل شيء إلا فيه، وذهل عما كان فيه من تصفح الموجودات والبحث عنها، حتى صار بحيث لا يقع بصره على شيء من الأشياء، إلا ويرى فيه أثر الصنعة، من حينه، فينتقل بفكره على الفور إلى الصانع ويترك المصنوع، حتى اشتدّ شوقه إليه، وانزعج قلبه بالكلية عن العالم الأدنى المحسوس، وتعلّق بالعلم الأرفع المعقول.( 37)

تظهر هذه النزعة العقلية بوصفها استجابة إيجابية منظمة وواعية ضدّ جملة الأخطار التي تهدد الوجود الإنساني في عُزلته، سواء من حيث نظامه الاجتماعي، أو من حيث صياغة مرجعيته الجديدة الناظمة لوحدته، والضامنة لاستمراره، واستبدالها بعناصر ناظمة لحياته من خلال التفاعل بين المطالب العقلية الخاصة، والحاجات الدينية، فالبحث عن الفاعل، أمر حيوي بالنسبة للعقل الذي يبحث عن موضوع لإنتاج المعرفة، واستقرار العقل على وجود فاعل يشعره بالأمان والاطمئنان بوصفه مفعولاً به يبحث عن فاعله من خلال فعله وهو التأمّل والتفكّر، ويمثّل هذا الاستقرار العقلي دافعًا لهذا العقل في البحث عن التواصل، والتواصل هنا تواصل غير لساني، بمعنى أنه تواصل لا ينهض على إشارات لغوية، وإنما تواصل عقلي يهدف إلى التعرّف على الأشياء من خلال فهم إبستمولوجي خاص لظواهر الكون؛ ومن ثمّة فالتواصل في هذا السياق، هو عملية عقلية تكشف عن قدرة الإنسان على اكتشاف قدراته، من ناحية، والتواصل مع المعرفة عبر أداة أساسية هي العقل، من ناحية أخرى.

ويمكن توضيح العلاقات المنطقيّة للمربع السيميائي حول علاقة الانفصال كخطوة أساسية لبلوغ الاتصال على النحو التالي:

· علاقات التضاد: بين الانفصال والاتصال.

· علاقات التناقض: بين الانفصال واللا انفصال، والاتصال واللا اتصال.

· علاقات التضمّن ( التكامل): بين الانفصال واللا اتصال، والاتصال واللا انفصال.

· علاقات شبه التضاد: بين اللا انفصال واللا اتصال.



الانفصال

الاتصال

اللا اتصال

اللا انفصال

تناقض

تناقض


علاقة شبه التضاد


علاقة التضاد










القراءة التأويليّة للمربع السيميائي لثنائيتي الانفصال/ والاتصال تُشير إلى أن هاتين الثنائيتين تدلان على الانقطاع عن عالم، وتواصل مع عالم جديد، أو الخروج من عالم في اتجاه عالم آخر، ولا تُمثّل هذه الممارسات رغبة في ترك العالم الأول، ولا خلقًا لعالم مثالي جديد، إنه خلق لتواصل ينضاف إلى تواصل، خلق يدل على النفاذ إلى المعرفة من خلال الانقطاع والتواصل، ولكن هل يكون انفصال الطفل عن عالم الإنس وثقافته، واتصاله بعالم الحيوان وممارساته علامة على الانفصال عن لغة الكلام، بالانتقال إلى لغة الجسد؟! أم علامة على الانفصال عن عالم التلقي من مجال الأذن ( تنفيذ الطفل للتعليمات، التلقي، التلقين) إلى مجال العين ( الرؤية، والاستقلال، والمعرفة؟!.)

الموت/ الحياة

تُختزل فكرة الموت في رسالة ابن طُفيل في حادثة موت الأم ( الظبية) وما صاحبها من تأمّلات معرفيّة وممارسات تشريحيّة لجسدها، أظهر فيها معرفته بأسرار الطب من خلال تشريحه المفصّل لجسم الظبية.( 38) فهو – ابن طُفيل- الطبيب الأول في بلاط السلطان أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد القيسي، سلطان الموحدين في غرناطة ( 39)، وذكر لسان الدين ابن الخطيب في كتابه " الإحاطة في أخبار غرناطة" أن لابن طُفيل " أرجوزة في الطب"، أما الحياة فلا يمكن اختزالها في حادثة أو حادثتين أو أكثر، وذلك لارتباط الحياة بتحصيل المعرفة وإعمال العقل في قرن إبستمولوجي مشترك، فالحياة تعني التأمّل، والاكتشاف، والبحث عن أسباب العيش في كل زمان ومكان، الحياة تعني القدرة على تجاوز المحن، والاعتماد على الذات في خوض التجارب.. وهذه الممارسات فرضت نفسها على برنامج السرد في رسالة ابن طُفيل، وكأن هذه الرسالة بمثابة دعوة إلى الإقبال على الحياة من خلال إعمال العقل.



تحتمل تجربة الموت في رسالة ابن طُفيل تأويليين سيميائيين يتفق كلاهما مع الآخر في المعنى، حيث يمكن تأويله سيميائيًّا بوصفه علامة على الانفصال، انفصال الروح عن الجسد، ويرتبط هذا المعنى ارتباطًا وثيقًا بفكرة الموت نفسها في الفكر الصوفي، وكذلك يمكن تأويله سيميائيًّا بوصفه علامة على التأمّل وإعمال العقل، فموت الأم/ الظبية صاحبه جملة من الممارسات التشريحية الطبية اقترنت بعدد من العمليات العقلية التي تشرح وتفسِّر عملية الموت؛ فالسارد أثناء عملية التشريح التي قام بها لم يكن يبحث عن حقيقة الموت، لكنه كان يبحث عن معنى الموت في سياق سردي نوعي؛ ومن ثمّة ولادة جديدة للفكر من خلال تأمّل عملية الموت، حيث يمتلك العقل الإنساني فلسفة نوعية جديدة عن الموت، وتبلور هذا الامتلاك نتيجة القفز فوق الحواجز المعرفية الخاصة بعملية الموت في اللاوعي الإنساني.( 40)

يمكننا النظر إلى السارد ( حي بن يقظان) في هذه الثنائية بوصفه فاعلاً معرفيًّا يرتبط بمنظومة إبستمولوجية هي منظومة المؤلّف ( ابن طُفيل)، فهو الفيلسوف، والطبيب الأول، والفلكي في بلاط سلطان الموحدين في غرناطة، ويُعد هذا التكوّن الإبستمولوجي علامة دالة على انتماء إبستمولوجي يمزج بين المعرفة الفلسفيّة، والطبيّة، والفلكيّة في قرن إبستمولجي مشترك، فامتزاج المعرفة الفلسفيّة، مع الطبيّة، مع الفلكيّة داخل عقل ابن طُفيل، هو ما جعل السارد أكثر وعيًا في ممارساته الإبستمولوجية داخل برنامج السرد، ومن ثمّة يمكننا طرح السؤال التالي:

ماذا سيحدث لو اعتبرنا ثنائية الموت/ الحياة واقعة إبستمولوجية دالة، بل غنية بالدلالة؟ لا سيما إذا ما تناولناها بوصفها فكرة داخل خطاب ينتمي صاحبه إلى الفكر الصوفي في أعلى ذراه الفكرية؟ فهي ما إن تُستنطق سيميائيًّا حتى تُفصح عن مدلولات فكرية ذي طبيعة خاصة؛ لأن منطق ابن طُفيل الإبستمولوجي في تناوله لهذه الثنائية يتجسّد في ممارسات إبستمولوجية ذات دوافع فكرية خاصة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتصوّر الصوفيين عن الموت والحياة. لقد توجه ابن طُفيل بوصفه فاعلاً إبستمولوجيًّا إلى الاشتغال الإبستمولوجي – بدلاً من الاشتغال الثقافي- على ثنائية الموت/ الحياة؛ لإعادة تأسيسها في سياق إبستمولوجي يسعى إلى تقديم رؤية جدية لكل من الموت والحياة بوصفها إشكاليتين معرفيتين تؤدي الأولى ( الموت) إلى الثانية ( الحياة)، وتكون الثانية ( الحياة) مرحلة تأمّل وإعادة اكتشاف للأولى( الموت) وسبيلاً إليه في الوقت نفسه، وعلى الدراسة السيميائية الراهنة الكشف عن هذا التأسيس الإبستمولوجي الذي سعى إليه ابن طُفيل من خلال فحص نقدي لمكوِّنات هذه الثنائية، وفحص أدواتها المفهومية التي تؤسس لنظامها داخل الخطاب.


تُعد ثنائية الموت/ الحياة إحدى مسافات التأمّل المعرفي للإنسان في عزلته، واعتماد ابن طُفيل في فلسفته لهذه الثنائية على أن الموت هو انفصال النفس/ الروح عن الجسد، ومن ثمّة توقف الجسد عن أداء وظائفه الإيديولوجية لسبب طبيعي أو لسبب مفاجئ، يُعد أحد أهم اللحظات الفارقة والمؤسسة للفعل الإبستمولوجي التداولي للفكر الصوفي الذي ينتمي إليه ابن طُفيل " فلما رأى أن الساكن في ذلك البيت ( القلب) قد ارتحل قبل انهدامه وتركه وهو بحاله، تحقق أنه أحرى أن لا يعود إليه بعد أن حدث فيه الخراب والتخريق ما حدث. فصار عنده الجسد كله خسيسًا لا قدر له بالإضافة إلى ذلك الشيء الذي اعتقد في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك. فاقتصر على الفكرة في ذلك الشيء ما هو؟ وكيف هو؟ وما الذي ربطه بهذا الجسد؟ وإلى أين صار؟ ومن أي الأبواب خرج عند خروجه من الجسد؟ وما السبب الذي أزعجه إن كان خرج كارهًا؟ وما السبب الذي كرّه إليه الجسد حتى فارقه إن كان خرج مختارًا؟."( 41) إلى أن يصل إلى حقيقة مهمة وهي " فإن خرج هذا الروح بجملته عن الجسد، أو فني، أو تحلل بوجه من الوجوه، تعطّل الجسد كلّه، وصار إلى حالة الموت، فانتهى به هذا النحو من النظر إلى هذا الحدّ من النظر على رأس ثلاثة أسابيع من منشئه، وذلك أحد وعشرون عاما".( 42)

تفتح مقولات ابن طُفيل السابقة عن الموت/ الحياة المجال أمام ثنائية جديدة، وهي ثنائية الروح/ الجسد، حيث تدب الحياة في الإنسان عن طريق التقاء الروح بالجسد، وتنتهي الحياة بانفصالهما، فصلاح الجسد/ الحياة، مشروط بوجود الروح/ النفس، وفساد الجسد/ الموت، مشروط بغياب الروح/ النفس، فالروح/ النفس قسم مشترك في ثنائية الموت/ الحياة عند ابن طُفيل. فالنفس هائمة تبحث، وتنقّب، وتكتشف، إنها مخلوق شغوف بالمعرفة والتأمّل؛ لأن وظيفتها هي التعلّم من أجل اكتساب الصفات التي تؤهلها لحياة تختلف عن حياة الحيوان، يقول ابن طُفيل: " كان ( حي) ينظر في اختلاف أعضائه، وأن كل واحد منها متفرّد بفعل وصفة تخصّه، وكان ينظر كل عضو منها فيرى أنه يحتمل القسمة إلى أجزاء كثيرة جدًا، فيحكم على ذاته بالكثرة، وكذلك على ذات كل شيء. ثم كان يرجع إلى نظر آخر من طريق ثان، فيرى أن أعضاءه، وإن كانت كثيرة فهي متصلة كلها بعضها ببعض، لا انفصال بينها بوجه، فهي في حكم الواحد، وأنها لا تختلف إلا بحسب اختلاف أفعالها، وأن ذلك الاختلاف إنما هو بسبب ما يصل إليها من قوة الروح الحيواني الذي انتهى إليه نظره أولاً، وأن ذلك الروح واحد في ذاته، وهو حقيقة الذات، وسائر الأعضاء كلها كالآلات، فكانت تتحدّ عنده بهذا الطريق."( 43)


التمازج بين ثنائية الموت/ الحياة، ووجود الروح/ النفس كقاسم مشترك بينهما، يُفسح المجال التأويلي للحديث عن تجذّر الرغبة في الحياة بالمعرفة، يتوق إليها الجسد ليتعلّم أو ليفهم طبيعة الأشياء؛ ومن ثمّة كيفيّة التعايش مع الكائنات الأخرى، وبين المعرفة كأفق عقلي تتوق إليه النفس؛ لتشعر بتميّزها " وكان يحكم بأن الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، وأنه لم يختلف إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة، وأنه لو أمكن أن يجمع جميع الذي افترق في تلك القلوب ويجعل في وعاء واحد، لكان كله شيئًا واحدًا، بمنزلة ماء واحد، أو شراب واحد يفرّق على أوان كثيرة، ثم يجمع بعد ذلك. فهو في حالتي تفريقه، وجمعه شيء واحد، إنما عرض له التكثّر بوجه ما، فكان يرى النوع كله بهذا النظر واحدًا، ويجعل كثرة أشخاصه بمنزلة كثيرة أعضاء الشخص الواحد التي لم تكن كثرة في الحقيقة."( 44)

ويمكن توضيح العلاقات المنطقيّة للمربع السيميائي حول علاقة الموت كمرحلة أساسية لفهم أسرار الحياة على النحو التالي:

· علاقات التضاد: بين الموت والحياة.

· علاقات التناقض: بين الموت واللا موت، والحياة واللا حياة.

· علاقات التضمّن ( التكامل): بين الموت واللا حياة، والحياة واللا موت.

علاقات شبه التضاد: بين اللا موت واللا حياة.




الموت

الحياة

اللا حياة

اللا موت

تناقص

تناقض


علاقة شبه التضاد


علاقة التضاد











القراءة التأويليّة للمربع السيميائي لثنائيتي الموت/ والحياة تُشير إلى أن هاتين الثنائيتين تدلان على قدرة العقل الإنساني على البحث في معنى الأشياء، فعملية التشريح التي قام بها ( حي بن يقظان) للظبية تعبّر عن حنين العقل الإنساني المتجدد لكشف أسرار الحياة من خلال الموت، فالموت يعني العدم، والعدم هو عدم الجسد؛ ومن ثمّة فتشريحه للجسد ربما يكشف عن أسرار الحياة، والحياة لا يستطيع الإنسان فك شفراتها إلا من خلال المعرفة، وقد قدّمت له المعرفة الطبيّة، والفلكيّة، والفلسفيّة، كنوزًا إبستمولوجية فتحت آفاق عقله على أسباب الحياة، فالمعرفة كانت تقدّم لـ ( حي) كل يوم أسبابًا جديدة لفهم أسرار الحياة، فانتقال معارفه من الأرض إلى السماء، ثم العودة مرة أخرى إلى الأرض لهداية أهل الجزيرة التي كان يسكنها صاحبه إسال، يكشف عن رغبة العقل الإنساني في البحث عن معنى للذات بعد اكتشافه معنى الحياة – أي يبحث عن معنى له في هذه الحياة- باعتبار أن المحطة الأخيرة في حياة ( حي) هي البحث عن الذات من خلال مساعدة الآخر/ أهل جزيرة إسال، وعندما فقد الأمل قرر الاستسلام مرة أخرى للعزلة انتظارًا للموت، وكأن العُزلة فضاءً لممارسة جميع أسباب الحياة، وفضاءً لانتظار الموت؛ ومن ثمّة تُعدّ العُزلة فضاءً إبستمولوجيًّا ينطوي على دلالات مزدوجة تستوعب تناقضات وتنوّعات الأشياء.

المحور الثالث

سيميائية اللغة في خطاب العُزلة



الحديث عن اللغة في رسالة ابن طُفيل، يأتي عرضًا في سياق معالجة إشكاليّات إبستمولوجية يطرحها العقل لمناقشتها رغبة في بلوغ اليقين من خلال تجربة حقيقية، فموضوع العُزلة وعلاقته بالمعرفة الإنسانية، يمثّل همًّا معرفيًّا لابن الطُفيل، وربما يكون هذا الهمّ هو ما صرف ابن طُفيل عن الاهتمام بجماليات اللغة، أضف إلى ذلك طبيعة الموضوع الفلسفية جعل لغة الرسالة تنزع هي الأخرى نزوعًا فلسفيًّا، على اعتبار أن اللغة تُعد أداة أساسية في التعبير عن الأفكار، و ( حي بن يقظان) لم يكن حريصًا على التعبير عن أفكاره بقدر حرصه على استنتاج الأفكار ومعرفة العالم، كذلك لم يكن ( حي) بحاجة إلى عملية الوصف؛ ومن ثمّة تفقد اللغة سمتين من أهم سماتها وهما: التعبير، والوصف، هذا بالنسبة للسارد، أما ابن طُفيل نفسه، فكان مشغولاً بتسمية الأشياء بما تُحيل إليه حتى لا تصبح بلا معنى، ولذا اعتمد ابن طُفيل على لغة توفّر صيغًا مناسبة لعرض الحقيقة؛ لأن رسالته تُعبِّر عن تجربة حقيقية، ويجب أن تعبّر بنية اللغة عن بنية الأشياء والمعارف، ونجح ابن طُفيل في ذلك باعتماده على التعبير عن الشيء بكلمتين متناقضتين، وهو ما يؤكد أن بنية اللغة تعكس بنية الأشياء، وكأن الثنائيات المعرفية التي اعتمد عليها ابن طُفيل لإدراك فهم المعرفة، انتقلت إلى اللغة للتعبير عن هذه المعرفة، ومتن ثمّة يمكننا القول: إن الدافع الإبستمولوجي يقف خلف استخدام اللغة في رسالة ابن طُفيل، فاللغة وسيلة للتعبير عن إشكالية فلسفية، واستعمال الكلمات كان بدافع إبستمولوجي صرف.


ترتكز دراستنا لسيميائية اللغة في رسالة ابن طُفيل على تأمّل حقيقة إبستمولوجية مفادها وجود ارتباط وثيق بين التجربة الإنسانية من ناحية، والأفكار التي أنتجها العقل الإنساني من خلال التجربة نفسها من ناحية ثانية، والكلمات التي عبّر بها هذا العقل عن تجربته من ناحية ثالثة؛ لأن التجارب – تجارب حي بن يقظان في عُزلته- أنتجت أفكارًا، وهذه الأفكار انتقلت في شكل صور ( كلمات) أوردها ابن طُفيل على لسان ( حي بن يقظان)، فالكلمات تظهر في الرسالة بوصفها حدثًا ماديًّا ( فالدخان يكون علامة على النار – والنور علامة على النهار، والظلام على الليل) وعلى هذا ستكون دراستنا للغة/ الكلمات مرتبطة بالفكرة التي تُحيل عليها، والبحث في علاقتها بالتجربة التي ألهمت العقل لإنتاجها، فإذا كانت التجارب هي وسيلة العقل للحصول على الأفكار، فإن الكلمات تمثّل علامات على هذه الأفكار؛ ومن ثمّة فالعوالم في رسالة ابن طُفيل هي عوالم رمزية على الرغم من ارتباطها بالتجربة الحية من خلال ممارسات ( حي بن يقظان) الحياتية، ربما تكون مكتفية بذاتها من حيث اشتغالها داخل برنامج السرد، ومن حيث قدرتها على الإحالة بقوة على نفسها؛ لأنها تعتمد على قدرة العقل في إعادة اكتشاف العالم على أسس إبستمولوجية وليس ثقافية؛ ومن ثمّة فالواقع ليس نتاجًا لتجارب سابقة، أو ممتدًّا إلى مالا نهاية، بل هو ما يسكن الوعي ويكتشفه العقل، والوعي يتشكّل في هذه الأثناء من خلال إدراكه بقيمة الاختلاف بين الأشياء ( اختلاف الموت عن الحياة، اختلاف الإنسان عن الحيوان، اختلاف الساكن عن المتحرِّك ..) وليس عبر الأدوار التي تشيّدها القِيم الثقافية والإيديولوجيّة السائدة في مجتمع ما والتي تُهيمن على نشاطه العقلي؛ ومن ثمّة تمثّل اللغة عند ابن طُفيل مفتاحًا لهذا الوعي الجديد بالعالم؛ وذلك لقدرتها على التعبير عن مكنونات ما يسكن العقل من أفكار وهواجس وتساؤلات " فلما رأى أن الساكن في ذلك البيت ( القلب) قد ارتحل قبل انهدامه وتركه وهو بحاله، تحقق أنه أحرى أن لا يعود إليه بعد أن حدث فيه الخراب والتخريق ما حدث. فصار عنده الجسد كله خسيسًا لا قدر له بالإضافة إلى ذلك الشيء الذي اعتقد في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك. فاقتصر على الفكرة في ذلك الشيء ما هو؟ وكيف هو؟ وما الذي ربطه بهذا الجسد؟ وإلى أين صار؟ ومن أي الأبواب خرج عند خروجه من الجسد؟ وما السبب الذي أزعجه إن كان خرج كارهًا؟ وما السبب الذي كرّه إليه الجسد حتى فارقه إن كان خرج مختارًا؟."( 45)


اللغة في المقطع السابق لغة إنشائية، تعتمد على تساؤلات ليست تقريرية، لإقرار حقيقة بعينها، بل هي تساؤلات تفتح العقل على آفاق معرفيّة تتعلق بهوية الإنسان ومصيره؛ ومن ثمّة فهي تُعبِّر عن معنى منطقي، يمثّل وجهة وغاية للعقل الذي يتأمّل الأشياء بمعزل عن الأنساق الثقافية المؤطِّرة لحدوده، والوجود الإنساني ليس كذلك إلا إذا كان قادرًا على طرح هذه التساؤلات التي تُحيل بدورها على ما يدل ويعني! فأن نكون في العالم يعني أن نتساءل عن مصيرنا، أن ننتج المعنى من خلال تأمّلاتنا، ووعينا بأنفسنا وما يسكنها، وبمن حولنا. فالتساؤلات السابقة هي تساؤلات رمزية تدل على شخص يفكِّر في هذا الشيء؛ ومن ثمّة فهي تساؤلات تنطوي على أبعاد إبستمولوجية تكشف عن رغبة العقل في إعادة اكتشاف/ خلق المدرَك على أسس إبستمولوجية وليس استنساخه.


يتجاذب الخطاب السردي في رسالة ابن طُفيل حقلان أساسيّان:

الحقل المعرفي: تتواتر فيه العلامات اللغوية/ الكلمات الدالة على المعرفة الإنسانية وأسباب اكتشافها، وهو حقل تُحيل ألفاظه/ كلماته على مجموعة من المعارف التي أنتجها ( حي بن يقظان) من خلال تجربته مع العُزلة مثل ( الموت ـ الحياة ـ النفس ـ النار ـ الفلك ـ النجوم ـ الكواكب ـ الساكن ـ المتحرِّك ..) وتُعد فيه الكلمات علامات محسوسة تعبِّر عن أفكار إبستمولوجية بهدف التبليغ عن أفكار دقيقة عن الأشياء يقتنع بها العقل في بحثه الإبستمولوجي عن الظواهر وطبيعة الأشياء.

تأتي اللغة التي تُعبِّر عن معارف الإنسان في رسالة ابن طُفيل في سياق التعبير عن الشكّ في إدراك معاني الأشياء؛ لأن عملية إنتاج المعرفة تأسست على الظرف الراهن بالاعتماد على تجربه حياتية مارسها ( حي) نفسه، وليست على معرفة مسبقة، واعتمدت على عقل مستقل بعيد عن التبعيّة، وعملية صياغتها لم تتم بالاعتماد على نموذج مسبق؛ ومن ثمة لم تجد النموذج الذي تقيس عليه نتائجها؛ ولذا فاللغة في هذا السياق مغلّفة بالشكّ وعدم اليقين في المعارف التي تعبّر عنها؛ لأن هذه المعارف تمسّ قضايا الوجود والمصير " فعلم أن السماء وما فيها من كواكب أجسام، لأنها ممتدّة في الأقطار الثلاثة: الطول، والعرض، والعمق ... ثم تفكر هل هي ممتدّة إلى غير نهاية، وذاهبة في الطول والعرض والعمق إلى غير نهاية، أو هي متناهية محدودة بحدود تنقطع عندها، ولا يمكن أن يكون وراءها شيء من الامتداد؟ فتحيّر بعد ذلك بعض حيرة. ثم إنه بقوة فطرته، وذكاء خاطره، رأى أن جسمًا لا نهاية له أمر باطل، وشيء لا يمكن، ومعنى لا يُعقل، وتقوّى هذا الحكم عنده بحجج كثيرة".(46)

" فلما تبيّن له أنه كله كشخص واحد في الحقيقة، واتحدت عنده أجزاؤه الكثيرة بنوع من النظر الذي اتحدت به عنده الأجسام التي في عالم الكون والفساد، وتفكّر في العالم بجملته، هل هو شيء حدث بعد إن لم يكن، وخرج إلى الوجود بعد العدم؟ أو هو أمر كان موجودًا فيما سلف، ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه؟ فتشكك في ذلك ولم يترجّح عنده أحد الحكمين على الآخر... ومازال يتفكّر في ذلك عدّة سنين، فتتعارض عنده الحجج، ولا يترجّح عنده أحد الاعتقادين على الآخر".(47)

تأمّل بالقياس إلى الموجود والمدرَك، حيرة إبستمولوجيّة حول إدراك طبيعة الأشياء، شكوك تحوم حول ما توصّل إليه من معارف عن الأشياء، هويّة معرفية غير واضحة. تُحيلنا لغة الاقتباسين السابقين إلى هذه الإشكاليات المعرفيّة، وهي إشكاليّات عميقة بالنسبة لعقل مستقل يسعى لتأسيس معارف جديدة ومستقلة، وتُعبّر هذه اللغة عن حالة الحيرة والقلق التي يعيشها العقل في سياق إدراكه لطبيعة الوجود.

من المؤكّد أن مجموعة الكلمات والتساؤلات المحمّلة بالدلالات الإبستمولوجيّة يمكن أن تُعالج في سياق آخر فطرح معاني أخرى جديدة، لكننا نحاول تأويلها في سياق إبستمولوجي خاص؛ ومن ثمّة فالأفق المعرفي لهذه اللغة، لا يستبعد الرهان العقلي، على الرغم من حالة الحيرة والقلق التي يعيشها ( حي) لا سيما أن النتائج التي سيتوصل إليها العقل هي نتاج تجربة أو ممارسة حياتيّة حقيقيّة وليست افتراضيّة، وهذه الحيرة التي تسيطر على تفكير ( حي) يمكن تأويلها سيميائيًّا بوصفها علامة على وضع إبستمولوجي مستقل، يكشف عن عقل مسؤول يسعى لإنتاج معرفة منطقية عن الأشياء، يختلف عن الوضع الثقافي التابع، يركن فيه العقل إلى تجارب السابقين؛ وفي هذا السياق تتعرّض كل النتائج الإبستمولوجية التي توصّل إليها ( حي) لتساؤلات تعكس في ظاهرها الشكّ، لكنها في – في الوقت نفسه- تفتح الأفق أمام الحقيقة واليقين. " فانتهى نظره بهذا الطريق إلى ما انتهى إليه الطريق بالأول، ولم يضرّه في ذلك تشككه في قدم العالم أو حدوثه، وصحّ له الوجهين جميعًا وجود فاعل غير جسم، ولا متصل بجسم ولا منفصل عنه، ولا داخل فيه، ولا خارج عنه، إذ الاتصال، والانفصال، والدخول، كلها من صفات الأجسام، وهو منزّه عنها".(48)

يتجاوز هذا النهج من المعرفة خداع الأنساق الثقافيّة التي تمارسه المعرفة النقلية/ التبعية للعقل والوعي معًا، بل تزلزل الأرض تحت أقدام المعارف النقلية؛ لأنها – في معظمها- نتاج تجارب مجهولة بالنسبة للعقل الطامح للمعرفة المبنية على أسس إبستمولوجية وليست معارف إيديولوجية. إن هذه اللغة – على الرغم مما تظهره من قلق إبستمولوجي- إلا أنها تنطوي على رغبة العقل في تصفية حساباته مع الأوهام الإيديولوجية للمعارف المنقولة باستحضار فعل العقل مع التجربة، فالإعلاء من شأن العقل في مواجهة ألغاز الوجود، يعد ممارسة إبستمولوجية ضرورية لتجاوز الإنسان محنة العُزلة.


الحقل الجسدي: وتتواتر فيه العلامات اللغوية/ الكلمات الدالة على الجسد ووظائفه، وهو حقل تُحيل ألفاظه/ كلماته على مجموعة من المعارف التي أنتجها ( حي بن يقظان) من خلال تجربته في التعرّف على أعضاء جسده ووظائفها وطرائق استخدامها مثل ( القلب ـ اليد ـ الرجل ـ العين ـ الأنف ـ البطن ـ تجويف القلب ..) وتُعدّ الكلمات في هذا السياق علامات محسوسة على أعضاء جسد الإنسان بهدف إدراك وظائفه ومعرفة استخداماته.

وإذا كانت الكلمات في الحقل اللغوي المعرفي تُعبِّر عن الشكّ في إدراك الأشياء كما أوضحنا سابقًا، فإن الكلمات تأتي في الحقل اللغوي الجسدي لتُعبِّر عن اليقين في التعرّف على الأعضاء لاسيما أن صياغة المعرفة عن الجسد حضرت في رسالة ابن طُفيل في سياق بحث الذات الإنسانية عن خصائصها الجسديّة، عندما أدركت منذ البداية اختلاف خصائصها الجسديّة عن الخصائص الجسديّة للحيوانات؛ ومن ثمّة وجدت الذات الإنسانية نفسها مطالبة بالإدراك، إدراك اختلاف الخصائص والسمات " وكان يرى أترابه من أولاد الظباء قد نبتت لها قرون، بعد أن لم تكن، وصارت قوية بعد ضعفها في العدو. ولم ير لنفسه شيئًا من ذلك كله. فكان يفكّر في ذلك ولا يدري ما سببه. وكان ينظر إلى ذوي العاهات والخلق الناقص فلا يجد لنفسه شبيهًا فيهم. وكان أيضًا ينظر إلى مخارج الفضول في سائر الحيوان، فيراها مستورة: أما مخرج أغلظ الفضلتين فبالأذناب، وأما مخرج أرقهما فبالأوبار وما أشبهها. ولأنها كانت أيضًا أخفى قضبانًا منه، فكان ذلك ما يكربه ويسوءه... واتخذ من أغصان الشجر عصيًّا وسوّى أطرافها وعدل متنها، وكان يهش بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها ويقاوم القوي منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نباله، ورأى أن ليده فضلاً كثيرًا على أيديها: إذ أمكن له بها ستر عورته واتخاذ العصي التي يدافع بها عن حوزته، ما استغنى به عما أراده من الذنب والسلاح الطبيعي."(49)

تعبِّر اللغة هنا عن وظائف جسد الإنسان من ناحية، كما تعبِّر عن تميّز أعضاء الجسد عند الإنسان واختلافها عن أجساد الكائنات الأخرى من ناحية أخرى، وكأن اللغة هنا تعبِّر عن الاختلاف والتميّز، وتتمثّل الرسالة التي يريد ابن طُفيل تبليغها في أن معرفة الجسد، وإدراك قيمة وظائفه هي أولى خطوات الإنسان نحو المعرفة؛ ومن ثمّة يمكننا دراسة العلامات اللغوية الدالة على الجسد في هذا السياق بوصفها شرطًا لإمكان البحث عن المعرفة؛ فالمتأمّل في لغة الرسالة يكتشف تردد المفردات اللغوية الدالة على الجسد بقوة وإلحاح لاسيما في الأجزاء الأولى، فهي تمثِّل حقلاً من حقول التأمّل المعرفي، فلغة الجسد تتردد بشكل مكثّف وتتخلل البناءات السردية والدلالية التي تُبنى عليها المعرفة الإنسانية داخل الرسالة، فعلى سبيل المثال يعبِّر المقطع السردي الخاص بتشريح جسد الأم ( الظبية) علامة سيميائية على الاكتشاف، وكأن ( حي بن يقظان) يكتشف أسرار الحياة من خلال تشريح الجسد " فعزم على شق صدرها وتفتيش ما فيه، فاتخذ من كسور الأحجار الصلدة وشقوق القصب اليابسة، أشباه السكاكين، وشق بها بين أضلاعها حتى قطع اللحم الذي بين الأضلاع، وأفضى إلى الحجاب المستبطن للأضلاع فرآه قويًّا، فقوي ظنه بأن مثل ذلك الحجاب لا يكون إلا لمثل ذلك العضو... فما زال يفتش في وسط الصدر حتى ألفى القلب وهو مجلل بغشاه في غاية القوة مربوط بعلائق في غاية الوثاقة ... فبحث عن الجانب الآخر من الصدر، فوجد فيه الحجاب المستبطن للأضلاع، ووجد الرئة كمثل ما وجده من هذه الجهة، فحكم بأن ذلك العضو هو مطلوبه..."(50)

الجسد، ذلك المجهول يمثّل، الشغل الشاغل لـ ( حي)؛ لمعرفة أسرار الحياة، لاسيما وأنه لا يمتلك المرجعية المعرفيّة لهذا المجهول، فمعركته مع المعرفة منذ البداية ارتبطت بالجسد، مرورًا بما حوله من الأشياء، وانتهاءً بالسماء، ومن ثمّة لزم البحث في ركام هذا الجسد من أجل التعرّف على الذات، لتأكيد هويته وفرادته في آن واحد بقدرته على التشريح والاكتشاف، بعد أن اكتشف تميّزه عن سائر المخلوقات بامتلاكه أعضاء جسدية تختلف عن أعضاء الكائنات الأخرى، غير أن ابن طُفيل بطله يُعيد اكتشاف المعرفة على ضوء منطقه الطبي/ الفلسفي، فأعطى بذلك فلسفة جديدة لاكتشاف المعرفة من خلال التجربة، فالتجربة/ التشريح، هي السبيل المثالي للحصول على المعرفة اليقينية؛ لأن الأفكار التي يستنتجها العقل من خلال التجربة هي التي تبني الفكر، فتشريح الجسد على نحو ما قام به ( حي) يضع عقله على مشارف اللا مفكر فيه، ويشكِّل ذاكره مستقبلية عن الجسد الذي لولاه ما كان ثمّة وجود للعالم، فالجسد هنا رمز للعالم؛ لأنه سر وجوده واستمراريته.


فاللغة في هذين الحقلين الدلاليين تدل سيميائيًّا على أن الأفكار الجديدة التي أنتجها ( حي بن يقظان) ليست غريبة عنه؛ لأنها نتاج عقلي استند إلى تجربة حقيقية وشخصية؛ ومن ثمّة فنظرته للعالم لا تُحيل على تشكّل أو تصوّر مُسبق؛ لأنه يحيا في عالم من العُزلة، إن فكره يتحرّك في مجال منعزل عن الإيديولوجيات المجهِضة لأي نتاج فكري نوعي ومختلف؛ حيث يسعى لبناء حاضر لا يخضع لمعايير مفروضة سلفًا عليه اتّباعها؛ ولذا فهو لا ينظر إلى نفسه من خلال نظرة الآخرين، بل ينظر إليها من خلال وعيه وعقله.




الهوامش والإحالات

1 باتريك شارودو Patrick Charaudeau ودومينيك منغنو Dominique Maingueneau ، معجم تحليل الخطاب، ترجمه عن الفرنسيّة: عبد القادر المهيري، وحمادي صمّود، دار سيناترا ( المركز الوطني للترجمة ـ تونس ) ( 2008م) ص 396

2 ـ بورال وغريز ومييفيل ( 1983م: 161) المرجع السابق ص 396

3 ـ معجم السرديّات، تأليف مجموعة من الباحثين، إشراف: محمد القاضي، الدار الدولية للناشرين المستقلين ـ تونس، الطبعة الأولى ( 2010م) ص 50.

4 ـ ابن طُفيل، حي بن يقظان، تقديم وتحقيق فاروق سعد، منشورات دار الآفاق الجديدة، ( بيروت ـ لبنان) الطبعة الثالثة ( 1400هـ/ 1980م) راجع المقدمة من ص6 : ص 12

5 ـ معجم السرديّات، تأليف مجموعة من الباحثين، ص50.

6 ـ السابق، ص 39.

7 ـ ابن طُفيل، حي بن يقظان، تقديم وتحقيق فاروق سعد، منشورات دار الآفاق الجديدة، ( بيروت ـ لبنان) الطبعة الثالثة ( 1400هـ/ 1980م) ص 138.

8 ـ ابن طُفيل، حي بن يقظان، تقديم وتحقيق فاروق سعد، ص 139.

9 ـ معجم السرديات، ص 411.

10 - Ch.w.Morris, Foundation of the thery of signs, Chicago 1983 p.3,4

11 – I bed p.4

12ـ فريال غزول، علم العلامات ( السيميوطيقا) مدخل استهلالي، ضمن كتاب: أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، ( مدخل إلى السيميوطيقا) إشراف: سيزا قاسم ونصر أبو زيد، دار إلياس العصرية ( القاهرة) ( د ـ ت) ص 12.

13 ـ نيقولاي برديائف، العُزلة والمجتمع، ترجمة فؤاد كامل، مراجعة علي أدهم، الهيئة المصرية العامة للكتاب،سلسلة الألف كتاب ( القاهرة) ( 1982م) ص111

14 ـ ابن طُفيل، حي بن يقظان، يقول ابن الطفيل:" فلما طال همه في ذلك كله، وهو قد قارب سبعة أعوام، ويئس من أن يكمل ما قد أضر به نقصه، اتخذ من أوراق الشجر العريضة شيئًا جعل بعضه خلفه وبعضه قدّامه، وعمل من الخوص والحلفاء شبه حزام على وسطه، علق به تلك الأوراق فلم يلبث إلا يسيرًا حتى ذوي ذلك الورق وجف وتساقط. فما زال يتخذ غيره ويخصف بعضه ببعض طاقات مضاعفة، وربما كان ذلك أطول لبقائه... ص131

15 ـ السابق، ص122، وما بعدها حيث يسرد ابن طُفيل على لسان الأم بعد أن وضعت جنينها: " اللهم إنك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئًا مذكورا، ورزقته في ظلمات الأحشاء، وتكفلت به حتى تمّ واستوى. وأنا قد سلمته إلى لطفك، ورجوت له فضلك، خوفًا من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد، فكن له، ولا تسلمه، يا أرحم الراحمين، ثم قذفت به في اليم، فصادف ذلك جري الماء بقوة المدّ، فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها. وكان المدّ يصل في ذلك الوقت إلى موضع لا يصل إليه إلا بعد عام. فأدخله الماء بقوته إلى أجمة ملتفة الشجر عذبة التربة، مستورة عن الرياح والمطر، محجوبة عن الشمس..."

16 ـ السابق، ص138، 139 يقول ابن طُفيل: " وتشتت فكره في ذلك كله، وسلا عن ذلك الجسد وطرحه، وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته، إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه كانت تصدر الأفعال كلها، لا هذا الجسد العاطل، وأن هذا الجسد بجملته، إنما هو كالآلة وبمنزلة العصي التي اتخذها هو لقتال الوحوش. فانتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق له شوق إلا إليه، وفي خلال ذلك نتن الجسد، وقامت منه روائح كريهة، فزادت نفرته عنه، وود أن لا يراه ثم إنه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع حدهما الآخر ميتًا. ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وإن كان قد أساء في قتله إياه! وأنا أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بأمي، فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب.

17 ـ بيير جيرو: علم الإشارة ( السيميولوجيا) ترجمة/ منذر عياشي، دار طلاس، سوريا ( 1988م) ص 94.

18 ـ لينة عوض، تجربة الطاهر وطار الروائية، جمعيّة عمال المطابع التعاونية ( عمّان ـ الأردن) ص 34.

19 ـ جوزيف كورتيس: مدخل إلى السيميائيات السردية والخطابية، ترجمة/ جمال حضري، الدار العربية للعلوم ناشرون ـ منشورات الاختلاف ( بيروت والجزائر) الطبعة الأولى ( 2007م) ص167.

20 ـ سعيد بنكراد، السيميائيات السردية: مدخل نظري، منشورات الزمن 2001م الرباط، الفصل الثاني، نقلا عن موقع said bengrad.free.fr/

21 ـ ابن طُفيل، حي بن يقظان، تقديم وتحقيق فاروق سعد، ص 130.

22 ـ محمد قاري، سيميائية المعرفة المنطقيّة، مركز الكتاب للنشر ( القاهرة) الطبعة الأولى ( 2002م) ص73.

23 ـ ابن طُفيل، حي بن يقظان، تقديم وتحقيق فاروق سعد، ص 130، 131.

24 ـ ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع صفدي ومجموعة من الباحثين، مركز الإنماء القومي ( بيروت ـ لبنان) ( 1989/ 1990م) ص68.

25 ـ راجع، جميل صليبا: المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت (د.ت) الجزء الأول ص379 .

26 ـ راجع جان كوهن، اللغة العليا - النظرية الشعرية، ترجمة وتقديم وتعليق: أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة ( القاهرة) ( 1995م) ، ص 187.

27 ـ توماس كون، بنية الثورات العلمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ( القاهرة) ( 2003م) ص87.

28 ـ السابق، ص86

29 ـ السابق، ص 87، 88.

30 ـ ابن الطفيل، حي بن يقظان، ص 129.

31 ـ راجع، جان بول سارتر، فكرة أساسية في فينومينولوجيا هوسرل: القصديّة، ضمن كتاب: الحداثة الفلسفية، نصوص مختارة، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ( بيروت) الطبعة الأولى ( 2009م) ص304.

32 ـ ابن الطفيل، حي بن يقظان، ص 183، 184.

33 ـ أمبرتو إيكو، العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة سعيد بنكراد، مراجعة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى ( 1428هـ ـ 2007م) ص 209 ، 210

34 ـ معجم السرديّات، تأليف مجموعة من الباحثين، ص 382

35 ـ نيقولاي برديائف، العُزلة والمجتمع، ترجمة فؤاد كامل، مراجعة علي أدهم ص 94 .

ابن الطفيل، حي بن يقظان، ص 94.

36 ـ السابق، ص 93 .

37 ـ ابن الطفيل، حي بن يقظان، ص 176، 177.

38 ـ السابق، ص 134: 139.

39 ـ راجع، عبد الرحمن بدوي، حي بن يقظان لابن الطُفيل، الهيئة المصرية العامة للكتاب ( القاهرة) ( 1995م) ص 6: 9

40ـ راجع، ابن الطفيل، حي بن يقظان، ص 134 وما بعدها.

41 ـ السابق، ص 138.

42 ـ السابق، ص 145.

43 ـ السابق، ص 148، 149.

44 ـ السابق، ص 149، 150.

45 ـ السابق، ص 138.

46 ـ السابق، ص 166.

47 ـ السابق، ص 170، 171.

48 ـ السابق، ص 174.

49 ـ السابق، ص 130، 131.

50 ـ السابق، ص 135، 136.




د/ عبد الفتاح أحمد يوسف
قسم اللغة العربية وآدابها ـ كلية الآداب ـ جامعة الملك سعود
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى