كلام في مقهى : سلمى الحفار الكزبري - الأندلسيون يعشقون

القلوب بيد الله. والحب هو اتصال بين النفوس التي انقسمت ذات لحظة, وآن لها أن تلتئم. هكذا كان أهل الأندلس الضائع يعرفون الحب ويعيشونه قبل أن يضيع كل شيء.

تجلى اهتمام الكتّاب والشعراء الأندلسيين - وحتى رجال الفقه منهم - بالحب في أعمالهم, وقد عالجوا موضوعه بكل صراحة ووضوح مما لم نلحظ مثله في أدبنا العربي المشرقي إلا نادراً.

كما أننا لم نلحظ عند الأندلسيين أي أثر للحب العذري الذي تغنى به شعراؤنا العرب القدامى المتمثلين بكل من جميل بثينة وكثير عزة على أن أسماء محبوباتهم ظهرت في قصائدهم المترجمة مشاعرهم المتسمة بالخفر. أما في الأندلس فإننا وجدنا وصفاً للحب وحالاته وتحليلاً لها في كتاب (طوق الحمامة) الشهير الذي ألّفه عالم وإمام وأديب وشاعر هو عليّ ابن حزم, ووجدنا قصائد رائعة في الحبّ في ديوان ابن زيدون وما وصلنا من أشعار حبيبته ولادة بنت المستكفي بالله الذي كان آخر الخلفاء الأمويين في الأندلس, وغيرهما من الرجال والنساء الذين سنأتي على ذكرهم.

طوق الحمامة


كتب ابن حزم (طوق الحمامة في الأُلْفَة والأُلاف) سنة 994م في قرطبة حيث كان يقيم أي قبل أكثر من ألف عام مضى, وفي الثالثة والأربعين من عمره فجاء عمله دراسة وافية لحالات الحب وأنواعه نابعة من خبرته للحياة والطبيعة الإنسانية للرجل والمرأة, ومن تجربته الشخصية يوم كان في مطلع صباه, فاعتبره الباحثون العرب والمستعربون الأجانب أكمل كتاب, بل أول كتاب مُلم بموضوع الحب وحالاته المتنوعة, وأول أثر من نوعه مدبّج بلغة سهلة وصراحة مدهشة. ذكرت أن ابن حزم كان يوم ألّفه في الثالثة والأربعين من العمر, فاستهله برسالة وجهها إلى أمير من أصدقائه كان قد أوعز إليه بدراسة هذا الموضوع, استهلّها يقول:

(الحبّ, أعزك الله, أوّله هزلٌ وآخره جَدٌّ, دقّت معانيه عن أن توصف لجلالتها فلا تُدرك معانيها إلا بالمعاناة. والحب ليس بمنكرٍ في الديانة ولا بمحظور في الشريعة إذ القلوب بيد الله عز وجل. الحب هو اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في الخليقة, كما أن للتمازج والتباين بين المخلوقات سرّاً دليله الاتصال والانفصال).

يقف قارئ هذا الكتاب بإعجاب حيال صراحة العالم والفقيه ابن حزم في وصف حبه الأول لجارية رائعة الحسن يوم كان في الخامسة عشرة من العمر. كانت تلك الفتاة في مثل سنّه تقريباً فذكر لنا أنه سعى للتحدث إليها والإعراب عن عاطفته تجاهها فكانت لا تجيب لشدّة حيائها وحذرها. وصفها بأنها كانت تجيد العزف على العود والغناء وأنه سمعها تغني أبياتاً للعباس بن الأحنف في البستان ذات يوم فازداد بها كلفاً ووصف تأثير غنائها فيه حيث قال: (والله ما نسيت ذلك اليوم ولن أنساه إلى يوم مفارقة الحياة!) وأضاف يقول في كتابه إنه أرسل إليها بيتين من الشعر الرقيق تعبيراً عن ولعه بها وعن عذره لها كذلك بداعي احتراسها وتفهّمه لتمنّعها هما:

لا تَلُمْها على النفارِ وَمَنْعِ
الْوَصْلِ, ما هذا بنكيرِ

هل يكون الهلالُ غَيْرَ بعيدٍ?
أو يكونْ الغزالُ غَيْرَ نفيرِ?


كما أضاف ابن حزم يقول إنه شعر بغيرة شديدة من الشاعر عباس بن الأحنف لأنها غنت أبياتاً من شعره على عودها فأرسل إليها البيتين التاليين:

مَنَعْتِ جمالَ وجهكِ مقلتيّا
ولفظكِ قد ضَنَنْتِ بِهِ عليَّ

وَقَد غَنَّيتِ للعباسِ شعراً
هنيئاً ذا للعباسِ هنيّاً


ولكن هذين البيتين ظلا بلا جواب فخاطبها من جديد معرباً عن شدة هيامه بها ببيتين آخرين من شعره بعث بهما إليها قائلاً, بل شاكياً همّه, ومعرباً عن هيامه بها:

وأستلِذُّ بلائي فيكَ يا أَمَلي
ولستُ عنكَ مدى الأيام أَنْصَرِفُ

إن قيل لي: تَسَلَّى عن مودتِهِ
فما جوابي إلا: اللامُ والأَلِفُ!


ثم اعترف بأن الحبّ داءٌ عياء, وعِلَّةٌ مشتهاة لا يودّ المحب الشفاء منها أبدا!

لقد تُرجم (طوق الحمامة) إلى لغات أوربية متعددة, وفيه ذكر لنا أخباراً عن حبّ الأمراء والخلفاء الأندلسيين للنساء, منها أن الخليفة الحكم المستنصر بالله هام بفتاة إسبانية من منطقة (الباسك) الشمالية كانت تدعى: (أورودا - AURODA) فتزوجها وأسماها (صبح) وهي التي لعبت دوراً كبيراً في حياة الأندلس السياسية وأنجبت له ابنه الخليفة هشام بن الحكم. وحدّثنا كذلك عن حبّ الأمير عبدالرحمن بن الحكم لجاريته (طروب) التي تزوجها وبقيت المرأة الوحيدة المحبوبة حتى آخر حياته.

ابن زيدون


لابد لمن يتحدث عن الحبّ في الأدب الأندلسي من التوقف عند الشاعر العظيم ابن زيدون وحبّه للأميرة ولادة بنت المستكفي بالله, آخر الخلفاء الأمويين في القرن الحادي عشر الميلادي. نشأ ابن زيدون في بيت علم وجاه واشتُهر منذ مطلع شبابه بجودة شعره ونثره, وسعة ثقافته ووسامة طلعته, وشبّت ولادة في قصر الخلافة من أم أجنبية, فكانت آية في الجمال, كما وصفها المؤرخون وكذلك ابن زيدون في شعره, ميّالة للتحرر, فتحت قصرها لاستقبال الشعراء والأدباء بعد مقتل أبيها متحرّرة من القيود السابقة, فكان لمنتداها أثر كبير في المجتمع القرطبي إبان حكم أبي الحزم بن جهور فيه, وأثرٌ أعمق في حياة ابن زيدون وشعره منذ أن التقيا في ندوتها, وهو وزير آنذاك في حكومة ابن جهور. لم يكن ابن زيدون أقلّ عراقة من الأميرة ولادة لتحدره من أسرة المخزومي المعروفة, فأُعجبت به بادئ الأمر وهام هو بها منذ أول لقاء في قصرها, فأخذا يتبادلان الرسائل الشعرية بعد فترة وجيزة التي عبّرت لنا عن حبهما الكبير على مدى ثلاثين سنة من حياتهما, ولكن ما وصل إلينا من شعر ولادة قليل جدا بالقياس إلى قصائد ابن زيدون فيها التي تملأ ديوانه بالإضافة إلى رسالته الهزلية التي وجّهها إلى خصمه في حبها الوزير ابن عبدوس. لقد نعم ابن زيدون بحبه لولادة وشقي لما لقيه من مؤامرات عليه أدّت إلى بعده عنها وعن قرطبة ولكنها لم تتمكن من تدمير حبّه الجامح لها. لقد أرسل إليها بعد أوّل لقاء هذين البيتين الرقيقين:

ما جالَ بَعْدَكِ لحْظي في سَنا قمرٍ
إلا ذكرتُكِ ذكرَ العَيْن بالأَثَرِ

فهمتُ معنى الهوى من وَحْي طَرفِكِ لي
إن الحِوارَ لمفهومٌ من الحَوَرِ


تشير أشعار ابن زيدون في ولادة إلى أنها لعبت بعواطفه في بادئ الأمر مع أنها أعجبت به منذ أول لقاء, فكان يرسل إليها أبياتاً من شعره المعبّر بصدق عن حبه لها دون أن تتجاوب أو تردّ عليها إلى أن أعربت له عن ميلها إليه بإرسال باقة من الياسمين له بواسطة جاريتها عتبة الملازمة لها, ففرح ابن زيدون وأيّما فرح, وأرسل إليها الأبيات التالية يخاطبها فيها بصيغة المذكّر دفعاً للشبهات:

ورامشةٍ يَشْفِي الغليلَ نسيمُها
مُضمّخةِ الأنفاسِ, طيبةِ النَّشْرِ

أشارَ بها نحوي بنانٌ مُنْعَمٌ
لأَِغيد مكحولِ المدامعِ بالسِّحْرِ

إذا هو أهدى الياسمينَ بِكَفِّهَِ
أَخذتُ النجومَ الزُّهْرَ من راحةِ البَدْرِ

له خُلُقٌ عذبٌ, وَخلْقٌ مُحَسَّنُ
وطرفٌ كَعَرْفِ الطيبِ أوْ نَشْوَةِ الْخَمْرِ

يُعَلِّلُ نفسي من حديثٍ تَلَذُّهُ
كَمِثْلِ المنى والوَصْلِ في عُقْبِ الهَجْر


ولما لم تردّ بعث إليها بأبيات لاحقة من أرق شعره فأرسلت إليه مع جاريتها عُتْبة قصاصة تقول له فيها:

ترقَّبْ إذا جُنَّ الليلُ زيارتي
فَإني رأيتُ الليلَ أكْتَمَ للْسِّرِّ

وبي مِنْك ما لو كانَ بالشمسِ لم تَلُحْ
وبالبدْرِ لم يَطْلُعْ, وبالنجم لم يسْرِ!


أحسّ ابن زيدون أنه ملك الدنيا كلها عندما قرأ بوحها بحبها له, وهذا دليل قاطع على حرية المرأة الأندلسية في الإعراب عن عواطفها آنذاك, ولكن التكتّم في حبّ هذين العاشقين لم يُجْدِ فتيلاً إذ لم يلبث أن شاع أمرهما بين الناس, ولاسيما في مجلس ولادة الأدبي, وأثار حفيظة الطامعين بحبها أمثال ابن عبدوس وابن القلاس, وبعد فترة وجيزة تعكّرت الصلة بين العاشقين وتآمر خصما ابن زيدون في حبها عليه إذ اتهماه باغتصاب عقار زورا وبهتانا فسُجن في قرطبة ثم تمكن من الفرار إلى ضاحية (الزهراء) أولا ومنها إلى إشبيلية حيث تسلّم منصب المستشار في بلاط ملكها المعتضد بالله, وبعد ذلك عُيّن وزيرا للمعتمد بن عباد الذي تولى الحكم بعده, ولكن لا السفارة ولا الوزارة ولا التكريم الذي نعم به في بعده القصري عن الحبيبة استطاع أن يطفئ نار الحب في قلبه فظلّ يرسل القصيد إثر القصيد متغنيّاً بها, معرباً عن عمق حبه لها واشتياقه إليها بقصائد رائعة حتى آخر حياته, منها رائعته المشهورة التي مطلعها:

أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا


أما القصيدة التي مطلعها

ودّع الصبر مُحبٌّ ودّعك
ذائع من سِرِّهِ ما استودعك


فقد نسبها بعضهم إلى ابن زيدون والبعض الآخر إلى ولادة التي عاشت حياتها كلها في قرطبة إلى أن تُوفيت فيها دون أن تتزوج عام 1087م, في حين توفي ابن زيدون في إشبيلية عام 1070م. وهنا يجدر بالذكر أن أمير الشعراء أحمد شوقي عارض تلك القصيدة الرائعة وغناها الموسيقار عبدالوهاب وهذا مطلعها:

رُدتّ الروحُ علي للمضنى مَعَك
أَحْسَنُ الأيامِ يومٌ أرجعك


غزل الحبيبة


انتقل بالحديث عن الحب في الأدب الأندلسي إلى شاعرة رقيقة عاشت في (وادي الحجارة) بالقرب من مدريد وتغزلت بالرجل الذي أحّبته دونما حرج, هي (حفصة بنت حمدون) إذ قالت:

لي حبيب ولا ينثني لعتاب
وإذا ما تركتُهُ زاد تيها

فقال لي: هل رأيت لي من شبيهٍ
قلتُ أيضاً: وهَلْ ترى لِي شبيها?


كما ينبغي أن نذكر شاعرة أندلسية أصلها من بغداد هي: (قمر البغدادية) قضت حياتها في إشبيلية في القرن التاسع الميلادي وقد ظهر حنينها لوطنها الأم بهذه الأبيات الرقيقة:

آهاً على بغدادها وعراقها
وظبائِها والسّحرِ في أحداقِها

ومجالها عند الفراتِ بأَوْجُهٍ
تبدو أَهِلَّتُها على أطواقِها

نفسي الفِداءَ لها فكُّل المحاسِنُ
في الدهر تُشْرِقُ من سَنا إشراقِها


عندما نُعيد قراءة كتب التراث الأندلسي الأدبي والفني يدهشنا عدد الشاعرات اللواتي نبغن سواء إبان الحقبة الذهبية للحكم العربي أو بعدها حتى آخر ذلك الحكم في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. لقد اشتهرت في غرناطة شاعرة مجيدة هي حفصة بنت الحاج الركونية التي أحبت الوزير الشاعر أحمد بن سعيد وأحبها ونافسه في حبها أمير دولة الموحدين (عبدالرحمن بن عليّ) فمن أسلس شعرها فيه قولها:

أزورُكَ أم تزورُ? فإن قلبي
إلى ما تشتهي أبداً يميلُ

فعجّل بالجواب فما جميلٌ
إباؤُكَ عن بُثَيْنَةَ يا جميلُ!


وبعد أن فجعت بقتله بأمرٍ من خصمه بحبها الأمير عبدالرحمن بن علي رثته بقصيدةٍ طويلة محزنة للغاية كان مطلعها:

ولو لم تكن نجما لما صار ناظري
وقد غبْتُ عنه, مُظلِماً بَعْدَ نورِهِ


إن من أظرف الشاعرات الأندلسيات (قسمونه بنت إسماعيل) التي كانت جميلة جداً ومع ذلك لم يتقدم للزواج منها أحد فوقفت أمام مرآتها متحسّرة وأنشدت تقول:

أرى روضةً قد حانَ منها قطافُها
ولستُ أرى جانيا يَمُدُّ لها يدا...


وأخيراً أودّ أن أذكر الشاعرة (أم الهناء) التي عرفت برقة الشعر والغزل العفيف بمن أحبّت, ومنه هذه الأبيات السلسة:

جاءَ الكتابُ من الحبيبِ بِأَنَّهُ
سَيَزُورُني فاستعبرتْ أجفاني

غَلَبَ السرورُ عليَّ حتى أنه
من عُظم فَرْطِ مسرّتي أبكاني

يا عينُ صارَ الدمعُ عندكِ عادةً
تبكينَ من فَرحٍ ومن أحزانِ

فاستقبلي بالبِشْرِ يَوْمَ لقائِهِ
وَدَعي الدموعَ لِلَيْلَةِ الهجران!


ونبغت في الأندلس شاعرة غرناطية هي (نزهون) من أرق الشاعرات طبعاً, وأكثرهن سرعة بديهة. كان لها مجلس أدبي في غرناطة يؤمه الشاعر (أبوبكر المخزومي) الأعمى فقدم إلى بيتها أحد الظرفاء من أصدقائها وخاطب المخزومي قائلاً:

لَوْ كُنْتَ تَعرِفُ مَنْ تخاطِبُهُ


ولم يتمكن من ارتجال الشطر الثاني فانبرت نزهون وأكملته منشدةٌ:

لغَدَوْتَ أَخْرَسَ من خلاخِلِهِ

البدرُ يَطْلُعُ من أَزِرَّتِهِ
والغُصْنُ يَمْرَحُ في غلائِلِهِ!


ومن نوادر نزهون أن الشاعر ابن قزمان أتى مجلسها ليناظرها وكان يرتدي حُلَّةً صفراء فلما رأته قالت له على الفور:

إنك اليوم كبقرة بني إسرائيل صفراء فاقعٌ لونُها لا تسِرُّ الناظرين!

إن هذه الأخبار الدالّة على تحرّر النساء الأندلسيات من القيود الاجتماعية السائدة في المشرق العربي آنذاك هي دليل على تحرّر المرأة إبان ازدهار الحكم العربي في الأندلس, وظهور مواهبها, فقد ذكر المؤرخ المقري في موسوعته (نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب) ما يزيد على ثلاثين شاعرة اشتُهرن بثقافة مشرقية متينة واستمتعن بحرية في تصوير أحاسيسهن, كان جوار أوربا, وتألق المجتمع الأندلسي من أسبابها إبان تلك العصور الغابرة.
 
أعلى