دراسة عبدالملك مرتاض - قراءة نقدية في رواية الشمعة والدهاليز الطاهر وطار

ينصرف الدهليز (وهو لفظ معرب عن الفارسية) في وضع اللغة إلى مسلك ضيق طويل مظلم، بينما ينصرف، في سياق دلالة عنوان هذه الرواية، إلى ما يشبه النفق المظلم الكثير المنعرجات، فكأنه أمر لا مخرج له، ولا مخرج منه أيضا. ويرمز العنوان أو الجزء الأول منه لكل الأفكار النيرة الجميلة النافعة، على حين أن القسم الآخر منه يرمز لكل ما تخلف من الأفكار التي تنتصب عقبة كئودا أمام الأفكار النيرة الخيرة. ويقتضي البدء بالدهاليز في البناء العام لهذا النص السردي، والتثنية بالشمعة، أن الخير يأتي بعد الشر. وقل: إن الشر أصل في الكون، ولا يكون متأخرا عنه، متعقبا له. بيد أن عنوان النص هو غير بنائه الداخلي حيث اختير لفظ الشمعة ليكون أولا، ولفظ "الدهاليز" ليكون آخرا، مما يجعل الخير هو الأصل، والشر مجرد غريم له يطارده ويناوئه، ويعاديه ولا يصادقه. إن الدهاليز لشديدة الظلام، وإنها لمطبقة الدجى، وإنها لشديدة التعاريج، وإنها لضيقة المسالك، وإنها لكثيرة المهالج: وما عسى أن نصنع بشمعة شاحب ضياؤها، باهت نورها في خضم كل ذلك؟.

بناء النص الروائي

شيء لهذا النص السردي أن ينهض على شقين اثنين : اتخذ للأول عنوان "دهليز الدهاليز" ويمتد من الصفحة الثامنة إلى الصفحة التاسعة والتسعين. بينما اتخذ للآخر عنوان "الشمعة" ويمتد من صفحة مائة إلى صفحة سبع ومائتين. ولم يبن هذا النص الروائي على نظام الفصول، وإنما قدم نصا مندمجا لا يتوقف له نفس. واستعاض النص عن نظام الفصول بوضع نجمات ثلاث هن حواجز بين ما مضى من النص، وبين ما يأتي منه.. ومثل هذا السلوك الواعي الذي تحدث عنه الناص في مقدمة الرواية (وهي مقدمة لا نرى لها سببا فنيا وجيها إلا كونها شكلا من أشكال الوصاية على القارئ، ومحاولة توجيهه قبل الشروع في قراءة النص، وهو أمر يسئ إلى حرية التلقي..): لا نستنيم إليه نحن، إذ وضع هذه النجمات يرتد بالبناء في هذه الرواية إلى الشكل التقليدي لتوزيع النص على أحياز الصفحات. وهو الأمر الذي جهد الناص جهده في محاولة التخلص منه. وعلى الرغم من أن الناص اجتهد في أن يكون البناء الروائي مندمجا مترابطا متماسكا فإن الارتداد الذي كلف به، وأكثر من استعماله في كثير من المواقف الروائية - في الشق الأول من النص خصوصا - جعل هذا الشق كأنه مقحم إقحاما، أو كأنه عبء على ما يأتي من النص، لأن كثيرا من أحداثه ومساراته السردية لم تك ذات تأثير في أحداث هذه الرواية، والتي كان الشاعر، آخر الأمر، ضحية لها. فالمبالغة في الرجوع إلى الوراء للحديث عن الثورة الجزائرية. في نص روائي يعالج أصلا إشكالية راهنة - بدا لنا سلوكا يحتاج إلى شيء كثير من التبرير الفني والتاريخي لكي يغتدي مقبولا. إن أحداثا كثيرة بدت لنا غير طبيعية الجريان، في هذا النص، ولا تلقائية الحدوث، مما جعلها تثقل كاهل النص فينوء بما لم يستطع احتماله حتى كأننا أمام نصين روائيين اثنين: أحدهما يتصل بحرب التحرير (الثورة الجزائرية): وموقف الشاعر الفتى منها، ومحاولة اندماجه في أحداثها وأهوالها، وإخلاصه في الإسهام في مسارها، ونص آخر يعالج شأنا آخر وهو وقوع هذا الشاعر الكهل نفسه تحت وطأة محنة فكرية مدلهمة ما لبثت أن أودت بحياته. ونحن لا نزعم أن الناص لم يك واعيا بهذا، فتخصيصه الرواية بعنوانين - داخليين منفصلين - يبين هذا الوعي الفني لديه، وتعمده تقديم هذا النص تحت شكل ثنائية، لكن هل وفق في هذا الاجتهاد؟ وهل كان ذلك الصنيع مطلوبا منه؟ وهل من واجب الكاتب الروائي أن ينبري لكتابة تاريخ الرجال والمجتمعات، بدل الكتابة عن هذه المجتمعات وهؤلاء الرجال من خلال التاريخ؟ أولم يكن الشق الأول من هذا النص الروائي تكرارا لبعض ما كان جاء في رواية "اللاز"، وربما في بعض رواية "الزلزال"؟ وإذن فهل وفق الناص في ربط الشق الأول المقحم، في رأينا، بالآخر، والآخر بالأول دونما نشاز وعثار؟ وماذا كان دخل أحداث الثورة الجزائرية في المحنة التي أصابت الشخصية المركزية في الرواية وهي شخصية الشاعر؟

مضمون النص

يمكن حصر مضمون هذه الرواية في محاور كبرى لعل أهمها: المضمون التاريخي الإسلامي، والمضمون السياسي والأيديولوجي، والمضمون التراثي الشعبي، والمضمون الإنساني.

المضمون التاريخي الإسلامي: ويندرج ضمن هذا المحور كل ما له صلة بالتراث الإسلامي، والنصوص الإسلامية (القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف). وقد كلف النص بترداد كثير من ذلك. كما تحدث النص عن شخصيات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثال عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وعمار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري.. رضي الله عنهم. المضمون الشعبي: بالغ النص في الإفادة من الموروث الشعبي، وحاول توظيفه في المواقف السردية الملائمة باصطناع كثير من الأمثال الشعبية الجزائرية، وتسخير بعض المعتقدات الشعبية في البناء السردي، وفي بناء بعض الشخصيات أيضا، مثل شخصية وردة أم الخيزران. وقد ألفينا الناص يورد أمثالا شعبية جزائرية نحسبها جاوزت العشرة بكثير، كما ألفيناه يركز على أسماء بعض الأولياء في الجزائر أمثال سيدي بولزمان (وربما ذكر في النص الروائي زهاء عشر مرات)، وسيدي راشد، وهو ولي مدينة قسنطينة (ونلاحظ أن المدن الجزائرية في معظمها يقوم نظامها المعتقداتي الشعبي على ضرورة وجود ولي من أولياء الله الصالحين دفين بها: لالا (ولالا: لفظة بربرية معناها: سيدتي) مغنية: لمدينة مغنية، وسيدي أبي مدين لمدينة تلمسان، وسيدي الهواري لمدينة وهران، وأبي العباس السبتي لمدينة سيدي بو العباس، وسيدي عبدالرحمن الثعالبي لمدينة الجزائر، وسيدي راشد لمدينة قسنطينة، وهلم جرا).

المضمون السياسي الأيديولوجي: نلاحظ أن هناك حنينا عارما إلى النظام الشيوعي بالإكثار من ذكر لينين، وماركس، والاشتراكية. وكأن النص يجعل الشاعر شيوعيا في هواه، وكأنه يعترف ضمنيا بضعف إيمانه مما جعل أحد الملثمين يتهمه قائلا: "جرجرتك (الخيزران) إلى المساجد: فرحت - وأنت عالم الاجتماع اللائكي - تصلي العصر في الصباح، وتصلي الفجر في المغرب (ص. 192). لكن النص الروائي كان شديد الاحتيال، لطيف الاحتياط بحيث كنا ألفيناه قبل ذلك يدين شخصية الشاعر، على لسان ملثم آخر، بذنوب أخرى لا صلة لها بالإيمان ولا بالدين ولا بالصلاة، وإنما بمحاربته اللغة الفرنسية، فيما يزعم النص على الأقل، وذلك حين يقرر على لسان أحد الملثمين الآخرين: "(...) إنما أن يقبل (الشاعر الأستاذ الجامعي) مناقشة رسائل الطلبة بغير اللغة الفرنسية، أن يكون الأول الذي فتح باب هذا الدهليز: فهذا ما لا يمكن أبدا تجاوزه. ينسف، يا سيادة الرئيس، ما بنيناه منذ 1832 في هذا البلد المسكين..(ص.102). المضمون الإنساني: يبدو أن الناص لم يتعامل مع المضمون الإنساني، الوجودي خصوصا، في أي نص روائي سابق له، كما تعامل في هذا النص. وعلى قلة المواقف المشكلة، والقضايا المعضلة التي لا يبرح الإنسان يعانيها، ولا يلفي لها حلا، ويتساءل عنها فلا يجد لها جوابا: ومنها تعرضه للموت، وإقباله على حياة أخرى بالقياس لمن كان مؤمنا بالله واليوم الآخر، وعلى فناء وظلام بالقياس لمن كان ملحدا كافرا.

وقد عرض النص لانفجار السكان في العالم، عرضا، فربط ذلك بمشكلة تحديد النسل من الوجهة الدينية، وإنها "إرادة الله في خلقه. فكيف الاعتراض على إرادة الله؟ سيقول آخرون - يقرر النص - ممن قالوا ذلك عن الحجر الصحي في القرن الماضي: إنه فرار من قضاء الله. إنما الأرض امتلأت. وعليها أن تتوقف عن الامتلاء، أو أن (كذا) تنفجر. ما ستكون عليه الكثافة السكانية بعد قرن آخر إذا استمرت وتيرة التزايد على ما هي عليه؟" (ص136).

ومن المفارقات التي يثيرها مضمون النص أنه يطرح إشكالية لطيفة شائكة تتمثل في أن كارل ماركس لا يزعجه أن ينتصر الفقراء باسم الله! ونحن نعتقد أن ذلك كان من حسن نية النص في شيخ الملحدين، وإلا فإنه، حتما، ينزعج كثيرا جدا إذا انتصر الفقراء باسم الله. ولو لم يأت ليحارب الانتصار بالله، ولله، لكان استمد أفكاره صراحة من الإسلام واستراح، ولما نادى بالمادية، واتخذ الإلحاد له في مذهبه سبيلا، ولكان؟، إذن، تبنى شيئا من المباديء الإسلامية الكريمة المجسدة للمساواة التي قد تقتضي المساواة في كل شيء، وإذن لكان ماركس إسلاميا وانتهى الأمر! وهذا أمر مستحيل.

شخصيات الرواية

إن مشكلة كل روائي هي ذاتيته، وأيديولوجيته، وثقافته، ولغته، وذوقه، وعاطفته، ثم هي معاناته في محاولة التخلص من هاجس إسقاط كل ذلك على شخصياته، وعلى لغاتها، وأفكارها، وأذواقها، وأيديولوجياتها أيضا. وبمقدار ما يستطيع أي روائي التخلص من هذه الرواسب، يبتعد عنه النص السردي ويتفرد بنفسه، ليغتدي من النصوص الكبيرة التي لا تفترق إلى الاستناد إلى أصحابها، تستمد منهم الأيد والقوة، لكيما تخلد وتبقى... وإلا فإنها ستظل مجرد نصوص صغيرة مرتبطة بسلطة كتابها، دائرة في فلكهم، قابعة في دائرتهم.

ولعل أكثر الشخصيات تأثيرا في الأحداث، وتأثرا بها، وتعاملا معها، وأشدها مركزية وإثارة، شخصيتان اثنتان : شخصية الشاعر الناقد الجامعي (ويبدو أن الناص كان يريد به إلى المرحوم الأستاذ يوسف السبتي الذي اغتيل في ظروف غامضة بمدينة الجزائر). ولكن هذا النص السردي لم يشأ أن يقدمه كما هو أصلا، وكما هو في حقيقة سلوكه وتفكيره واعتقاده، وإنما استوحى من أخلاقه وتفكيره وطبيعة ثقافته وحبه الشديد للقراءة، وانقطاعه للعلم والتعليم، وكلفه بالكتابة والمحاضرة، ورغبته عن الزواج على الرغم من أنه كان في سن الأربعين تقريبا.. وذاك حق لا ينازع فيه ناقد النص الروائي. ونحسب أنه كان من العسير بناء شخصية روائية مثل هذا البناء المحكم لشخصية الشاعر لو لم يعمد النص إلى استلهام شخصية الأستاذ المرحوم يوسف السبتي بكل ما في شخصية المثقف من تناقضات وعقد وتردد وحيرة وقلق وشك..

والشخصية الأخرى هي شخصية فتاة في سن الثانية والعشرين، والتي على الرغم من ثقافتها المحدودة فإنها بفضل التعرف على شخصية هذا الشاعر المثقف الكهل استطاعت أن تستنير بنور علمه، وتفيد من تجاربه، وتهتدي بهدى ثقافته، فإذا هي تقرر مع أمها الأمية أمورا في قضايا الفلسفة العليا، وبقدرة عزيز مقتدر!

ويبدو أن الناص استلهم بناء شخصية الخيزران، هي أيضا، من شخص فتاة حقيقية يعايشها، أو عايشها يوما ما.. هذا مجرد افتراض أفترضه عن إحساس خاص دون الزعم بأني محق فيما أفترض. وليس مهما، على كل حال، أن يعترف الكاتب أو ينكر، فنحن لا نريد أن ندنيه على ذلك، وإنما نريد أن نقرأ النص على ما يتبين لنا أن نقرأه. فإنما الكاتب من حقه أن يكتب، وإنما الناقد من حقه أن يقرأ فيؤول. ذلك بأن الوصفات والفلتات الشعرية التي قيلت على لسان الشاعر يخاطبها بها لم تكن ناشئة عن مجرد ناص يحترف الكتابة، وإنما كانت صادرة عن عاطفة حقيقية جميلة، جياشة،كريمة، طافحة، ملتهبة، صادقة، دافئة.. لم تكن مجرد ألفاظ من اللغة ترسل شوارد في نص سردي، وإنما كانت ألفاظا صادرة من الجنان.. والقاريء، على كل حال، هو الغانم من هذه المسألة، وهو المتمتع بتلك اللقطات الشعرية الطافحة التي نلفي الشاعر يخاطب بها خيزرانه: "ماإن أقف حتى يمتليء المسجد بك، المحراب، والجدران، والزرابي. وكل فضاء في المسجد يمتلئ بك فلا أدري ما أقول وما أفعل؟ (...)

عيناك فقط تتجليان.

بسمتك فقط تبهجني. وإني لأهرب منك إلى لقياك، كي أستريح قليلا من رؤياك.

أكوي بالصلاة جروح الروح، فلا تكتوي (ص170-171). على أن هناك كثيرا من الشخصيات التي لم تبلور، ولم ترسم ملامحها رسما: أمثال أخوات الخيزران وأمها وأبيها، ومدير المدرسة الثانوية بمدينة قسنطينة، وبعض الضباط الفرنسيين، وكثير من الثوار الجزائريين.. ما عدا شخصية العارم التي أغوت الضابط الفرنسي الشاب ومنحته بعض القبل حتى أطمعته في نفسها، فحسب أنه قاض منها وطره.. فإذا هي أثناء مشهد غرامي تتمكن من كتفه وأسره، بعد أن كانت عزلته عن كتيبته، وعزلت منه بندقيته.. فقادته إلى خطبها المختار الذي كان ينتظرها ببعض الجبال أثناء الثورة الجزائرية.

ومن الواضح أنه لا يمكن جعل كل الشخصيات مركزية، أو كلها ثانوية، ذلك أن الوضع السردي داخل الرواية هو الذي يحدد طبيعة المقتضى الذي يقتضيه بناء شخصية ما، على خلاف الشخصية، أو الشخصيات الأخرى. مهما يكن من أمر، فإن مجال هذه المقالة لا يتسع لتحليل كل الشخصيات وتقديمها تقديما مفصلا للقارئ الكريم الذي نعتذر له، تارة أخرى، عن ذلك.

تقنيات السرد

حاول السارد أن ينوع من الأشكال السردية فعدد من استعمال الضمائر بحيث اصطنع الماضي وهو الأغلب الأشيع، والمتكلم وهو قليل، والمخاطب وهو أقل منه بحيث لم يجاوز ذلك خمس صفحات (من ص 149 إلى ص153). ونحن كنا وددنا لو أكثر الناص من استعمال هذا الضمير الذي كنا نحن أول من استعمله في السرد الروائي في الجزائر (الخنازير - صوت الكهف - حيزية..)، كما عمد الناص إلى استخدام تقنية الارتداد (الفلاش باك) فأكثر منها حتى التخمة، وخصوصا في قسم دهليز الدهاليز. ويعني الارتداد في النقد الروائي الارتداد نحو حكاية كان يمكن أن تذكر في موضعها من السياق السردي فأرجأ تقديمها لغاية من الغايات الفنية التي منها حب المزج بين الحاضر والماضي، وإدماج أحدهما في الآخر بطريقة تتوخى الحيوية والحركة المتجددة في السرد.."

وقد لاحظنا أن الناص كان يصطنع الارتداد في أطوار كثيرة، كما أومأنا إلى ذلك من قبل. كما كان يخرج من ملابسات الشخصية وملامحها إلى شخصيات أخرى مقحمة، في رأينا على الأقل، مثل الانزلاق من الحديث عن الشاعر وعشيقته الخيزران إلى حوار بين فتى وأبيه الذي نفهم أنه السياسي الجزائري الشهير فرحات عباس.

إن تقنية الارتداد إذا لم تستخدم بذكاء واحترافية توشك أن تنقلب على الحركة السردية، فتجعلها تتأخر بدل أن تتقدم، وتتعثر بدل أن تنطلق.

وعلى أن هناك لقطات سردية بديعة، ذكية، كما يصادفنا ذلك، مثلا، في صفحة 147 إذ ينتقل الراوي من تحليل موقف ديني سياسي، أو تحليل موقف سياسي من منظور اجتماعي حضاري إلى: "آه! عيناها تملآن الكون! كل حرف في هذه الوريقات من سواد عينيها".

مستويات اللغة

يزاوج هذا النص بين مستويين اثنين من اللغة: راقية شاعرية، وبسيطة إلى درجة العامية، في بعض الأطوار: تبعا لما يتطلبه المستوى الثقافي للشخصية الروائية. بيد أن النص - الذي نحن بصدد تقديمه إلى القراء - كان يقع أحيانا في المحظور، فيجري على لسان شخصية أمية لغة عربية جزلة الألفاظ، عالية النسج، فخمة التركيب كقوله على لسان وردية (أم الخيزران) في كلام لها: مهمتي التي لم تكن، وايم الله، بالشاقة" (ص127). ومن لا يبرح من كتاب العربية، خصوصا منهم القصاص والروائيين، يستعمل عبارة "ايم الله" القديمة؟ وكيف يمكن إسنادها، في حوار روائي، إلى شخصية امرأة عامية؟ ثم لماذا هذه الباء الملحقة ب. الشاقة؟ ولم تعلق النص بالاستعمال العالي للنسج عوضا عن الاستعمال الجاري البسيط؟ فقد كان يمكن تقديم هذه العبارة في نسج أليق باللغة الروائية كأن يكون مثلا: كانت مهمتي سهلة، والله.

لم تكن مهمتي صعبة (أو حتى: "شاقة" - احتراما لرغبة الناص)، والله.

لكن أن نستعمل الباء جوابا للنفي، فهذا ما لا ينبغي أن يسند إلا لفحول اللغويين.

وربما ألفينا النص يجمع بين الفكر الشعبي المعتقداتي، واللغة الراقية المستوحاة من نظم القرآن العظيم كما يتمثل ذلك، مثلا، في قوله على لسان وردية أيضا: (...) مصممة ألا أعود حتى يقضي سيدي بولزمان أمرا كان مفعولا (ص126).

وهناك هنات أخرى على مستويي النسج والنحو معظمها يعود إلى سهو في تصحيح النص، وإلى دنو المستوى اللغوي للطابع، مثل:

ما يضير - إذا كان قطع خطوة إلى الأمام مستحيل.العودة إلى الوراء (ص 141 )." الزوجة (...) تمنحك أولادا وبناتا (ص 148 ).

"يعيش الرجل مع المرأة دهرا، وقد ينجبون ذرية دون زواج (ص130).- "نشأت في الحارة يا أبتي" (ص183) (أي بإشباع تاء" أبت" بالياء. ولم تستعمل العرب، في أي وجه، هذا الحرف مسندا إلى ياء المتكلم، إذ كان أصله: يا أبي، ثم جعلوا علامة التأنيث عوضا من ياء الإضافة كما يقولون: "يا أمة" (يريدون: يا أمي) فالتزموا الحذف والعوض جميعا لدى النداء).

وعلى أنه من العسير على أي نص روائي أن يخلو من مثل هذه الهنات النحوية واللغوية الناشئة عن الإهمال أو السهو طورا، وعن نقص في الإحساس اللغوي طورا آخر، فلا يلام الطاهر وطار على ذلك.

وبعد، فإننا بصدد نص روائي حاول أن يجمع العالم في واحد، فيجمع بين المتناقضات: بين الملحدين والمؤمنين، واللائكيين والدينيين، وبين الخونة والوطنيين، وبين الآباء والأبناء ضمن صراع الحضارات، وبين من يؤمنون بالتطور النير، والتمدن الخير، ومن يصرون على ضرورة العودة إلى الوراء لالتماس الحلول الاجتماعية والسياسية والحضارية.. كل أولئك في شكل سردي متنوع الأطباق، متلون الأحوال، متباين الأطوار: تنهض به شخصيات بعضها طيب خير يحلم بالفضيلة، وبعضها خبيث شرير يشرئب إلى إفساد الكون، وطمس النور.

تتزاحم، في هذا النص السردي الجميل، ظلمات الدهاليز بأنوار الشموع، ويتصارع النور والظلام من أجل تجسيد سنة الله في هذا الكون: يتصارعان عبر زمن مشوش بالأحداث، كالقدر، مفعم بالتناقضات، كالحياة، إلى أن يتمكن الظلام من الإطباق على أنوار الشموع فيطفئها.

بيد أن إطفاءها ما كان ليعني استحالة عودتها إلى الإضاءة والتوهج والإشراق.


عبدالملك مرتاض
 
أعلى