دراسة جابر عصفور - موسم الهجرة إلى الشمال

كانت رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) الرواية الأولى التي قرأتها له, والتي جعلت اسمه على كل لسان, خصوصًا بعد أن طبعت في كتاب للمرة الأولى سنة 1967, ومنذ ذلك الوقت, والرواية لاتزال تحدث استجابات نقدية, لا نهاية لها فيما يبدو.

كتب الطيب صالح روايته (عرس الزين) قبل (موسم الهجرة) بأعوام قليلة - سنة 1962 - ولكن الرواية لم تلفت الانتباه إليها, وكان عليها أن تنتظر إلى أن تصدر (موسم الهجرة إلى الشمال) وتقيم الدنيا ولا تقعدها, وتستقطب الانتباه إلى صاحبها الذي نعته البعض بأنه (عبقري الرواية العربية الحديثة).

ولاأزال أذكر مشاعر الإعجاب الغامرة التي انتابتني عندما قرأت (موسم الهجرة إلى الشمال) للمرة الأولى, فقد كانت حدثًا استثنائيًا في تاريخ الرواية العربية, وانطلاقًا في آفاق جسورة لإنطاق المسكوت عنه في الثقافة العربية التي لاتزال تقليدية في مجملها, فموسم الهجرة رواية بعيدة عن التقليد أو التصنع أو التزمت أو الخوف, فالجسارة الكتابية التي تنطوي عليها فتحت لها قلوب وعقول القراء المتعطشين إلى عوالم جديدة والمتلهفين على من يقتحم المناطق التي ظلت مغلقة, لم تجد من يفتحها إلا مع أمثال (موسم الهجرة) التي تظل رواية كاشفة عن كثير مما لم تكن الرواية العربية تعودت الكشف عنه. لقد طرحت قضايا الهوية والعلاقة بالآخر والأصالة والمعاصرة ومكانة المرأة على نحو صريح. وأتصور أن هذه الصراحة - بالإضافة إلى أهمية وحيوية القضايا التي طرحتها - هي المسئولة - أولاً - عن الإعجاب الاستثنائي الذي لقيته هذه الرواية التي أنتجت - في رد الفعل عليها - عشرات من المقالات والدراسات على امتداد الوطن العربي, وظلت الرواية منطوية على نوع مغاير من الفتنة التي لاتزال تجذب إليها اهتمامات النقاد, وأحسب أننا لو جمعنا النقد الذي أنتجته (موسم الهجرة إلى الشمال) وقمنا بتصنيفه لوجدنا أمامنا المشهد الشامل لخرائط النقد العربي الحديث والمعاصر, في تنوع تياراته وتعددها, وفي تعاقب نظرياته وتجددها, فكما استقطبت الرواية نقاد الأيديولوجيا بألوان أطيافهم المتعددة, في البحث عن الأبعاد القومية والفكرية للرواية, استقطبت اهتمام نقاد البنيوية - التيار الذي وجد في الرواية الجديدة المؤثرة فرصة لإثبات حضوره. هكذا, اقترنت الرواية بمصطلح (البنية) - مثلا - في دراسات مشابهة وموازية لما قامت به يمنى العيد عندما كتبت عن (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي) واقترنت الرواية بمصطلح (الخطاب) الذي كان علامة على نوع أجد من النقد الذي يسعى إلى مجاوزة البنيوية. وكان ذلك في دراسات من عينة الدراسة التي كتبها محمد برادة عن (الرواية أفقًا للشكل والخطاب المتعددين). ولاتزال الرواية - إلى اليوم - تستقطب الاتجاهات والتيارات النقدية المتجددة التي تريد تأكيد حضورها بالكشف عن جوانب جديدة من الدلالات التي لم تكشفها الاتجاهات والتيارات السابقة. وكما انضمت نظريات التحليل النفسي الحديثة إلى غيرها من النظريات في تحليل الشخصيات المركبة في الرواية, كما حدث في دراسة رجاء نعمة التي حصلت بها على درجة الدكتوراه من إحدى الجامعات الفرنسية, لاتزال دراسات ما بعد الاستعمار تناوش (موسم الهجرة إلى الشمال) وتسعى إلى إنطاقها ما لم تسبق إلى نطقه في خطابات النقاد المهتمة بالبنية أو الشخصية, أو الصراع بين الشرق والغرب, الشمال والجنوب. وأتصور أن الدراسات المنتسبة إلى خطاب ما بعد الاستعمار هي الموجة الأخيرة في الأمواج التي لاتزال تثيرها (موسم الهجرة إلى الشمال).

وقد فرغت أخيرًا من دراسة قيمة أعدّها زميلي الشاب د. خيري دومة عن الرواية من منظور خطاب ما بعد الاستعمار, بعنوان (عدوى الرحيل: موسم الهجرة إلى الشمال ونظرية ما بعد الاستعمار). وهي دراسة ممتعة, خصوصًا من الزاوية التي تتراصف بها الدراسة مع غيرها من الدراسات التي أنتجها (خطاب ما بعد الاستعمار), الذي ينبني على رد المستعمَر (بفتح الميم) بالكتابة على المستعمِر (بكسر الميم) في علاقة التابع بالمتبوع, التي لايزال لها توتراتها, القائمة على التراتب القمعي المفروض من الشمال على الجنوب. وعلى مقاومة الجنوب للشمال. وهي دراسة تقوم بتسليط الضوء على رد المقموع, وما يتصل بذلك من معضلات الهوية, والتمزق بين ثنائيات الأنا والآخر, خصوصًا في علاقة أبناء المستعمرات بالدول المستعمرة.

ثراء الرواية

وعندما أسأل نفسي - الآن - عن سر هذا الثراء الاستثنائي في الكتابة النقدية عن (موسم الهجرة إلى الشمال) أجد هذا الثراء راجعًا إلى ثراء هذه الرواية الفريدة التي لم تفقد جدتها ولا عمق تأثيرها بعد السنوات العديدة التي مضت على نشرها كتابًا منذ ما يقرب من أربعين عامًا. ولقد أعدت قراءتها في هذه الأيام بمناسبة حصول الطيب صالح - بجدارة - على جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي فوجدت في قراءتها من اللذة والمتعة والثراء ما يوازي ما وجدته في المرة الأولى, وأحسبني وجدت جوانب لم أكن ألتفت إليها قديمًا, خصوصًا بعد تسليط الضوء عليها بالمناهج والأدوات النقدية المعاصرة.

وأتصور أن أول ما يلفت الانتباه في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) هو كثافتها, فالرواية صغيرة الحجم بالقياس إلى روايات نجيب محفوظ مثلاً, أقل من مائتي صفحة من القطع المتوسط, ولكنها مع صغر الحجم تنطوي على قدر لافت من الغنى والعمق والتعدد في الدلالة والمستويات. وما لفت انتباهي - ثانيًا - بعد هذه السنوات - هو الحيوية السردية التي تتميز بها الرواية. وهي الحيوية التي تقترن بآليات من التشويق الذي يشد انتباه القارئ منذ الصفحة الأولى للسرد. والتشويق يأتي - في الرواية - من طرحها سؤالاً تظل تجيب عنه إلى أن تكتمل الإجابة فتنتهي الرواية, والسؤال هو عن مصطفى سعيد, الغريب الذي رآه الراوي في مجلس القرية التي عاد إليها, بعد غربة عنها في بلاد الإنجليز لسبع سنوات, ويلاحظ أن كل شيء على حاله ما عدا مصطفى سعيد الذي لم يره من قبل. وهو رجل ربعة القامة, في نحو الخمسين أو يزيد قليلاً, شعر رأسه كثيف مبيض, ليس له لحية, وشاربه أصغر قليلاً من شوارب الرجال في البلد. رجل وسيم, ويسأل أباه عنه, ويعرف من أبيه أن مصطفى ليس من أهل القرية. لكنه غريب جاء منذ خمسة أعوام, واشترى مزرعة وبنى بيتًا وتزوج بنت محمود, وهو رجل في حاله, لا يعلمون عنه الكثير. وكانت إجابة الأب مثيرة للفضول, وذلك في السياق الذي يتذكر فيه الراوي أن أحدًا لم يتوقف عن سؤاله - يوم وصوله إلى قريته, عائدًا من غربة سبع سنوات - إلا مصطفى سعيد الذي لم يقل شيئًا, وظل يستمع في صمت. يبتسم أحيانًا, ابتسامة غامضة, لا تخلو من سخرية شخص يحدِّث نفسه. ولا يتوقف الفضول في معرفة المزيد عن مصطفى سعيد منذ هذه اللحظة التي تبتدئ بها الرواية, طارحة سؤالها الذي أثار فضول الراوي وفضول القراء فمضوا في قراءة الرواية, مدفوعين بلهفة إشباع الفضول ومعرفة اللغز الذي يكمن وراء مصطفى سعيد, والذي يبدو أنه - منذ اللحظة الأولى لمشاهدته في مجلس أهل القرية - يخفي أكثر مما يعلن, وينطوي على سر يثير فضولنا. وتمضي الرواية في هذه التقنية التي لجأ إليها روائيون عالميون قبل الطيب صالح, ومنهم جوزيف كونراد في روايته (قلب الظلمات) المبنية على ازدواج مشابه, يتمثل في ثنائية الراوي والمرويّ عنه: اللغز, أو السؤال الذي يظل مفتوحًا, لا نتوقف عن الانجذاب إليه بفضل الراوي. والراوي في (قلب الظلمات) هو مارلو البحار الشاب الذي تقوده أسفاره إلى إفريقيا, ويبحر في النهر إلى قلب الكونغو في وسط إفريقيا, ونسمع معه - على امتداد الرحلة - عن شخصية كيرتز الذي يثير فضولنا لمعرفته, ولكننا لا نراه إلا قرب النهاية, وبعد حيل تشويق ممتعة تستغرق أغلب الرواية. ويتجاوب الراوي- مارلو - والمروي عنه - كيرتز - في النهاية - في علاقة من نوع فريد.

الجنس والموت

هذه البنية الثنائية هي بنية (موسم الهجرة) التي يتقاسمها راو نألفه ومروي عنه نظل في شوق إليه وتلهف على معرفة الغامض من أحواله, فنندفع مع السرد على نحو لا تكتمل معه الإجابة عن أسئلتنا, أو إشباع فضولنا عن المرويّ عنه إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية, حيث تتصاعد التفاعلات السياقية إلى الذروة, وتتركنا في لحظة متوترة, هي قمة الأحداث التي يمتزج فيها الجنس بالموت, ويتحدد المصير الأخير لمصطفى سعيد, والمسار الذي لابد أن يمضي فيه الراوي في الوقت نفسه. ولكن من خلال تشابكات اللحظة الملتبسة التي تدني بطرفيها إلى حال من الاتحاد, وتوقع التشابه بين المختلفات, وتجعل من الراوي الوجه الآخر من مصطفى سعيد, كأنه النقيض الذي يلتقي بنقيضه, وذلك في مدى الثنائية الضدية السردية التي أبدع فيها روبرت ستيفنسون (1850 - 1894) روايته الدكتور جيكل والمستر هايد, حيث يظهر التضاد المطلق بين شخصين في كائن واحد, ينطوي على النقيضين, أو تدفعه خبراته العلمية إلى اكتشاف النقيض الذي ينطوي عليه, فلا يتخلص منه إلا بالدمار الكامل للاثنين معًا.

وما يجمع بين الراوي ومصطفى سعيد هو هذا التضاد الذي يذكرنا بدكتور جيكل ومستر هايد, فالراوي مواطن سوداني, مسالم, ذهب إلى إنجلترا, في موسم الرحلة من الجنوب (المتخلف?!) إلى الشمال (المتقدم?!) طلبًا للعلم, وقضى سبع سنوات عاد منها إلى موطنه - القرية النائمة في حضن النيل, فشعر بأنه يعود إلى الرحم الذي خرج منه, وإلى العناصر الثابتة التي تزيده ثباتًا, فيبدو, لنفسه, وسط محيطه الطبيعي مثل النخلة, مخلوق له أصل, له جذور, له هدف, مخلوق فارق أرضه ليعود إليها أكثر قدرة على حبها ومساعدتها, متسلحًا بشهادة الدكتوراه التي نالها. ونعرف - من تفاعلات السرد - أنه متزوج من سودانية, لم يتزوج إنجليزية, فظل زواجه جانبًا من تمسكه بالأصل الراسخ والهوية الثابتة, ولذلك نراه في حياته الهادئة منذ اللحظة الأولى, وتظل علاقته بالقرية متجذرة رغم عمله في الخرطوم, فهو واحد من الناس الذين لا ينسون أصلهم, والذي يتوسط في الحكم على الأمور, ويعتدل في التعامل مع النفس والآخرين, عارفًا قدراته وإمكاناته, خصوصًا في العلاقة مع واقعه المتخلف والواقع المتقدم الذي عاد منه. ولذلك, ظلت نظرته متسمة بالاعتدال في كل الأحوال, فالواقع المتخلف هو التحدي الذي لابد من مواجهته بالبحث عن إمكانات التقدم الكامنة فيه, والمقترنة بخصوصيته التي يتناغم فيها العلم والدين, الروحي والجسدي, الأصالة والمعاصرة. والواقع المتقدم في الغرب هو المكان الذي يمكن الإفادة منه والنقل عنه فيما لا يتعارض مع أصول الهوية الراسخة أو يقضي عليها.

الإنسان المتوحد

وعلى النقيض من كل هذه الأفكار, كانت أفكار مصطفى سعيد العاصفة, الحديّة, تمامًا كشخصيته التي كان لابد أن تنتهي إلى ما انتهت إليه. والبداية هي مولده في السادس عشر من أغسطس سنة 1898, الأب متوفى, الأم فاطمة عبدالصادق. مات الأب قبل الولادة بأشهر. وكفلته الأم التي تركته حرًا, وظل كذلك يعارك أعوام النشأة الأولى وتعاركه, فقد كان مثل كرة المطاط, تلقيه في الماء فلا يبتل أو يغوص, ترميه على الأرض فيقفز, ويعرف المدرسة التي يذهب إليها بقدميه في الوقت الذي كان الأهالي يفرون بأولادهم من المدارس, ويتعلم في المدرسة الإنجليزية التي أظهر فيها نباهة استثنائية فدفعت الأساتذة الإنجليز إلى مساعدته.

وكان يتقبل هذه المساعدات كأنها واجب يقومون به نحوه, فقد ظل باردًا كحقل من الجليد, سواء في علاقته بأقرانه الطلاب, أو بأساتذته الإنجليز, منطويًا على نفسه, متوحدًا, كما لو كان يعيش في غير عالمه, لكن عقله ظل كمدية حادة لا يستعصي عليه شيء, يقطع في برود وفعالية, غير مبالٍ بدهشة المعلمين أو إعجاب الرفاق وحسدهم, فقد كان المعلمون ينظرون إليه كأنه معجزة, ورفاقه يطلبون وده, لكنه ظل في حال من النأي, والتباعد, والبرود, كأنه حقل جليد, لا يوجد في العالم شيء يهزّه, ويترك موطنه, ويركب القطار في طريقه إلى القاهرة لطلب المزيد من العلم هناك, لم يلوّح له أحد بيده, ولم تنهمر دموعه لفراق أحد, وعندما ضرب القطار في الصحراء, فكّر قليلاً في البلد, الذي خلفه وراءه, فكان مثل جبل ضرب خيمته عنده, وفي الصباح, قلع الأوتاد, وأسرج بعيره, وسيظل على ذلك بقية حياته, متوحّدًا, مغتربًا, ظامئًا إلى إشباع لا يتحقق, متطلعًا إلى حلم مستحيل, لا يكف عن قلع الأوتاد, وإسراج البعير ومواصلة الرحلة.

وعندما وصل إلى إنجلترا, أدرك أن لندن هي جبل آخر مثل القاهرة, لا يدري كم يمكث فيها, لكنه سيرحل عنها في النهاية, كما ظل يرحل بين أجساد نسائها, بلا عاطفة حقيقية, بلا حب, أو تعاطف, أو شفقة, أو سعي للاقتراب, فالآخرون هم الآخرون المختلفون, الذين لا يربطنا بهم شيء, وكان الفشل نتيجة مشروع العلاقة الأولى مع زميلة له, سرعان ما كرهته, قائلة له: (أنت لست إنسانًا. أنت آلة صماء), وظل وتر القوس الذي ينطوي عليه مشدودًا, ينتظر انطلاق سهم جديد في موقف جديد إلى ما لا نهاية.

ونجح في إنجلترا, وتفوّق, ولكنه ظل في علاقته بالإنجليز منطويًا على كره دفين, أو احتقار راسخ, لا يخلو من الشعور برغبة الثأر, التي ظلت قائمة كإرادة الانتقام الذي لا يهدأ. وعرف النساء اللائي كان يعبر عليهن لإشباع رغبته المستحيلة الإشباع, كان يواجه مدينة لندن, كما لو كانت المدينة امرأة عجيبة, لها رموز ونداءات غامضة, ونساؤها وسيلة للانتقام والثأر من كل ما فعله الاستعمار الإنجليزي في إفريقيا السوداء. ولذلك, ظل مصطفى سعيد في إنجلترا, جنوبًا يحن إلى الشمال والصقيع, ينطوي في أعماقه على النقائض في علاقته بالآخر الإنجليزي, الذي يظل محبوبًا ومكروهًا بالقدر نفسه. كما ظل مصطفى سعيد, صحراء ظمأى لا يكسر ظمأها شيء, ومتاهة من الرغائب الجنوبية المحمومة. كل امرأة إنجليزية هي فريسة ممكنة تستحق المطاردة, والصياد مستعد دائمًا, قربة مملوءة هواء ساخنًا, وقوافله ظمأى دائمًا, والسراب يلمع أمامه في متاهات شوق لا تنتهي, والعقل كالنفس, وتر مشدود بين نقائض, يتأهب لانطلاق لا يتوقف في حركة لا تصل إلى غايتها النهائية إلا مع الدمار الكامل, (أنا مثل عطيل...عربي إفريقي), يمسك بيده رمحًا, وبالأخرى نشابًا), هذا ما يقوله مصطفى سعيد لإيزابيل سيمور, التي شعر إزاءها بأنه مخلوق بدائي عار, بيده رمح, وبالأخرى نشاب, تمامًا كما شعر مع غيرها من النساء, ومع الإنجليز الذين تخيل نفسه بينهم غازيًا, ينتقم لكل ثارات الماضي وإحنه, التي تركها الاستعمار البريطاني في نفوس أبناء المستعمرات. وكما كان الجسد الأرستقراطي للمرأة وسيلة للصعود الطبقي في رواية نجيب محفوظ (بداية ونهاية), تحول الجسد الأنثوي للمرأة الإنجليزية إلى ساحة للصراع والغزو, كالمرأة التي تحوّلت إلى فريسة, والصائد الذي تحوّل إلى قطرة من السم, التي نتجت عن العنف الأوربي الأكبر, الذي لم يشهد العالم مثيله, العنف الذي حقن به الاستعمار الأوربي القارة الإفريقية بالسم, الذي تسلل إلى عروق مصطفى سعيد في علاقته بأوربا بوجه عام, وإنجلترا التي استعمرت بلده بوجه خاص, فذهب إليها ليغزوها جنسيًا, مؤكدًا المعنى نفسه, الذي أتصور أنه علق بذهن الطيب صالح - على نحو لاشعوري فيما أحسب - من قراءة نجيب محفوظ, وكما قاد حسنين - بطل بداية ونهاية - نفسه إلى الدمار في النهاية, فإن مصطفى سعيد, قاد نفسه إلى دمار مواز, ولكن أكثر عنفًا ودموية, فظل ينتقل من امرأة إلى أخرى, إلى أن وقع على جين مورس, التي أطاحت بما بقي في عقله الحدِّي, ودفعته إلى طرادها كالمحموم لثلاثة أعوام, ظلت قوافله ظمأى, والسراب يلمع أمامه في متاهة الشوق, إلى أن تعبت هي من المطاردة, وتزوجته. ولكنها - حتى بعد أن تزوجته - لم تمنحه نفسها, ولم تستسلم له إلا في اللحظة التي اندفع هو والسكين إلى داخل جسدها, الذي اتحد به في اللحظة التي يتحد فيها الإيروس بالثناتوس, وتصل السفن في بحر الرغبة إلى الشاطئ المهلك, الذي ليس بعده رجوع, فهو شاطئ الفناء, الذي تتحول فيه رغبة الحياة إلى رغبة في الموت, الذي يغدو ذروة العدم, التي يصل إليها الوجود الذي انطلق من عقاله كالمحموم.

غربة في الوطن

وبعد أن قتل مصطفى سعيد جين مورس, في ذروة الوصل, التي كانت ذروة الفصل, وتمت محاكمته, قضى سبع سنوات في السجن, إلى أن خرج منه, متنقلاً بين أقطار القارة الأوربية, إلى أن قرر العودة إلى بلده, مرتحلاً فيه, كما لو كان يعيد اكتشافه أو البحث عن نقطة أمان فيه, إلى أن وصل إلى قرية الراوي, التي لا يعرفه فيها أحد, واستقر فيها, متزوجًا إحدى بناتها, التي نقلها إلى عالم مغاير, أحالها إلى غريبة عن عالمها الأول, غير قادرة على استعادة علاقاتها معه, فبدت كما لو كانت قطرات السم التي انطوى عليها مصطفى سعيد قد اخترقتها, وظلت كامنة فيها إلى أن انفجرت فيها رغبة القتل التي اجتاحتها, دفاعًا عن نفسها في مواجهة اقتحام عجوز يكبرها بأربعين سنة, فرض عليها نفسه بحكم التقاليد والمال, فقتلته وقتلت نفسها في دوامة جنون العنف, التي ترك مصطفى سعيد بذرتها في كل من اتصل به.

وواضح من كل ما سبق, أن مصطفى سعيد هو النقيض الكامل للراوي, الذي لا نعرف اسمه, والذي تصلنا به تفاصيل السرد وصلاً حميمًا, فنتذكر الكثير عنه, حتى لو نسي تتابع السرد المتوتر اسمه, في حركته المندفعة. أقصد إلى الحركة التي تنبني على التقابل في علاقة التضاد بين الراوي ونقيضه مصطفى سعيد. ولكن المفارقة التي تنطوي عليها هذه الحركة, أن النقيض يشبه نقيضه في صفات دالة, لافتة, فكلاهما سافر إلى إنجلترا, وحصل منها على الدكتوراه, مصطفى سعيد في الاقتصاد, والراوي في الشعر الإنجليزي, وكلاهما شاعر يحب الشعر, وينظمه, وكلاهما ارتبط بالمرأة السودانية نفسها, وكلاهما يعاني الاغتراب في المكان, ويشعر بالحاجة إلى الركون إلى شيء راسخ, ثابت, وكلاهما يحكي بضمير المتكلم, وفي خطاب لا يختلف بين الاثنين, في توجهه إلينا - نحن القرّاء, خصوصًا حين نرى علامات لغوية انتباهية من مثل كلمة (سادتي), وكلاهما يفكر بأنه أكذوبة, ويردد هذا الأمر, وأخيرًا, كلاهما لا يخلو تكوينه من عنصر السخرية, ولا يكف عن ممارستها مع النفس أو الآخرين, وفي موازاة ذلك كله, يشبه الراوي مصطفى سعيد على نحو دال, إلى الدرجة التي تدفع أحد زملاء مصطفى سعيد - في إنجلترا - إلى أن يسأل الراوي: (هل أنت ابنه?), مع أنه كان يعرف أنه لا قرابة بين الاثنين.

ويكتمل هذا السياق من التشابه بالتحوّل الدلالي المتكرر, الذي يقترن بتحوّل المرأة إلى مدينة ووطن. عند الشخصيتين, والعكس صحيح بالقدر نفسه, وكما تحوّلت لندن إلى امرأة غاوية مغوية, في تجاوب التوازيات الرمزية, تحول الوطن المستعاد(الذي يعود إليه الراوي كما لو كان يعود إلى صدر أمه), إلى امرأة حانية حاضنة, هي حسنة بنت محمود, الوطن الذي استراح إليه مصطفى سعيد بعد رحلة العذاب والعنف, والسكن الذي استراح إليه الراوي بعد أن انجذب إلى شراك مصطفى سعيد. ولكن بقدر ما تغدو حسنة بنت محمود نقيض جين مورس, في المستويات الرمزية للأمان والسكينة, تنتهي حياتها في فعل من أفعال العنف, الذي تضطر إلى أن تمارسه دفاعًا عن حرمة جسدها, فينتهي بها الأمر إلى الموت الفاجع. وكان ذلك حين قتلت (ود الريس), الذي أراد أن يجعلها من ممتلكاته, فقتلها كما قتلته, أو قتلت هي نفسها بعد أن قتلته, فلا نعرف على وجه اليقين, كل ما نعرفه هو أنها هددت بأنها ستقتل نفسها وتقتله إن أجبرها أهلها على الزواج منه, خصوصًا بعد أن أحبت الراوي وأرادته أن يتزوجها كما تزوجها مصطفى سعيد, ليكون امتدادًا له, ووجهًا آخر من وجوهه.

نهر النيل

ويبدو أن اكتشاف الراوي لدرجة تشابهه مع مصطفى سعيد, في لحظة التوحد, التي هي لحظة تكشف ذاتي, كانت مقدمة النهاية, التي تعود بنا إلى نهر النيل, المنبع الذي عاد إليه مصطفى سعيد, والراوي معًا, والذي قيل إن مصطفى سعيد قد غرق فيه. أما الراوي فإنه - بعد أن اكتشف تشابهه مع مصطفى سعيد - يمضي إلى النيل في خطى موازية لخطوات مصطفى سعيد السابقة, وفي لحظة غسقية من الوعي بالذات, التي تغدو غيرها, ويدخل الماء عاريًا, كما ولدته أمه بما يؤكد فكرة العودة إلى الرحم, ويترك جسده للماء, الذي يحمله إلى منتصف النهر, والشاطئ يعلو ويهبط, ودوي النهر يغور ويطفو, والعائد إلى قلب النهر - قلب الظلمة التي ليس بعدها سوى النور - يصبح بين العمى والبصر, يعي ولا يعي, كأنه في لحظة ما بين النوم واليقظة, الحياة والموت, مقبضًا على خيط رفيع واهن: الإحساس بأن الهدف أمامه لا تحته, وأنه يجب أن يتحرك إلى الأمام, ويعاني نوعًا من الصحو المفاجئ كأنه لحظة اليقظة من الكابوس, ويدرك للمرة الأولى في وضوح غريب, أنه طوال حياته لم يختر ولم يقرر, وأن عليه الآن أن يختار الحياة, لأن ثمة أناسًا قليلين يجب أن يبقى بينهم أطول وقت ممكن, ولأن عليه واجبات يجب أن يؤديها, لا يعنيه إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها. وإذا كان يستطيع أن يغفر, فسيحاول أن ينسى, ويحيا بالقوة والمكر. هكذا, اندفع فوق الماء بكل ما في جسده من طاقة حتى صارت قامته كلها فوق الماء, وبكل ما بقي له من طاقة صرخ: (النجدة, النجدة).


جابر عصفور
 
أعلى