نقد منقول - غريب المقال من كتاب الجاحظ عن البغال

58924232_holyoakhead.jpg


وضعت جانبًا ذلك الكتاب الغربي الآتي من بلاد الفرنجة. والذي يتحدث عن فن الأدب والحديث والاتيكيت، وأخذت أنهل قليلاً من تراثنا الأصيل لعل أقوال وأفعال وطبائع السلف تكون لي عونًا على حاضر قد ابتلينا به ومستقبل لا نرى فيه خيرًا. ففضلت القراءة عن أحوال السلف وطباعهم عن أحوال الفرنجة وكفرهم. والجاحظ أعزائي -أعزكم الله- قد ولد في القرن الثاني الهجري وتوفاه الله بعد ان عاش من العمر ما يقارب المئة وخمسة. عاصر ونقل عن الكثيرين ومن أشهر ما كتب البخلاء وكتاب الحيوان. ولكنه وهو في مرض له قد اتعبه وأجلسه أصر على إضافة أخيره لكتابه عن الحيوان. تلك الإضافة التي لم يسمح بها مرضه ولم تأذن بها علته. فكان من بعد أن برأ من سقمه وقام من رقدته ورزقه الله عافية كانت قد غادرته وقوة قد خاصمته أصر إصرارًا وعقد عزمًا على ضم البغال إلى دفتي مصحفه عن الحيوان. إليكم اخوتفي الإيمان بعض من غريب الأقوال وعجائب الأفعال وما روي عن البغال. فشد عليك وثاقك وضم إليك كتابك واقرأ غير فاغر فاهك

1

وقال صفوان بن عبد الله بن الأهْتم لعبد الرحمن بن عبّاس بن ربيعة بن الحارث بن المُطَّلب وكان ركَّاباً للبغلة‏:‏ ‏”‏ مالك وهذا المركب الذي لا تُدْرك عليه الثار ولا يُنجيك يوم الفرار ‏”‏ قال‏:‏ ‏”‏ إنها نزلت عن خُيلاء الخيل وارتفعت عن ذِلّة العَيْر وخير الأمور أوساطها ‏”‏‏.‏ فقال صفوان‏:‏ ‏”‏ إنّا نُعلِّمكم فإذا علمتم تعلَّمنا منكم‏!‏ وهو الذي كان يُلقَّب‏:‏ ‏”‏ روَّاض البغال ‏”‏ لحذقه بركوبها ولشغفه بها وحُسن قيامه عليها‏.‏

وكان يقول‏:‏ ‏”‏ أريدها واسعة الجُفرة مُنْدحَّة السُّرَّة شديدة العكْوة بعيدة الخطوة ليِّنة الظهر مُكْرَبَة الرُّسْغ سفْواء جرْداء عنقْاء طويلة الأنقاء‏”‏‏.‏ وقال ابن كُناسة‏:‏ سمعت رجلاً يقول‏:‏ ‏”إذا اشتريت بغلة فاشترها طويلة العُنق نجْدةً في نجائها مُشرفة الهادى نجْدةً في طباعها ضخمة الجوْف نجدةً في صبرها”ـ

2

وقال آخر يهجو رجلاً‏:‏

يا حابس الرَّوْث في أعْفاج بغْلته ـ ـ ـ ـ ـ ـ شُحّاً على الحبِّ من لقْط العصافير

3

قال‏:‏ وقدَّموا إلى سليمان بن عبد الملك جدْياً سميناً فقال‏:‏ لأبي السَّرايا – وكان من مجانين الأعراب – كلْ منْ شحم كليته فإنه يزيد في الدِّماغ‏.‏

قال‏:‏ لو كان الأكل من كُلى الجدي يزيد في الدِّماغ كان رأس الأمير أعظم من رأس البغل‏!‏‏.‏

4

وتفاخر ناس بكبر الأيور وشيخٌ جالسٌ لا يخوض معهم فلما أكثروا قال الشيخ‏:‏ لو كان كبر الأيور مجداً كان البغل من بني هاشم‏!ـ

5

ورأى الطائف باليل شخصاً عظيما قد اخنس عنه فشدّ نحوه فإذا حمدوية المخنَّث قد جلس كأنه يخرأ ولم يكن خراء وكان قد جلس على روث فقال له‏:‏ أنت أيَّ شيء تصنع ها هنا هذه الساعة قال‏:‏ خرجت أخرأ‏.‏

فنظروا فإذا تحته روثة قالوا‏:‏ مالك صرت بغلاً قال‏:‏ هذا زيادة عليكم كل إنسان يخرأ ما يشاء‏!ـ

6

قالوا‏:‏ وابتاع عبّاديٌّ بغلاً فمّر بالحيّ فقالوا‏:‏ بارك الله لك‏!‏ قال‏:‏ لا تقولوا هكذا‏.‏
فكيف نقول قال‏:‏ قولوا‏:‏ لا بارك الله لك فيه‏!‏ قالوا‏:‏ سبحان الله‏!‏ أيقول هذا أحدٌ لأحدٍ له فيه رأي قال‏:‏ قولوا كما أقول لكم‏!‏ قالوا‏:‏ لا بارك الله لك فيه‏!‏ قال‏:‏ وقولوا‏:‏ وأعضّك ببظر أمك‏!‏ قالوا‏:‏ نعم قال‏:‏ إن أنا أعرتكموه أبداً‏!‏

7

قال‏:‏ ونظر إليه جعفر والفضل ابنا يحيى وهو واقف في ظلّ قصر من قصور الشَّمَّاسيَّة فنظر إلى شيخ عجيب الخلْقة وإذا تحته بغلٌ أعجف يكاد يسقط هُزالاً وضعفا فقالا له‏:‏ يا شيخ لولا تعالج بغلك هذا حتّى يعود سميناً فارهاً في أيَّامٍ يسيرة بأيسر مئونة قال‏:‏ بأيِّ شيء أُعالجه قال‏:‏ تأخذ عشرة أمْناء مسْك وعنْبر وتعجنها بعشرة أمْناءٍ من بان الغالية وتطْليه به طليةً واحدة‏.‏
فتجافي عن سرجه فولَّى وجوههما ظهره ثم ضرط ضرطةً صُلْبة قالا‏:‏ ما هذا قال‏:‏ هذا لكما على الصِّفة ولو قد أنجع الدَّواء خرينا عليكم‏!‏‏.‏

8

الوقوع على البغال: وخبرني سعيد بن أبي مالك أن غلاماً كان لبعض أهل القطيعة ينيك بغلةً لمولاه وأنها في بعض الأيام وقد أدعم فيها فاستزادته فتأخرت وتأخَّر حتى أسندتْه إلى زاوية من الإصْطبل فضغطته حتى مات‏.‏

ودخل بعض الغلمان لبعض الحوائج فرأى الباب عليهما مُغلقاً فنادى باسم الغلام فلم يُجبْه فقلع الباب فإذا الغلام مُسند إلى الزاوية وقد مات وهي تضغطه ويقولون‏:‏ إنها تفضح السائس الذي يكومُها لأنها تتلمَّظ إذا عاينْته ولا تفعل ذلك بغيره فهي إمّا أن تقتل وإمّا أن تفضح‏.‏

9

والبغلات‏:‏ جوارٍ من رقيق مصر نتاج ما بين الصَّقالبة وجنس آخر والواحدة منهنَّ يقال لها‏:‏ ‏”‏ البغلة ‏”‏ ولهنَّ أبدان ووثارة وحدارة‏.‏

معنى البغلة عند المصريين ويُروى عن بعض العراقيِّين قال‏:‏ كنت عند قاضي مصر وهو يقول لبعض جُلسائه‏:‏ عندي جارية أطؤُها منذ حين وقد اعتراني شبق وأنا على أن أشتري بغلة‏.‏

قلت‏:‏ وما تصنع ببغلة قال‏:‏ أطؤها وأُصيبُ منها‏.‏

فقلت في نفسي‏:‏ هذا أمْجن الناس وأحمقهم يتكلم بهذا وهو قاضٍ‏!‏ ثم حكيت ذلك عند رجل من أهل مصر فقال‏:‏ عافاك الله ما منّا من أحدٍ إلاّ وعنده بغلات ينيكهنّ‏!‏ فتعجَّبت فلما رأى إنكاري ذلك فسَّر لي معنى البغلة عندهم‏.

ما قيل من الأمثال في البغال قالوا‏:‏ وإذا عظمت المرأة وعظم بطنها قالوا‏:‏ ‏”‏ ما هي إلاّّ بغلة ‏”‏ وما رأْس فلان إلاَّ رأس بغل وما أيره إلاَّ أير بغل وما خُلُقه إلاَّ من أخلاق البغال‏

10

ومما ذكروا به شأن البغال في الشعر وغيره قول الشاعر‏:‏

جعل ابن حزْمٍ حاجبين لبابــــــه /سبحان من جعل ابن حزْمٍ يُحجبُ
وعجبت أنْ ركب ابن حزْمٍ بغلةٍ / وركوبه فوق المنابر أعجــــــــبُ

.
 
أعلى