دراسة محمد عبدالحليم غنيم - كثافة السرد وشفافية المضمون قراءة في رواية "ساعات الانفجار" لـ عبدالفتاح الجمل

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

[SIZE=4]ـ 1 ـ[/SIZE]
هذه هي المرة الأولى التي أقرأ فيها نصا طويلا بحجم الرواية للأستاذ الروائي والقاص عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل , على الرغم من شهرته وإنتاجه المتنوع في القصة القصيرة والرواية , وهو على بعد الخطوة ونصف الخطوة مني , ويبدو أننا لا نرى أحيانا اقرب الناس إلينا , وربما لشدة قربنا منهم , فالرواية التي بين يدي قدمها الأديب الفاضل في شهر أبريل من العام الماضي أثناء انعقاد مؤتمر شرق الدلتا الثقافي بالمنصورة , وشغلتني عن قراءتها أسباب أكل العيش وظروف أخرى لا داع لذكرها هنا , لكن والحق أقول , كنت متشوقا لقراءة عمل كامل له , خاصة وأنني لم أقرأ له من قبل سوى بعض القصص القصيرة في بعض المجلات الأدبية هنا وهناك , وأخيرا قرأت رواية " ساعات الانفجار " أقول أخيرا قرأت , لأن طباعة الرواية من أسف لا تشجع على هذه القراءة , حيث الخط صغير جدا , ولولا بقية من صحة قديمة وشباب على وشك الزوال لما استطعت الانتهاء من قراءتها .

أما وقد قرأت ـ والحمد لله ـ فـ " ساعات الانفجار " على الرغم من قلة الأحداث في متنها الحكائي وقلة الشخصيات أيضا , فإنها مزدحمة بالتفاصيل ومكتنزة بالأفكار والآراء , وبمعنى آخر مثقلة بالمضمون , وهذا يرجع في رأيي إلى الحرية الكبيرة التي منحها المؤلف لراوي الأحداث بوصفه راو عليم ببواطن الأمور , يدس أنتفه في كل صغيرة وكبيرة , مما أخل أحيانا بالتوازن بين المتن الحكائي والبناء الحكائي .

وقد حدت تدخلات الراوي الكثيرة , ووعيه الحاد ودقة رصده لكل شيء من شفافية السرد , فغلب على الرواية السرد الكثيف , وكأني بالمؤلف أراد أن يقول كل ما لديه في هذه الصفحات القليلة التي تكون منها متن الرواية .

ولابد من توضيح الفرق بين السرد الشفاف والسرد الكثيف " لقد كشفت الدراسات السردية المتخصصة وجود ضربين من السرد : سرد شفاف وسرد كثيف و فحينما يختفي السرد ويتوارى إلى أقصى حد ممكن لصالح الحكاية : يظهر السرد الشفاف الذي يجعل الأحداث تفرض نفسها دون أن يشعر المتلقي بوجود الوسيط السردي , أما حين يشير الراوي إلى نفسه كثيرا بوصفه منتجا للأحداث أو مبتكرا للحكاية فإن المتلقي لا يندمج مع الأحداث , ولا تتحقق واقعية الحكاية , إنما يتمزق الإيهام , وتنكسر مقوماته , فالراوي يتدخل متحدثا عن نفسه وعن دوره مبديا ملاحظات حول كل شيء , وهنا يظهر السرد الكثيف " (1) .

وكثافة السرد عند عبد الرحمن الجمل لا تنبع من إعلان الراوي عن كيفية السرد , أو إظهار نفسه بشكل مباشر كأن يقول أنا أكتب رواية أو أنا ….. يخاطب القارئ مباشرة مما يؤثر على الإيهام السردي , إن كثافة السرد في ط ساعات الانفجار " تسير بالرواية على عكس ذلك تماما و إن تدخلات الراوي تحقق واقعية الحكاية وتجعلنا كقراء نندمج مع الأحداث , بل تجعلنا نربط بين الراوي والبطل والمؤلف أحيانا .

إن كثافة السرد كما أشرت تنبع من دقة ملاحظات الراوي وتفتيشه المستمر عن بواطن الشخصيات و كما سنشير بعد قليل .

[SIZE=3]ـ 2 ـ[/SIZE]
" ساعات الانفجار " عنوان غلاف الرواية وليس عنوان أحد الفصول , وكنه طبقا لاستراتيجية النص المكتوب بعناوينه الداخلية حيث يضع المؤلف لكل فصل أو قسم عنوانا , نجد أن هذا العنوان كان يمكن أن يوضع بديلا لعنوان الفصل السابع " الأخذ بالأسباب " حيث يترك فيه الراوي العليم لأول مرة حرية واسعة لإحدى شخصيات الرواية وهو عبد العاطي الدهشان , لكي يسرد تجربته في العراق وأمنياته لعزبة درويش , وأعتقد أن سبب منح هذه الحرية لعبد العاطى , أنه أقرب الشخصيات شبها ببطل الرواية منير , ذلك الذي ترك المنصورة بعد وفاة زوجته , والتقى بـ نحمده فتزوجها بعد الخمسين على الرغم من اعتراض أبنائه , وذهب ليعيش معها في الشرقية في عزبة "درويش" .

تتكون رواية "ساعات الانفجار" من عشرة فصول هي على الترتيب : أجنحة الربيع ـ مرتبة من ماء وطين ـ طقطقة أعواد الحطب ـ عالم ذكر البط ـ ضربة شمس ـ البراغيث تغزو نار الملائكة ـ الأخذ بالأسباب ـ بوابة النزيف ـ على فتيل المسرجة ـ أصابع للحفر على الصدر .

وهذه الفصول العشرة على تنوع مضامينها وكثرة شخوصها وازدحامها بالتفاصيل الصغيرة تتمحور حول شخصية رئيسية واحدة هي شخصية (بابا منير) على الرغم من الدور المتضخم للراوي العليم , غير أنه في الواقع يتبنى في الغالب وجهة نظر منير , فالسرد في الرواية يبدو في الظاهر موضوعيا , غير أنه بعد قليل من التأمل يعد سرد ذاتيا , حيث تروى معظم الأحداث بعين ورؤية الشخصية الرئيسية منير , بما في ذلك الفصل السابع الذي يترك فيه الراوي العليم كما أشرنا سابقا الحرية الواسعة لرواية الحدث من خلال عين عبد العاطي الدهشان إلا أن الدهشان يكاد يكون هو منير , أو بالضبط هو معادل موضوعي لشخصية منير .

إن المروية الرئيسية في السرد بطلها الأساسي منير بقطع النظر عن البداية الحقيقية للأحداث , إذ نلتقي في الفصل الأول بـ منير مع نحمده في منزلها الريفي في عزبة درويش ومع تتابع السرد نبدأ في التعرف على الشخصيات , فمنير زوج نحمده تزوجها بعد وفاة زوجته وهو قد تخطى الخمسين , وهو أيضا مريض , وأن لنحمده بنتا وولدا , البنت اسمها نورا والولد اسمه عبد الرحمن , فمنير هو زوج الأم , ونحمده قوية صحيحة نشيطة على حين منير مريض وحالم , وهو في إجازة مرضية , وهي تكاد تكون ممرضته , إلى جانب دورها كزوجة وحارسة له , وهو أيضا ـ منير ـ مرتبط بالكلب بوكر الذي نعرف قصة الحصول عليه وقصة ضياعه , وإلى جانب بوكر هناك أهل العزبة أو بالضبط أهل نحمده عائلة الشحات , التي جاءت من الدقهلية واستوطنت الشرقية , ومن فرع العائلة هناك رئيفة بنت عم العمدة الشحات , وزوجها عبد العاطي الدهشان , الذي تركها وسافر إلى العراق ليقاتل ضد الأمريكان والأعداء (الفصل السابع) .

وقبل هذا هناك حسن أخو نحمده وزوجته محاسن , وذكريات منير المرة والحلوة على السواء مثل رفض خالته زواجه من ابنتها وجارتهم أم حبشي وطقس النار وسبت النور , ومعظم هذه الأحداث والتفصيلات تأتي عبر وعي الشخصية لأنه الحدث الخارجي كما قلت بسيط ومحدود , يتلخص غي دخول منير إلى بيته في عزبة درويش ولقائه المباشر بزوجته نحمده , ثم خروجه من العزبة لزيارة الطبيب في المنصورة .

وإذا كان المؤلف قد استهل روايته بالعبارة التالية " حالتان لا ـــ العين فيهما بالنوم إذا استحوذ الحب على قلبه , أو إذا أصيب صدره بالمرض .

يا ويله من قصر الليل عندما يدق الحب بابه

يا ويله من طول الليل عندما تستبد به الكراهية " (ص 1) ليعبر عن حالة القلق التي يعيشها منير و فأعتقد أنه وفق في ذلك , حيث نجد بابا منير طوال الأحداث قلقا , يجتر ذكرياته كما أشرنا , ويصطدم ب ( نحمده) زوجته ويأسى لأحزان رئيفة وأهل عزبة درويش , ولكنه في النهاية يبدو راضيا عن نفسه , بعد هذه الرحلة داخل الذات وخارجها متفاعلا مع مشكلات أهل العزبة ورسائل عبد العاطي الدهشان , يؤكد ذلك هذه النهاية التي وفق فيها المؤلف كما وفق في استهلاله السردي :

" نقل حقيبته إلى اليد الأخرى , وقف لحظة يسترد فيها أنفاسه وسط أعراس العصافير والنهر والأرض التي كلما قطع فوقها خطوة كانت زبرجدا وكانت كهرمانا وذهبا لا يشعر بسيولته إلا مع هبات النسيم على رؤوس السنابل .

خلال اللحظة التي وقف فيها , شعر بأنه استراح من حمل الحقيبة المثقلة بكلمات عبد العاطي الدهشان ثم انحنى عليها ومضى ممتلئا بالرضى عن نفسه , لأنه انتزع جميع الأشياء الجميلة من مكانها ووضعها على صدره وهو يدفع بجسده داخل السيارة , وحين نظر إلى الخلف باتجاه عزبة درويش شعر بدمعتين ساخنتين تجريان على خديه , حاول إيقاف الإجهاش بحث في جيوبه عن منديل , لعله يخفي به ملامح بوكر التي صعدت إلى عينيه خلال المرات التي صاحبه غيها على هذه الطريق . " (ص 92) .

ففي هذه النهاية نشعر أن المريض قد شفي , كأنه تطهر بماء الريف المقدس , لقد انتزع جميع الأشياء الجميلة ووضعها على صدره , وبمعنى أدق داخل صدره ولكنه قد ذكر عبد العاطي رمز المقاومة وبوكر رمز الوفاء , نسي أن يذكر نحمده و وربما كان المبرر الداعي لعدم ذكرها أنه سيعود إليها مرة أخرى , فهي كما أشار في موضع آخر من الرواية حارسه الأمين .

وبعد فهذه قراءة أولى في رواية " ساعات الانفجار " للروائي المثابر عبد الفتاح الجمل , نرجو أن نكون قد وفقنا في الكشف عن أسرارها الفنية , لأن مثل هذه الرواية تحتاج في الواقع إلى أكثر من قراءة و وعند ذلك ربما تتعارض هذه القراءات أكثر ما تتلاقى , على أية حال قراءتي هذه اجتهاد قابل للنقاش , والله الموفق .


دكتور / محمد عبد الحليم غنيم

الهوامش :

(1) عبدالله إبراهيم :الرواية العربية والسرد الكثيف ،مجلة علامات ،نادى جدة الثقافى ،العدد27- مارس1988،ص104،105.

(2) صدرت رواية "ساعات الانفجار" عن سلسلة إبداع الحرية التى يشرف عليها المؤلف عام 2004 .




كثافة السرد وشفافية المضمون.. قراءة في رواية " ساعات الانفجار" للروائى المصرى عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل
د. محمدعبدالحليم غنيم


محمد عبد الحليم غنيم.jpg
 
أعلى