دراسة محمد محمد عبدالحليم غنيم - شعرية البداية فى روايات بهاء طاهر الحب في المنفى أنموذجا

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

الحب في المنفى.png

الروائي الكبير بهاء طاهر كاتب مقل إذا ما قورن بأبناء جيله من كتاب الستينات , فعبر مسيرة أدبية تربو زمنيا على الأربعين عاما , ينحصر إنتاجه في أربع مجموعات قصصية ( الخطوبة 1972 – بالأمس حلمت بك 1984 – أنا الملك جئت 1985 – ذهبت إلى شلال 1998 ) وخمس روايات ( شرق النخيل 1985 – قالت ضحى 1985 – خالتي صفية والدير 1991 – الحب في المنفى 1995 – نقطة النور 2001 ) , وأربعة كتب , تعد بمثابة الهامش على هذا المركز الإبداعي الراسخ في القصة القصيرة والرواية , وهى على الترتيب : عشر مسرحيات مصرية عرض ونقد – أبناء رفاعة : في الثقافة والحرية – ترجمة رواية ساحر الصحراء للكاتب البرازيلي باولو كويلهو – في مديح الرواية . والأخير آخر ما صدر للكاتب حيث نشر منتصف هذا العام .

إن قلة إنتاج بهاء طاهر الإبداعي يرجع في الأساس إلى احترامه وتقديره لدور الكاتب والكتابة , فليست الكتابة وسيلة للاسترزاق أو وظيفة يتعيش منها الكاتب , إن الكتابة هم وفى الوقت ذاته تحمل أهدافا سامية تتغيا رقي الإنسان مبدعا ومتلقيا على السواء .

نال بهاء طاهر منذ ظهور أول مجموعة قصصية له ( الخطوبة) احترام معظم النقاد وتقديرهم , فلاحقوا أعماله الصادرة فيما بعد , سواء في القصة القصيرة أو في الرواية , ولعله – أي بهاء طاهر – يعد كاتبا محظوظا , وأقول محظوظا لأن معظم هذه الملاحقات النقدية جاءت من كبار نقادنا المتميزين في مصر والعالم العربي , فأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر : عبد القادر القط وصبري حافظ وجابر عصفور وعلى الراعي وسيد البحراوي وصلاح فضل وفاروق عبد القادر وشكري عياد واعتدال عثمان وعبد الرحمن أبو عوف ومحمد محمود عبد الرازق وغيرهم من مصر , ومن المغرب شعيب حليفي وعبد الرحيم العلام , ولقد جعلني هذا الاحتفاء والتقدير لأعمال بهاء طاهر , أقف مترددا وأتساءل : ماذا يمكن أن أكتب بعد كل الذي كتب ؟ لقد قرأت أكثر من عشرين دراسة حول أعمال بهاء طاهر , لم أجد واحدة منها تأخذ عليه مأخذا نقديا لافتا , كالسطو على التراث أو ضعف اللغة أو هلهلة البناء السردي أو غيرها ‏من المآخذ التي وجهت إلى بعض أبناء جيله , ليس معنى هذا أنني معني هنا بالبحث عن السلبيات والمآخذ في روايات بهاء طاهر , أو أنني غير راض عن هذا النقد , بل على العكس تماما , فلقد شعرت بالعجز أمام هذا التقدير النقدي خاصة وأنه صادر من نقاد كبار كما أسلفت , بيد أنني وجدت على الرغم من ذلك ثغرة صغيرة في هذا النقد , مما شجعني على الولوج وتناول أعمال بهاء طاهر في هذه الدراسة , أما الثغرة التي سمحت لى بالولوج فهي أنني لاحظت أن معظم ما كتب من دراسات لم يول اهتماما كبيرا بالصنعة القصصية عند بهاء طاهر بالقدر الذي أولاه للمضمون والقضايا والتيمات الكامنة وراء هذه الأعمال , على الرغم من أن روايات بهاء طاهر مصنوعة بدقة , يقف وراءها صانع ماهر مبدع لا يترك شيئا للمصادفات .

ولأنه سيكون من الصعوبة والاستحالة أن أقف عند جميع أسرار هذه الصنعة الروائية , رأيت أن أكتفي بتناول ملمح أو تقنية تعد من أبرز ملامح وأسرار الصنعة الروائية في روايات بهاء طاهر وقصصه القصيرة على السواء ألا وهى تقنية البداية ولنقل دون مجازفة : شعرية البداية الروائية في روايات بهاء طاهر , وهنا لابد من عزو الفضل للدكتور صبري حافظ , فقد كان أول من لفت نظري إلى جمال البداية عند بهاء طاهر ويحي حقي , إذ يقول " فليس هناك فيمن أعرف من كتاب القصة من يكشف عمله عن معرفة وثيقة بأهمية البداية القصصية قدرهما " (1) وفى موضع آخر يخص بهاء طاهر وحده بالقول : " وبهاء من أساتذة المفتتحات القصصية " (2) .

و سيكون من الإطالة والصعوبة معا في هذا الحيز الوقوف عند شعرية البدايات في جميع روايات بهاء طاهر ,لذا سأكتفي بالوقوف عند رواية "الحب في المنفى" أما لماذا " الحب في المنفى " على وجه الخصوص وليس آخر أعمال الكاتب "نقطة النور" مثلا ؟ أو أي عمل آخر ؟ فذلك لأن بعض الذين تناولوا "الحب في المنفى" أشاروا باقتضاب إلى استهلال الرواية , أو الجملة الافتتاحية فيها دون أن يتعمقوا أو يبحثوا عما وراء هذا الاستهلال من جمال وتأثير . وعلى ذلك ستكون دراستي موزعة على قسمين , الأول نظري يبحث في مفهوم البداية الروائية وحدها ووظائفها وأنماطها . والثاني تطبيقي يبحث في شعرية البداية في رواية "الحب في المنفى" مع الإشارة إلى ملامح البداية في روايات بهاء طاهر الأخرى .


أولا : مصطلح البداية الروائية ملامح نظرية :



ربما كان الأقرب إلى مصطلح البداية ما عرف في تراثنا الشعري والنقدي بمطالع القصائد أو مقدماتها , فالمطلع أو المقدمة أول عتبات النص الشعري وهى فاتحته واستهلاله الذي يغرينا بقراءة النص أو الاستماع إليه , كما أنها لابد أن تكون ذات صلة وثيقة أو ممهدة للغرض الأساسي في القصيدة , مدحا أو هجاء . أما في النقد الحديث فالبداية هى المقابل لمصطلح "l,incipit " في اللغة الفرنسية , وهو يعني المطلع أو الافتتاحية , ولعله منقول في الأصل من افتتاحية الأعمال الموسيقية كالسمفونية والسوناتا , إذ يطلق اللفظ نفسه على الجملة الموسيقية الأولى .

والبداية عند جيرار جينت صاحب كتاب "عتبات" المعروف , إحدى عتبات النص مثلها في ذلك مثل العنوان وأيقونة الغلاف واسم المؤلف وعبارات الإهداء وتعليقات القراء على النص , وغيرها مما أطلق عليه بالنص الموازي أو النصوص الموازية , وهي كعتبات أو نصوص موازية, يجب الاهتمام بها لأنها ذات ارتباط وثيق بالنص الإبداعي , وذات أهمية في الكشف عن مغزى العمل و فهمه وقراءته . بيد أننا نرى أن (البداية) تعد أهم وأبرز عتبات النص , فهي وإن كانت مرتبطة ببعض العتبات الأخرى كالعنوان أو صورة الغلاف , مكون بنائي , أكثر ارتباطا بالنص من عتباته الأخرى , كما أنها ذات موقع استراتيجي يماثل – وإن لم يتفوق عليه – العنوان , فهي " العتبة الفاصلة بين الكتابة واللاكتابة , بين النص واللانص والجسر الواصل بين الواقع والمتخيل , بين القراءة واللاقراءة "(3) . وقد اعتبر صبري حافظ " البدايات من أعقد وأصعب المكونات المتعلقة بالنص الإبداعي حيث من خلال إحكامها وضبط صياغتها كرؤية لمحتوى العمل بكامله , يجد المتبقي من الأحداث طريقه إلى ذهنية القارئ المتعامل مع النص "(4) .

ونظرا لأهمية البداية فقد أولى بعض نقادنا في العقدين الأخيرين موضوع البداية في النص الروائي اهتماما ملحوظا , يستحق أن نمر عليه قبل تناول البداية في رواية "الحب في المنفى" , خاصة أن أحد هذه الدراسات تسعى إلى وضع تحديد نظري للبداية أو على حد قول صاحب الدراسة "مساهمة في نمذجة الاستهلالات الروائية " .

كان صبري حافظ – كما أشرنا سابقا – أول من التفت إلى جمال البداية عند بهاء طاهر , ويحي حقي , وفى ذات الوقت كانت دراسته أول دراسة في الأدب العربي الحديث تولي البداية الروائية هذا الاهتمام , وقد جمع في دراسته بين التنظير والتطبيق , حيث وقف بالتحليل عند دراسة البداية في القصة القصيرة متخذا قصة " الفراش الشاغر" ليحي حقي أنموذجا للتحليل ,أما البداية الروائية فقد اتخذ لها رواية " قالت ضحى " أنموذجا , ويعنينا من هذه الدراسة هنا تمييزه بين البداية في القصة القصيرة والبداية في الرواية , فيقول " فالبداية الأقصوصة لها طبيعة حاكمة من حيث أنها بداية واحدة مسيطرة لها علاقتها العضوية بالعمل ككل , ولديها وسائلها الخاصة في التغلغل في ثنايا نسيجه الدقيق . أما البداية الروائية فإنها بداية ذات وظائف مزدوجة لأنها بداية العمل الروائي ككل , ووظائفها من هذه الناحية مماثلة لوظائف البداية الأقصوصية , وهى في الوقت نفسه بداية بين بدايات متعددة هى بدايات الفصول المختلفة في العمل الروائي , ومن هنا لابد من الكشف عن مختلف علاقاتها بتلك البدايات إلى جانب التعرف على علاقات بدايات الفصول المتعددة بعضها بالبعض الآخر " (5) .

إذن للقصة القصيرة بداية واحدة حاكمة ومسيطرة , بينما للرواية بداية رئيسية وعدة بدايات ثانوية هى بدايات الفصول .

وثاني الدراسات ( والتي تزامنت مع دراسة صبري حافظ ) دراسة الناقد العراقي ياسين النصير " الاستهلال : فن البدايات في النص الأدبي " وهى أوسع الدراسات العربية وربما كانت الدراسة الوحيدة التي تناولت البداية في مختلف فنون الإبداع النثري والشعري , ويعنينا هنا ما قاله صاحبها عن الاستهلال في الرواية , يقول : " تميل استهلالات الفن الروائي إلى السعة والتنوع غالبا ما يستغرق الفصل الأول منها كله , لأنه يتعامل مع كلية العمل , وعليه أن يزرع الاستهلال النويات الصغيرة للأفعال الكبيرة اللاحقة ,وفيه يجد القارئ مسحا أوليا لكل عناصر البناء من شخصيات وأفكار وأحداث " (6) .

ولعل أهم ما في التعريف للبداية الروائية أو الاستهلال على حد قول النصير ربط البدايات بمكونات النص الأخرى , ويحاول النصير أن ينظر للاستهلال الروائي فيجعله في خمسة أنواع يختص كل استهلال بنوع أو أكثر من الروايات , " أما أنواع الاستهلال فهي :

1 – الاستهلال السردي الروائي الموسع .

2 – الاستهلال الروائي المتعدد الأصوات .

3 - الاستهلال الروائي المحوري البنية .

4 - الاستهلال الروائي الحديث .

5 – استهلالات الرواية القصيرة . " (7)

وتأتي محاولة صدوق نور الدين : "البداية في النص الروائي" وقد أفادت من دراستي حافظ والنصير في قسمين : الأول نظري تعرض فيه الباحث لمفهوم البداية ووظيفتها في العمل الروائي وأنماطها , والثاني تطبيقي تناول فيه دراسة البداية في رواية الزيني بركات للروائي جمال الغيطاني . فيرى صدوق نور الدين أن النص الروائي "يمتلك أكثر من بداية , ثمة البداية الأصل أو الرئيسية , وهي بمثابة العتبة التي تقذف بنا إلى رحابة النص , كذلك توجد بدايات أخرى يمكن القول في حقها بأنها ثانوية , وتتعلق بالفصول المشكلة للنص الروائي , إن البدايات الثانوية تعضد ما هو أصلي ورئيسي , كما تنوع عليه تفاديا للتواتر الممكن حدوثه على مستوى السرد . البداية مكون بنائي , إنها تتجسد من خلاله / وعبره الرواية بكاملها "(8) .

ولا يشترط صدوق نور الدين للبداية الروائية طولا محددا , فليس حتما أن تميل إلى الطول كما يرى ياسين النصير , إذ " قد تكون قصيرة قصر ما نعثر عليه في نص قصة قصيرة , كما من الممكن أن تمتد لتشمل فصلا كاملا من فصول الرواية ,إذ أن ما يعمل عليه الفصل البداية تقديم الشخصيات والأحداث في سبيل تفصيلها ضمن اللاحق من الفصول " (9)

أما وظيفة البداية في النص الروائي فتنبع من موقعها في العمل " إذ لا يمكن للنص الروائي أن يولد بدون بداية , إنها كما أسلفت مكون بنائي , بيد أن ما تعمل عليه في العمق ضبط مختصر الرواية , أي محاولة تقديمها ملخصة بدقة وشمولية " (10) . وأعتقد أن وظيفة البداية أعقد من ذلك وأشمل , ولعله - صدوق نور الدين – أشار إلى ذلك بنفسه في موضع آخر متفقا مع صبري حافظ (11) .

ثمة محاولة رابعة بعنوان "وظيفة البداية في الرواية العربية " للناقد المغربي شعيب حليفي , تستحق وقفة أطول من سابقاتها , حيث أفاد صاحبها من دراسة مشهورة في الأدب الفرنسي بعنوان "من أجل شعرية البداية " للناقدة الفرنسية أندريا دى لانجو , هذا إلى جانب إفادته من الدراسات العربية لصبري حافظ وياسين النصير و صدوق نور الدين . في هذه الدراسة يتعرض حليفي لمفهوم البداية ووظائفها وأنواعها مستفيدا بشكل مباشر من تقسيمات أندريا دى لانجو لأنواع البداية ودورها في النص الروائي , ثم يختتم دراسته بدراسة تطبيقية لشعرية البداية في رواية "فقهاء الظلام" للروائي الكردي سليم بركات , ولعل أهم ما في هذه الدراسة تحديد مفهوم البداية وربطها بعتبات النص الأخرى والمتلقي أيضا " فالبداية هي عتبة أولى – بعد العنوان – للتخيل وبناء إدراك أولي تتشكل معه أحاسيس وأفق انتظار منسجم أو معدل عن الأفق الذي خلفه العنوان أو اسم المؤلف الحقيقي .. هذا الأخير الذي يسم البداية بخلفيته ومواقفه الفكرية وقناعاته السردية والتقنية " (12) .

أما وظائف البداية في النص الروائي العربي فيمكن اختصارها في أربع نقاط :

- ابتداء النص ( الوظيفة التقنية ) .

- إثارة اهتمام القارئ ( الوظيفة الإغرائية ) .

- إخراج التخيل ( وظيفة إخبارية ) .

- انطلاق القصة ( الوظيفة الدرامية ) . (13)

وانطلاقا من هذه الوظائف الأربعة يمكن تحديد ثلاثة أنواع من البدايات هي على الترتيب : البداية العادية والبداية المثيرة ثم البداية الغامضة المحيرة , وقد ضرب الباحث أمثلة من الروايات العربية المشهورة للتمثيل لهذه البدايات الثلاثة , وإذا تتبعنا الباحث في دراسته نجده يذكر أنواعا أخرى للبدايات انطلاقا من ارتباطها بالصوت السردي أو الأحداث وترتيبها أو نوع الجملة فعلية أم اسمية أو طبيعة السرد , مما يجعلنا أمام ضروب عديدة من البدايات يمكن أن تتنوع إلى أنواع أخرى . فعلى سبيل المثال يقول " ويمكن إيراد تصنيف آخر للبداية الروائية يتمثل في وجود بداية يغلب عليها السرد الخالص أو شبه الخالص على لسان سارد يروى بضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب , وليس ضروريا الالتزام بحكي الرواية حتى النهاية بنفس السارد أو الضمير .

ومثلما هناك بداية وصفية وأخرى زمنيةIncipit date وهي سائدة في الأدب الواقعي والتاريخي , ثم البداية المكانية والبداية الشخصية والبداية الحوارية والتأملية وأنواع أخرى تسعى إلى تبئير الشيء المبتدأ به .

وقد استطاعت الرواية العربية الحديثة تجريب كل الأشكال والأنواع مثلما استطاعت تكسير البداية التقليدية والاقتراب من بدايات مشهدية (Incipit scenique ) تحتفظ بعلاقات عمودية وأفقية مع النص ومتلقيه " (14) .

آثرت أن أنقل هذا الاقتباس الطويل من دراسة الباحث على ازدحامه بعدد كبير من أنواع البدايات وبحكمه العام الذي يشير إلى استطاعة الرواية العربية تجريب كل هذه الأشكال من البدايات .وقد يكون هذا صحيحا , لكن ما الأسس التي بني عليها الباحث تقسيمه وتحديده لأنواع البدايات ؟ لن نجد بالطبع إجابة لهذا السؤال لأنه كما أشرت ينقل مباشرة عن الباحثة الفرنسية أندريا دى لانجو .

وعلى العكس من شعيب حليفي نجد الناقد عبد العالي بوطيب يقدم محاولة لوضع أساس نظري يحدد من خلاله مفهوم البداية وأنماطها في النص الروائي , وقد سماها كما أشرت سابقا " مساهمة في نمذجة الاستهلالات الروائية " . فجعل مصطلح البداية أو الاستهلال مقابلا للمصطلح الفرنسي ( incipit ) وهو في دراسته يحاول أن يضيف إلى المحاولة الجادة التي قامت بها الباحثة أندريا دي لانجو في دراستها الموسومة بـ " من أجل شعرية الاستهلال " فيقول أن هذه المحاولة " لا زالت في أمس الحاجة للمزيد من التفصيل والتحديد , وهو ما سنحاول القيام به في هذه المساهمة المتواضعة انطلاقا من نماذج روائية مغربية محددة , بغية إيجاد نمذجة شبه شاملة ولا نقول شاملة " (15) .

ينطلق عبد العالي بوطيب في تحديد أنواع وسمات البدايات الروائية وسماتها من طبيعة النص السردي وخصائصه , فيميز بين مستويين رئيسين له هما : الحكاية والخطاب أو المتن الحكائي والمبني الحكائى , ودون الدخول في تفصيلات أسس تحديد الاستهلالات الروائية نلخص هنا ما توصل إليه الباحث " يمكن مبدئيا من إقامة تصنيف أولي بين نوعين رئيسيين من الاستهلالات الروائية واحد حكائي / درامي والآخر ميتا سردي .

ويندرج في خانة هذا الأخير كل بداية تتخذ من مسألة الخطاب الروائي بجميع جوانبه النظرية والتقنية موضوعا لها , بما في ذلك تلك التي تتحدث عن البداية ومشاكلها وصعوباتها إنها بعبارة واحدة استهلالات تحيل على كيفيات تنظيم الراوي للعملية السردية وتنسيقها "(16)

وهذا النوع الميتا سردي على حد قول الباحث لا يطرح إشكالا نظريا بحكم وضوحه من ناحية ومحدودية انتشاره من ناحية أخرى . أما النوع الأول أي الحكائي / الدرامي وهو الغالب على الاستهلالات الروائية فيمكن أن يندرج تحته أنواعا كثيرة طبقا لمكونات المستوى الحكائي وطبيعته , فهناك الشخصيات والأحداث والزمان والمكان وطبيعة السرد بين الوصف والحوار, لذلك يقسم الاستهلالات الحكائية لصنفين فرعيين هما :

"1 – استهلالات وصفية : وتشمل كل استهلال حكائي يعتمد الوصف وسيلة لتبليغ معطياته , وينقسم بدوره داخليا لثلاثة أصناف فرعية بحسب نوعية الموضوعات الموصوفة وهي :

أ – استهلال وصف المكان .

ب- استهلال وصف الزمان .

ج - استهلال وصف الشخصيات ." (17)

يمكن الجمع بين هذه الأصناف الفرعية الثلاثة في البداية النصية , لذلك يمكن أن يكتفى بتسميتها استهلالات وصفية دون تخصيص ," على أن ما يميز هذه الأصناف الوصفية كلها من الناحية الوظيفية توترها الإخباري المرتفع مقابل جمود درامي ملحوظ قد يصل أحيانا إلى درجة الصفر , كما في الوقفات الوظيفية الجامدة مثلا " (18)

"2 – استهلالات سردية : وتشمل كل بداية تتولى عكس الوصفية , نقل الوقائع الحكائية بمختلف أنواعها (أحداث , أقوال وأحداث نفسية ) وتندرج في هذه الخانة مجموعة من الاستهلالات تشترك كلها في اعتمادها الصيغة السردية مع اختلاف في طبيعة الوقائع المحكية وهي :

أ – استهلالات سرد الأحداث .

ب - استهلالات سرد الأقوال المنطوقة وغير المنطوقة .

ج - استهلالات سرد الأحداث النفسية .

وأهم ما يميز هذا الصنف من الاستهلالات السردية عن شقيقتها السابقة من الناحية الوظيفية , طغيان الجوانب الدرامية , مقابل تقلص ملحوظ في المعطيات الإخبارية , لن يصل أبدا درجة الصفر , ما دام السرد , كما هو معلوم يتضمن دائما بالضرورة قدرا ولو ضئيلا من الوصف , خلافا للوصف الذي يمكنه الاستغناء كلية عن السرد " ( 19)

يضيف عبد العالي بوطيب إلى هذه الاستهلالات الرئيسية الثلاثة : الاستهلال الميتا سردي والوصفي والسردي نوعا يجمع بين النوعين الأخيرين , فيقول " لما كانت الاستهلالات السردية تشكل من الناحية النوعية والوظيفية , الطرف النقيض للاستهلالات الوصفية كما رأينا , ومادام ليس هناك ما يمنع من إمكانية الجمع بينهما في بعض الاستهلالات الروائية التكاملية الهادفة لخلق توازن شبه تام بين المعطيات الإخبارية ( المتوفرة في الوصف ) والدرامية ( المتوفرة في السرد ) , فقد وجدنا بعض الروائيين يسلكون هذا الطريق الوسط في تقديم أعمالهم , مما يمكن تسميته بالاستهلالات الوصفية السردية " (20)

إن ما يميز هذا التحديد لأنواع البدايات النصية في رأيي هو البساطة والشمول معا , كما أنه قابل لتفريعات أخرى طبقا لإمكانات المبدع الروائي , لكل هذا سنأخذ بهذا التقسيم في دراستنا لرواية " الحب في المنفى "


[SIZE=5]ثانيا : شعرية البداية في رواية " الحب في المنفى " [/SIZE]

لا يميل بهاء طاهر إلى استخدام البدايات الميتا سردية , تلك البدايات التي توسم بها الروايات التجريبية , كأن يضع الكاتب عدة بدايات وعلى القارئ أن يختار واحدة أوالسارد نفسه يختار مثلا كما في رواية " لعبة النسيان" لمحمد برادة , ويجب ألا نستنتج من ذلك أن روايات بهاء طاهر روايات تقليدية . فوراء هذه البساطة في السرد والحكي تكمن الصنعة الفنية والموهبة الحقيقية , إن بدايات بهاء طاهر تميل في معظمها إلى البدايات السردية أو الوصفية أو إلى ما يجمع بينها أي البدايات الوصفية السردية . فالبداية في رواية " شرق النخيل" بداية سردية تجمع بين سرد الأحداث والأقوال المنطوقة : " ذهبت إلى الكلية قرب الظهر واستلمت الخطاب المنتظر ورحت أقرأه وأنا أسير في الشمس . كانت الرسالة موجزة ومباشرة , فبعد " ابننا العزيز أبقاه الله , قال أبي أنه رأى مني ما فيه الكفاية وأنه لا تنقصه الهموم وقال أنه عندما كان يدرس في الأزهر كان يعيش على جنيهين في الشهر وهو مندهش كيف لا أكتفي أنا بعشرين جنيها كاملة . ثم أنه يبكي الآن بدل الدموع دما لأنه اضطر إلى قطع دراسته في الأزهر والعودة إلى البلد , رغم أنه كان مضطرا لذلك بعد موت أبيه . ولكن ما عذري أنا في خيبتي ؟ .. يجب أن أنسى مسألة طلب النقود في نصف الشهر بعد الآن لأنه في المرة القادمة لن يكلف نفسه مجرد الرد على . ويجب أن ألتفت إلى دروسي , أما إن كنت أفكر في الرسوب مرة أخرى هذه السنة فيجب أن أصارحه بذلك لينصحني بالعودة فورا إلى الصعيد . وفى هذه الحالة سيرضى أن يربي في البيت ثلاث بنات بدلا من بنتين ما دامت هذه قسمته وأمر الله . وفى ظهر الخطاب ملحوظة بأن أمي سوف تبعث لى برداء جديد من الصوف وتحذرني من برد مصر . وكانت الملحوظة بخط أختي فريدة الكبير المتعرج كخط الأطفال " (20)

فى هذه البداية حركة وانتقال في الزمان والمكان , صحيح هناك الوصف ولكنه محدود جدا بالجملة الأخيرة " بخط أختي فريدة الكبير المتعرج كخط الأطفال " تكشف هذه البداية عن شخصية الراوي المستهتر فى مقابل شخصية أبيه الجاد الملتزم , وفي ذات الوقت تقارن بين مكانين متميزين, القاهرة والبلد , وهما المكانان الرئيسيان اللذان ستدور في فضائهما أحداث الرواية , أما خط فريدة الكبير المتعرج فهو ليس كخط الأطفال فقط , إنه كحظها المتعرج , فهي تفقد حسين ابن عمها كما تشير الأحداث في القسم الثاني , هذه مجرد إشارة إلى البداية في هذه الرواية .

أما البداية في رواية "قالت ضحى" التي تتكون من عشرين فصلا تتفاوت في الطول , فلا يزيد أطولها عن أربع عشرة صفحة وأقصرها عن صفحتين , فيمكن القول عن البداية الأولى إنها سردية وصفية , أي تجمع بين السرد والوصف :

" انتهت الضجة وكانت جزءا من الحياة في مكتبنا

في كل صباح كانت تأتينا تلك الأصوات من " بورصة " الأوراق المالية , وعندما تنتهي هناك تعلو في الطريق فنعرف أن وقت انصرافنا نحن أيضا قد اقترب " (21)

في هذه البداية يتداخل السردي مع الوصفي , فتبدأ بالفعل (انتهت) ثم توصف الضجة بأنها كانت جزءا من الحياة , وفى الجملة التالية يتقدم شبه الجملة (في كل صباح) على الفعل (كانت / تأتينا ) .

في الرواية الثالثة "خالتي صفية والدير" يعتمد بهاء طاهر لأول مرة البداية الوصفية الخالصة حيث يتوقف جريان الأحداث في الزمان , بينما يتم الاهتمام بوصف المكان . تبدأ هذه البداية على النحو التالي : " يبعد الدير مسيرة نصف ساعة تقريبا من آخر بيت قبلي البلد , وأقل من ذلك الوقت بكثير على ظهر ركوبة , ومع ذلك فهو لم يكن يبين من أي مكان في القرية .. ولا حتى من فوق سطح بيتنا الذي هو آخر البيوت , اسمه الوحيد المعروف عندنا هو الدير الشرقي .. فأنت تشرق عند نهاية القرية في طريق غير ممهد عبر الصحراء , حتى تصل إلى الجبل كما يقول أهل البلد عن تلك التلال الصخرية البنية اللون , وهناك نجد في حضن التلال الثلاثة الدير بأسواره العالية التي لا يختلف لونها عن الصخور المحيطة به(22)

هذا الاهتمام بوصف المكان (الدير) في البداية يؤكد الدور الكبير الذي سيلعبه الدير في الرواية , وهذه البداية الوصفية للمكان مرتبطة بالعنوان من ناحية " خالتي صفية والدير" ومرتبطة بعنوان الجزء الأول "المقدس بشاي " فالدير هو المقدس بشاي وكأن المؤلف استغنى بوصف الدير عن وصف المقدس بشاي .

في "نقطة النور" آخر روايات بهاء طاهر المنشورة يقسمها إلى ثلاثة أقسام , ويجعل لكل قسم عنوانا هو اسم إحدى الشخصيات الرئيسية , فالأول : سالم , والثاني : لبنى , والثالث : الباشكاتب . ويعنينا هنا أن نقف عند البداية الرئيسية , أي بداية القسم الأول , في هذه البداية يتضافر السرد مع الوصف وإن غلب الأخير , ليخبرنا بعدد كبير من الحقائق في حين يقل التوتر الدرامي .

" عاش سالم منذ طفولته في رعاية جده الباشكاتب

لم يكن يعرف وهو صغير معنى هذا اللقب ولا تلك الوظيفة , لكنه كان يسمع أباه يرد على استفسارات بعض الجيران بعبارة " سأسأل الوالد حضرة الباشكاتب " ففهم أنها وظيفة مهمة.

وعى سالم على الدنيا وجده على المعاش , كانت للجد أحسن غرفة في البيت تطل على البحري وتفتح على الشرفة الواسعة المعروفة في البيت باسم " التراسينة " والتي تعلو قاعدتها المكونة من أسطوانات حجرية صغيرة متجاورة , شبابيك خشبية مشغولة مثل المشربيات , تكسر حدة الشمس في النهار وتفتح على مصاريعها للهواء في المساء . واعتاد الباشكاتب أن يقضي وقتا طويلا في هذه الشرفة كل ليلة قبل أن ينام , يجلس على مقعد أمام نافذة مفتوحة ويتابع ما يحدث في الشارع المزدحم بالقادمين من ميدان السيدة زينب والمتجهين إليه , يحمل النسيم إليه في موسم الزهور عطر شجرة التمر حنة المزروعة في الممر الصغير أسفل البيت "(23) .

كانت هذه مجرد إشارات إلى ملامح البدايات في روايات بهاء طاهر وأنواعها وقد آن أن نقف بالتفصيل عند شعرية البداية في رواية " الحب في المنفى " .

تتوزع رواية " الحب في المنفى " على أحد عشر فصلا , أي أننا أمام إحدى عشر بداية نصية , لكن عند التدقيق في هذه البدايات يتضح لنا أن هناك اثنتي عشر بداية , لأن الفصل الأول تتجاور فيه بدايتان , البداية الرئيسية للرواية , والبداية الثانوية المختصة بالفصل الأول


** البداية الرئيسة :

" اشتهيتها اشتهاء عاجزا كخوف الدنس بالمحارم

كانت صغيرة وجميلة وكنت عجوزا وأبا ومطلقا . لم يطرأ على بالي الحب , ولم أفعل شيئا لأعبر عن اشتهائي

لكنها قالت لي , فيما بعد : كان يطل من عينيك

كنت قاهريا طردته مدينته للغربة في الشمال , وكانت هى مثلي أجنبية في ذلك البلد لكنها أوربية وبجواز سفرها تعتبر أوربا كلها مدينتها , ولما التقينا بالمصادفة في تلك المدينة (ن) التي قيدني فيها العمل , صرنا صديقين

قيدني العمل ؟ أي كذب ! لم أكن أعمل شيئا في الحقيقة كنت مراسلا لصحيفة في القاهرة لا يهمها أن أراسلها , ربما يهمها بالذات ألا أراسلها

وفى ساعة الظهيرة , في فسحة الغذاء التي تتخلل يوم العمل الطويل لمن يعملون , كنا نجلس معا نشرب القهوة , تحدثني عن نفسها وأحدثها عن نفسي ويقربنا الصمت أكثر عندما نتطلع عبر زجاج المقهى إلى ذلك الجبل المستطيل المتعرج , الرابض على ضفة النهر الأخرى كتمساح طويل الذيل .

ولكن لما بدأت أشتهيها أصبحت ثرثارا , كنت أتحصن وراء جدار الكلمات لكي لا أفتضح تتدافع كلماتي الفارغة جرارة ومسلية ومتتابعة , مثل شرنقة دودة عراها جنون الغزل فلا تستطيع أن تكف .

لعلي – وكيف الآن أدري – كنت عن غير وعي أغزل خيوط الكلمات شباكا حولها . وكانت هي تتطلع إلى بعينيها الجميلتين , تتسع العينان وهي تبتسم تسألني : من أين تأتي بكل هذا الكلام ؟ صنعتي أنا أن أتكلم فكيف تفوقت على ؟

ولكنني في تلك الظهيرة لم أستطع , تبعثرت خيوط الكلمات وتمزقت , حلت فجوات طويلة من الصمت كنت أنظر خلالها ساهما إلى النهر , وجلست هي منكبة على فنجان قهوتها الفارغ تديره في الطبق , لا أرى سوى هالة شعرها الكثيف وأنفها البارز المستقيم , وكانت ترفع رأسها فجأة وتنظر إلى حين أسكت وتقول : أكمل .. أكمل ولكن الكلمات لا تكتمل .

وخارج المقهى سرنا إلى حيث أركن سيارتي .. سآخذها مثل كل يوم حتى باب المكتب الذي تعمل به , أتركها وأتظاهر أنا أيضا أني ذاهب إلى عمل .

ولما وصلنا إلى السيارة قالت أريد أن نمشي قليلا , هل لديك مانع ؟

مشت بجانبي بطيئة على غير عادتها , ولم تكد تتحرك خطوات حتى توقفت وقالت بصوت حازم : اسمع لا أريد أن أراك بعد اليوم . سامحني ولكن يحسن ألا نلتقي . أظن أني أحببتك وأنا لا أريد ذلك لا أريده بعد كل ما رأيته في هذه الدنيا

وكنت أعرف ما رأته في هذه الدنيا , فسكت لحظة , وقلت كما تشائين وراقبتها وهي تبتعد عني بخطوات مسرعة " (24)

تختلف هذه البداية عن بدايات روايات بهاء طاهر الأخرى في عدة نقاط :

1 – إنها أطولها جميعا , فهي ليست فقرة طويلة أو عدة جمل متوالية بل مجموعة من الفقرات المترابطة , متنوعة الأساليب , يمكن أن تكون نصا له بدايته ونهايته المحددتين , فتبدأ بجملة ( اشتهيتها اشتهاء عاجزا كخوف الدنس بالمحارم ) وتنتهي بجملة ( وراقبتها وهي تبتعد عني بخطوات مسرعة ) .

2 – إن هذه البداية بتكوينها النصي المكتمل لا تعد مجرد عتبة للدخول إلى النص الروائي أو إغراء القارئ بمواصلة القراءة , بل يمكن القول أيضا إنها نصا موازيا لنص الرواية الأصلي الذي يبدأ بعد الجملة الفاصلة : ولكن تلك لم تكن البداية "

3 – إن هذه البداية ليست هي بداية الفصل الأول من النص الروائي , فللفصل الأول بدايته الخاصة , وليس معنى هذا أنها منفصلة عن هذا الفصل , فثمة ارتباط ما بين هذه البداية الرئيسية ومحتوى الفصل الأول , مثله في ذلك مثل بقية الفصول .

4 – إن هذه البداية في موقعها من المتن الحكائي لا تقع في بداية هذا المتن كما هو الحال في معظم البدايات , ولكنها تقع في وسطه , فيمكن أن يقال إنها بداية (وسطية) , فثمة إشارة إلى هذه البداية في الفصل السابع :

" وكنت أسأل نفسي ! ومن أنا لأستحق كل هذا الحب ؟ أليس عارا أن أفرح كل هذا الفرح وفى هذا العمر , وفي تلك الأيام ووسط تلك الحروب ؟

ولكن ذلك فيما بعد , فيما بعد – وقتها حين تركتني أمام باب ذلك المقهى مقهانا , وقالت إنها ستتركني .. إنها تخشى أن تكون قد أحبتني .. وقتها وقفت في الطريق مزروعا كواحدة من تلك الأشجار , لا أسمع شيئا , ولا أبصر شيئا غير تلك الكلمات ! أخشى أن أكون قد أحببتك ! "(25)

وكان قد تنبه لذلك أحد الذين درسوا هذه الرواية وهو الدكتور أحمد صبرة فيقول" يستخدم بهاء طاهر في روايته ما يسميه اللسانيون العرض المؤجل , وهو أن يبدأ السارد الأحداث في تطورها المتنامي ولا يخبرنا عن الشخصيات إلا من خلال التطور , فقد بدأ الرواية من نقطة مكاشفته لنفسه بحب بريجيت , ثم استمر بعد ذلك عن طريق الارجاعات في حكاية الأحداث من البداية إلى النهاية إلى أن وصل مرة أخرى إلى النقطة الأولى في منتصف الرواية تقريبا ثم استمرت الأحداث بعد ذلك , ويمكن تصويره في الشكل التالي :



نصف

الرواية أ ---------------- ب

الأول النصف الثاني



حيث تمثل (أ) نقطة البداية والدائرة تمثل الأحداث في تناميها وعودتها مرة أخرى إلى (أ) والخط المستقيم بقية أحداث الرواية "(26)

فيما عدا هذه النقاط الأربعة يبقى أهم ما يميز هذه البداية الطويلة أنها تلخص في إيجاز ودقة معا المروية الرئيسية للراوي , أقصد قصة حبه لبريجيت , تلك القصة التي لن تتم بفعل ظروف خارجية أقوى من الجميع , لذلك جاء عنوان الرواية , عتبة النص الأولى متسقا مع هذه البداية وأكثر التصاقا بها , وكأن العنوان والبداية معا يكونان عتبة واحدة , تغرينا بغموضها وإبهامها بالدخول إلى النص ومواصلة القراءة .

إن هذه البداية بتركيزها على المروية الرئيسية حب الراوي لبريجيت ذلك الحب المحكوم عليه بالموت , تترك المجال للبدايات الصغرى , بدايات الفصول , لكي تقوم بدورها في إلقاء الضوء على المرويات الأخرى والتي لا تخرج في النهاية عن كونها صدى للمروية الرئيسية ,حيث الفشل أيضا , كعلاقة الراوي بمنار زوجته وعلاقة بريجيت السابقة بزوجها ألبرت , وعلاقة يوسف المصري بإيلين وعلاقة إبراهيم المحلاوي بخطيبته شادية , فكل هذه العلاقات كان مصيرها الفشل .



** البدايات الصغرى :

- الفصل الأول : (مؤتمر كغيره )

" في البدء كان كل شيء يختلف . يومها ترددت كثيرا في الذهاب إلى ذلك المؤتمر الصحفي , كنت أعرف سلفا أن كلاما سيقال لو أرسلته فلن تنشره الصحيفة في القاهرة . ولو نشرته فسوف تختصره وتخففه وتؤخر فقرات وتقدم أخرى بحيث لا يفهم القارئ ما الذي حدث بالضبط ولا ما هى الحكاية " (27)

بداية هذا الفصل هي بداية المتن الحكائي للرواية الذي لا يختلف كثيرا عن المبنى الحكائي لها , فالأحداث الحقيقة تبدأ في أحد أشهر الصيف عندما يذهب الراوي بعد تردد لحضور مؤتمر صحفي يعرف أن حضوره كعدم حضوره , وهناك في المؤتمر يرى (بريجيت شيفر) , وهنا تبدأ إرهاصات التحول أو الاختلاف في شخصية الراوي , ذلك الصحفي القاهري المنفي من بلاده , الذي لم يعد يؤمن بقيمة الكلمة , أو بالأحرى ليست لكلمته قيمة , فعمله هنا في هذا البلد الأجنبي تحصيل حاصل , لأن ما يرسله لا ينشر وإن نشر فهو مشوه ومبتور , بحيث لا يفهم القارئ منه شيئا , ومن ثم لا قيمة للمؤتمر أيا كان الموضوع الذي يتحدث عنه , وهو مع ذلك يذهب ويحضر لأن حضور هذا المؤتمر أفضل من تذكر مأساته مع مطلقته منار , وعندما يحضر المؤتمر يرى بريجيت " ولأول مرة تحولت ببصري من بريجيت إلى الجالس على يمينها " (28) .

إن هذه الجملة تفسر الجملة الأولى في البداية الرئيسية للرواية ( اشتهيتها اشتهاء عاجزا , كخوف الدس بالمحارم ) , لأنه منذ رآها لأول مرة لم يستطع أن يحول بصره عنها , مما يعزز قولنا هيمنة البداية الرئيسية على البدايات الصغرى , ومن ثم النص الروائي كله .

والعنوان " مؤتمر كغيره " وهو يشي بالسخرية وعدم الاهتمام يتفق مع الجملة الثانية لهذه البداية : يومها ترددت كثيرا في الذهاب إلى ذلك المؤتمر الصحفي , كنت أعرف سلفا أن كلاما سيقال …

لكن ما يلفت النظر في هذه البداية هذا التجاور المكاني بين بريجيت شيفر وراوي قصة التعذيب المواطن الشيلى (بيدرو إيبانيز) إذ كانت تقوم بالترجمة لما يقوله الأخير بالإسبانية إلى اللغة الإنجليزية التي يفهمها الجميع هنا إن الكاتب يستثمر هذا التجاور جيدا , لقد كان بيدرو أبانيز بعد بريجيت آخر من شاهده الراوي في نهاية الأحداث بعد هبوطه من الجبل , وللمفارقة بينما يموت الراوي شهيدا للحق والكلمة يعيش بيدرو متاجرا بالحشيش والمخدرات .

" أنا سمعت هذا الصوت من قبل

- أسرع حشيش مغربي أو أفغاني ؟ بخمسين أو بمائة ؟ أسرع الشرطة ليست بعيدا . الصنف معي تعالى معي .

أدرت وجهي ولم أره كان الوجه يترجرج أيضا .. رأيت وجها من نقطة منمنة له حاجبان كثان تحت طاقية الرأس فقلت بصوت ضعيف , بيدرو "(29)

لقد اختلف كل شيء حقا حتى بيدرو


- الفصل الثاني : (ماضي بعيد .. ماضي ميت )

" وقفت عند مدخل القاعة أقلب في بقية النشرات . على غلاف واحدة منها كانت هناك صورة لبيدرو إيبانيز وإلى جوارها صورة شاب يشبهه خمنت أنه فريدي , كان مثل بيدرو – واسع الفم غزير الشعر يعلو عيناه السوداوين حاجبان كثان , وكان يلبس قميصا أبيض أزراره مفتوحة عند صدره ويحاول أن يبدو أكبر من سنه بشفتيه المضمومتين في وقار والنظرة الجادة في عينيه . ولم أندهش عندما رأيت معظم الصحفيين يخرجون دون أن يلقوا النظرات على هذه النشرات " (30)

يغلب على هذه البداية الوصف , فهي بداية وصفية , لكن الجملة الوصفية محصورة بين جملتين سرديتين , حيث يقف الراوي في الجملة الأولى يقلب في النشرات , وفى الأخيرة لا يدهش وهو يرى الصحفيين لا يهتمون مثله بهذه النشرات , أما الوصف الذي يستغرق معظم جمل البداية فيركز فيه الراوي ـ موقفا حركة السرد ـ على وصف صورة شقيق بيدرو إيبانيز إنه صورة طبق الأصل لبيدرو, ومع ذلك لا نلتقي في هذا الفصل مطلقا ببيدرو إيبانيز أو حتى نجد إشارة إليه أو إلى أخيه الذي عذب حتى الموت في شيلي . ما معنى هذا ؟ هل الكاتب غير موفق في هذه البداية ؟ على العكس تماما , إن بهاء طاهر لا يترك شيئا للصدفة . إن هذا الوصف الدقيق لشقيق بيدرو الذي هو أيضا وصف لبيدرو نفسه, هو الذي يجعلنا كقراء في الفصل الأخير نجيب على سؤال الراوي وهو في سكرة الموت .

" ولكن هل هو بيدرو بالفعل ؟ " نعم إنه بيدور , وهكذا أيضا تتعالق بداية الفصل الثاني مع بداية الفصل الأول ومع نهاية الرواية أيضا .

أما إذا عدنا للجملة الأولى في البداية : وقفت عند مدخل القاعة أقلب في بقية النشرات " سنجد ثلاثة ألفاظ أساسية هي : وقفت – القاعة – أقلب

وقفت : جملة فعلية أسند فيها الفعل وقفت إلى تاء الفاعل ( الراوي ) , والقاعة : مكان متسع خال أو ملئ يرمز إلى الماضي , وأقلب : فعل يشي بالحركة والنشاط والبحث , وهكذا وجدنا الراوي في هذه البداية يتوقف وعند ذلك يصطدم بالماضي (إبراهيم) فيقلب في هذا الماضي , بل وفى جميع جوانب هذا الماضي , ومن هنا تتسع المرويات عند الراوي وعلاقته بمنار وبالثورة وبالصحافة وبإبراهيم , وعلاقة إبراهيم بشادية وعلاقتهما معا بعبد الناصر والسادات وعندما يحاول إبراهيم أن يوقفه عن النبش في هذا الماضي :

" كل ذلك ماضي .. ماض بعيد , ماض ميت . ألا تفهم " (31) يتوقف قليلا ويعتذر , فيقلبان في الحاضر , لكن ما أسوأ هذا الحاضر ! إنها الحرب في بيروت , إنها الدعارة السياسية , عند ذلك ينسحب الراوي مرة أخرى إلى الماضي يقلب فيه من جديد محاكما إبراهيم وكيف انفصل عن شادية , ثم يسأله بشكل صريح عن سبب انفصاله عن شادية طالما سأله هو عن سبب انفصاله عن منار . إن هذا الفصل باختصار شديد يكشف بعمق عن التركيبة النفسية والثقافية لشخصيتي الراوي وصديقه المثير للماضي إبراهيم المحلاوي , على الرغم من أنه يحاول أن يعيش في الحاضر , فهو يعمل مع اللاجئين في بيروت مثلا , في حين أن الراوي بلا عمل تقريبا , لذلك نجد الراوي يتجه دائما إلى الماضي / التاريخ يقلب فيه بينما إبراهيم يشده إلى الحاضر الآن .

" ولكني شعرت بأن إبراهيم لا يتابعني . كان ينظر إلى ركن معين في المقهى وقال :

- إن كنت حقيقة لا تعرف أحدا في هذا البلد سأعرفك أنا على أجمل واحدة فيه

تابعت اتجاه عينيه فوجدت بريجيت والدكتور مولر يجلسان إلى منضدة قرب المدخل "(32)

وعندما اتجه إبراهيم إلى حيث تجلس بريجيت ومولر , يغمر المكان كله سكون غريب لكنه لم يغمر الراوي , عند ذلك ينسحب من جديد إلى الماضي , بل يتمنى أن ينسحب من الحياة نفسها فتكون آخر جملة في الفصل " لو أني فقط أتلاشى " (33) .

لماذا لم يغمر الراوي السكون , هل لأنه خاف على بريجيت من إبراهيم , خاف أن يقتنصها الأخير منه ؟ ربما ولم لا ؟ خاصة وأنه كان قد اشتهاها اشتهاء عاجزا .

بقية الجملة الأخيرة في هذه البداية " ولم أندهش عندما رأيت معظم الصحفيين يخرجون دون أن يلقوا نظرة على هذه النشرات " إن هذه الجملة تفسر ببساطة اختلاف الراوي عن بقية الصحفيين بما فيهم إبراهيم صديقه , حيث يعيشون الحاضر , بينما ينسحب هو إلى الماضي , ذلك الماضي الذي يحمله معه إلى منفاه هنا .


الفصل الثالث : ( هذا المساء أريد أن أتكلم )

- " ربت إبراهيم على يدي فأجفلت .

قال : ماذا بك ؟

أجبت دون وعي : أنا خائف

ضحك إبراهيم وقد ظنني أمزح وقال : إذن لا تبقى وحدك تعال انضم إلينا , طلب الدكتور مولر أن أدعوك " (34) .

البداية هنا حوارية مشهدية وهذا ما يميزها عن البدايات السابقة , إنها مؤشر على الحركة والصدام والانتقالات السردية , وسينعكس كل هذا على أسلوب الكاتب في هذا الفصل .

يتوزع المشهد السردي في هذا الفصل على قسمين : الأول في المقهى حيث يدور الحوار بين إبراهيم والراوي ومولر وبريجيت , ولعل أبرز ما فيه خوف الراوي من ناحية وتوتر بريجيت من ناحية أخرى, على حين يبدو إبراهيم متألقا مهتما بما يحدث الآن في العالم ومتفائلا حيث يمكن لحركة اليسار أن تغير العالم , وربما كان مولر مثله ولكن بدرجة أقل .

والثاني في سيارة الراوي وشقة بريجيت ,حيث يجتمع الخوف والتوتر , وقد علمنا من الفصل السابق إن خوف الراوي كان على بريجيت لأنه قد بدأ اشتهائها , وربما شعرت هي بذلك , ولم لا ؟ ألم يشر الراوي في البداية الرئيسية إلى ذلك ؟ عندما قالت له : كان يطل من عينيك . وفى الشقة تعترف بريجيت للراوي بدقائق حياتها وأسرارها , وعندما يفزع الراوي , ويقول لها نحن غريبان , تقول له " ولكن هذا أفضل كما تعرف . الناس لا تبوح بأسرارها للأصدقاء وإنما للغرباء , في القطارات أو المقاهي العابرة ولكن هذه ليست المسألة الآن , المسألة أني أريد أن أتكلم . هذا المساء أريد أن أتكلم . ألا تستبد بك أحيانا هذه الرغبة ؟

- أتكلم طوال الوقت . ولكن مع نفسي في رأسي حوار لا ينقطع

- وكذلك أنا , ولكني سئمت ذلك " (35) .

هذا الحوار يكشف عن مدى التشابه بين الشخصيتين الرئيسيتين في الأحداث ( الراوي وبريجيت ) من ناحية , وما يميز شخصية بريجيت من ناحية أخرى : الجرأة والقدرة على البوح , إنها أكثر جرأة من الراوي , لذلك ستسحب هذا الراوي من داخله , وتجعله ينطلق معها , ليكون شيئا مختلفا كما ستكشف عنه الأحداث فيما بعد .


الفصل الرابع : ( هشة كفراشة )

- "في مطلع الشباب عندما كنت في كلية الآداب وتعلمت قراءة الأدب الأجنبي كانت العبارة التي استهل بها تولستوى رواية " أنا كارنينا " تحيرني : كل الأسر السعيدة تتشابه , ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها .

كنت أسأل نفسي لماذا يبدأ روايته العظيمة بهذه الحكمة التي لا تقدم ولا تؤخر الآن في آخر العمر أدرك أنه كان على حق " (36)

تكشف هذه البداية عن وعي بهاء طاهر التقني بأهمية ووظيفة البداية في العمل الأدبي ، إن افتتاحية رواية " أنا كارنينا " التي لم يكن الراوي مقتنعا بها في شبابه , أدرك بعد هذه الخبرة وفى آخر العمر إنها مقبولة ومنطقية , ويأتي الفصل كله وعنوانه " هشة كفراشة " لإثبات هذه الحكمة ( ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها ) فعرض الراوي أمامنا أنواعا مختلفة من الشقاء الأسري وكيف امتد هذا الشقاء في الشخصيات موضوع هذا الفصل , فبدأ ببريجيت ثم هو نفسه (الراوي) ثم أخيرا إبراهيم , في ذات الوقت لمس شيئا من الشقاء عند برنار ويوسف المصري . أما العنوان "هشة كفراشة " الذي جاء على لسان إبراهيم في وصف أمه فهو وصف لا ينطبق على الأم وحدها , بل ينطبق على جميع تلك الأسرة التعسة المذكورة في هذا الفصل .


الفصل الخامس : ( كم أنت جميل ! )

" عندما فتحت باب الشقة أطل على عبد الناصر مبتسما من صورته الملونة على الحائط . وكانت في يدي الأشياء التي وجدتها في صندوق البريد : أعداد من الصحيفة مرسلة من القاهرة وأوراق الإعلانات الكثيرة , فرزت الصحف ولم أجد من بينها عدد الخميس الذي تكتب فيه منار بابها الأسبوعي , فوضعت الأعداد الجديدة على المكتب في الصالة فوق الصحف الأخرى " (37)

لعل هذه البداية من البدايات الغامضة المحيرة للقارئ , إذ يبدو لأول وهلة أنه لا توجد علاقة بينها وبين مضمون الفصل , لكن لننظر أولا إلى هذه البداية : وجه عبد الناصر المبتسم في صورة ملونة ثم اختفاء العدد الأسبوعي الذي تكتب فيه منار طليقة الراوي ويمكن القول باختصار ظهور عبد الناصر واختفاء صورة منار . ولما كان العنوان مكملا للبداية , فجملة كم أنت جميل , يمكن إضافتها أيضا لهذه البداية .

إن القراءة المتأنية لهذا الفصل ستكشف لنا مدى الارتباط بين هذه البداية ومضمون الفصل , فعبد الناصر المبتسم هنا دليل على تشبث الراوي وإبراهيم بالماضي , فعلى الرغم من اختلافهما حول شخصية عبد الناصر متمسكان , كل بيقينه أو بحلمه , الراوي بحلمه الناصري وإبراهيم بحلمه الماركسي , وقد أدرك الراوي ذلك , فنجده يقول مناجيا نفسه :

فعلمت أنه مثلي يتشبث بيقينه لكي لا ينتهي عالمه , لكي لا يضيع الحلم الذي دفعنا فيه ثمنا عمرا بأكمله .

إن تشبث إبراهيم بيقينه وحلمه وماضيه بما فيه من حبه لشادية , هو الذي جعله يفشل في إقامة علاقة سوية مع بريجيت , لذلك يهرب منها , أما الراوي فعلى العكس حيث أن تشبثه بحلمه ويقينه لم يمنعاه من إقامة علاقة أو على الأقل البدء في إقامة علاقة حب مع بريجيت , وذلك لأنه كان قد بدأ يتخلص من جزء من هذا الماضي ألا وهو ( منار ) طليقته الآن ورفيقة مشوار عمره السابقة , وهذا يفسر ظهور صورة عبد الناصر واختفاء جريدة منار ومن ثم صورتها بالتبعية . ولقد أدرك إبراهيم أن قلب بريجيت متجه إلى الراوي , وأن الراوي أيضا متعلقا بها , لذلك يقول في آخر لقاء بينهما قبل عودته إلى لبنان : " كان الله في عونك أنت ؟

فهتفت : ماذا تقصد ؟ "(38)

ولم يرد إبراهيم , لقد انتهى الفصل الخامس , أما ما يقصده إبراهيم فواضح وضوح الشمس .


الفصل السادس : ( طبول لوركا لدم الشاعر )

" فلماذا إذا كنت حريصا على ألا يمر يوم دون أن ألقاها ؟ لماذا كنت أذهب إلى ( مقهانا ) قبل موعد حضورها بكثير مسمرا عيني على باب المدخل يقفز قلبي بمجرد أن أراها وهي تخطو بزيها الأزرق .. تمشي كعادتها على أطراف قدميها وابتسامتها تغمر وجهها كله وتغمر الدنيا من حولها ؟ لماذا كنت أخفي خجلي وحيرتي بالأحاديث الطويلة عن بلاد زرتها وعن ناس قابلتهم وعن أي شيء آخر غير أن أتكلم عن نفسي وعنها هي ؟ .. لماذا كنت أخاف نظرتها المستقيمة وهى تفتش في وجهي خلف كل الكلمات الفارغة عن الحقيقة ؟ .. ولماذا شحبت صورة منار وأصبح وجه بريجيت هو الذي يلازمني في ليالي الأرق ؟ " (39)

إن هذه البداية المليئة بالتساؤلات من البدايات المراوغة , إنها ليست مجرد بداية لفصل جديد فحسب , إنها أيضا حلقة وصل بين هذا الفصل والفصل السابق , فهذه التساؤلات يفجرها قول إبراهيم المحلاوي للراوي في الفصل السابق : كان الله في عونك أنت ؟ إن هذه التساؤلات تؤكد وترسخ وقوع الراوي في حب بريجيت وشحوب صورة منار .

في هذا الفصل تتجاور مرويتان مختلفتان في الظاهر , هما مروية الحب ومروية الحرب ففي النصف الأول من هذا الفصل نتابع الراوي وهو يسرد في تعاطف حياة بريجيت وعلاقتها بألبرت ومولر وأبيها , وكيف حل هو تدريجيا مكان الجميع , وعندما تكتمل هذه المروية ويتأكد للراوي حب بريجيت تبدأ مروية الحرب , بغزو إسرائيل للبنان وقتل مئات الأطفال والنساء والرجال ووقوف العالم كله , وعلى رأسهم العالم العربي عاجزا عن رد هذا العدوان وبقطع النظر عن تدعيم هذه المروية بالوثائق , فإن أهم ما في هذا الفصل هو التحول في شخصية الراوي , إن هذا الراوي الناصري العاطل الزائد عن الحاجة والذي سئم كل شيء ولم يجد جدوى في الصحافة يتحول إلى شخص إيجابي , إلى مناضل صحفي , إلى محارب ويستمر هذا التحول إلى نهاية الرواية . لذلك نجده يرفض لا مبالاة بريجيت بالحرب ويتهمها بالبلادة , " وكانت أول مرة أتشاجر معها , قلت وأنا أجمع صحفي المكومة على المنضدة إنها تجعل من حكايتها الشخصية عذرا لأنانيتها ولكي تعيش دون مبالاة بشيء مثلها مثل الآخرين قلت لها إنها كان يجب على الأقل أن تقدر ما تعنيه لي تلك الحرب وإن لم تعن شيئا لها "(40)

يقوم الراوي بدوره على أكمل وجه بوصفه صحفيا قديرا , فيكتب المقالات ويجمع القصاصات ويستمع إلى شهادة الممرضة النرويجية , ما جدوى كل هذا الجهد إذا كان من الصعب نشر شيء يدين إسرائيل أو أمريكا سواء في العالم العربي أو في أوربا ؟

وإزاء هذا الشعور باليأس يتجه الراوي إلى عبد الناصر , إلى حلمه الذي تشبث به متهما إياه بأنه السبب في كل الذي حدث " لماذا ربيت في حجرك من خانوك وخانونا ؟ من باعوك وباعونا ؟ لماذا لم يبق غير غسان حمود ؟ لا تدافع عن نفسك ولا تجادلني " (41)

ويستمر الراوي في مخاطبة عبد الناصر إلى أن تسقط الصورة فيتحطم الإطار ويتناثر الزجاج على الأرض ويسقط الراوي أيضا .


الفصل السابع : ( ليل حنون . . حديقة حانية )

" ـ وكان ما كان

ثم جاءت السكينة والجمال … " (42)

تعد هذه البداية أقصر البدايات في الرواية , " الجملة كان ما كان " إشارة إلى حياة الراوي المليئة بالتجارب والتي لمسناها خلال فصول الرواية السابقة , وربما كانت هذه الجملة أيضا إشارة موجزة إلى ما حدث للراوي بعد مناجاة صورة عبد الناصر حيث تعرض لأزمة قلبية , نقله على إثرها صديقه برنار إلى المستشفى , حيث عولج منها , وزاره في المستشفى كل الأصدقاء برنار ويوسف وبريجيت , حتى الأمير حامد كان يرسل له باقات الزهور الثمينة والجملة الثانية " ثم جاءت السكينة والجمال " إشارة إلى شعوره بأنه أدى ما عليه " فجأة في تلك الأيام أشرق في ذهني أني حاولت كل شيء أن أكون ابنا طيبا وزوجا جيدا وأبا بارا وإنسانا له مبادئ وصحفيا له ضمير وعجوزا وقورا يدبر لمستقبل أبنائه بعد إن يموت " (43) وجاء الجمال بعد خروج الراوي من المستشفى حيث يلتقي من جديد وبشكل أعمق بريجيت فيتبادلان الحب .

أما عنوان الفصل " ليل حنون . . حديقة حانية " فعنوان دال على هذا الإحساس بالسكينة والجمال , إنه جزء من مناجاة شعرية للراوي يوجهها إلى بريجيت .

" وأنا أحبك وأنت معي , في الليل الحنون , في الحديقة الحانية ولا تعودين صغيرة ولا أعود كهلا ولكنا مجلوان معا في ذلك القمر الفضي , في عمر واحد , دون عمر , في قلب الحب الطفل , في الزمن الوحيد الأبدي وأنا أحبك وأنت معي " (44)


الفصل الثامن : ( دع هذا اليوم يبطئ )

" ـ نسيت أشياء كثيرة في تلك الأيام من بينها حكاية الأمير حامد , بعثت له مع ذلك رسالة شكر مع يوسف بعد أن خرجت من المستشفى ثم غاب عن ذهني تماما هو ومشروعه الصحفي , لكن يوسف اتصل بي بعد فترة ليقول إن الأمير يسعده أن يراني , شعرت في لهجة يوسف بنوع من الإلحاح فحددنا موعدا " (45)

في هذه البداية تشير الجملة الأولى :( نسيت أشياء كثيرة في تلك الأيام من بينها حكاية الأمير حامد , ثم جملة بعثت له مع ذلك رسالة شكر) إلى عدم رغبة الراوي في لقاء الأمير ولولا إلحاح يوسف لما حدد موعدا للقاء . ربما لأن الراوي كان يستشعر إنه اللقاء اللعنة , إنها لعنة الأمير, ففي هذا الفصل سنجد أن لعنة الأمير ستصيب كل من يقترب منه أو يمسه والراوي لن يشعر بالارتياح بعد لقائه ومن ثم يسعى لمعرفة حقيقته وما أسوأ هذه الحقيقة ! إنه شريك دافيديان الملياردير اليهودي تاجر الخيول صديق إسرائيل وعدو العرب , وهي الحقيقة التي ستصيب يوسف بالرعب أيضا

" ـ الأمير شريك دافيديان .. إذا لو عملنا مع الأمير فكأننا نعمل مع دافيديان , ودافيديان دفع التبرع لإسرائيل

ثم ضحك بمرارة وهو يقول : أنت سددتها في وشي يا أستاذ ! " (46)

في ذلك الوقت كان يوسف يريد التخلص من إيلين وكانت هي في ذات الوقت تخاف أن يضيع منها يوسف , خاصة إذا عمل مع الأمير , لذلك تذهب بمخاوفها إلى الراوي , تتضرع إليه أن يترك لها يوسف , ولكن في الواقع ليس الراوي هو الذي يريد يوسف , وقد اقتنعت إيلين بذلك , ولكنها تعرف أن يوسف يوما سيتركها لفارق السن بينهما , ولذلك تتمنى أن يتأخر هذا اليوم , وهو العنوان الذي وضعه بهاء طاهر لهذا الفصل " دع هذا اليوم يبطئ " إنه عنوان ينطبق على الراوي أيضا , إن لعنة الأمير ستصيبه أيضا .

هل كان الراوي يستشعر هذه اللعنة ؟ ربما , في المرة الأولى بعد لقاء الأمير , شعر بحنين جارف إلى بريجيت وقرر أن يكلمها ليلتقي بها , فيفاجأ أنها تنتظره في شقته , فكان لقاء وليلة حب عوضت لقاء الأمير الكئيب . وفى المرة الثانية بعد أن عرف حقيقة الأمير وعلاقته بدافيديان و كشفها ليوسف وجد نفسه مرة أخرى يتجه إلى بريجيت إنها التعويض المناسب عن هذا القبح " كنت أمر من الحديقة أوشك أن أعدو وأنا في طريقي إلى المقهى

ووقفت لحظة ألهث حين رأيت ذلك المبنى البيضاوي الداخل إلى النهر , أشعر أن دموعا تريد أن تطفر من عيني

أية نعمة أن مقهانا ما زال قائما

أية نعمة أنه سيحتوينا معا !

أية نعمة أن أراها هناك … " (47)


الفصل التاسع : ( هذا الكهف )

"ـ كانت تلبس معطفا واقيا من المطر , وجهها يخفي قلقا لا يغيب عني , إلى جوار نافذتنا المعتادة ساعدتها على خلع معطفها ولم يكن تحته الزي الأزرق , كانت تلبس بلوزة بيضاء فوقها "جيرسي " أزرق بلون عينيها وقد رفعت شعرها خلف رأسها وعقصته كيفما اتفق فتناثرت منه خصل ذهبية صغيرة حول وجهها الذي بدأ أقل استدارة " (48 )

في هذه البداية الوصفية , يركز بهاء طاهر على وصف بريجيت , ولكن أي وصف ذلك الذي يركز على الملامح الدقيقة بقدر ما ينفذ إلى عمق الشخصية ؟ . إن كل جملة في هذا الوصف , ستكون لها دلالتها في التفاصيل السردية بعد ذلك . في الجملة الأولى : كانت تلبس ( معطفا واقيا من المطر ) إشارة واضحة إلى خوف بريجيت وحاجتها إلى حماية الراوي , خاصة بعد أن قابلت الأمير , وبعد أن اتصلوا بها من الشركة يخبرونها أنه ليس هناك عمل اليوم , ثم تأتي الجملة الثانية ( وجهها يخفي قلقا لا يغيب عني ) لتؤكد هذا الخوف وتلك الحاجة للحماية .

أما الوصف الدقيق للباسها فالغرض منه واضح , ليس لباس العمل , إنه لباس البطالة , التي ستحدث عاجلا , بعد أن تستغني عنها الشركة السياحية , وذلك بفضل لعنة الأمير , فقد أصابتها أيضا , إذ أرسلها صاحب الشركة لإعطاء دروس لثري عربي , وعندما ذهبت لإلقاء درسها , اكتشفت أنه الأمير حامد , ومثلها مثل الراوي لم تستلطفه , وكانت قد ظنت أن الراوي هو الذي دل الأمير عليها بغرض مساعدتها , فاكتشفت أن ليس للراوي يد في ذلك .

تبدو هذه البداية متسقة مع نهاية الفصل , حيث يهدئ الراوي من ثورة بريجيت بعد أن أثبت لها أنه لا علاقة له بما حدث بينها وبين الأمير , بل هما معا ضحية هذا الأمير اللعين . "ثم التفتت نحوي وقالت : هل سامحتني على هذا الغضب الذي لم يكن له داع ؟

قلت في حزن حقيقي : بل سامحيني أنت يا بريجيت لأني أجر عليك المتاعب .

لكنها عادت تسند رأسها إلى المقعد قائلة بشيء من الدهشة :

ـ لماذا تطاردني هذه الحكايات , لماذا أنا ؟ أنا لا أريد شيئا غير أن يتركني العالم في حالي . هل هذا كثير ؟ " (49) .

وبعد ذلك تغيب بريجيت في حالة لا ترى أمامها الراوي فيحاول أن يعيدها إلى حالتها الطبيعية , يناجيها , يقرأ لها من شعر بابلو نيرودا , لكن كل ذلك لا يجدي , هل هو إرهاص بفقد بريجيت , مثلما فقد للأبد منار التي دخلت الكهف المظلم مثل ابنها خالد , كهف التشدد ونفي الآخر ؟ ربما !


الفصل العاشر : (كل أطفال العالم )

ـ " حيرتني معرفة ما يريده الأمير من بريجيت أو مني وتذكرت أنني في الفترة الأخيرة كنت ألاحظ هنديا معينا يجلس في المقهى حين ألتقي ببريجيت وأنني كنت ألقاه أحيانا في الطريق أمام البيت , ولكني لم أهتم بذلك , قلت ربما هى مصادفة . من يهمه أن يراقبنا ؟ "(50)

تأتي هذه البداية بمثابة الرابط بين هذا الفصل والفصل السابق عليه , والربط بين الفصول من أبرز وظائف البداية عند بهاء طاهر . يكاد يكون الأمير حامد هو المحرك الخفي للأحداث في هذا الفصل والفصلين السابقين عليه , وسيستمر هذا الدور للأمير حتى نهاية الأحداث , لأنه سيلعب دور الشرير في وجه الشخصية الخيرة , شخصية الراوي .

( حيرتني معرفة ما يريده الأمير من بريجيت أو مني ) في هذه الجملة إشارة واضحة لرد الفعل الإيجابي للراوي , إنه سيبدأ في التحرك والمقاومة بعد أن كان قد عزم بعد أزمته القلبية أن لا يتدخل في شيء, لكن الأمير باقترابه من آخر معاقله (بريجيت ) يدفعه إلى الفعل , إلى المقاومة , بل إلى مطاردة الأمير والبحث عنه , فيحاول الاتصال به تلفونيا أو عن طريق يوسف , ولكن كل ذلك بلا جدوى , بيد أن الأمير كان قد قرر أن ينتقم , ثمة إشارة في البداية إلى بوادر هذا الانتقام , إنه جعل هنديا يراقب الراوي وبريجيت .

يحاول الراوي أن يجمع أكبر قدر من المعلومات عن الأمير , وكان قد بدأ هذه المحاولة من قبل , ولكن ما عرفه عن طريق برنار أكد له خطورة هذا الأمير وأن على الراوي أن يكون حذرا منه بعد أن أفشى بعض أسراره ليوسف .

" انتهيت تماما عندما ذكر الأمير , ولكنه تردد لحظة قبل أن يقول :

من واجبي أن أقول لك : اعتبر نفسي مسئولا لأنني الذي قدمتك إلى يوسف وطلبت منك أن تساعده في العمل في هذه الصحيفة مع هذا الأمير , وقلت لك إنه أمير تقدمي

ـ وما الذي جد أليس بالفعل تقدميا ؟

ـ يتوقف هذا على ما تعنيه بالكلمة , ولكن أرجو على أي حال ألا تكرر ما سأقوله : إن صحت مصادري فهناك طبخة كبيرة يعدونها الآن لمنطقتكم وما يجرى في لبنان مجرد بداية , هناك إعادة ترتيب كاملة للأوراق ومفاوضات سرية بين كل الأطراف , مفاوضات بين دول وبين أجهزة وبين منظمات وسموه ضليع رئيسي فيها " (51)

ولم يستغرب الراوي ذلك , إنه يهمه الآن أن يحمي بريجيت , فأخفى عنها خطورة الأمر وحاول أن يعوض هذا الخوف بالإغراق في الحب , لكن يبدو أن الطوفان كان أسرع , فجاءت الأنباء كالمطر , لتتضح قسوة إسرائيل في لبنان , العالم كله يتكلم , الشاشات مليئة بالدماء والقتلى والجرحى , وصوت إبراهيم يأتي من لبنان يطلب منه في إلحاح أن يسجل كل شيء ويكتبه , فيستجيب الراوي ويكتب عازما على النشر بكل الوسائل , أما بريجيت التي كانت قد آثرت الابتعاد عن هذا العالم القاسي والاكتفاء بحب الراوي , فإنها عندما تشاهد هذه الأعمال الوحشية على شاشة التلفزيون , تندفع نحو الراوي وكأنها تحثه هي الأخرى على فعل أي شيء " أرأيت ! قتلوا كل أطفال العالم أرأيت ؟ " (52)


الفصل الحادي عشر : ( صعود الجبل )

ـ " سجلت كل ما قاله إبراهيم

قلت أقسم أن أكتبه , أقسم أن أكتب ولو كان هذا آخر ما أفعله في حياتي ولو اضطررت أن أحمله على لافتة وأمشي في الشوارع " (53)

هذه البداية مثل البداية السابقة تربط السابق باللاحق , ولكنها وهذا هو الأهم تشي بالإصرار والعزيمة , تبدأ الجملة الأولى بفعل ماض تام " سجلت " والتسجيل هنا يحمل معنى التوثيق والانتهاء من عمل يستحق أن يسجل أو يوثق . ثم تأتي الجملة الثانية لتؤكد عزيمة الراوي وإصراره : قلت أقسم أن أكتبه " أما بقية جمل البداية فهو تأكيد على هذا الإصرار .

إن ما يأتي بعد ذلك من تفاصيل سردية ما هو إلا تجسيد لهذا الإصرار وتلك العزيمة , سيحاول الراوي نشر المقالات والتقارير عن مذابح صبرا وشاتيلا , سينفذ وصية إبراهيم المحلاوي بحذافيرها , وبالفعل يرسل المقالات إلى الصحف في أوربا والعالم العربي , ويشترك في تنظيم مظاهرة ضد إسرائيل , ضاما معه برنار وبريجيت ومنتزعا يوسف من بين أنياب الأمير , ليجعله يشترك معه في المظاهرة أيضا , وأثناء المظاهرة تحدث مشادة بين أمير آخر وأحد الأشخاص ربما لإفساد المظاهرة , في هذه اللحظة تحين الفرصة ليوسف أن ينبه الراوي إلى أن الأمير حامد لا يطيقه ويستطيع أن يفعل أي شيء ضده ولذلك على الراوي أن يترك المدينة .

بعد المظاهرة يسير الراوي مع بريجيت وتخبره أنها قابلت بيدرو أبانيز وأنه صار أسوأ وأنها كانت تتمنى لو تركه مولر في حاله . وقبل أن يصعدا إلى شقته يفتح الراوي صندوق البريد ليكتشف وجود خطاب بالاستغناء عنه , موقع من رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير وعندما ينقل الخبر إلى بريجيت تبتسم , ابتسامة حزينة وتخبره أنه قد تم الاستغناء عنها أيضا , وقد نصحها مدير الشركة ألا تبحث عن عمل آخر في المدينة .أما السبب في كل هذا فيلخصه الحوار التالي بين الراوي وبريجيت

" ـ ولكن لماذا ؟

وضعت يدها على كتفي وأشارت باليد الأخرى إلى الخطاب المفتوح وقالت وهي تكاد تصرخ :

ـ حاول أن تفكر !

ثم صرخت بالفعل وهي تدفن وجهها في كتفي :

ـ هذا عالم ماسياس وسمو الأمير لا فائدة ! "(54)

عرفت بريجيت أنه لا فائدة واستعدت للرحيل وبعد ليلة حب مع الراوي , في الطريق إلى المطار تقترح عليه أن ينتحرا وبالفعل تدفع السيارة إلى حافة الطريق , ولكن الراوي يمسك فرامل اليد في اللحظة الأخيرة , وعند المطار يودعها سريعا , أو بالأحرى تسرع هي بالوداع ,وفى أثناء العودة يعزم الراوي ـ ما يزال لديه العزيمة ـ على تصفية حسابه مع الأمير , فيصعد الجبل ويصل إلى القصر , وهنا يرفض الأمير استقباله أو التحدث إليه , فقط يبلغه عن طريق مديرة المنزل :

" ـ سموه يكرر أنه لا يريد أن يقابل أحدا , سموه لا يريد أن يسمع منك شيئا , يقول إنك تضايقه وهو لا يحب من يضايقه , سموه يسأل لم لا ترحل من هنا بسرعة مثلما رحلت صديقتك " (55)

عند ذلك يهبط الراوي من أعلى الجبل يطارده نباح الكلاب , وأثناء هبوطه إلى حافة النهر , يسمع صوتا ليس غريبا ووجها سبق أن رآه , يعرض عليه شراء مخدرات , إنه صوت وصورة بيدرو أبانيز , الذي هرب بمجرد مجيء رجل الشرطة :

" رفعت عيني ولكنه لم يكن بيدرو كان شرطيا , وكان يتحول هو أيضا إلى نقط منمنمة راحت تتموج وراحت تصغر وراحت تغيب .

وكان الصوت يأتي من بعيد يا سيد يا سيد هل أنت بخير ؟

لم أكن متعبا , كنت أنزلق في بحر هادئ .. تحملني على ظهري موجة ناعمة وصوت ناي عذب

وقلت لنفسي : أهذه هي النهاية ؟ ما أجملها ! وكان الصوت يأتي من بعيد , كان الصوت يكرر يا سيد يا سيد ! ولكنه راح يخفت وراح صوت الناي يعلو

وكانت الموجة تحملني بعيدا

تترجرج في بطء وتهدهدني والناي يصحبني بنغمته الشجية الطويلة إلى السلام وإلى السكينة " (56)

ولعلنا بعد هذا التطواف مع البداية الرئيسية والبدايات الصغرى لفصول الراوية نكون قد أثبتنا أن للبداية القصصية دور مهم في النص الروائي الجيد , بل إن أحد علامات جودة النص , بناء تلك البداية بناء سليما أو ملائما , ولعلنا نكون قد أثبتنا أيضا أنه في النص الجيد لابد من وجود علاقة بين البداية الكبرى والبدايات الصغرى , كما أنه هناك علاقة أيضا بين البدايات والنهايات في النص , ونأمل في الختام أن نكون قد وفقنا في قراءة الحب في المنفى , تلك الرواية البديعة , التي تستحق قراءات أخرى .


--------------

الهوامش :


1- صبري حافظ : البدايات ووظيفتها في النص القصصي , مجلة الكرمل , ع 21 , 22 , الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين , نيوقيسيا , 1986 , ص 146 .

2- صبري حافظ : المرجع نفسه , ص 157 .

3- عبد العالي بوطيب : مساهمة في نمذجة الاستهلالات الروائية , مجلة علامات , مج 12 , ع 46 , النادي الأدبي الثقافي بجدة , شوال 1423 هـ , ص 247 .

4- صبري حافظ : البدايات ووظيفتها في النص القصصي , مرجع سابق , ص 141 .

5- صبري حافظ : المرجع نفسه , ص 146 .

6- ياسين النصير : الاستهلال فن البدايات في النص الأدبي , الهيئة العامة لقصور الثقافة , كتابات نقدية , ع 57 , القاهرة 1998 , ص 178 .

7- ياسين النصير : المرجع نفسه , ص 178 وما بعدها .

8- صدوق نور الدين : البداية في النص الروائي , دار الحوار للنشر والتوزيع , اللاذقية 1994 , ص 17 .

9- صدوق نور الدين : المرجع نفسه , ص 17 .

10- صدوق نور الدين : المرجع نفسه , ص18 .

11- صدوق نور الدين : المرجع نفسه , ص 19 .

12- شعيب حليفي , وظيفة البداية في الراوية العربية , مجلة الكرمل , ع 61 , الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين , نيوقيسيا 1999 , ص 86 .

13- شعيب حليفي , المرجع نفسه , ص89 .

14- شعيب حليفي , المرجع نفسه , ص 94 .

15- عبد العالي بوطيب : مساهمة في نمذجة الاستهلالات الروائية , مرجع سابق ,ص 248 .

16- عبد العالي بوطيب : المرجع نفسه , ص 250 .

17- عبد العالي بوطيب : المرجع نفسه , ص 252 .

18- عبد العالي بوطيب : المرجع نفسه , ص 253 .

19- عبد العالي بوطيب : المرجع نفسه , ص 253 – 255 .

20- عبد العالي بوطيب : المرجع نفسه , ص 256 .

21- بهاء طاهر : مجموعة أعمال بهاء طاهر , دار الهلال , القاهرة 1992 , ص 309 .

22- بهاء طاهر : خالتي صفية والدير , دار الهلال , القاهرة 1991 , ص 171

23- بهاء طاهر : نقطة النور , دار الهلال , القاهرة 2001 , ص 8 .

24- بهاء طاهر : الحب في المنفى , دار الهلال , ط2 , القاهر 2001 , ص 5 , 6 .

25- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 146 .

26- أحمد صبرة : جوانب من شعرية الرواية , دراسة تطبيقية على رواية الحب في المنفى لبهاء طاهر , فصول , مج 15 , ع 4 , الهيئة المصرية العامة للكتاب , القاهرة 1997 , ص 44 .

27- بهاء طاهر : الحب في المنفى , مصدر سابق , ص 6 .

28- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 15 .

29- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 254 .

30- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 21 .

31- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 32 .

32- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 39 , 40 .

33- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 43 .

34- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 45 .

35- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 61 .

36- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 65 .

37- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص87 .

38- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 105 .

39- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 107 .

40- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 122 .

41- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 136 .

42- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 137 .

43- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 149 , 150 .

44- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 248 .

45- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 151 .

46- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 173 .

47- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 177 .

48- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 179 .

49- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 197 .

50- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 199 .

51- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 205 .

52- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 217 .

53- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 219 .

54- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 243 .

55- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 252 .

56- بهاء طاهر : المصدر نفسه , ص 254 .




 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى