محمد الديهاجي - النبوغ المغربي في الأدب العربي

من السذاجة جدا، أن يتورّط كاتبٌ معروف، في نقاش بيزنطي/ شوفيني مبتذل، أصبح متجاوزا، وخطأ غير مسموح به حتى بالنسبة للمبتدئين من الكتاب، على الأقل في وقتنا الراهن.
يتعلق الأمر بصراع المشارقة والمغاربة، في إطار ثنائية المركز والهامش، ثنائية الأستاذية والتلمذة، خصوصا إذا ما علمنا أن حصيلة البحث الفلسفي المابعد حداثي، قد قوضت مقولة «المركز والهامش»، لفائدة الهامشي والسطحي، والعابر والتفاصيل والجزئي… أليس السطح هو الأكثر عمقا على حد قول الفيلسوف الألماني نيتشه.
عقدة «المشرق والمغرب» هذه، لم تكن مطروحة البتة، عند المغاربة في يوم من الأيام، بالحدة نفسها على الأقل. لقد ظل المغاربة ينظرون دائما إلى الأدب العربي في المشرق، باعتباره جزءا من الثقافة العربية ككل، التي لا ينبغي، بأي حال من الأحوال، النظر إليها في طهرانيتها، أي باعتبارها ثقافة عربية خالصة ونقيّة. والحال أنها كانت دائما مزيجا ثقافيا، يتوالج فيه ما هو إسلامي مع ما هو يوناني، مع ما هو أندلسي، مع ما هو أفريقي، مع ما هو أمازيغي، وهكذا.
لقد ظل المشارقة (ليس كلهم)، طيلة قرون طويلة، مسكونين بمبدأ الامتياز، والأحقية في الريادة والسبق الأدبيين، إلى الحد الذي تحول فيه هذا الهوس، إلى حالة مرضية سيكوباثية، تتفاقم كلما ضايقهم النبوغ المغربي، بحيث لا يترددون، بمناسبة وبدونها، في ترديد مقولتهم الشهيرة والبائسة «هذه بضاعتنا ردّت إلينا».
والحق أن المغاربة، على الرُّغم من تطورهم وريادتهم، في مجموعة من المجالات العلمية والفلسفية والأدبية والموسيقية، في فترات تاريخية سابقة، ولنا في الخطبة الشهيرة للقائد العسكري الأمازيغي طارق بن زياد خير مثال على ذلك، بل عطفا على ذلك، وللأمانة العلمية، سأكون، مجبرا للتذكير بالازدهار الحضاري والعلمي في الأندلس وبلاد المغرب (الموشحات، فن الزجل، الطرب الأندلسي، التصوف العرفاني، الفلسفة الرشدية، الجغرافيا مع الشريف الإدريسي، أساليب الري والزراعة…)، وحتى في وقتنا الراهن، من خلال مشاريع فلسفية وأدبية رائدة (محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، عبد الكبير الخطيبي، عبد الفتاح كليطو، محمد مفتاح…)، قلت على الرُّغم من أن لأبناء هذه البلاد ـ الغرب الإسلامي ـ بصمات واضحة المعالم ، منذ القدم، في الحضارة والفكر العربيين، وكذا مساهمات جليلة ومؤثرة في النهضة العربية في العصر الحديث، فإن المغاربة ظلوا متشبتين بعروبتهم، وبوحدة الأدب العربي، بعيدا عن أي تمييز أو تقسيم على الأقطار.
فهذا صاحب «النبوغ المغربي» المرحوم عبد الله كنون، الذي حاول في العديد من المناسبات إعادة الاعتبار للعبقرية المغربية بمعية نخبة مثقفة، جمعت بين معارف شتى من علم وأدب وفكر، من بينها المختار السوسي، ومحمد المنوني، ومحمد بنتاويت، ومحمد الفاسي؛ قلت ها هو عبد الله كنون، في دفاعه عن القومية العربية، في كتابه «خل وبقل»، ينظر إلى الأدب العربي، على أنه وحدة «لا تتجزأ في جميع بلاده، في المغرب والمشرق، وفي الأندلس وصقلية المفقودتين»، بحيث لا يُسمح بتقسيم الأدب العربي، إلى أدب أندلسي، وأدب عراقي، وأدب مصري، وأدب مغاربي… وإنما هو «أدب واحد تُشارك في إنتاجه بلاد متصلٌ بعضُها ببعض، كانت في وقت ما، محكومة بحاكم واحد، ولم تزل بعد استقلال بعضها عن بعض تحكم بقانون واحد، ثم هي متشابهة في التكوين والخلق والمزاج واللغة التي تعبر بها عن أفكارها وخواطرها وحاجاتها: واحدة».
إن هذا الرجل الفذ، الذي نقّب وبحث، فوجد كنوزا عظيمة من أدب «لا يقصر في مادته عن أدب أي قطر من الأقطار العربية الأخرى»، في مصنف شهير وسمه بـ»النبوغ المغربي في الأدب العربي»، قد خلق حدثا طارئا وخطيرا حينئذ، في المغرب والمشرق على حد سواء. ومما يؤكد عقدة المركز والأحقية والريادة عند إخواننا المصريين خصوصا، هو إعلان وزارة المعارف المصرية عن جائزة، لمن يؤلف كتابا عن الأدب العربي في مصر، في الوقت نفسه الذي صدر فيه كتاب النبوغ» (سعيد حجي ـ جريدة المغرب)، وقد كانت قيمة الجائزة يومئذ 500 جنيه مصري.
إلا أن الكبار من المفكرين المشارقة، تاريخيا، لم يكن ليروقهم الانخراط في حلبة هذه الثنائية، ثنائية المشرق والمغرب، المركز والهامش، الإبداع والاتباع… ويكفي في هذا الإطار أن أسوق بعض شهادات أحد أهم علماء المشرق العربي، في عصر النهضة، في حق النبوغ المغربي، والعبقرية المغربية، يتعلق الأمر بأمير البيان شكيب أرسلان، إذ يقول في حق عبد الله كنون: « إنه الكتاب الممتع الذي أخرجه للناس، فذا في بابه، السيد الشريف والعلامة الغطريف الأستاذ عبد الله كنون من مفاخر القطر المغربي، في عصرنا الحالي».
ثم يضيف قائلا «بعد أن طالعت هذا الكتاب الصغير حجمه، الكبير قدره، كأني لم أعلم عن المغرب قليلا ولا كثيرا، وكدتُ أقول إن من لم يستطع الاطلاع على هذا الكتاب لا يحق له أن يدعي في تاريخ المغرب الأدبي علما».
وحتى نرفع عن أستاذنا عبد الله كنون، كل اتهام نعراتي أو عنصري، أو تعصبي، في كتاب النبوغ، سأتوسل بشهادة أخرى لأمير البيان دائما يقول فيها «ولعمري إن من قرأ هذا الوعد الذي جزم به المؤلف، اعتقد أنه بالغ فيه جدا، وحمل نفسه إدا، وزعم الإحاطة بموضوع تعجز عنه الجملة ولا تعنى به الكتب الجمة، إلا أنه عندما يقرأه يجد المؤلف قد وعد فأنجز، وقرب الأقصد بلفظ موجز، وكان فعله محققا لقوله».
ذلكم بعض هوامش على هامش الاتهامات الخطيرة التي تفوّه بها صاحبنا أعلاه، حين خانه لسانه، وتطاير بصاقه، وانتثر حقده أو جهله حتى أصابه عمى الألوان، فتحول قلمه إلى مجرد رقاص في جدل بيزنطي لا يتقنه إلا من لا زال يعيش بعقلية شعبوية وشعوبية بائسة، عقلية (أُمّ الدنيا) أقصد.





محمد-الديهاجي.jpg
 
أعلى