دراسة إبراهيم عادل - العاشق والمعشوق .. دنيا الحكايات تنتصر على بؤس الواقع!

"خيري عبد الجواد" أحد أدبائنا المغمورين، لم يحالفه الحظ لكي يلتحق بعالم أدباء مواقع التواصل الاجتماعي وعالمه الرحب، فقد وافته المنيّة مبكرًا عام 2008 تاركًا عددًا من الأعمال الأدبية الثرية التي على قلتها تمثّل علامات فارقة في السرد المصري المعاصر، منها رواية (العاشق والمعشوق) التي صدرت طبعتها الأولى عام 1995 عن دار شرقيات وصدرت طبعة أخرى لها قبيل وفاته عن نهضة مصر.

يأخذنا "خيري عبد الجواد" بطريقته الآسرة وبلغته الخاصة التي يستلهم بها روح التراث وطرائق الحكي الشعبية فيه، بأجواء تقارب عوالم "ألف ليلة وليلة" وما تحويه من غرائب وطرائف ورحلات، إلى ذلك البطل الذي يهيم عشقًا "بمخطوطة" يتعثر بها فتأخذه إلى رحلة "تخطف الأنفاس" يقرأ من خلالها العالم، ويجوب به وبصاحبه وقارئه معًا تلك الآفاق، ويتنقل إلى مدنٍ غريبة ويقابل شيوخًا ويمر بمواقف مختلفة حتى تنتهي بنا الرواية فجأة، في نهاية الرواية يلقي الكاتب على قارئه تميمة تبدو وكأنها مفتاحٌ يصلح لاستعادة قراءة الرواية من بدايتها مرة أخرى إذ يقول:

(لحظة يدلهم بك الوقت، وحين ينتهي بك المطاف أن تصبح عند مفترق طرق، ولا تجد غير ظهر دنياك، عندئذٍ عليك أن تلوذ بالخيال، دع حكايتك تقودك إلى هنا، حيث العالم أكثر اتساعًا ورحابة، أكثر روعةً وبهاءً، وبهذا وحده تهزم عدمك وبه يكون حبل نجاتك!)

هكذا يقرأ الكاتب عالم "الحكاية" ويستنجد بدنيا "الخيال" في مواجهة قبح الواقع وسوداويته، لذا نجد في تلك الحكاية الرائقة التي سمّاها (العاشق والمعشوق) رحلة لاتشبه تلك الرحلات المعتادة التي يصل فيها البطل إلى غايته في النهاية أو يتزوج "الأميرة الحسناء"، ولكن الرحلة تدور على مستوياتٍ عدة تبدأ من تلك المخطوطة التي تجذب صاحبها للكشف عن أسرارها والبحث فيما ورائها من جهة، ثم تدخل به إلى عالم "الأحلام" الذي يمزج فيه الواقع بالخيال أيضًا، ثم إذا بها تقلب السحر على الساحر مرة أخرى فيفاجئ الراوي بنفسه بطلاً في الحكاية وأحد أفرادها الذين يود الخلاص منهم، ولا يتم له الخلاص ولا تأتي نجاته إلى من خلال "الحكاية" أيضًا!

تنقسم الرواية إلى أربع حكايات متصلة منفصلة تبدأ "بحكاية الأميرة وكيف تم عشقها" ثم "حكاية شيخ الجبل والتابوت" ثم حكاية "مدينة الدبابين وصخرة الأحلام" لتنتهي بحكاية "بيت الأحزان"، وفي كل قسمِ من تلك الأقسام نجد حكاياتٍ أخرى فرعية ذات دلالة واتصال بالحكايات الأصلية كلها.

يصل الراوي إلى المدينة ويصل إلى محبوبةٍ ولكنها ليست محبوبته، ويديم الجلوس عندها ويستغرق في وصف حسنها:

(كم من الوقت مضى منذ مجيئي إلى مدينتها، جلوسي في القصر أنا وهي، حديثي معها، توقي للقرب منها والتمسح بها، رنوّي إليها كلما غدت أو راحت، تأمل جسدها الفيّاض المترع بالأسرار، إدماني النظر في بحر أنوثتها الطاغية المشعّة، مرتفعاتها وهضابها وسفوحها، أسوارها محكمة التشييد، انجذابي في محيطها ودوراني في فلكها غير المرئي، في حديثها ترياقٌ من ألم الصبابة ومحنة الوجد المشبوب، صوتها وشيش بحرٍ يسكن ودعه، سكونها وحشة ليلٍ أبديٍ لايُحتمل!)

هنا إعلاءٌ كبيرٌ لقدر "الحكاية" وقيمتها، مع قدرةٍ على نسج عددٍ منها وتضفيرهم معًا لصنع نسيج روايةٍ واحدةٍ شيقة، وليس ذلك بالأمر اليسير، فسطوة "الحكايات الشعبية" وثراءها ربما كان ليدفع كاتبًا آخر إلى الاستطراد والجنوح بالخيال و عوالم"الميتافيزيزقا" إلى دهاليز متشعبة كثيرة قد تخرج بالقارئ عمّا يصبو إلأيه الكاتب في ما يسرده من حكايته وتسرّب قدرًا من الملل إليه، ولكن "خيري" في روايته تلك يمسك باتلابيب حكاياته تمامًا فلا يفلتها، بل يشعر القارئ قُرب نهايتها أنه على استعدادٍ لمواصلة الحكي والاستمتاع بتلك المرويّات والقصص الغرائبية من جديد!

بدءًا بحكاية "شيخ الجبل" الذي يروي حكايته للراوي صاحب المخطوطة ذاك، وحكايته بين إخوته الثلاث ثم حكايته مع "بائع الكلام" وكيف تتحوّل الكلمات البسيطة العابرة (وهي في الأصل حكم شعبية مأثورة) إلى "عبارات منجية متى ما عمل بها الإنسان واستخدمها، حتى الحكياة العجيبة "لمدينة الدبابين" ووصف تلك المدينة وعمارتها وكيف تم خرابها ..

في النهاية يأتيه هاتف معشوقته الغائبة التي تبدو وكأنها تتماهى مع تلك "المخطوطة" التي يقتفي أثرها (ها أنت الآن يا حبيبى على مشارف لحظة هي الأبد، دع هذا التجلى يغمر قلبك للمرة الأخيرة، فما شاهد ذلك قبلك غيري، كما لن يراه بعدك غيرك، فأنت سيد كل شىء الآن، وأنا أعطيك كتابي فخذه بقوة، لا تضيعه مرة أخرى، فإن ضاع كما ضاع قبلا فقل على الدنيا السلام)

لتأتي فقرة الرواية الأخيرة:

( هلم إليَّ يا سيد نفسى لأضمك إلى صدرى، فقد أمضنى الشوق، آن لغربتك أن تنتهى بعد خطوة أخيرة تخطوها، وآن للعاشق المجد الأوب إلى معشوقه ليكتمل به، آن لى أن أهمس لك: يا أنا)

وهكذا يتبيّن للقارئ أن تلك الرحلة ماهي إلا طريقة لنسج "الحكاية" مرة أخرى، ووسيلة ناجحة للخلاص عبر "الكتابة" تلك التي يعدها الكاتب طوق النجاة الأخير من هذا العالم الموبوء والواقع الكئيب!

عُرف "خيري عبد الجواد" منذ مجموعته القصصية الأولى "حكاية الديب رمّاح" كواحد من الكتّاب المميزين الذين كان مشروعهم السردي معتمدًا على استلهام التراث وحكايات "ألف ليلة وليلة" وغيرها وذلك لغرامه بتلك الحكايات وإيمانه أنها مستودعٌ عظيم يجب على كل كاتبٍ الاستفادة منه وتطويعه للكتابة الروائية، فعل ذلك باقتدار في كل أعماله وأشاد النقاد بتجربته الروائية وخصوصيتها، ولعله من الواجب اليوم الإحاطة بها واستعادة قراءتها واستكشاف عالم ذلك الروائي المميّز.

من حُسن الحظ أن عددًا من روايات "خيري عبد الجواد" متاحة الكترونيًا:

رواية كيد النسا
رواية الجني
وأخيرًا الرواية التي بين أيدينا "العاشق والمعشوق





العاشق والمعشوق.jpg
 
أعلى