قصة قصيرة مارجريت يورسنار - أفروديسيا الأرملة

كان يدعى كوستيس الأحمر لأن شعره كان أصهب اللون, ولأن اسمه كان مرتبطا في الذاكرة بكم هائل من الدم المراق, وقبل كل شيء, لأنه كان يرتدي سترة حمراء عندما كان يهبط بسفاهة إلى سوق الخيل ليجبر فلاحا مرتعبا أن يبيعه أفضل ركوبة بثمن بخس, خشية تعريض نفسه لأشكال مختلفة من الموت المفاجئ. لقد عاش مختبئا بالجبل, على مسيرة عدة ساعات من قريته مسقط رأسه, وكانت شروره لزمن طويل محصورة في بعض الاغتيالات السياسية المختلفة, أو في سرقة بعض الخراف الهزيلة. ثم تمكن من العودة لورشة حدادته بغير قلق, لكنه كان من هؤلاء الذين يفضلون دوما طعم الخلاء الرحيب والطعام المسروق. ومن ثم أثارت جريمتان أو ثلاث من جرائم القتل الجنائي ثورة فلاحي القرية, وتعقبوه كذئب هارب أو كخنزير بري. ونجحوا أخيرا في اصطياده ليلة عيد القديس جورج, وعادوا به إلى القرية على ظهر دابة, مذبوحا كبهيمة الجزار, وكذلك لقي الشباب الثلاثة أو الأربعة الذين تبعوه أثناء حياته نفس مصيره, مخترقين بالرصاص أو مطعونين بالسكاكين. وعلقت رءوسهم على مذاري نصبت بميدان القرية, وكومت الجثث بعضها فوق بعض عند باب المقبرة, واحتفل الفلاحون المنتصرون. محتمين من الشمس والذباب وراء شيش نوافذهم المغلقة, وراحت أرملة الكاهن العجوز الذي اغتاله كوستاكي منذ ستة أعوام على طريق مقفر, تبكي في مطبخها وهي تغسل الكئوس التي قدمتها مليئة بالشراب للفلاحين الذين انتقموا لها.


***

جففت الأرملة أفروديسيا عينيها, وجلست على الكرسي الوحيد بالمطبخ, متكئة على حافة المنضدة بكوعيها, واضعة على كفيها ذقنها التي راحت ترتعد كذقن امرأة عجوز. كان اليوم أربعاء, ولم تكن قد أكلت شيئا منذ يوم الأحد. كما كان لها ثلاثة أيام لم تذق فيها طعم النوم. وراحت شهقاتها المختنقة تهز صدرها تحت الثنايا السميكة لثوبها الأسود. وراحت تنعس رغما عنها, ثم قامت فجأة في قفزة واحدة, فلم تكن تلك لحظة الغفوة والنسيان. فخلال ثلاثة أيام بلياليها, ظل نساء القرية يصحن عند سماع كل طلقة تدوي بالجبل ويصل لهن صدى صوتها, وكانت صرخات أفروديسيا أعلى من صرخات صاحباتها, كما يجب أن يكون رد فعل امرأة شخص محترم كالكاهن العجوز الراقد منذ ست سنوات في قبره. وكانت بحال سيئة عند عودة الفلاحين فجر اليوم الثالث ومعهم حمولتهم الدامية على البغل المتعب, وكان على جيرانها أن يعيدوها إلى بيتها الصغير الذي تسكن فيه منعزلة منذ ترملت, ولكن سرعان ما عادت لوعيها, وأصرت على أن تقدم شرابا لمن أخذوا بثأرها. وكانت يداها وساقاها ترتجف وهي تقترب من كل واحد من الرجال الذين أشاعوا بالغرفة رائحة لا تطاق بسبب العرق والتعب, فلم تتمكن من إضافة قطع الخبز والجبن إلى الشراب الذي قدمته لهم. وراحت تبصق خلسة, متمنية ألا يهل قمر الخريف إلا وهم موتى في قبورهم.

في تلك اللحظة التي كان عليها فيها أن تعترف بكل ما حدث في حياتها, لتربك حماقتهم أو لتؤكد ظنونهم السيئة, وتصيح في آذانهم بتلك الحقيقة التي كانت بسيطة وقاسية ومتكتما عليها في آن معا لمدة عشرة أعوام, وهي حبها لكوستيس, ولقاؤهما الأول في طريق مقفر, تحت شجرة توت احتمت بها من وابل من البرد, وعاطفتهما التي ولدت مع وميض البرق الخاطف لتلك الليلة الراعدة, وعودتها للقرية, ونفسها مضطربة, وهي أكثر هلعا منها نادمة, والأسبوع القاسي الذي قضته تحاول التخلص من هذا الرجل الذي أصبح ضرورة بالنسبة لها أكثر من الخبز والماء, وزيارتها الثانية لكوستيس, بذريعة تزويد أم الكاهن بالدقيق وهي التي كانت تعيش وحدها بمزرعة بالجبل, والمئزرة الصفراء التي لبستها في ذلك الوقت, والتي اتخذاها غطاء تغطيا به, فكانا كما لو اندسا تحت مزقة من الشمس, وذلك المساء الذي كان عليهما الاختباء به في اسطبل خان تركي مهجور, وكيف أن أغصان الكستناء النضرة التي راح يدفعها في طريقه كانت تلفعهما بدفقات الهواء البارد, وكيف كان ظهر كوستيس المنحني يتقدمها على الممرات التي كان من شأن أقل حركة فيها أن تثير إحدى الحيات الساكنة, وتلك الندبة التي لم تلاحظها في يومها الأول, وكانت ظاهرة بشكل ملتو على رقبتها, والنظرات المستوعبة المجنونة التي كان يحدجها بها, كما لو كان ينظر إلى شيء ثمين مسروق, وجسده الرجولي المتين الذي تعود الحياة الخشنة, وضحكته التي كانت تبعث فيها الاطمئنان, والطريقة التي كان يتلعثم بها في نطق اسمها أثناء ممارسة الحب.

ونهضت مستندة بعناء كبير إلى الحائط الأبيض الذي كانت عليه ذبابتان أو ثلاث, وكانت ذبابات كبيرة من تلك الحشرات التي تتغذى على الأوساخ ولم تكن سوى طفيليات ملحفة بعض الشيء, نحتمل مرورها على جلودنا في رواحها وغدوها الهش الخفيف, لكنها ربما وضعت رحالها على هذا الجسد العاري, وعلى تلك الرأس المدماة, لتضيف قذاراتها إلى ركلات الأطفال ونظرات النساء الفضولية. آه, لو أن أحدا تمكن بحركة مسح صغيرة أن يمحو كل هذه القرية, وتلك النسوة العجائز ذوات الألسنة السامة كإبر النحل, وهذا الكاهن الصغير المتعطش لشراب الصلوات, والذي يزأر في الكنيسة ضد من اغتال سلفه, وهؤلاء الفلاحون المهتاجون على جسد كوستيس كالدبابير على فاكهة تسيل العسل. هم لا يتخيلون أن حزن أفروديسيا يمكن أن يكون له سبب آخر سوى هذا الكاهن العجوز المتواري منذ ست سنوات في أفضل موضع بالمقبرة, فلم يكن بوسعها أن تصرخ بأنها انشغلت بحياة هذا السكير المنتفخ كأنه دكة خشبية موضوعة في عمق الحديقة.

ومع ذلك, وبالرغم من شخيره الذي كان يحول دونها والنوم, وطريقته التي لا تطاق في حك رقبته, فقد أسفت على مصيره, ذلك العجوز التافه الساذج الذي ظل يخدعها, ثم بعد ذلك راح يرهبها, بمبالغته الهزلية الشبيهة بمبالغات تلك الشخوص الغيورة التي تثير الضحك على شاشة عارضي خيال الظل, فقد أضاف عنصرا هزليا لمأساة حبه. وكان أمرا حسنا خنق دجاجات الكاهن التي كان كوستيس يحملها تحت سترته, في الأمسيات التي كان ينزل فيها خلسة حتى بيته, ثم تتهم هي بعد ذلك الثعالب بسرقتها. وكان أمرا حسنا أيضا, أنه ذات مساء عندما صحا الكاهن بسبب علو صوتيهما وهما يتطارحان الغرام تحت شجرة الدلب, تخيل الرجل العجوز متكئا على حافة النافذة, يراقب كل حركة لظلهما على سور الحديقة, وهو موزع النفس بشكل يدعو للسخرية بين الخوف من الفضيحة والخوف من أن يقتل برصاصة وبين رغبته في الانتقام. الشيء الوحيد الذي لامت عليه أفروديسيا هو بالتحديد قتل كوستيس لهذا العجوز, الذي لعب رغم أنفه دور الغطاء لحبهما.

منذ ترملت, لم يشك أحد في المواعيد الخطرة التي كانت تعطيها لكوستيس في الليالي غير المقمرة, لدرجة أنه لم ينقص لاستكمال لذتها سوى وجود من يتفرج عليهما. وعندما بدأت نظرات النساء المسنات تنصب على ما طرأ بجسد المرأة الشابة من تغيرات زادت من وزنه, تخيلن جميعا أن أرملة الكاهن وقعت تحت إغواء أحد التجار المتجولين, أو تحت إغواء عامل مزرعة, كما لو أن هؤلاء الناس كانوا من النوع الذي ترضى أفروديسيا بالنوم معه. وكان عليها أن تتقبل بسعادة شكوكهم المخزية وتبتلع كبرياءها وأن تحرص أكثر على ألا تبدي اشمئزازها. وعندما شاهدنها بعد بضعة أسابيع من ذلك, وقد عادت بطنها إلى طبيعتها تحت مئزرتها الرخوة, تساءلن جميعهن عما فعلته أفروديسيا من أجل أن تتخلص بسهولة هكذا من حملها.

ولم يتشكك أحد في أن زيارة معبد القديس لوقا لم تكن سوى ذريعة, وأن أفروديسيا ظلت أثناء ذلك طريحة على بعد عدة فراسخ من القرية, في كوخ أم الكاهن التي صارت ترضى أن تخبز لكوستيس وترفو له سترته. ولم تكن امرأة طاعنة في السن رقيقة القلب, بل كان كوستبس يزودها بالشراب, كما كانت هي الأخرى قد عرفت العشق في شبابها وتذوقته. وفي هذا المكان, وضعت أفروديسيا مولودها, وكان عليها أن تخنقه فور ولادته, وهو ضعيف, عار, كأنه قط صغير مولود, بغير أن تتكبد حتى مشقة غسله بعد ولادته.

ثم كانت حادثة اغتيال العمدة التي قام بها واحد من رفاق كوستيس, كما واصلت الأصابع النحيفة للرجل الضغط بشراسة زائدة على زناد بندقية صيده القديمة, ثم جاءت تلك الأيام الثلاثة بلياليها التي بدا فيها أن الشمس كانت تشرق وتغرب في الدم. وفي ذلك المساء, انتهى كل شيء, واندلعت نيران البهجة التي جمعت لها صفائح البنزين على باب المقبرة, وسوف يعامل كوستيس ورفاقه معاملة جثث البغال التي يرش عليها النفط وتحرق كي لا يتكبد البعض مشقة دفنها, ولم يتبق بعد أمام أفروديسيا سوى بضع ساعات من الوحدة حتى غياب الشمس ولبس ثوب الحداد.

ورفعت مزلاج الباب, ثم خرجت إلى السهل الذي يفصلها عن المقبرة. كانت الجثث المكومة موضوعة إلى جوار الحائط الخشن, ولكن لم يكن من الصعب التعرف على كوستيس, فقد كان أضخمهم, كما كانت هي تحبه. وكان فلاح جشع قد سلبه صدريته ليتباهى بها يوم الأحد, كما كان الذباب يتراكم بالفعل على الدماء التي تسيل من جفنيه, وكان عاريا تماما تقريبا.

وراح كلبان أو ثلاثة يلعقون الآثار السوداء للدم, ثم عادت الكلاب لتقعي في شريط الظل الضيق وهي تلهث. وعند المساء, في اللحظة التي خفت فيها حرارة الشمس, بدأت جماعات صغيرة من النساء في التجمع حول هذه الشرفة الصغيرة, ورحن يتفحصن آثار الدم الذي أصاب كوستيس بين كتفيه. وعلى بعد خطوة منهن قام الرجال بتعديل وضع الجثة لكي يشبعوا ما تبقى عليها من ملابس بالبنزين, وبدأوا يفتحون الصفائح بفرحة قاطفي العنب عند فتحهم سدادة برميل الشراب. وتحسست أفروديسيا الكم الممزق للقميص الذي كانت قد خاطته بيديها لكي تقدمه هدية لكوستيس في عيد الفصح. وتعرفت فجأة على اسمها الذي حفره كوستاكي في نهاية الذراع اليسرى. لو أن عيونا أخرى غير عينيها وقعت على هذه الأحرف المحفورة برعونة في الجلد, فسوف تومض الحقيقة فجأة في عقولهم كشعلات البنزين التي بدأت تتراقص على حائط المقبرة. وتحجرت في مكانها متوارية وراء الأحجار. ولم تتمكن مع ذلك من قطع هذه الذراع التي تدينها بما كان بينهما من حنان, أو تقوم بتسخين قطعة حديد لكي تطمس بها هذه العلامات التي قد تتسبب في ضياعها. ولم تتمكن مع ذلك من أن تحدث جرحا في هذا الجسد الذي نزف الكثير من دمائه بالفعل.

كانت تيجان الحديد الأبيض التي تحيط بقبر الكاهن إتيين تلتمع على الناحية الأخرى من الحائط المنخفض للأرض المسورة المخصصة له, وذكرها ذلك التل المقوس فجأة بكرش العجوز السمين. فبعد ترملها, تم نبذ أرملة الكاهن المرحوم في هذا الكوخ القائم على بعد خطوتين من المقبرة, ولم تشك من الحياة في هذا المكان المعزول, الذي لم يكن يتنفس إلا هواء المقابر, حتى أن كوستيس كان بوسعه المجازفة عندما يخيم الليل على هذا الطريق, الذي لا يعبره كائن حي, كما كان حفار القبور الذي يعيش في المنزل المجاور أصم يحيا كالميت. ولم يكن قبر الكاهن إتيين يفصله عن هذا الكوخ سوى حائط المقابر, وكان يخامرهما الشعور بأنهما يواصلان تحسس ذقن شبحه. واليوم سمحت هذه العزلة نفسها لأفروديسيا أن تحقق مشروعا جديرا بحياتها المليئة بالحيطة والحذر, وبإزاحتها الحاجز الخشبي المتآكل بفعل الشمس, استولت على معول ومجرفة حفار القبور.

كانت الأرض صلبة وجافة, وراح عرق أفروديسيا يسيل بغزارة لم تعهد مثلها مع دموعها. ومن وقت لآخر, كان المعول يصطدم بحجر, لكن هذه الضجة بذلك المكان المقفر لم تنبه أحدا, وكانت القرية كلها تنام بعد العشاء. وأخيرًا سمعت تحت المعول الصوت الجاف للخشب القديم, وعثرت على تابوت الكاهن إتيين الذي كان أكثر هشاشة من خشب قيثارة. وتصدع التابوت تحت الضغط, كاشفا عن العظام القليلة والحلة المجعدة التي تبقت من جثمان العجوز. وصنعت أفروديسيا من هذه البقايا كومة دفعتها بعناية في ركن من أركان التابوت, وجرت جسد كوستيس من إبطيه إلى الحفرة. وكان عاشق الأمس أطول من الزوج بمسافة طول الرأس, لكن التابوت كان كبيرا بشكل يتسع لكوستيس المقطوع الرأس. وأقفلت أفروديسيا الغطاء, وكومت التراب من جديد على القبر, وغطت التل الذي كان قد تهوش بأكاليل كانت قد اشتريت فيما مضى بتبرعات أتباع الكنيسة, ثم سوت تراب الممر الذي سحبت عليه الجثة. لقد نقصت الآن جثة من الكومة الطريحة بمدخل المقابر, لكن الفلاحين مع ذلك لن يرهقوا أنفسهم بالبحث في كل القبور للعثور عليها.

وجلست أفروديسيا لاهثة, ثم نهضت من توها, فقد استمتعت بعمل الدفن الذي قامت به. وكان رأس كوستيس لايزال مرفوعاً, معروضاً بازدراء, ومشكوكاً بطرف مذراة بالمكان الذي تركته القرية موضعا للصخور وللسماء. ولم يكن الأمر قد انتهى بما أنها لم تكن قد أتمت طقوس جنازتها, وكان عليها أن تتعجل الإفادة من الساعات الشديدة الحرارة التي يحتمي فيها الناس بالنوم في منازلهم, وينشغلون بعد دراخماتهم, وممارسة الحب وترك الميدان بالخارج خاليا في الشمس.

بالتفافها حول القرية, تخيرت للصعود إلى القمة الطريق المنحدر الصاعد الذي نادرا ما يسلكه أحد. وكانت الكلاب الهزيلة تنعس في مساحة الظل الضيقة بمدخله, وركلتها أفروديسيا بقدمها أثناء مرورها, منفثة فيها عن حقدها الذي لم تتمكن من تنفيثه في أسيادها. ولأن أحد الكلاب قام منتفضا يعوي ويتأوه في نباح طويل, توقفت لحظة لملاطفته والتربيت عليه. وكان الهواء يلسع كأنه حديد ساخن, ولفت أفروديسيا شالها حول وجهها, كي لا يصعقها الحر قبل إتمام مهمتها.

وأفضى الممر أخيرا إلى فناء أبيض مستدير. وفي الأعلى لم تكن هناك سوى الصخور الكبيرة التي تتخللها الكهوف التي لا خطر فيها إلا من اليائسين من أمثال كوستيس, والتي كان الغرباء يستمعون لأصوات الفلاحين الخشنة تحذرهم من المغامرة بارتيادها. أعلى من ذلك لم يكن سوى الصقور والسماء, وكانت الصقور وحدها هي التي تعرف المدارج. وكانت الرءوس الخمسة لكوستيس وأصحابه فوق مذاريها تكشر بأشكال مختلفة ارتسمت عليها ملامح الموت. وقد زم كوستيس شفتيه كما لو أنه يفكر في مشكلة لم يجد وقتا لحلها في حياته, كشراء حصان أو الحصول على فدية رهينة جديدة, وكان الوحيد بين أصدقائه الذي لم يغير الموت ملامحه كثيرا, فقد كان دوما, وعلى نحو طبيعي, شاحبا للغاية. وأمسكت أفروديسيا بالرأس الذي صدر عنه وهي تنزعه من المذراة صوت يشبه صوت تمزق الحرير. وفكرت في أن تخفيه في بيتها, تحت أرضية المطبخ, أو ربما في كهف لا يعرف أحد غيرها سره, وربتت على هذه البقايا مطمئنة إياها بأنها قد أنقذت.

وذهبت لتجلس تحت شجرة الدلب التي انتصبت بأعلى الميدان, في أرض المزارع بازيل. وتساقطت تحت قدميها صخور تدحرجت بسرعة تجاه السهل. وكانت الغابات التي توشي الأرض تبدو من بعيد كطحالب شديدة الصغر. وبدا البحر في عمق المشهد بين شفتين جبليتين, فقالت أفروديسيا لنفسها لو أنها تمكنت من ترتيب أمر كوستيس فسوف تمر على أمواجه. فليس هناك الآن ما يجبرها على أن تهدهد فوق ركبتيها رأسا محززا بالدماء. وانفجر نحيبها, المستمر منذ بدأت محنتها, في زفرات عنيفة كزفرات الباكيات بالجنازات, وهي تضع مرفقيها على ركبتيها, وكفاها تضغطان خديها المبتلين, ودموعها تسيل بغزارة فوق وجه الميت.

ـ أنت هناك, أيتها اللصة, ياأرملة الكاهن, ماذا تفعلين في حديقتي?

كان العجوز بازيل مسلحا ببلطة وعصا, رابضا أعلى الطريق, وقد أحالته هيئته المتوجسة الغاضبة إلى ما يشبه خيال المآتة. ونهضت أفروديسيا في قفزة واحدة, وهي تغطي رأس الميت بمئزرتها:

ـ لم آت لأسرق سوى بعض الظل, أيها العم بازيل, قليلا من الظل أروح به عن جبيني.

ـ ما الذي تخفينه بمئزرتك أيتها اللصة, يا أرملة التافه? ثمرة قرع? أم بطيخة?

ـ إني فقيرة أيها العم بازيل, ولم آخذ سوى بطيخة حمراء. لا شئ سوى بطيخة حمراء ذات لب أسود.

ـ أريني هذا, يا كاذبة, أيتها الخنفسة السوداء, أعيدي لي ما سرقته.

وهبط العجوز بازيل على المنحدر مشرعا عصاته. وراحت أفروديسيا تجري باتجاه الهوة, ممسكة بيدها ذيل مئزرتها. وصار المنحدر أكثر فأكثر خشونة, والممر زلقا أكثر فأكثر. كما لو أن لون الشمس الدامي, وهي على وشك المغيب, قد طلا الأحجار فجعلها أشد لزوجة. وكف العجوز بازيل عن مطاردتها, وراح يصرخ بكل قوته ليحذر الهاربة كي تعود للوراء, فلم يكن الممر إلا مدرجا من ركام الصخور. وسمعت أفروديسيا صرخاته, لكنها لم تفهم من كلماته التي تمزقت أوصالها في الريح سوى ضرورة أن تهرب, من القرية, ومن الكذب, ومن اشتداد النفاق, ومن العقاب الطويل حين تصبح امرأة عجوزاً مهملة لا يحبها أحد. ثم تحرك حجر أخيرا تحت قدمها, فتدحرج ليسقط في عمق الهوة, كما لو كان يريها الطريق, وسقطت أفروديسيا الأرملة في الهاوية مع الغروب, حاملة معها الرأس الملطخ بالدم.
 
أعلى