الجنس في الثقافة العربية - إمام عبد الفتاح إمام - زواج الفلاسفــة‏..‏ في الفلسفة القديمة‏..

1
القضية التي نود أن نناقشها في هذا المقال تتلخص في هذه الأسئلة‏:‏ هل دأب الفلاسفة علي رفض الزواج لأنه يشغلهم عن التفرغ للبحث عن الحقيقة‏,‏ والانقطاع للحكمة والعلم‏..‏؟‏!‏

وهل صحيح أن الزواج والتفلسف نقيضان لا يجتمعان: فإما أن تكون فيلسوفا, أو زوجا ولا ثالث لهما ولا جمع بينهما!! وكثيرا ما سألت نفسي: أليس الفلاسفة بشرا كغيرهم من البشر فيهم من يتزوج ويظل فيلسوفا, وفيهم من لا يتزوج ولكنه كان عاشقا, ومارس الجنس بلا زواج بل وأنجب أبناء غير شرعيين. ومنهم من كره الجنس بكل أصنافه ومعانية مثل أفلاطون. بل منهم من مارس الشذوذ الجنسي ولم يخجل منه قديما مثل سقراط الذي كان يعشق القبيادس Alcibiades فتي أثينا المدلل كما كانوا يسمونه وقدروي أفلاطون الكثير عنه في محاوراته لاسيما محاورة المأدبة Symposium التي راح الفتي يمتدح فيها سقراط بعشق وهيام!! وكان المجتمع الاثيني في ذلك الوقت يقر عشق الغلمان حيث كان مجتمعا انفصاليا يباعد بين الرجل والمرأة. ومن الفلاسفة من مارس الشذوذ الجنسي في الفترة المعاصرة, وكان عارا علي الفلسفة ومات بمرض الأيدز مثل ميشيل فوكو (1926-1984) الذي كان من هذه الزاوية سبة في جبين الفلسفة لما فعله: في تونس, وباريس, واليابان, والولايات المتحدة..إلخ. فصب اهتمامه كله تقريبا في دراسة الجنس والجنون. وكان بصفة عامة أسوأ مثل- في رأيي- للفيلسوف الذي لم يتزوج لكي يتفرغ للبحث عن الحكمة والحقيقة والعلم: فكان يتعاطي المخدرات, بل ويزرعها بين زهور بيته, ويمارس اللواط, ويفضح سمعه الفلسفة بغير حياء- حتي يصل بها إلي الوحل في باريس وتونس- علينحو ما ذكرنا منذ قليل! وعندما حذروه من الإصابة بالإيدز أجاب في وقاحة: وماذا في ذلك؟! أنني قد أموت في الشارع في حادث سيارة؟! ويموت فعلا بهذا المرض الذي لم يخافه!. وفي باريس عام1971 يؤسس جبهة الشواذ للعمل الثوري1 ويتخذ عشيقا هو دانييل ديفير..D.Defrt ويعاهده أن لا يفترقا إلي الأبد!! إلي آخر تلك الأعمال السيئة والأفعال المشينة التي قام بها فيلسوف لم يتزوج! لأنه لم يشأ أن يشغله الزواج أثناء بحثه عن الحقيقة والسير في ركاب الحكمة!.
لكن أصحيح أن الغالبية العظمي من الفلاسفة أضربوا عن الزواج؟! وهل أمتنع الكثير منهم عن هذا العمل الذي يترفع عنه من كان حكيما؟ دعدنا نتناول بعض الأمثلة:
نماذج من زواج الفلاسفة قديما:-
الفيلسوف الذي يضربون به المثل لعزوفه عن الزواج في الفلسفة القديمة هو أفلاطون: الملقب عند فلاسفة الإسلام بأفلاطون الإلهي, ولسنا ندري علي وجه الدقة لماذا لم يتزوج أفلاطون؟! فالمفسرون يذهبون مذاهب شتي في تأويل هذا الموقف الأفلاطوني لعل أهمها وأكثرها شيوعا ما يقوله جريجوري فلاستوس G.Vlastes الذي يروي أن أفلاطون كان يمارس الجنسية المثلية. وأن حملته ضدها واعتبارها مضادة للطبيعة أو أنها إنحطاط لإنسانية الرجل.. إلخ إنما هو ضرب من عقدة الذنب التراجعية. بينما يري جورج سارتون أنه لا يستلزم من ذلك أن أفلاطون كان ممن يزاولون اللواط بالمعني الفعلي, لكن يكاد يكون مؤكدا أنه كان مصابا بضرب الشذوذ الجنسي: انه لم يتزوج أبدا, وإذ كان يتحدث أحيانا عن العلاقات الجنسية التي تقوم بين الرجال والنساء, فحديثه مجرد عن كل عاطفة. لكنه كان يدخر مشاعره الرقيقة للعلاقات الشاذة مع بني جنسه كان ممن يبغضون المرأة ويبدو ذلك كثيرا في ثنايا حديثه.
ويري آخرون أن أفلاطون لم يتزوج إذ تدل كتاباته بأنه لم يكن لديه أي ميل جنسي نحو النساء.
ولكن إذا كانت هناك عوامل شخصية في حياة أفلاطون قد جعلته في البداية يتسامح مع الجنسية المثلية التي كانت من خصائص المجتمع الأثيني, فقد تغلبت ميتافيزيقاه في النهاية تلك التي تقوم علي الروح وتجعل الحقيقة كامنة في عالم منفصل عن ذلك العالم الحسي المتغير, لا نصعد إليه إلا بالروح, فالروح وحدها هي التي تعرف الروح علي حد تعبير هيجل- فإذا وجدنا عالما عقليا خاصا أزليا لا يعرف الكون والنساء.. هذه الميتافيزيقا هي التي تغلبت في النهاية ومكنت لنفسها فجعلته يشن هجوما عنيفا علي الجنسية المثلية ويصفها بأنها إنحطاط. ويقصر العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة في أضيق الحدود ويقصد الإنجاب فحسب حتي يبقي النوع البشري. لكن قد يقال إذا كان أفلاطون يكره جميع أنواع العلاقة الجنسية, وأنه لهذا السبب قد حرم الجنسية المثلية: فلماذا لم يمتد هذا التحريم إلي علاقة الجنس بين الرجل والمرأة..؟ وللأجابة عن هذا السؤال قد نضطر إلي العودة قليلا إلي فكرة أفلاطون العامة عن المادة, فلاشك أنه كره المادة ووصفها بأنها عنصر الشر في العالم, وأنها عامل الأضطراب في الكون كما جاء في محاورة طيماوس..
وكان لابد أن تمتد كراهيته هذه إلي الجسد, وهكذا أصبح الجسد عند أفلاطون شرا مزدوجا: فهو من ناحية وسيلة لتشوية الحقيقة, وهو من ناحية أخري مصدر للشهوات, ولاشك أن الفيلسوف الحق عنده يزدري البدن ويعتبره سجنا للروح, ولهذا يود أن يتخلص من البدن ليعود إلي الروح( محاورة فيدون64).. وفي استطاعتنا أن نسوق نصوصا لا نهاية لها تدل علي كراهية أفلاطون للجسد, ومحاورة فيدون زاخرة بأمثال هذه النصوص. لكن أفلاطون مع ذلك يحرم علي الفيلسوف الأنتحار فالزعم بأن الإنسان سجين البدن لا يجعل من حقه التخلص منه( فيدون62).
لأن الإنسان لم يهب نفسه هذا الجسد بحيث يحق له أن يطرحه عنه, وإنما خلقه الله فلا يحق له تدميره فنحن من ممتلكات الآلهة..( فيدون62). لكن لابد للإنسان أن يأكل ويشرب لكي يبقي حيا, لكنه يأكل ويشرب الحد الأدني الضروري الذي يجعل الجسم يبقي, وما يقال عن الفرد يقال أيضا عن النوع, أن الإمتناع عن الجنس تماما ضرب من الإنتحار للنوع, إذ لابد للنوع أن يبقي, فإذا كان الجسد يتغذي ليبقي الفرد, فإن علي الإنسان أن يمارس الجنس ليبقي النوع, مشاركا في الخلود عن طريق التوالد-(محاورة القوانين72) وهذا ما يفعله الحيوان نفسه عن طريق الحب الجنسي الذي يؤدي إلي التناسل فيحل مولود جديد محل الفرد الميت. وهكذا يبقي النوع عند الحيوان والإنسان معا( المأدبة207) ولهذا فإن علينا ألا نعجب عندما يتحدث أفلاطون عن العملية الجنسية بين الرجل والمرأة حديثا مجردا من العاطفة, لأنها في رأيه عملية آلية تستهدف الأنجاب لحفظ النوع.
تلك هي قصة عدم زواج أفلاطون, وقد أطلنا فيها لأن هناك تركيزا دائما عليها, فأفلاطون لم يتزوج عبارة كثيرا ما تتردد علي أن ذلك هو المثل الأعلي للفيلسوف الذي لابد أن يحتذيه الفلاسفة جميعا, ولست أدري لم لا يذكرون معها في نفس اللحظة أن سقراط أستاذ أفلاطون تزوج مرتين. وأن أرسطو تلميذ أفلاطون والمعلم الأول تزوج مرتين, وأنه كتب في وصيته يوصي بأن رفات زوجته الأولي وكامت قد توفيت قبله بفترة طويلة لتدفن معه في قبره. وحيثما أدفن فلتجمع رفات زوجتي بثياس Pythies وتضوع معي في قبري بجوار جثماني فقد كانت تلك رغبتها.
أما الزوجة الثانية وتدعي هربيليس Herpylis وهي التي أنجبت له أبنه نيقوماخوس فهو يشير في نفس الوصية إلي طيبتها وحسن معاملتها أكثر من مرة. ويطلب من نيكتار منفذ الوصية- أكراما لذكراي, ومن أجل عواطف هربيلس النبيلة نحوي أن يعتني بها ويرعاها في جميع الأمور, وإذا ما رغبت في الزواج بعد وفاتي فعليه أن يزوجها لشخص لا يكون تافها, أو غير جدير بها. وإلي جانب ما أخذته بالفعل فعليه أن يعطيها وزنة من الفضة خارج نصيبها وثلاث خادمات تختارهن بنفسها بالإضافة إلي الخادمة التي لديها بالفعل. وكذلك إلي جانب الخادم بيرهابس وإذا فضلت أن تبقي في مدينة خالقيس فلها بيتي بالحديقة, وإذا اختارت أن تعيش في مدينة استاجيرا( مسقط رأسه) فلها بيت أبي هناك, وعلي المنفذين لهذه الوصية أن يقوموا بتأثيث المسكن الذي تختاره من هذين المسكنين بالأثاث اللائق الذي يرونه مناسبا, والذي توافق عليه هربليس وتستحسنه بنفسها.!
لم يقل المعلم الأول أن زوجه أعاقه عن تشكيل مذهب شامخ أثر في الفكر البشري لأكثر من عشرين قرنا- أو أنه تنفس الصعداء عندما ماتت زوجته الأولي لأن موتها جعله يتفرغ كفيلسوف للبحث عن الحقيقة, والانقطاع للحكمة.. إلي آخر هذا الكلام الذي أوردناه فيما سبق عن أدعياء البحث عن الحقيقة.
وقبل سقراط وأفلاطون وأرسطو كان هناك فيثاغورس الذي افتتح أول مدرسة فلسفية في التاريخ تستقبل الرجال والنساء معا, وكانت ثيانو..Theano أول فيلسوفة فيثاغورية التحقت بالمدرسة في البداية كطالبة مع زميلاتها وزملائها, ثم أصبحت زوجة للمعلم, كما أصبحت هي نفسها معلمة في المدرسة ومديرة لها بعد وضع المذهب الذي كان يريد, بل علي العكس ثبت تاريخيا وعلي نحو قاطع أنه كان خيرا وبركة علي فلسفته التي بقيت سنوات طويلة بعد وفاته بسبب حسن إدارة زوجته وابنته للمدرسة بعده, وراحت الزوجة الوفية والفيلسوفة اللامعة تصحح فهم الاثينيين الخاطئ لفلسفة زوجها قالت: بلغني أن كثيرا من اليونانيين يعتقدون أن فيثاغورس ذهب إلي أن كل شيء في العالم نشأ من العدد.. غير أن فيثاغورس لم يقل أبدا أن الأشياء الحسية نشأ من الأعداد أو أنها مصنوعة من العدد. وهكذا صححت الزوجة فهم الاثينيين الخاطئ لفكر زوجها وفي استطاعتنا أن نقول مثل ذلك بالنسبة لأريجوت Arignote وميا Myia بنت فيثاغورس من ثيانو.. ولقد سبق أن تحدثنا عن هذا الموضوع الهام في كتابنا عن النساء الفلاسفة.
هذه نبذة سريعة تعارض كل من يرفع شعارا زائفا هو: امتنع عن الزواج لكي تكون فيلسوفا..! أن صاحبه يرفعه لحاجة في نفس يعقوب! وردا علي سؤال محرج هو لماذا لم يتزوج حتي الآن! فيكون الرد العجيب هكذا جميعا أفلاطون لم يتزوج وكذلك ديكارت وكذلك شوبنهور..إلخ مجموعة منتقاة لكن السائل ينبغي عليه أن يعيد السؤال: إذا كان أفلاطون لم يتزوج فقد تزوج أستاذه سقراط مرتين, وتزوج تلميذه أرسطو مرتين أيضا, وتزوج فيثاغوس أحد المؤثرات القوية التي تأثر بها أفلاطون- وإفتتح مدرسة فلسفية تضم الرجال والنساء معا وتزوج واحدة من تلميذاته!.
وقد اختصرنا في هذا المقال علي الفلاسفة القدماء لنفرد المقال القادم للحديث عن الفلاسفة المحدثين والمعاصرين:
وسوف نجعل شعارنا دائما أن نقول مع أمير الشعراء:
أن عشقنا فعذرنا... أن في وجهنا نظر!!
وأما فاقد النظر الذي يخشي أن تكشفه المرأة, فنحن نقدم له ثلاثة من أعظم فلاسفة العالم: واحد في كل عصر أرسطو عند القدماء- هيجل في الفلسفة الحديثة- رسل في الفلسفة المعاصرة!! وإلي مقال قادم نواصل فيه الحديث!!




01.jpg
 
[SIZE=6]إمام عبد الفتاح إمام - زواج الفلاسفة. في الفلسفة الحديثة والمعاصرة[/SIZE]

-2-

يقول بعض الباحثين ممن لا رغبة لديهم في الزواج أن السبب في امتناعهم أو نفورهم من الزواج أنه يشغلهم عن البحث عن الحقيقة، ومتابعة السير في طريق الحكماء - وهم مثل الغالبية العظمى من الفلاسفة لا يريدون شيئاً يلهيهم عن أبحاثهم. والواقع أن خطورة هذا الادعاء أنه يحرض الشباب الراغب حقاً في الدراسة والبحث على الإضراب عن الزواج، لاسيما إذا وجدوا أمامهم أسماء لامعة من أمثال ديكارت، وشوبنهور ونيتشه. إلخ. سبقوهم إلى هذا الإضراب!.
وعلى الرغم من أن ديكارت (1596 - 1650). R.Descartes الأب والمؤسس للفلسفة الحديثة - لم يتزوج ربما بسبب ضعف بنيته واعتلال صحته - وربما لميله إلى حياة التأمل والتفكير الهادئ كما يرى البعض - لكنه مع ذلك كله كان رجلاً يحب الحياة ويتفاعل معها. والمهم أنه كان يحلو له الحديث مع النساء. ولا يحجم عن مبارزة الرجال من أجل سيدة يهواها، ولا يتحرج أن يتصل ببعض السيدات اتصالاً غير شرعي وأن يولدهن أولاداً غير شرعيين أيضاً على نحو ما سنعرف بعد قليل!.
ولقد كانت لديكارت علاقات نسائية كثيرة نبدأ بأكثرها خطورة وهي علاقته غير الشرعية.
في عام 1633 استقر ديكارت فترة بمدينة ديفنتر. Deventer وكانت طوال هذه الفترة تعمل عنده خادمة تدعي "هيلين هانز. Helen Hans" وكان يعاشرها معاشرة الأزواج حتى حملت وأنجبت له طفلة سماها فرانسين. Francine وفاء لذكرى بلاده ووطنه كما يقول بعض الشراح. ولم يشر لتلك العلاقة إلا في النادر، وأنه انشغل بأمور خاصة بها مثل إعداد إقامة لابنته، واحضار مرضعة لها، ولم يهتم بالأم "هيلين" قدر اهتمامه بالابنة، فقد شغف بابنته شغفاً عظيماً وحزن على وفاتها وهي في سن الخامسة أشد الحزن!.
ومن علاقته النسائية الأخرى اتصاله بالأميرة "اليزابث" أبنة فردريك الخامس ملك بوهيميا. Bohemia المخلوع - كانت الأميرة قد قرأت كتابه. "مقال عن المنهج" - وبدأت بمراسلة الفيلسوف نحو عام 1640 فرحب بها إلى أن تمكنت الصداقة بينهما، فكانت تستشيره في أمورها الخاصة وتبوح له بما في دخيلة نفسها. وكان ديكارت يعجب بما أوتيت الأميرة من الفطنة ورجاحة العقل فأهدى إليها كتابه "مبادئ الفلسفة" عام 1644 ولعله لم يكن مسرفاً حين أعلن في الإهداء، أن أحداً لم يفهمه خير منها، وأن قليلاً من العلماء يستطيعون أن يفخروا بأنهم قد رزقوا بما رزقت من الفهم في المسائل الرياضية، ومسائل الميتافيزيقا معاً.
وعلى الرغم من أن إهداء كتاب "المبادئ" إلى الأميرة إليزابث يقع في خمس صفات - وهو يقطر إجلالاً وتقديراً من شيخ الفلسفة الحديثة، فإنه ليس في استطاعتنا أن ننقلة كله، لكن لا بأس من أن ننقل إلى القارئ الفقرة الأولى منه:
"إلى حضرة صاحبة الشوكة الأميرة إليزابث كبرى بنات فردريك ملك بوهيميا. أن أعظم نفع ظفرت به من المؤلفات التى نشرتها من قبل هو أنني نلت بسببها شرف الالتفات من سموك وحظيت حينها بالتحدث إلى جنابك.".
وهو ينفي أن يكون الإهداء تملقاً وهو ليس كذلك بالفعل لأن والدها خُلع من منصبه فهي لست أميرة إلا بالاسم فقط!.
يقول: "لا يليق بي أن أتملق ولا أن أكتب عن أشياء ليس لي بها معرفة يقينية، وقد تضطرني الحكمة الكاملة إلى اكبارك اكباراً يجعلني لا أقتصر على الاعتقاد بأنك صاحبة الفضل في هذا الكتاب.!".
ويقال أن أسئلة الأميرة وملاحظاتها هي التى دفعت ديكارت إلى المبادرة بتحرير "رسالة في انفعالات النفس" وهي آخر مؤلفات الفيلسوف وقد نشرت عام 1646.
وفضلاً عن ذلك فقد كان ديكارت مرتاحاً أن يكون من بين تلاميذه نساء أذكياء، وكان يراهن أبعد نظراً وأسلم فطرة من الرجال وأقل منهم تشبثاً بالمزاعم والأباطيل، وربما كان هذا سبباً من الأسباب التى دعته أن يقبل السفر إلى السويد بدعوة من الملكة كريستين لكي يلقنها فلسفته بنفسه! وعلى الرغم من أن جو "استكهولم" البارد لم يكن يلائم صحته، فقد قبل مع ذلك دعوة الملكة التى حددت الساعة الخامسة صباحاً للتحدث معه في الفلسفة، وكانت تلك الساعة المبكرة شاقة جداً على الفيلسوف الذي اعتاد أن يلبث في مضجعه لا يبرحه إلى ما قبل الظهر بقليل!.
تلك باختصار كلمة سريعة عن علاقات ديكارت النسائية وليس فيها ما يوحي بعزوف أبوالفلسفة الحديثة عن النساء، بل على العكس أحبهن وبارز الرجال من أجلهن، وعاشر الخادمة - وربما غيرها - معاشرة الأزواج، وصاحب ولم يكن هناك شيء مع النساء وإلا قام به!.
أما آرثر شوبنهاور (1788 - 1860) فهو صاحب قصة مأساوية تبرر ليس فقط عدم زواجه بل كراهيته النساء إلى الأبد!. لقد كان يقول باستمرار إنه ورث عن أبيه خُلقه وإرادته، وعن أمه ذكاءها. وكانت أمه روائية بلغت أوجه الشهرة في عالم القصص والروايات، وغدت إحدى مشاهير كتاب القصة في ذلك الوقت. ولكنها لم تكن سعيدة مع زوجها الذي كان تاجراً ضئيل الثقافة محدود الذكاء. وقد منعه ذلك عن الامتزاج بها. ومن ثم فعندما توفى هذا الزوج (وأغلب الظن أنه انتحر عام 1805) - انطلقت هي تبحث عن الحب المتحرر بعد أن سقطت عنها قيود الحياة الزوجية وارتحلت إلى مدينة فيمار. Wiemar التى تنسجم مع هذه الحياة المنطلقة التى كانت تتوق إليها. ولقد ثارت ثائرة الابن "آرثر" على هذا الاتجاه الجديد من أمه وأشتد النزاع بينهما، وترك في نفسه أثراً لا يمحي، انتهى إلى مقته الشديد للنساء الذي رافقه طيلة حياته، ولك أن تتخيل مدى سوء العلاقة بين الأم وابنها من الخطاب التالي الذي أرسلته هذه الأم الغريبة إلى ابنها:
"إنك عبء ثقيل لا يطاق، فالحياة معك لا تحتمل، لقد محى غرورك كل صفاتك الحميدة حتى أصبحت ولا رجاء فيك يرجوه العالم، وذلك لعجزك عن ضبط نفسك ورغبتك القوية في اصطياد هفوات الناس."!. فلما تعذرت الحياة بينهما على هذا النحو اتفقا على أن يعيشا منفصلين!.
وهناك عامل مهم لابد من الالتفات إليه وهو أن الأم كانت عشيقة لشاعر ألمانيا العظيم "جوته. Goethe 1749 - 1832 وكان قد أقنعها بأمرين مهمين الأول أنه سيكون لابنها شأن عظيم في المستقبل، والأمر الثاني أن الأيام لم تسمح طوال التاريخ بظهور نابغتين من أسرة واحدة. فأدركت الأم من فورها أن نبوغ ابنها سوف يحجب نبوغها هي، ومن هنا فقد كرهته لأنه غريمها العائق أمام صعودها سُلّم المجد، ولم تخفف قط من شجارها معه بل إنها في إحدى مرات الشجار العنيفة دفعته على درج السلم فانحدر هاوياً بضع درجات وعندما وقف نظر إليها في حدة وغضب وهو يقول:
"ومع ذلك فإن الأجيال القادمة لن تعرفك إلا على أنك أم شوبنهور!".
فلا يجوز إذن أن نقول أن شوبنهور لم يتزوج بل الأصح أن نردد ومع ول ديورانت هذه العبارة الجامعة: "عاش شوبنهور وحيداً فلا أم ولا زوجة ولا ولد، ولا أسرة ولا وطن، ولا صديق ولا رفيق! بل لم يكن يشاطر معاصريه فيما ملأ صدورهم من نار الوطنية المشتعلة وقتئذ"!.
فمن لم يعرف حب الأم وحنانها، ومَنْ لقى من أمه الكراهية والإساءة فلا غرابة أن ينتهي تفلسفه إلى التشاؤم وكراهية المرأة والرجال معاً بل العالم بأسره.
يُعُّد الفيلسوف الألماني هيجل. Hegel 1770 - 1831 نهاية للفلسفة الحديثة وبداية للفلسفة المعاصرة. صحيح أن كانط. Kant لم يتزوج لأن القطار قد فاته كما كان يقول هو نفسه (فهو لم يرفض الزواج لكنه حاول مرتين وفشل) - أما "فنشته" فقد تزوج وأنجب ولداً انضم إلى الهيجليين الشبان في فترة من فترات حياته. أما شلنج فيعرف مؤرخو الفلسفة قصة غرامه بكارولينا شليجل زوجة الشاعر الكبير الذي كانت تكبره باثنتي عشرة سنة، وقد ظل يحبها وهي زوجة شليجل حتى طلقها الأخير في 17 مايو 1803، فتروجها الفيلسوف في 26 يونيو 1803 وقام والده وكان أسقفاً باتمام مراسيم الزواج.
أما هيجل فهو ينجب أولاً ابنا غير شرعي هو "لودفيج" من خادمة في بينا (5فبراير 1807) ثم تزوج من ماريا فون توشر في 6 سبتمر 1811 وينجب منها ولدين "أما نويل" الذي أصبح راعياً رسولياً، وكارل الذي أصبح أستاذاً للتاريخ - وهو الذي نشر كتاب والده "محاضرات في فلسفة التاريخ".
وفضلاً عن ذلك فقد تزوج تلامذة هيجل لودفيج فوبرباخ (1804 - 1872) الذي ظل لأكثر من عشرين عاماً يعيش مما تنفقه عليه زوجته من إيراد مصنع الخزف والصيني. أما كارل ماركس (1818 - 1883) الفيلسوف المادي صاحب العواطف الرقيقة فقد خطب في سن مبكرة فتاة شابة من أسرة بروسية أرستقراطية، وتزوجها في 13 يوليو عام 1843، وعاشت معه حياة ذاقت فيها الذل والهوان والبؤس فلم يكن له عمل ولا وظيفة ولا حتى وطن يستقر فيه، وكان يمده أحياناً بالمال صديقه "إنجلز" (1820 - 1895) وهو ابن صاحب مصنع نسيج ثري من بروسيا. وكثيراً ما كان ماركس يخرج باحثاً عمن يقرضه ثمن الدواء لابنته.
 
أعلى