قصة قصيرة ألبارو دي لاإجليسيا - عقاب الله

لقد فتحتُ عينيّ للتو.

حين رأيت أمامي شكل الكرسيين والطاولة المألوفة, رحت أتقافز فرحاً وسعادة.

لقد قفزت مثل مجنون, إلى أن استنفدتُ قواي وصرت ألهث.

وتباغتني الآن نوبة من الضحك, لا أعرف كم ستدوم.

أبادر إلى القول إنني لستُ مجنوناً, وإن كنتُ أبدو كذلك للوهلة الأولى. وأتفهم أن يُفاجأ أي شخص وهو يرى ردود فعلي الصاخبة حيال وقائع عادية وتافهة, مثل فتح جفوني ورؤية بعض قطع الأثاث العادية جداً. ولكنني إذا ما أوضحت لهذا الشخص أسباب ردّ فعلي, فإن المفاجأة ستفارقه ليغمى عليه فوراً.

ذلك أنني, قبل أن أفتح عينيّ, لم أكن أغمضهما لنزوة مني, أو لأنني كنتُ نائماً, كما أنني لم أغمضهما بمحض إرادتي.

الواقع أن روحاً تقية هي التي أغمضتهما لي, لأنني كنتُ ميتاً.

أجل, مثلما أقول: كنت ميتاً.. ميتاً تماماً.

لا يمكنني أن أحدّد الوقت الذي بقيتُ عليه في تلك الحالة من اللاوعي الموتيّ, ذلك أنني عدت إلى الحياة للتو, ولم ألتق بعد بأحد لأسأله عن ذلك. كما أنني لستُ متعجلاً معرفة ذلك. المهم هو أنني عدت من العالم الآخر, وهأنذا من جديد في هذا العالم, بين الأحياء.

وفرحتي بالعودة هي التي جعلتني أتقافز وأضحك. إذ ليس هناك ما هو أعظم من إثبات أن الوقائع تؤكد صحة نظرياتنا. وأنا شخصياً, كنتُ أؤمن, طوال حياتي السابقة, إيماناً راسخاً بالتقمص. فقد كان ذكائي العظيم يرفض الروايات الدينية التي تحاول إخبارنا بما سيحدث لنا في المرحلة التالية للموت.

وكان من يستمعون إليّ يقولون لي متنبئين:

- إذا ما واصلت الكلام هكذا, فإن الله سيعاقبك أشد العقاب.

يا لخيبة الأمل التي ستصيب أولئك الذين حاولوا إرهابي وتخويفي من ذلك العقاب المزعوم, عندما يتأكد لهم أنني كنتُ على صواب! لأنني كنتُ مؤمناً على الدوام بأن الموت ليس إلا حالة انتقالية بين تجسدين, ولم أكن مخطئاً في ذلك.

والدليل هو أنني موجود هنا من جديد, بل وإنني اجتزت مرحلة التحول الجسدي تلك!

إن لحمي اليوم مختلف عما كان عليه, ولكن نفحة الحيوية التي تبعث الحياة فيه لاتزال هي نفسها. ولم يستطع أي إله أن يعاقبني لأنني سخرت منه. أو لأنني عرفت مسبقاً حقيقة ما الذي سيحدث بعد الموت.

ماذا سيقول اليوم جميع المتطيرين, وكل أولئك المتدينات اللواتي كن يستنكرن سخريتي من ملائكتهم وشياطينهم? فهأنذا مرة أخرى, بلحمي وعظمي, على الكوكب نفسه الذي زالت فيه عني كسوتي اللحمية منذ بعض الوقت.

وأنا لم أر في أي لحظة - سواء قبل التحول, أو في أثناء التحول, أو بعد التحول - يد أي إلهٍ ترتفع ضدي لتعاقبني على تنكري.

لقد عدتُ إلى الحياة بالروح نفسها التي كانت لي من قبل, وسوف أحيا هذه المرة باستكبار أعظم مما كنت عليه في السابق, وباعتداد بالنفس أكبر, لأنني تحققت من صحة نظريتي, ومن أنني كنتُ على صواب. إنني لا أعرف بعد المظهر الجسدي الذي سأكون عليه في هذا التجسد الجديد; ولكنني بالنظر إلى الكبرياء التي أشعر بها, أحس بأنني سأكون في هذه المرة أكثر وسامة وقوة مما كنتُ عليه في مرحلتي السابقة بين الأحياء.

وقد كان من نصيبي, كما يبدو, أن أُبعث إلى الحياة الجديدة في بيت شبيه بذاك الذي غادرته عند موتي. فالكراسي والطاولة التي تراها عيناي في هذه اللحظة, هي بيضاء اللون وتكاد تشبه تلك التي كانت في مطبخ بيتي السابق. أما الغرفة, بالمقابل, فتبدو لي واسعة جداً. لا ريب في أن السبب في ذلك يعود إلى خلل بصري عادي في سن الطفولة: فحين نكون صغاراً, تبدو لنا كل الأشياء التي نراها أضخم بكثير مما هي عليه. ولا بد أنني لاأزال صغيراً جداً, لأنني ولدت للتو.

من المؤكد أنني عندما أكبر في هذه الحياة الجديدة, سأصير شخصاً ذا أهمية أكبر بكثير مما كنت عليه في حياتي السابقة, ذلك أنني أمتلك منذ ولادتي نضجاً ذهنياً كاملاً.

أليس هذا دليلاً حاسماً على أن الإيمان بالآلهة ليس سوى أسطورة تتقبلها العقول المتخلفة وحدها? فلو أن هناك آلهة حقاً, لما كنتُ أنا في هذه الدنيا من جديد, مزوداً بموهبة مبكرة خارقة; ولكنتُ أعاني واحدة من تلك العقوبات الأبدية التي يتوعدنا بها رجال الدين والقساوسة.

يا له من أمر مضحك! عندما أفكر بكل أولئك المشعوذين الذين يؤمنون بهذه الخرافات, تغالبني الرغبة في الانفجار بقهقهة لا نهائية. ولسعادتي ببدء مرحلة جديدة من حياتي, أقول لنفسي:

- هأنتذا هنا من جديد, مثلما توقعت بذكائك الخارق, فقد أصبت حين آمنت بأنه ليس هناك ما يفنى: فكل ما يحدث هو تحوّل وحسب. هأنتذا هنا من جديد, بعينين مفتوحتين, تتأمل هذا العالم المحيط بك والذي يبدو لك مألوفاً.

وأجول بنظري, سعيداً جداً, على كل ما يحيط بي: الكراسي, الطاولة هناك في الغرفة نافذة كبيرة أيضاً.. أتفحصها بتمعن. وهناك باب.

وعندما أدير عيني نحو الباب, أرى أن أُكرته تدور ويبدأ بالانفتاح. يتسع الباب شيئاً فشيئاً. وعندما يتسع بما يكفي لمرور شخص, تدخل منه امرأة. إنها امرأة مربوعة, ضخمة وعادية. يبدو أنها الطاهية, ولكنني أفكر في أنها قد تكون مرضعتي. وأتذكر أن الأبوين اللذين كانا لي في حياتي السابقة تعاقدا كذلك مع امرأة ضخمة لتتولى تربيتي.

وأستنتج بالتالي أنها ليست طاهية, مثلما تبدو, وإنما هي مربيتي. أبقى دون حراك وأنا أراقبها بفضول.

وأدركُ بذكائي الخارق أنها ستتجه نحوي لتلاطفني وتدللني. أليس هذا ما تفعله كل المرضعات عادة. وانتظر باسماً حدوث ذلك, متفاخراً بأنني تكهنت بالأمر قبل حدوثه.

تتجه المرأة بالفعل إلى المكان الذي أشغله في الغرفة. ولكنها حين تراني, وبدلاً من الملاطفات المتوقعة, ترتسم على وجهها تكشيرة استياء.

- يا للمطبخ المقرف - - تصرخ وهي تنظر إليّ باشمئزاز, وتضيف: - إنه صرصار آخر-.

تتملكني الحيرة حين أسمع ذلك, فأبقى ساكناً دون حراك, بينما ترفع الطاهية قدمها الضخمة فوقي. وعندما أستعيد قدرتي على الحركة من هول المفاجأة, أركض بكل ما تتيحه لي قوائمي لألتجئ إلى شق في أسفل الجدار. ولكن بعد فوات الأوان: فنعل الحذاء الضخم يهوي على جسدي ويبدأ بسحقي...
 
أعلى