رشيد الخيون - ابن المرزبان يتعَزَّى بالكلاب من فساد أخلاق البشر

لا يدخل «فضل الكلاب على كثير ممَنْ لبس الثياب» في باب علم الحيوان بقدر ما يدخل في باب ذم الزمان والاستجارة من لؤم أهله

نشر كتاب «فضل الكلاب على كثير ممَنْ لبس الثياب»، لأبي بكر محمد بن خلف بن المرزبان (ت309هـ)، أول مرة في مجلة «المشرق» اللبنانية العام 1909، ثم نشر في القاهرة العام 1922، ثم بلندن العام 1977 مع ترجمته إلى الإنجليزية تحت عنوان (The Superiority of Dogs over of Those who wear clothes) محلى بصورة مقلدة لرسومات تراثية، وهي النسخة التي أصدرتها دار «الجمل» (2003)، تحقيق وترجمة الدكتور ركس سميث والدكتور محمد عبد الحليم، وقبل هذا أصدرت الكتاب دار «التضامن» تحقيق عصام محمد شبارو (1992). كانت الكتابة في مواضيع مثل مواضيع الحيوان والنبات والماء والشجر والمطر والرياح والأمكنة والأنواء وتفاصيل الطبيعة الحية وغير الحية الأخرى متابعة واعية مثيرة للاهتمام، رغم عدم الاختصاص العلمي لدى أصحابها، فكثيراً ما تمت عبر مشاهدة الظواهر بالعين المجردة، وما قاله الأقدمون. ففي الكتابة حول الحيوان أخذ الكل من أرسطو طاليس، وفي مقدمتهم ابن بحر الجاحظ (ت255هـ) في «الحيوان»، كان الكتاب الأخير بمثابة انسكلوبيديا لظواهر الطبيعة، مع مباحث في علم الكلام والفلسفة وأخبار تاريخية ولا تخلو أيضاً من مناحي الأدب العامة والتراجم. وكذا الحال بالنسبة لزكريا القزويني (ت682هـ) في "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات"، الذي كتب عن مشاهدته الشخصية لبعض عجائب الكائنات، وتبنى الديميري في «حياة الحيوان الكبرى»، نهجاً طريفاً في كتابة التاريخ، مؤرخاً للأحداث والرجال عن طريق ما يتعلق بها من أسماء الحيوان، ففي باب الكلب مثلاً تأتي أسماء أشخاص وقبائل وأمكنة، وكذلك في باب الفهد والأسد وغيرها.

لا يدخل تصنيف ابن المرزبان «فضل الكلاب على كثير ممَنْ لبس الثياب» في باب علم الحيوان بقدر ما يدخل في باب ذم الزمان والاستجارة من لؤم أهله، فيبدو أن المصنف كان مجروحاً من سوء أخلاق ومعاشرة المحيطين به، فعمد إلى تتبع سلوك الكلاب، مدللاً على فضلها الأخلاقي نسبة إلى أخلاق لؤماء عصره، قليلي الوفاء وفاقدي الكرامة، مَنْ لم يحفظوا أمانة الأصحاب ولم يستجيبوا للأصدقاء وقت الحاجة، ولم يجد فيهم المروءة مثلما وجدها عند الكلاب. يدرك ابن المرزبان رأي الأديان في الكلب فهو، حسب «قاموس الكتاب المقدس»، من الحيوانات النجسة، يلحس الدم المسفوك، وينهش لحوم الأموات، ويهاجم الناس، ويطلق اسمه على أتباع الشهوات والناكثين توبتهم في العودة إلى الخطايا والكذابين. وفي القرآن الكريم ورد ذكره في سورة الأعراف «مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا» ذاك للتشبيه بالوضاعة والخسة والكذب. لكن، من جانب آخر للكلب وظيفتان قديمتان، لا يستغني عنهما البشر، وهما: الحراسة والصيد، مثلما ورد في سورتي «الكهف»: «وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد»، و«المائدة»: «وما علمتم من الجوارح مكلبين» أي ما تصيده الكلاب.

كانت إشارة ابن المرزبان واضحة إلى المفارقة بين أن يهان الكلب إلى حد اعتباره من الحيوانات النجسة، وينشغل الفقهاء في نجاسته ويختلفون حول نجاسته شعره أو طهارته، وبين ضرب المثل به في الوفاء، ورغم تعلقه بصاحبه وأمانته وتضحيته في الحراسة والصيد إلا أن مكانه خارج الدار، ونعت الإنسان بالكلب يعد إهانة كبرى، والأمر معكوس في نعت الإنسان بالأسد، رغم أن مساوئ الأسُود أكثر من أن تعد وفضائل الكلاب أكثر من أن تُعد أيضاً، لكنها القوة المقدسة التي تهيمن عادة على سواد الناس، يعظمون المفترس الخالي من الرحمة، حيواناً كان أو سلطاناً، لذا لقبوا الليث بملك الغابة وسموه ونعتوه بأسماء ونعوت لا حصر لها. ونسبت إلى الشاعر الحنبلي البغدادي علي بن الجهم أبيات مدح فيها المتوكل كادت تودي بحياته:

أنت كالكلب في حفاظك للودِّ = وكالتيس في قِراع الخطوب
أنت كالدَّلو لا عدمناك دلواً = من كبار الدِّلا كثير الذنوب
وكاد الخليفة أن يفتك به لولا أنه صبر عليه ليقول «رصافيته» المشهورة ومنها (ديوان علي بن الجهم):

عيون المها بين الرصافة والجسر = جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن ليّ الشوق القديم ولم أكن = سلوتُ ولكن زدن جمراً على جمر
عبر أبو العلاء المعري عن ظاهرة تقديس القوة المستشرية بين الناس، بمخاطبته لفرخ دجاج كان الطبيب نصحه أن يأكل لحمه، بالقول:
«استضعفوك فنعتوك هلا نعتوا شبل الأسد».
لكن الكلب المهان كان يوماً من الأيام طوطماً يعبده البشر، فانتقل في ذهنية الناس من التقديس إلى التدنيس، وإلا ما سبب تحريم اليهود من دخوله إلى مكان العبادة لولا طرده من ذلك المكان ليكون محتقراً، بعد أن ظهر إلاهاً في الآثار المصرية، ووصلتنا أسماء قبائل مثل بني كلب أو كلاب، ولُقب أُناس كانوا متفوقين في عصرهم بالكلبي وابن الكلبي، ومن أبرزهم المؤرخ والنسابة هشام بن السائب الكلبي. ذكر صاحب «حياة الحيوان الكبرى" أن أبا الدقيس الأعرابي أجاب على سؤال "لمَ تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب وعبيدكم بأحسنها» بالقول: «إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا»، علق الدميري قائلاً: «كأنهم قصدوا بذلك التفاؤل بمكالبة العدو وقهره».

نقد ابن المرزبان في «تفضيل الكلاب...» وكتابه الآخر «ذم الثقلاء» الذي حققه الباحث محمد حسين الأعرجي، (دار «الجمل» 1999) زمانه (القرنان الثالث والرابع الهجريان) نقداً مفضوحاً، لم تسلم منه السلطات، وإن ورد ذلك بالإشارة الصريحة وبالإيماءة. والكتاب الأخير كان رصداً دقيقاً، نهج في تصنيفه نهج الجاحظ في كتاب «البخلاء» ورسائله الناقدة الأخرى، مراقباً حركات وصفنات الثقلاء، فمن ضيقه بالجليس الثقيل أنشد لعبد الله بن نصر الرياشي:

لي صاحبان على هامتي = جلوسهما ، مثل حدّ الوتدْ
ثقيلان لم يعرفا خفَّة = فهذا الزكام وهذا الرمدْ
محمد بن المرزبان «فضل الكلاب...» مخبراً عن سبب تصنيفه لهذا الكتاب الغريب في عنوانه ومادته على السائد في عصره من أنواع الكتابة. قال في مقدمته: «ذكرت أعزك الله زماننا هذا وفساد مودة أهله وخسّة أخلاقهم ولؤم طباعهم، وأن أبعد الناس سفراً مَنْ كان سفره في طلب أخ صالح، ومَنْ حاول صاحباً يأمن زلته، ويدوم اغتباطه، كان كصاحب الطريق الحيران الذي لا يزداد لنفسه أتعاباً إلا ازداد من غايته بعداً فالأمر كما وصفت». وتمثل المصنف ببيت عميق اليأس و شديد الإحباط للبيد بن ربيعة العامري:
ذهبَ الذين يُعاش في أكنافهم = وبقيتُ في خلف كجلد الأجرب

نقول صنف ابن المرزبان كتاب «فضل الكلاب...» غير أن مقدمته ومتنه تخبران عن نقله بالرواية عنه، فالكتاب لم يصل، لمن نقلوه أو رووه عنه، كتاباً بين دفتين، ففيه رواية يعود تاريخها إلى العام 381هـ، أي بعد وفاة المصنف باثنتي وسبعين سنةً، وفي نسخة دار «التضامن» رواية ترقى إلى العام 543هـ، لكن الأقرب على عصر من ابن المرزبان، ومسجلاً أكثر نصوص كتابه، هو القاضي علي بن المحسّن بن علي التنوخي (384هـ)، في كتابه «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة»، وأخذ عنه كمال الدين بن محمد بن موسى الدميري (ت808هـ) في «حياة الحيوان الكبرى»، وذكر مؤلفه بالمرزباني.

بيد أن كتاب ابن المرزبان ليس الوحيد الذي وصلنا عبر المرويات، فأكثر كتب التراث وصلت بهذه الطريقة، وربما تصرف النُساخ فأكثروا من ذكر أسم المؤلف في صفحات الكتاب وكأنه يتحدث أو يقرأ كتابه على شخص آخر أو يمليه على الناسخ نفسه. وأن كتب الأمالي التي صنفت عن طريق الإملاء ليست بالقليلة في المكتبة العربية، ومنها «أمالي القالي» و«أمالي المرتضى» و«أمالي ابن الشجري» وغيرها، وليكن كتابنا «تفضيل الكلاب...» هو أحد الأمالي إن كان لابن المرزبان تلاميذ يدونون ما يقول. والجدير بالذكر أيضاً أن أغلب المصنفين القدماء صنفوا كتبهم بأمر من خليفة أو وزير، وابن المرزبان أحدهم يكتب وكأنه يخاطب شخصاً في مجلس، مثله مثل أبي حيان التوحيدي في تأليف كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، وأن هذا الشخص ليس شخصاً عادياً، تتضح وجاهة المخاطب من عبارته: «وسألتني أعزك الله تعالى وأكرمك أن أجمع لك ما جاء في فضل الكلب على شرار الإخوان، ومحمود خصاله في السر والإعلان». غير أن العادة كانت جارية في تصنيف الكتب أن يخاطب المصنف شخصاً وربما كان مجهولاً، على طريقة إخوان الصفا وخلان الوفاء في رسائلهم أو ابن خلدون في «المقدمة»، الذي نهج نهجهم في مقدمته. أراد ابن المرزبان في نهج هذه الطريقة المألوفة إشعار القارئ أن ضيق الزمان لم يشمله لوحده وطبقته بل شمل أصحاب النفوذ أيضاً، فكُلف بالبحث عن أخلاق وسجايا الكلاب لفضح الزمان وأهله من قبل شخصية مرموقة وليكن وزيراً مثلاً.

من فضائل الكلاب التي سجلها ابن المرزبان في كتابه أن كلباً أخرج صاحبه من بئر دفن فيه حياً، وفي هذا قيل شعراً:

يُعرج عنه جاره وشقيقه وينبش عنه كلبه وهو ضاربهوكلب يكشف عن قاتل وجثة صاحبه، وكلب يخلص السلطان من موت محقق، في نهب الطعام المسوم من على مائدته، بعد أن شاهد أفعى أفرزت سمها فيه، فأنعم عليه ببناء ضريح له، وشجع الناس على زيارته بالعبارة التي كتبها عليه: «هذا قبر الكلب فن أحب أن يعلم خبره فليمض إلى قرية كذا وكذا فإن فيها خبره». وكلب يحمي قافلة الحج من اللصوص، وكلبة تقوم بمهام الأم في رضاعة طفل أصحابها بعد أن ماتوا جميعاً بالطاعون وظل حياً أغلق باب الدار عليه. وكلب يضطر لصاً على التوبة من السرقة، وكلب يقتل زوجة صاحبه وعشيقها، وهو صديقه، بعد أن شهد خيانتهما على فراش الزوجية، فقال صاحبه:

قد أضحى خليلي بعد صفو مودتي = صديقاً بدا الذل أسلمه الغدر
يطأ حرمتي بعد الإخاء وخانني = فغادره كلبي وقد ضمه قبر
وكلب يقوم بمهام ساعي البريد إن شد صاحبه «في عنقه رقعة بما احتاج إليه». واعتزازاً بكلبه هجر الحارث بن صعصة ندماءه، ويتخذ كلبه نديماً. ومن مزايا الكلاب التي وردت في الكتاب إنها مع أصحابها أشفق من الأخ على أخيه، وتنصح أهلها، وتحفظ ما لهم، ولا حدود لوفائها، وتُتخذ ندماء، وتحفظ العهد، وترحب بالضيوف، ومنزلتها عند الملوك عالية، قال الأصمعي: «سمعت بعض الملوك وهو يركض خلف كلب وقد دنا من ظبي، وهو يقول من الفرح: «ايه فدتك نفسي».

كان كتاب ابن المرزبان جريئاً في عصره، فمن يجرأ أن يخبر عن قبور وأضرحة للكلاب، ومن يجرأ أن يخبر أن ملكاً فدى كلبه بنفسه، وطريفاً بأخباره ومفارقاته من عنوانه حتى خاتمته، تجاوز فيه المصنف المحظورات في مدح الكلب. بعد هذا، هل كان ابن المرزبان محقاً في تفضيل الكلاب على بني آدم من المتوحشين والساقطين؟ وهل سبق المصنف الأوربيين في تقدير هذا الكائن، وهل تكفي محامده تطهيره من النجاسة والحقارة الموصوف بها خطأً؟

رشيد الخيون.jpg
 
أعلى