دراسة شوقي عبد الحميد يحيى - "كيد النسا" وحلم الحياة ...

عندما حصل ماركيز على جائزة نوبل عن روايته "مائة عام من العزلة" انتبهت الأوساط الأدبية إلى أدب أمريكا اللاتينية، وحاول البعض دراسة الظاهرة على أنها أدب جديد وافد، وبدأ الحديث عن ما يسمى بالواقعية السحرية بذات العين الناظرة إلى كل وافد على أنه النموذج والتطور والجديد، متناسين أن ماركيز نفسه أقر باستفادته الكبيرة "في سيرته الذاتية - عشت لأحكي" من التراث العربي، خاصة ألف ليلة وليلة.
وفي مصر الآن يتشكل ماركيز العرب الذي يقدم الواقعية السحرية في أنقي صورها. فيعد أكثر من عمل يمكن توضيح تماسها مع الواقعية السحرية، قدم خيري عبد الجواد مجموعته القصصية "قرن غزال" لتخطو خطوة كبيرة في التعبير عن الواقعية السحرية كما أكدها د. حامد أبو أحمد في مقال له عن المجموعة في مجلة "الثقافة الجديدة". ثم يقفز خيري عبد الجواد قفزة هائلة في روايته الجديدة "كيد النسا" التي تقدم الواقعية السحرية في أجلي صورها. إذ تعتمد الرواية على عالم الخيالات والسحر والغيبيات، ولكن بما لا تشعر معه بكونها غيبيات أو عالم سحري، فهي تنشأ من الواقع فتتحول الأشباح والجن والعفاريت إلى وجود حي يسعى بين البشر دونما فواصل، وكأنها بشر يسعى، ولا يستغربها البشر، وكأن المتخيل فيها عالم واقعي يسعى بين ظهرانينا، ذالك العالم الأثير لخيري عبد الجواد، عالم الحارة، عالم بولاق الدكرور الملتصق بالأرض والطين، فيقدم أسرة من القاع، أسرة غارقة في العنف والجنس (والصياعة)، غارقة في الفوضى الاجتماعية، وفجأة وبعد موت كبيرها بأعوام كثيرة تصحو زوجته على هاتف تسعى وراءه، تحطم القيود وتخترق الحواجز لتبني لزوجها مقاما وليصح وليا من أولياء الله الصالحين ومزارا لأهل الحي له من الكرامات ما للسيد البدوي وإبراهيم الدسوقي وغيرهما.
ففضلا عما يحمله العمل من مضمون اجتماعي، ورؤية في كيفية تزييف التاريخ وكيف أن كلا يكتبه من زاوية رؤيته هو، وكيف تنقلب الوقائع وتتبدل الرؤى، وإلى جانب ما يزخر به العمل من متعة القراءة المفقودة في العديد من الأعمال الحداثية وما بعدها، يعود خيري عبد الجواد ليغرس ريشته في مداد المعين الذي لا ينضب، في مداد ألف ليلة وليلة، ليولد الحكاية من الحكاية في كتابة عنقودية، ويخلق من الطين طيورا تحلق في الآفاق وترفرف في الأعالي بينما هي مشدودة إلى الأرض بخيوط غير مرئية، وإن حاول في أكثر من موضع أن تكون مرئية، حيث يتدخل في العديد من المواضع بذاته الكاتبة، بوجوده كخيري عبد الجواد صاحب "حكايات الديب رماح" و "كتاب التوهمات" و "العاشق والمعشوق"، وليست هذه بالطبع كل أعمال خيري عبد الجواد، ولكن تلك هي الأعمال التي ذكرها تحديدا في العمل بصورة ليست عشوائية ولا مجانية، ولكن كأحد خيوط النسيج الروائي في العمل، فتلك هي الأعمال الأكثر التصاقا بالمتخيل في الحكايات الشعبية المتسقة مع هذا العمل الجديد، فكان تدخل الكاتب بهذه الصورة المباشرة كالأوتاد تشد أركان الخيمة – البناء – حتى لا يطير في الهواء وتتبدد أركانه، فظل العمل يطير في الهواء بينما هو مشدود إلى الأرض فضلا عما يثيره ذلك التدخل من تساؤلات حول حق الكاتب في التدخل المباشر في عمله من بين العديد من التساؤلات التي تثيرها رواية خيري عبد الجواد الجديدة التي لا تعتبر إضافة جديدة إلى أعماله فقط، وإنما إضافة جديدة إلى الرواية العربية عامة .
" هكذا أنا نيّاح على موتاي، وكأن الدنيا عدمت ناسها، وكأن همي وغمي لا ينتهيان، سلواي في التذكرة، وسياحتي وتفريج كربي عند أهل الآخرة، زمني غريب، وخطبي عظيم، ودوما دوما في توهم درائم، كأني لا أعيش دونه، وكأنه يتنفس في دمي، حتى صرت أنا والتوهم اثنين في واحد، وحتي صرت أتوهمني في كل الأحوال....."
هذا ما كتبه خيري عبد الجواد في أولى رواياته "كتاب الوهمات" - وما ذكره بنصه في روايته الجديدة "كيد النسا" (1) - و هو كتاب البحث في الموت وعلاقته بالحياة، والذي امتد في كل أعماله – تقريبا – بأشكال متعددة، بحثا عن حقيقة الموت وما وراءه، وتأثيره على حياة الأحياء، والتي يمكن القول أنه توصل إليها في جملة صادقة معبرة في روايته الجديدة، حيث تقول "بديعة" إحدي شخصيات الرواية الرئيسية لابنتها فتحية وهي تحدثها عن أبيها المتوفي "نور":
[..يا بنتي نور أبوك ها يتحكم فينا في حياته ومماته، يعني الأموات مش سايبنا في حالنا..] (2)
فالجملة على صغرها وعاديتها وبساطتها تحمل الكثير من الصدق الواقعي. فعلى المستوى الفردي، لا يستطيع الإنسان التخلص من جينات والده وما زرعه فيه من صفات وخصائص. وعلى المستوى السياسي في التاريخ القديم، فالأهرام خير شاهد، وفي التاريخ الحديث فأحكام ستينيات القرن الماضي وسبعينياته خير شاهد. وعلى المستوى الاجتماعي، فأضرحة الأولياء وما يدور ويجري فيها خير شاهد. فالموت إذن ليس نهاية، وإنما هو انتقال فقط لمرحلة جديدة قد يبدو لمن لم يصلها أنه قد تحرر ممن وصلها، لكنه سرعان ما يكتشف أنه لا زال أسيرا، وما زال مقيدا، يحاول الفكاك، يحاول التخلص، ربما بالكتابة وربما بالحلم، فإذا كان النوم مرحلة من الموت، فالحلم هو مقاومته، هو امتداد للحياة، بل عن طريقه قد يستطيع المرء تحقيق ما لم يستطعه في صحوه، ومن هنا نجدنا نلج دهاليز "كيد النسا" مباشرة في أولى إشكاليات هذه الرواية الممتعة، والتي تثير في تصورنا اشكاليات ثلاث:
1 – العلاقة بين الحلم والحقيقة ، أو بين المتخيل والواقع .
2 – العلاقة بين الكاتب والكتابة .
3 – العلاقة بين الموروث الشعبي والتاريخ .
ولقد لعب خيري عبد الجواد بحرفية كبيرة على المحاور الثلاث، إلا أنها حرفية لم تقض على فطرة الطفولة التي يتمتع بها في كتاباته والتي تتجلى في فطرة الطفل الذي ترتسم له صورة الأم التي لا يغلبها غالب، فها هو الراوي الطفل يقع في غرام فطري تجاه بديعة، ويبدأ في البحث عن مفاتيح اللذة فيها، إلا أنه عندما يستشعر أن بديعة قد أصبحت خطرا (يزعل) أمه كره بديعة حتى أصبحت في نظره دميمة – وليست بديعة - . وإلى جانب ذلك كانت الحرفية في تناول المحاور الثلاث على النحو الذي نسعى لتبيانه.
1 – العلاقة بين الحلم والحقيقة ، أو بين المتخيل والواقع
فللحلم في الرواية دور كبير، تتكئ عليه شخوص الرواية لتحقيق ما تفشل فى تحقيقه على مستوى الواقع.
بعد أن اشتهت بديعة نور وتمنته وانغلقت أمامها سبله، حلمت بدخوله عليها في صورة كلب مسحور، فكت سحره، ودخل بها وهدم قلاعها.
عندما بدا حفني شبه عاجز أمام زوجته صفاء، يأتيه الحلم في شكل حجر ضاغط على صدره ويرى من خانه مع زوجته "محمد عبدون" مسجونا، ويرى نفسه وقد انتصب وسال ماؤه سما في بطن زوجته الخائنة فأخذت بطنها ترتفع، ترتفع حتى انفجرت.
بعد موت حفني المأساوي ومعاناته بمرض السرطان لستة شهور، استنجد بأخته بديعة أن تطلب من زوجها نور الذي تدعي أنه ولي، أن يساعده في مرضه. ترى بديعة فيما يرى النائم ليلة القدر، ويحضر جمع من أولياء الله الصالحين ليدشنوا نور وليا من أولياء الله. في محاولة للربط بين الواقع والحلم، لتتلاشي المسافة بينهما في سلاسة يحسد الكاتب عليها، في رؤية بديعة لنور بعد موته بعشرين سنة:
[ .. تقول بديعة أنه يزورها في المنام كل يوم في البداية، كانت هناك مواعيد محددة لهذه الزيارات، على سبيل المثال: في اليوم الذي يزورها فيه يقول إنه سيأتي غداً في الساعة الفلانية، فكانت هي تعمل حسابها، تتهيأ للنوم استعداداً للزيارة.. أما فيما بعد، وقد تكررت زياراته، أصبح يأتي في أيّ وقت وعلي غير ميعاد، زيارات مباغتة لا تنتظر إن كانت نائمة أم مستيقظة ..] (3) فالانتقال السلس للزيارات يؤكد سيطرة الحلم على الحقيقة، واختلاط الواقع بالمتخيل وانصهارهما في نسيج واحد يشكل حياة الإنسان في تلك البقعة المسماة بولاق الدكرور، بل الإنسان المصري عامة، وهو ما يتضح في الربط بين حلم/ منامات نور التي دونها وبين حلم ملك مصر وفسره يوسف في السجن إذ قال:
{قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون}. ويستمر نور في رؤياه التي أتى إليه فيه سيده أحمد البدوي ليمنحه الولاية، ويأمر أحد رجاله بإدخاله البستان فيروي نور ما شاهده:
[ .. فمددت يدي وقطفت سبع حبات فكان طعمها أمر من الصبر، وقطفت سبع حبات أخرى فكان طعمها أشد مرارة من الحبات الأولى، وصرت أقطف وآكل والمرارة تزداد ونفسي اشمأزت والنقيب يرقبني ويحثني على قطف المزيد حتى قطفت سبعا وعشرين حبة دون أن أجد حبة واحدة حلوة، فنظرت إليه وقلت كفى فقد عافت نفسي هذا النبق، فتبسم في وجهي وقال: خذ ما قسم لك، فمددت يدي وقطفت واحدة كانت الأقرب إلى أصابعي فكانت رائحتها كالعنبر ولم أذق في حياتي لا أحلى ولا أشهى منها. عند ذلك أخذني من يدي ورجع إلى سيدي أحمد البدوي الذي قال لي: هل أكلت من الشجرة؟ قلت: نعم. ...... فقال سوف أنبئك بتأويل ما أكلت: فأما الحبات السبع والعشرون التي أمّر من الصبر فهي سنون حياتك الماضية، وأما الحبة التي حلاوتها زائدة فهي أيّامك القادمة، ثم ضمني إلى صدره وتركني فصحوت من النوم.. ] (4)
فالربط واضح بين الحالتين في دلالة الرقم (سبعه ومضاعفاته) وإشارته للسبع العجاف التي يأتي من بعدها الخير، والإحالة إلى عموم مصر في كلتاهما واضحة.
فالحلم إذن هو إرادة التغيير، وهو الوصول إلى ما ليس الوصول إليه في الواقع بالممكن.
2 – العلاقة بين الكاتب والكتابة
قبل ستينيات القرن الماضي، كان الكاتب يجتهد في التخفي والتستر وراء شخوصه ممعنا في البعد عما يشير إلى شخصه وكينونته، وبعد الستينيات ازداد الفرد انسحاقا تحت وطأة الضغوط السياسية والعلمية التي قللت من حجم الفرد، لم يقبل الكاتب تماهيه في الجماعة، حيث إحساس الفرد الكاتب أكبر مما لدى الغير، بدأ الكاتب ينظر إلى الخارج من خلف شخوصه على استحياء. إلا أن خيري عبد الجواد يأبى إلا أن يقول ها أنذا، في تعمد وإصرار وعلي امتداد الرواية، فيقول:
[ .. اسمي خيري عبد الجواد، مؤلف قصص وروايات من عرفني فقد اكتفى، ومن جهلني أقول له إجابة على سؤاله كيف أزج باسمي في هذه الكتابة، هكذا عيني عينك .. ] (5)
فهو إذن لم يكتف بذكر اسمه صراحة، وإنما يدخل مع قارئه في حوار، خاصة أن خيري عبد الجواد يسعى دائما نحو التمرد على الثبات والجمود، بل ويؤكد هذا صراحة – أيضا في "كيد النسا" حيث يجد من الضروري – في نظره – التحدث عن روايته الأولى "كتاب التوهمات" فيقول:
[ .. هل أطلعكم على نتف مما كتبت في تلك الفترة المحنة؟ وهل يسمح المجال بذلك؟ ولم لا، وإذا كانت هناك قواعد للكتابة، فالتمرد عليها أولى ... ] (6).
ولكن التساؤل، هل يفعل خيري عبد الجواد ذلك لمجرد التمرد على المألوف؟ فأبادر بالقول بكل ثقة لا. فقد لعبت هذه التقنية دورا فاعلا، ليس في مجريات الفعل في الرواية، وإنما خوفا على الرسالة التي يحملها العمل ويسعى الكاتب لتوصيلها، فضلا عن الحميمية التي يضفيها تواجد الكاتب بذاته مع القارئ في رحلة القراءة، وكأنه يجلس إليه ويحكي معه، وهو ما يحاوله في كل أعماله عامة، وفي "كيد النسا" خاصة، حيث ينصب من نفسه الراوي الشعبي الجديد، فهو يحمل الربابة ويحكي عن بديعة وأسرتها.
والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا: هل من حق الكاتب فعلا أن يتدخل في عمله بهذه الصورة الصريحة، ثم ألا يعتبر ذلك من السيرة الذاتية؟
والرأي عندي أن الكاتب من حقه أن يفعل ما يشاء، شريطة أن يقنعنا بما يقدم، وألا يشعرنا بأن تدخله زائد ودخيل على العمل، وأن يكون تدخله موظفا ومضفرا في نسيج العمل، وهنا فإن السيرة الذاتية نفسها يمكن أن تكون عملا روائيا ما دام الكاتب يستطيع إقناعنا بذلك، فما من عمل إبداعي إلا ويدور حول ذات مبدعه، حتى أن العديد من المبدعين يمكن التعرف على حياتهم من خلال أعمالهم، وإن تخفت وراء الشخوص والأحداث.
3 – العلاقة بين الموروث الشعبي والتاريخ
الفقر والجهل والمرض. تلك هي أمراض الطبقات الشعبية المزمنة، في الماضي وفي الحاضر، وتلك العناصر لا يخرج منها زعيما أو صانعا للتاريخ، لذا فإنها تسعى ليكون لها دور فاعل، فهي تسعى – بطريقتها – لتصنع زعيما وتصنع تاريخا، وهو ما يحاول – خيري عبد الجواد – أن يصنعه من بولاق الدكرور، بل من حارة "علي أبو حمد" بالربط بين أحداث تلك الحارة وأحداث المجتمع، فحين تشتعل حرب السحر بين النسوان لتنتهي تلك الحرب بنكسة الخامس من يونيو: [ .. اندلعت الحرب الخفية بين النسوان ذات يوم. فقد استعان الفريقان بكل من لديه خبرة بفنون السحر سواء في بولاق الدكرور أو في كوم الضبع، وكان من نتائج تلك الحرب أن انتهت بكارثة نكسة الخامس من يونيو ووفاة أخي الأكبر وأن يعيش وجدي ابن عمي عاجزا إلى الأبد .. ] ثم [ .. وعندما اندلعت حرب السادس من أكتوبر، كانت فتحية حاملا في شهرها الثاني، والفريقان أصابهما الإعياء من حرب لا طائل من ورائها، استنزفت كل مواردهما، لذا فقد اتخذا قرارا بإعلان الهدنة .. ] (7). والإسقاط هنا يمكن من خلاله الوصول إلى رؤية الكاتب لكلا الحدثين الكبيرين في حياة الأمة.
وإذا كان الموروث الشعبي يمنح الوالي من الكرامات ما يستطيع بها تحقيق كل المطالب، الأمر الذي يحيل الوالي إلى زعيم له من الأتباع ما قد يفوق الزعيم السياسي، فإن الحارة تتلقف بداية الخيط، عنما ينشر الراوي/ خيري عبد الجواد مقالا يتحدث فيه عن ظهور والٍ فى بولاق الدكرور، ويتطوع كل من بالحارة في إضفاء الشرعية لهذا الوالي المزعوم، فكل يحكي عن تلك الكرامات التي شاهدها بعيني رأسه تلك المعجزات التي حدثت من نور وهو صغير، بل وأيضا وهو كبير.
ثم من هو هذا الوالي، إنه نور، ذلك الذي تقول عنه زوجته "بديعة" :
[ .. بلطجي في حياته ومماته ويعملها .. ] ويضيف الراوي أن الجميع أرادوا أن يكون مشروع بناء الضريح كبيرا [ .. ولأسباب سياسية .. ] (8) وكأن الكاتب هنا يريد أن يلفت الأنظار إلى أن ما يحدث ليس في حارة علي أبو حمد ولا في بولاق الدكرور فقط، وإنما هو ما يحدث على مستوى الوطن كله، وهو تزييف التاريخ الذي يصنع من البلطجي زعيما ووليا، ويؤكد ذلك أيضا ما قرأه الراوي في الجريدة: [ .. فأخذت أقرأ العناوين الرئيسية: الرئيس جاء، الرئيس ذهب، الرئيس استقبل، صورة لعاطف عبيد رئيس الوزراء وقد بدا للوهلة الأولى أنه لم ينم منذ سنة، هالات سوداء وانتفاخات الأكياس الدهنية حول عينيه تجعل صورته بشعة، وعلى لسانه تصريحات حول السلع الأساسية التي تنخفض حفاظا على محدودي الدخل ... ] (9).
فهذه هي صورة الوطن البشعة، وتلك أكاذيبه وشعارته المزيفة التي تتحدث عن تخفيض الأسعار، وهذا هو إعلامه الذي يركز على الرئيس (جاء وراح واستقبل)، فهذه هي صناعة الزعيم على المستوى العام، وخلق الوالي نور الدين، هو خلق الزعامة على المستوى الخاص.
ولا يكتفي خيري عبد الجواد بذلك، بل يستمر في انتقاداته، وكأنه يقرر النتيجة لذلك الفعل حين يحدد شكل الجيل الحالي، على المستوى الخاص في بولاق الدكرور، والذي ينسحب على المستوى العام في الوطن: [ .. أدركت أن حقبة كاملة كانت قد ولّت وإلى الأبد، وأن هذا الجيل كله يوشك أن يستسلم لموته مع من مات، نور الذي يريد أن يصبح وليا من دون جدوى، أم حفني التي أضحت أسطورة موتها المتكررة تروي جيلا بعد جيل، حفني الذي ناضل نضالا معجزا مع مرضه، محمد عبدون الذي ترك بصماته على جسد صفاء ومضى ... أمّا من بقي منهم فقد دخل القرن الجديد بلا هوية، محاسن توحدت بعنوستها وبدأ ماء الحياة يجف في بدنها فتذوي بلا أمل في النجاة من مصيرها المحتوم .... ] (10).
فالكتابة هنا محرضة، محرضة على تجاوز الواقع والثورة عليه، إلا أنها غير زاعقة ولا صارخة، بل هي المحركة للأشجان، والدافعة في لين وحنان نحو الثورة والغضب، إلا أنه لا يقول انظر وراء في غضب، وإنما يقول انظر حولك في غضب.
وكأن خيري عبد الجواد لا زال نواحا على موتاه، الأموات الحقيقيون منهم والأحياء الذين هم في عداد الأموات، إلا أنه نواح ممتع، فهو ينوح على الربابة، ويستخدم مفردات حميمة يتزاوج فيها العامي بالفصيح، حتى تظنه كلاما عاديا، غير أنك لا تلبث أن تكتشف أن العادية فيه عصية على التقليد أو النسخ.
الهوامش :
(1) كيد النسا - دار الآداب – بيروت 2006
(2) ص 91
(3) ص 93
(4) ص 29 / 30
(5) ص 15
(6) ص 96
(7) ص 73
(8) ص 137
(9) ص 102 ، 103
(10) ص 134

كيد النسا.jpg
 
أعلى