طه حسين - النص الكامل لكتاب في الشعر الجاهلي

الكتاب الأول

1 - تمهيد
هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد لم بألفة الناس عندنا من قبل .
وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه وبأن فريقا آخر سيزورون عنه ازورار ولكني علي سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث أو بعبارة أصح أريد أن أقيده فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلي طلابي في الجامعة .
وليس سرا ما تتحدث به إلي أكثر من مائتين . ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعا ما أعرف أني شعرت بمثله في تلك الموقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي.
وهذا الاقتناع القوي هو الذي يحملني علي تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول غير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بازورار المزور .
وأنا مطمئن إلي أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق علي آخرين فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد .
وقد تناول الناس منذ حين مسألة القديم والجديد واشتد فيها اللجاجة بينهم وخيل إلي بعضهم أنة يستطيع أن يقضي فيها بين المختصمين .
ولكني أعتقد أن المختصمين أنفسهم لم يتناولوا المسألة من جميع أطرفها فهم لم يكادوا يتجاوزون فنون الأدب التي يتعاطاها الناس من نثر وشعر والأساليب التي تصطنع في هذه الفنون والمعاني والألفاظ التي يعمد إليها الكاتب أو الشاعر حين يريد أن يتحدث إلي الناس بعواطف نفسه أو نتائج عقله ولكن المسألة وجها آخر لا يتناول الفن الكتابي أو الشعري وإنما يتناول البحث العلمي عن الأدب وتاريخ فنونه .
نحن بين اثنتين : إما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قاله القدماء ، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو منه كل بحث والذي يطيح لنا أن نقول : أخطأ الأصمعي أو أصاب ووفق أبو عبيدة أو لم يوفق واهتدي ألكسائي أو ضل الطريق وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث .
لقد أنسيت ، فلست أريد أن أقول البحث وإنما أريد أن أقول الشك .
أريد ألا نقبل شيئا مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبيت إن لم ينتهيا إلي اليقين فقد ينتهيان إلي الرجحان .
والفرق بين هذين المذهبين في البحث عظيم فهو الفرق بين الإيمان الذي يبعث علي الاطمئنان والرضا والشك الذي يبعث علي القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان إلي الإنكار والجحود .
المذهب الأول يدع كل شيء حيث تركه القدماء لا يناله التغير ولا تبديل ولا يمسه في جملته وتفصيلة إلا مسا رفيقا.
أما المذهب الثاني فيقلب العلم القديم رأسا علي عقب .
وأخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئا كثيرا .
ولندع هذا النحو من الكلام العام ولنوضح ما نريد أن مقولة بشيء من الأمثلة : بين يدينا مسألة الشعر الجاهلي نريد أن ندرسها وننتهي فيها إلي الحق .
فأما أنصار القديم فالطريق أمامهم واضحة معبدة ، والأمر عليهم سهل يسير .
أليس قد أجمع القدماء من علماء الأمصار في العراق والشام وفارس ومصر والأندلس علي أن طائفة كثيرة من الشعراء قد عاشت قبل الإسلام وقالت كثيرا من الشعر ؟
أليس قد أجمع هؤلاء العلماء أنفسهم علي أن لهؤلاء الشعراء أسماء معروفة محفوظة مضبوطة بتناقلها الناس ولا يكادون يختلفون فيها ؟
أليس قد أجمع هؤلاء العلماء علي أن لهؤلاء الشعراء مقدارا من القصائد والمقطوعات حفظه عنهم رواتهم وتناقله عنهم الناس حتى جاء عصر التدوين فدون في الكتب وبقي منه ما شاء الله أن يبقي إلي لأيامنا ؟
وإذا كان العلماء قد أجمعوا علي هذا كله فرووا لنا أسماء الشعراء وضبطوها ونقلوا إلينا آثار الشعراء وفسروها فلم يبق إلا أن نأخذ عنهم ما قالوا راضين به مطمئنين إلية فإذا لم يكن لأحدنا بد من أن يبحث وينقد ويحقق فهو يستطيع هذا دون أن يجاوز مذهب أنصار القديم فالعلماء قد اختلفوا في الرواية بعض الاختلاف وتفاوتوا في الضبط بعض التفاوت فلنوازن بينهم ولنرجح رواية علي رواية ولنؤثر ضبطا علي ضبط ولنقل : أصاب البصريون وأخطأ الكوفيون أو وفق المبرد وأم يوفق ثعلب لنذهب في الأدب وفنونه مذهب الفقهاء في الفقه بعد أن أغلق باب الاجتهاد : هذا مذهب أنصار القديم وهو المذهب الذائع في مصر وهو المذهب الرسمي أيضا مضت علية مدارس الحكومات وكتبها ومناهجها علي ما بينها من تفاوت واختلاف .
ولا ينبغي أن تخدعك هذه الألفاظ المستحدثة في الأدب ولا هذا النحو من التأليف الذي يقسم التاريخ الأدبي إلي عصور ويحاول أن يدخل فيه شيئا من الترتيب والتنظيم فذلك كله عناية بالقشور والأشكال لا يمس اللباب ولا الموضوع فما زال العرب ينقسمون إلي بائدة وباقية وإلي عارية ومستعربة ومازال أولئك من جرهم وهؤلاء من ولد إسماعيل ومازال امرؤ القيس صاحب " قفا نبك " وطرفة صاحب " لخولة أطلال " وعمرو بن كلثوم صاحب " ألا هبي " ومازال كلام العرب فغي جاهليتها وإسلامها ينقسم إلي شعر ونثر.
النثر ينقسم إلي مرسل ومسجو ع ألي آخر هذا الكلام الكثير الذي يفرغه أنصار القديم فيما يصنعون من كتب وما يلقون علي التلاميذ والطلاب من دروس هم لم يغيروا في الأدب شيئا وما كان لهم أن يغيروا فيه شيئا وقد أخذوا أنفسهم بالاطمئنان إلي ما قاله القدماء وأغلقوا علي أنفسهم في الأدب باب الاجتهاد كما أغلقه الفقهاء في افقه والمتكلمون في الكلام وأما أنصار الجديد فالطريق أمامهم معوجة ملتوية تقوم فيها عقاب لا تكاد تحصي وهم لا يكادون يمضون إلا في أناة وريث هما إلي البطء أقرب منهما إلي السرعة ذلك أنهم لا يأخذون أنفسهم بإيمان ولا اطمئنان أو هم لم يرزقوا هذا الإيمان والاطمئنان فقد خلق الله لهم عقولا تجد من الشك لذة وفي القلق والاضطراب رضا وهم لا يريدون أن يخطوا في تاريخ الأدب خطوة حتى يتبنوا موضعها وسواء عليهم وافقوا القدماء وأنصار القديم أم كان بينهم وبينهم أشد الخلاف هم لا يطمئنون إلي ما قال القدماء وإنما يلقون بالتحفظ والشك ولعل أشد ما يملكهم الشك حين يجدون من القدماء ثقة واطمئنانا هم يريدون أن يدوسوا مسألة الشعر الجاهلي فيتجاهلون إجماع القدماء علي ما اجمعوا علية ويتساءلون أهناك شعر جاهلي ؟
فإن كان هناك شعر جاهلي فما السبيل إلي معرفته ؟
وما هو ؟
وما مقداره ؟
وبم يمتاز من غيرة ويمضون في طائفة من الأسئلة يحتاج حلها إلي روية وأناة وإلي جهود الجماعات العلمية لا إلي جهود الأفراد هم لا يعرفون أن العرب ينقسمون إلي باقية وبائدة وعارية ومستعربة ولا أن لأولئك من جرهم وهؤلاء من ولد إسماعيل ولا أن امرأ القيس وطرفة وابن كلثوم قالوا هذه المطولات ولكنهم يعرفون أن القدماء كانوا يروون ذلك .
ويريدون أن يستبينوا أكان القدماء مصيبين أم مخطئين ؟
والنتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر فهي إلي الثورة الأدبية أقرب منها إلي أي شيء آخر وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرون يقينا وقد يجحدون ما أجمع الناس علي أنة حق لا شك فيه .
وليس حظ هذا المذهب منتهيا عند هذا الحد بل هو يجاوزه إلي حدود أخري أبعد منه مدي وأعظم أثرا فهم قد ينتهون إلي تغيير التاريخ أو ما اتفق الناس علي أنة تاريخ وهم قد ينتهون إلي الشن في أشياء لم يكن يباح الشك فيها وهم بين اثنتين : إما أن يجحدوا أنفسهم ويجحدوا العلم وحقوقه فيرخوا ويستريحوا وإما أن يعرفوا لأنفسهم حقها ويؤذوا للعلم واجبه فيتعرضوا لما ينبغي أن يتعرض له العلماء من الأذى ويحتملوا ما ينبغي أن يحتمله العلماء من سخط الساخطين .
ولست أزعم أني من العلماء ولست أتمدح بأني أحب أن أتعرض لللأذي وربما كان الحق أني أحب الحياة الهادئة المطمئنة وأريد أن أتذوق لذات العيش في دعة ورضا ولكني مع ذلك أحب أن أفكر وأحب أن أبحث وأحب أن أعلن إلي الناس متا أنتهي إلية بعد البحث والتفكير ولا أكره أن أحذ نصيبي من رضا الناس علي أو سخطهم علي حين أعلن إليهم ما يحبون أو ما يكرهون وإذن فلأعتمد علي الله ولأجتنب بما أحب أن أحدثك به في صراحة وأمانة وصدق ولأجتنب في هذا الحديث هذه الطرق التي يسلكها المهرة من الكتاب ليدخلوا علي الناس ما لم يألفوا في رفق وأناة وشيء من الاحتياط كثير.
وأول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك أو قل ألح علي الشك فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر حتى انتهي بي هذا كله إلي شيء إلا يكن يقينا فهو أقرب من اليقين ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين .
وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل علي شيء ولا ينبغي الاعتماد علية في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي .
وأنا أقدر النتائج الخطرة لهذه النظرية ولكني مع ذلك لا أتردد في أثباتها وإذاعتها ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلي غيرك من القراء أن ما تقرؤه علي أنة شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاف الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين .
وأنا أزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يصنع ,إنا نستطيع أن نتصوره تصورا واضحا قويا صحيحا .
ولكن بشرط ألا نعتمد علي الشعر بل علي القرآن من ناحية والتاريخ والأساطير من ناحية أخري .
وستسألني كيف انتهي بي البحث إلي هذه النظرية الخطرة ؟
ولست أكره أن أجيبك علي هذا السؤال بل أنا لا أكتب ما أكتب إلا لأجيبك علية ولأجل أن أجيبك علية إجابة مقنعة يجب أن أتحدث إليك في طائفة مختلفة من المسائل .
وستري أن هذه الطائفة المختلفة من المسائل تنتهي كلها إلي نتيجة واحدة هي هذه النظرية التي ذكرتها منذ حين .
يجب أن أحدثك عن الحياة السياسية الداخلية للأمة العربية قبل ظهور الإسلام ووقوف حركة الفتح وما بين هذه الحياة وبين الشعر من صلة .
ويجب أن أحدثك عن حال أولئك الناس الذين غلبوا علي أمرهم بعد الفتح في بلاد الفرس وفي الشام والجزيرة والعراق ومصر ، مابين هذه الحال وبين لغة العرب وآدابهم من صلة .ويجب أن أحدثك عن نشأة العلوم الدنية واللغوية وما بينها وبين اللغة و الأدب من صلة .
ثم يجب أن أحدثك عن اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام وبعده وما بين اليهود هؤلاء وبين الأدب العربي من صلة ويجب أن أحدثك بعد هذا عن المسيحية وما كان لها من الانتشار في بلاد العرب قبل الإسلام وما أحدثت من تأثير في حياة العرب العقلية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية وما بين هذا كله وبين الأدب العربي والشعر العربي من صلة ثم يجب أن أحدثك عن مؤثرات سياسية خارجية عملت في حياة العرب قبل الإسلام وكان لها أثر قوي جدا في الشعر العربي الجاهلي وفي الشعر العربي الذي أنتحل وأضيف إلي الجاهليين وهذه المباحث التي أشرت إليها ستنتهي كلها إلي تلك النظرية التي قدمتها : وهي أن الكثرة المطلقة من الشعر الجاهلي ليست من الشعر الجاهلي في شيء .
ولكني مع ذلك لن أقف عند هذه المباحث لأني أقف عندها فيما بيني وبين نفسي بل جاوزتها .
وأريد أن أجاوزها معك إلي نحو آخر من البحث أظنه أقوي دلالة وأنهض حجة من المباحث الماضية كلها ذلك هو المبحث الفني واللغوي , فسينتهي بنا هذا المبحث إلي أن هذا الشعر الذي ينسب إلي امرئ القيس أو إلي الأعشي أو إلي غيرهما من ا لشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء ولا أن يكون قد قيل وأذيع فبل أن يظهر القرآن .
نعم ؟
وسينتهي بنا هذا البحث إلي نتيجة غريبة وهي أنة لا ينبغي أن يستشهد بهذا الشعر علي تفسير القرآن وتأويل الحديث وإنما ينبغي أن يستشهد بالقرآن والحديث علي تفسير هذا الشعر و تأويله أريد أن أقوال إن هذه الأشعار لا تثبت شيئا ولا تدل علي شيء ولا ينبغي أن تتخذ وسيلة إلي ما اتخذت إلية من علم القرآن والحديث فهي إنما تكلفت واخترعت اختراعا ليستشهد بها العلماء علي ما كانوا يريدون أن يستشهدوا علية .
فإذا انتهينا من هذه الطرق كلها إلي غاية واحدة هي هذه النظرية التي قدمتها فسنجتهد في أن نبحث عما يمكن أن يكون شعرا جاهليا حقا وأنا أعترف منذ الآن بأن هذا البحث عسير كل العسر وبأني أشك شكا شديدا في أنة قد ينتهي بنا إلي نتيجة مرضية ومع ذلك فسنحاوله

.../...








طه حسين




 

2- منهج البحث

أحب أن أكون واضحا جليا وأن أقوال للناس ما أريد أن أقول دون أن أضطرهم إلي أن يتأولوا ويتمحلوا ويذهبوا مذاهب مختلفة في النقد والتفسير والكشف عن الأغراض التي أرمي إليها.
أريد أن أريح الناس من هذا اللون من ألوان التعب وأن أريح نفسي من الرد والدفع والمناقشة فيما لا يحتاج إلي مناقشة أريد أن أقول إني سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي أستحدثه (ديكارت ) للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل وأن يستقبل موضوع بحثه حالي الذهن مما قيل فية خلوا تاما والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط علية أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر قد كان من أخصب المناهج وأقوها وأحسنها أثرا وأنة قد جدد العلم والفلسفة تجديدا وأنة قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم والفنانين في فنونهم وأنة هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث فلنصنع هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربي القديم وتاريخه بالبحث والاستقصاء.
ولنستقبل هذا الأدب وتاريخه وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل وخلصنا من كل هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التي تأخذ أيدينا وأرجلنا ورءوسنا فتحول بيننا وبين الحركة الجسمية الحرة وتحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة أيضا نعم يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسي قوميتنا وكل مشخصاتها وأن ننسي ديننا وكل ما يتصل به وأن ننسي ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح ذلك أنا إذا لم ننس قوميتنا وديننا وما يتصل بهما فسنضطر إلي المحاباة وإرضاء العواطف وسنغل عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدين.
وهل فعل القدماء غير هذا وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا؟
كان القدماء عربا يتعصبون للعرب أو كانوا عجما يتعصبون علي العرب فلم يبرأ علمهم من الفساد لأن المتعصبين للعرب غلوا في تمجيدهم وإكبارهم فأسرفوا علي أنفسهم وعلي العلم ولأن المتعصبين علي العرب غلوا في تحقيرهم وإصغارهم فأسرفوا علي أنفسهم وعلي العلم أيضا.
كان القدماء مسلمين مخلصين في حب الإسلام فأخضعوا كل شيء لهذا الإسلام وحبهم إياه لم يعرضوا لمبحث علمي ولا لفصل من فصول الأدب أو لون من ألوان الفن إلا من حيث إنة يؤيد الإسلام ويعزه ويعلي كلمته.
فما لاءم مذهبهم هذا أخذوه وما نافره انصرفوا عنة انصرافا.
أو كان القدماء غير مسلمين : يهود ونصارى أم مجوسا أو ملحدين أو مسلمين في قلوبهم مرض وفي نفوسهم زيغ فتأثروا في حياتهم العلمية بمثل ما تأثر به المسلمين الصادقون : تعصبوا علي الإسلام ونحوا في بحثهم العلمي نحو الغض منه والتصغير من شأنه فظلموا أنفسهم وظلموا الإسلام وأفسدوا العلم وجنوا علي الأجيال المقبلة ولو أن القدماء استطاعوا أن يفرقوا بين عقولهم وقلوبهم وأن يتناولوا العلم علي نحو ما يتناوله المحدثون لا يتأثرون في ذلك بقومية ولا عصبية ولا دين ولا ما يتصل بهذا كله من الأهواء لتركوا لنا أدبا غير الأدب الذي نجده بين أيدينا ولأر احونا من هذا العناء الذي نتكلفه الآن ولكن هذه طبيعة الإنسان .
لا سبيل إلي التخلص منها .
وأنت تستطيع أن تقول هذا الذي تقوله في كل شيء فلو أن الفلاسفة ذهبوا في الفلسفة مذهب (ديكارت ) منذ العصور الأولي لما أحتاج (ديكارت ) إلي أن يستحدث منهجه الجديد ولو أن المؤرخين ذهبوا في كتابة التاريخ منذ العصور الأولي مذهب ( سينيويوس ) لما أحتاج ( سينيويوس ) إلي أن يستحدث منهجه في التاريخ وبعبارة أدني إلي الإيجاز : لو أن الإنسان خلق كاملا لما أحتاج إلي أن يطمع في الكمال.
فلندع لوم القدماء علي ما تأثروا به في حياتهم العلمية مما أفسد عليهم العلم.
ولنجتهد في ألا نتأثر كما تأثروا وفي ألا نفسد العلم كما أفسدوا لنجتهد في أن ندرس الأدب العربي غير حافلين بتجمد العرب أو الغض منهم ولا مكترثين بنصر الإسلام أو النعي علية ولا معنيين بالملاءمة بينه وبين نتائج البحث العلمي والأدبي ولا وجليين حين ينتهي بنا هذا البحث إلي ما تأباه القومية أو تنفر منه الأهواء السياسية أو تكرهه العاطفة الدنية فإن نحن حررنا أنفسنا إلي هذا الحد فليس من شك في أننا سنصل ببحثنا العلمي إلي نتائج لم يصل إلي مثلها القدماء وليس من شك في أننا سنلتقي أصدقاء سواء اتفقنا في الرأي أو اختلفنا فيه.
فما كان اختلاف الرأي في العلم سببا من أسباب البغض إنما الأهواء والعواطف هي التي تنتهي بالناس إلي ما يفسد عليهم الحياة من البغض والعداء.
فأنت تري أن منهج (ديكارت ) هذا ليس خصبا في العلم والفلسفة والأدب فحسب وإنما هو خصب في الأخلاق والحياة الاجتماعية أيضا وأنت تري أن الأخذ بهذا المنهج ليس حتما علي الذين يدرسون العلم ويكتبون فيه وحدهم بل هو حتم علي الذين يقرءون العلم أو يكتبون فيه ألا يقرءوا هذه الفصول.
فلن تفيدهم قراءتها إلا أن يكونوا أحرارا حقا

.../...
 

3- مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي

علي أني أحب أن يطمئن الذين يكلفون بالأدب العربي القديم ويشفقون علية ويجدون شيئا من اللذة في أن يعتقدوا أن هناك شعرا جاهليا يمثل حياة جاهلية انقضي عصرها بظهور الإسلام فلن يمحو هذا الكتاب ما يعتقدون ولن يقطع السبيل بينهم وبين هذه الحياة الجاهلية يدرسونها ويجدون في درسها ما يبتغون من لذة علمية وفنية بل أنا أذهب إلي أبعد من هذا فأزعم أني سأستكشف لهم طريقا جديدة واضحة قصيرة سهلة يصلون منها إلي هذه الحياة الجاهلية
أو بعبارة أصح : يصلون إلي حياة جاهلية لم يعرفوها إلي حباة جاهلية قيمة مشرقة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة التي يجدونها في المطولات وغيرها مما ينسب إلي الشعراء الجاهلين .
ذلك أني لا أنكر الحياة الجاهلية وإنما أنكر أن يمثلها هذا الشعر الذي يسمونه الشعر الجاهلي فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشي وإنما أسلك إليها طريقا أخري وأدرسها في نص لا سبيل إلي الشك في صحته وأدرسها في القرآن فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي ونص القرآن ثابت لا سبيل إلي الشك فيه أدرسها في القرآن وأدرسها في شعر هؤلاء الشعراء الذين عاصروا النبي وجادلوه وفي شعر الشعراء الآخرين الذين جاءوا بعده ولم تكن نفوسهم قد طابت عن الآراء والحياة التي ألفها آباؤهم قبل الإسلام بل أدرسها في الشعر الأموي نفسه فلست أعرف أمه من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلي طرفة وعنترة والشماخ وبشر ابن أبي خازم .
قلت : إن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية وهذه القضية غريبة حين تسمعها ولكنها بديهية حين تفكر فيها قليلا فليس من اليسر أن نفهم أن الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تليت عليهم آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة هي هذة الصلة التي توجد بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه وليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا علي أسراره ودقائقه وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدا كله علي العرب فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر إنما كان القرآن جديدا في أسلوبه جديدا فيما يدعوا إلية جديدا فيما شرع للناس من دين وقانون ولكنه كان كتابا عربيا لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره أي في العصر الجاهلي وفي القرآن رد علي الوثنيين فيما كانوا يعتقدون من الوثنية وفيه رد علي اليهود وفيه رد علي النصارى وفيه رد علي الصابئة والمجوس وهو لا يرد علي يهود فلسطين ولا علي نصارى الروم ومجوس الفرس وصابئة الجزيرة وحدهم وإنما يرد علي فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد الغربية نفسها ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه وضحوا في سبيل تأييده ومعارضته بالأموال والحياة أفتري أحد يحفل بي لو أني أخذت أهاجم البوذية أو غيرها من هذه الديانات التي لا يدينها أحد في مصر "؟
ولكني أغيظ النصارى حين أهاجم النصرانية وأهيج اليهود حين أهاجم اليهودية وأحفظ المسامين حين أهاجم الإسلام وأنا أكاد أعرض لواحد من هذه الأديان حتى أجد مقاومة الأفراد ثم الجماعات ثم مقاومة الدولة نفسها تمثلها النيابة والقضاء ذلك لأني أهاجم ديانات ممثلة في مصر يؤمن بها المصريون وتحميها الدولة المصرية وكذلك كانت الحال حين ظهور الإسلام : هاجم الوثنية فعارضه الوثنيون هاجم اليهود فعارضة اليهود وهاجم النصارى فعارضه النصارى ولم تكن هذه المعارضة هينة ولا لينة وإنما كانت تقدر بمقدار ما كان لأهلها من قوة ومنعة وبأس في الحياة الاجتماعية والسياسية فأما وثنية قريش فقد أخرجت النبي من مكة ونصبت له الحرب واضطرت أصحابه إلي الهجرة وأما اليهودية فقد ألبت علية وجاهدته جهادا عقليا وجدليا ثم انتهت إلي الحرب والقتال وأما نصرانية النصارى فلم تكن معارضتها للإسلام إبان حياة النبي قوية قوة المعارضة الوثنية واليهودية .
لماذا؟ لأن البيئة التي ظهر فيها النبي لم تكن بيئة نصرانية إنما كانت وثنية في مكة يهودية في المدينة ولو ظهر النبي في الجيرة أو في نجران للقي من نصارى هاتين المدنتين مثل ما لقي من مشركي مكة ويهود المدينة وفي الحق أن الإسلام لم يكد يظهر علي مشركي الحجاز ويهوده حتى استحال الجهاد بينه وبين النصارى من جدال ونضال بالحجة إلي الصدام المسلح أدرك النبي أوله وانتهي به الخلفاء إلي أقصي حدوده .
فأنت تري أن القرآن حين يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات إنما يتحدث عن العرب وعن ديانات ألفها العرب : فهو يبطل منها ما يبطل ويؤيد منها ما يؤيد وهو يلقي في ذلك من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من السلطان علي نفوس الناس .
وإذن فما ابعد الفرق بين نتيجة البحث عن الحياة الجاهلية في هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين والبحث عنها في القرآن !
فأما هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين فيظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدنية المتسلطة علي النفس والمسيطرة علي الحياة العلمية وإلا فأين تجد شيئا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة !
أو ليس عجيبا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدنية للجاهليين ! وأما القرآن فيمثل لنا شيئا آخر يمثل لنا الحياة دينية قوية تدعوا أهلها إلي أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال ف'ذا رأوا أنة قد أصبح قليل الغناء لجأوا إلي إعلان الحرب التي لا تبقي ولا تذر .
أفتظن أن قريشا كانت تكيد لأبنائها وتضطهدهم وتذيقهم ألوان العذاب ثم تخرجهم من ديارهم ثم تنصب لهم الحرب وتضحي في سبيلها بثروتها وقوتها وحياتها لو لم يكن لها من الدين إلا ما يمثله هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين ؟ كلا !
كانت قريش متدينة قوية الإيمان بدينها ولهذا الدين وللإيمان بهذا الدين جاهدت ما جاهدت وضحت ما ضحت وقل مثل ذلك في اليهود وقل مثله في غير أولئك وهؤلاء من العرب الذين جاهدوا النبي عن دينهم فالقرآن إذن أصدق تمثيلا للحياة الدنية عند العرب من هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي ولكن القرآن لا يمثل الحياة الدنية وحدها وإنما يمثل شيئا آخر غيرها لا نجده في هذا الشعر الجاهلي يمثل حياة عقلية قوية يمثل قدرة علي الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظا عظيما أليس القرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون النبي بقوة الجدال والقدرة علي الخصام والشدة في المحاورة وفيم كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون ؟ في الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم دون أن يوفقوا إلي حلها في البعث في الخلق في إمكان الاتصال بين الله والناس في المعجزة وما إلي ذلك أفتظن قوما يجادلون في هذه الأشيئا جدالا يصفه القرآن بالقوة ويشهد لأصاحبه بالمهارة أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين كلا لم يكونوا جهالا ولا أغبياء ولا غلاظا ولا أصحاب حياة خشنة جافية وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة .
وهنا يجب أن نحتاط فلم يكن العرب كلهم كذلك ولا يمثلهم القرآن كلهم كذلك؛ وإنما كانوا كغيرهم من الأمم القديمة وككثير من الأمم الحديثة منقسمين إلى طبقتين: طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالثروة والجاه والذكاء والعلم؛ وطبقة العامة الذين لا يكاد يكون لهم من هذا كله حظ.
القرآن شاهد بهذا .
أليس يحدثنا عن أولئك المستضعفين الذين كفروا طاعة لسادتهم وزعمائهم لا جهاداّ في الرأي ولا اقتناعا بالحق، والذين سيقولون يوم يسألون: (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا).
بلى! والقرآن يحدثنا عن جفوة الأعراب وغلظتهم وإمعانهم في الكفر والنفاق وقلة حظهم من العاطفة الرقيقة التي تحمل على الإيمان والتدين. أليس هو الذي يقول: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا) وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله.
أليس قد شرع للنبي أن يتألف قلوب الأعراب بالمال! بلى. فالقرآن إذن يمثل الأمة العربية على أنها كانت كغيرها من الأمم القديمة، فيها الممتازون المستنيرون الذين كان النبي يجادلهم ويجاهدهم؛ وفيها العامة الذين لم يكن لهم حظ من استنارة أو امتياز والذين كانوا موضوع النزاع بين النبيّ وخصومة والذين كان يتألفهم النبيّ بالمال أحيانا.
والقرآن لا يمثل الأمة العربية مدينة مستنيرة فحسب، بل هو يعطينا منها صورة أخرى يدهش لها الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة العربية قبل الإسلام، فهم يعتقدون أن العرب كانوا قبل الإسلام أمة معتزلة تعيش في صحرائها لا تعرف العالم الخارجي ولا يعرفها العالم الخارجي؛ وهم يبنون على هذا قضايا ونظريات، فهم يقولون إن الشعر الجاهلي لم يتأثر بهذه المؤثرات الخارجية التي أثرت في الشعر الإسلامي: لم يتأثر بحضارة الفرس والروم.
وأني له ذلك! لقد كان يقال في صحراء لا صلة بينها وبين الأمم المتحضرة.
كلا! القرآن يحدثنا بشيء غير هذا، القرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من ا"لأمم بل كانوا على اتصال قوي قسمهم أحزابا وفرقهم شيعا. أليس القرآن يحدثنا عن الروم وما كان بينهم وبين الفرس من حرب انقسمت فيها العرب إلى حزبين مختلفي.
حزب يشايع أولئك، وحزب يناصر هؤلاء! أليس في القرآن سورة تسمى سورة الروم وتبتدئ بهذه الآيات (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء).
لم يكن العرب إذن كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين؛ فأنت ترى أن القرآن يصف عنايتهم بسياسة الفرس والروم.
وهو يصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف..) وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة أو الفرس.
وسيرة النبيّ تحدثنا أن العرب تجاوزوا بوغاز باب المندب إلى بلاد الحبشة.
ألم يهاجر المهاجرون الأولون إلى هذه البلاد!وهذه السيرة نفسها تحدثنا بأنهم تجاوزوا الحيرة إلي بلاد الفرس و الروم وأنهم تجاوزوا الشام وفلسطين إلي مصر فلم يكونوا إذن معتزلين ولم يكونوا إذن ينجوه من تأثير الفرس والروم والحبش والهند وغيرهم من الأمم المجاورة لهم لم يكونوا علي غير دين ولم يكونوا جهالا ولا غلاظا ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلي الأمم الأخرى كذلك يمثلهم القرآن .
وإذا كانوا أصحاب علم ودين وأصحاب ثروة وبأس وأصحاب سياسية متصلة بالسياسية العامة متأثرة بها مؤثرة فيها فما أحلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية لا أمة جاهلة همجية وكيف يستطيع رجل عاقل أن يصدق أن القرآن قد ظهر في أمة جاهلة همجية !
أرأيت أن التماس الحياة العربية الجاهلية في القرآن أنفع وأجدي من التماسها في الشعر العقيم الذي يسمونة الشعر الجاهلي !
أرأيت أن هذا النحو من البحث يغير كل التغيير ما تعودنا أن نعرف من أمر الجاهليين !


.../...
 
4- الشعر الجاهلي واللغة :

علي أن هناك شيئا آخر يحظر علينا التسليم بصحة الكثرة المطلقة من هذا الشعر الجاهلي ولعله أبلغ في إثبات ما نذهب إلية فهذا الشعر الذي رأينا لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة الغربية في العصر الذي يزعم الرواة أنة قيل فيه والأم هنا يحتاج إلي شيء من الروية والأناة فنحن إذا ذكرن اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم حين نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه نريد بها الألفاظ من حيث هي ألفاظ تدل علي معانيها تستعمل حقيقة مرة أخري مرة ومجازا مرة أخري وتتطور ملائما لمقتضيات الحياة التي يحباها أصحاب هذه اللغة : نقول إن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه.
أما الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه فهو أن العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية منازلهم الأولى في اليمن، وعدنا نية منازلهم الأولى في الحجاز.
وهم متفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية فهم العاربة، وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتساباً كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية، ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الأولى من صدورهم وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة.
وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعربة إنما يتصل نسبها بإسماعيل ين إبراهيم.
وهم يروون حديثا يتخذونه أساسا لكل هذه النظرية، خلاصته أن أول من تكلم بالعربية ونسى لغة أبيه إسماعيل بن إبراهيم يتحدثون علي هذا كله يتفق الرواة ، ولكنهم يتفقون علي شيء آخر أثبته البحث الحديث ، وهو أن هناك خلافا قويا بين لغة حمير ( وهي العرب العاربة ) ولغة عدنان ( وهي العرب المستعرية ) وقد روى عن أبي عمرو ابن العلاء أنه كان يقول : ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا .
وفي الحق لأن البحث الحديث قد اثبت خلافا جوهريا بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية ، واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذه البلاد .
ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضا .
وأذن فلابد من حل هذه المسألة .
إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العارية فكيف بعد ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العارية واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعرية ، حتى إذا استطاع أبو عمرو ابن العلاء أن يقول انهما لغتان متمايزتان ، واستطاع العلماء المحدثون أن يثبتوا هذا التمايز بالأدلة التي لا تقبل شكا ولا جدالا !
والأمر لا يقف عند هذا الحد ، فواضح جدا لكل من له إلمام بالبحث التاريخي عامة ويدرس الأساطير والأقاصيص خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم و إسماعيل ، وللقرأن أن يحدثنا عنهما أيضا ، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي ، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلي مكة ونشأة العرب المستعرية فيها .
ونحن مضطرون إلي أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة ، وبين الإسلام واليهودية من جهة ، والقرآن والتوراة من جهة أخرى .
وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي اخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويثبتون فيه المستعمرات .
فنحن نعلم أن حروبا عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد ، وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة ونوع من المخالفة والمهادنة .
فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين واصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام ، ولاسيما قد رأي أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئا من التشابه غير قليل ، فأولئك وهؤلاء ساميون .
ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب ، قد اقتضى أن تثبت الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين : ديانة النصارى واليهود .
فأما الصلة الدينية فثابتة وواضحة ، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض ، كلها ترمي إلي التوحيد ، وتعتمد علي أساس واحد هو هذا الذي تشترك فيه الديانات السماوية السامية .
ولكن هذه الصلة الدينية معنوية عقلية يحسن أن تؤيدها صلة أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب أهل الكتاب .
فما الذي يمنع أن تستغل هذه القصة قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية واليهود ؟
وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح .
فقد كانت في أول هذا القرن قد انتهت إلي حظ من النهضة السياسية والاقتصادية ضمن لها السيادة في مكة وما حولها وبسط سلطانها المعنوي علي جزء غير قليل من البلاد العربية الوثنية .
وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين ك التجارة من جهة والدين من جهة أخري .
فأما التجارة فنحن نعلم أن قريشا كانت تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة .
وأما الدين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج إليها العرب المشركون في كل عام ، والتي أخذت تبسط علي نفوس هؤلاء العرب المشركين نوعا من السلطان قويا والتي اخذ هؤلاء العرب المشركين يجعلون منها رمزا لدين قوي كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية من ناحية والمسيحية من ناحية أخري .
فنحن نلمح في الأساطير أن شيئا من المنافسة الدينية كان قائما بين مكة .
ونجران .
ونحن نلمح في الأساطير أيضا أن هذه المنافسة الدينية بين مكة وبين الكنيسة التي أنشأها الحبشة في صنعاء هي التي دعت إلي حرب الفيل التي ذكرت في القرآن .
فقريش أذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية ونهضة دينية وثنية .
وهي بحكم هذين النهضتين كانت تحاول أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم تدخل الفرس والروم والحبشة وديانتهم في البلاد العربية .
وإذا كان هذا حقا - ونحن نعتقد انه حق - فمن المعقول جدا أن تبحث هذه المدينة الجديدة لنفسها عن اصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير .
وأذن فليس ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم ن كما قبلت روما قبل ذلك وللأسباب مشابهة أسطورة أخري صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإنياس ابن بريام صاحب طروادة .
أمر هذه القصة إذن واصح .
فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام لسبب ديني ، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضا ز وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى .
وأذن فنستطيع أن نقول أن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي تتكلمها القحطانية في اليمن إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخري من اللغات السامية المعروفة ، وإن قصة "العارية" و"المستعرية" وتعلم إسماعيل العربية من جرهم ، كل ذلك حديث أساطير لا خطر له ولا غناء قيه .
والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلي الموضوع الذي ابتدأنا به منذ حين ن وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا .
ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي قوم ينتسبون إلي عرب اليمن إلي هذه القحطانية العارية التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن والتي كان يقول عنها أبو عمرو ابن العلاء : إن لغتها مخالفة للغة العرب والتي اثبت البحث الحديث أن لها لغة أخري غير اللغة العربية .
ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضاف إلي شعراء هذه القحطانية في الجاهلية لا نجد فرقا قليلا ولا كثيرا بينه وبين شعر العدنانية .
نستغفر الله !
بل نحن لا نجد فرقا بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن .
فكيف يمكن فهم ذلك أو تأويله ؟
أمر ذلك يسير ، وهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلي القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء لم يقله شعراؤها 'نما حمل عليهم بعد الإسلام لأسباب مختلفة سنبينها حين نعرض لهذه الأسباب التي دعت إلي انتحال الشعر الجاهلي في الإسلام .




.../...
 

5 - الشعر الجاهلي واللهجات

علي أن الأمر يتجاوز هذا الشعر الجاهلي القحطاني إلي الشعر الجاهلي العدناني نفسه . فالرواة يحدثوننا أن الشعر في قبائل عدنان ، كان في ربيعه ثم انتقل إلي قيس ثم إلي تميم .
فظل فيها إلي ما بعد الإسلام أي إلي أيام بني أمية حين نبغ الفرزدق وجرير .
ونحن لا نستطيع أن نقبل هذا النوع من الكلام إلا باسمين ، لأننا لا نعرف ما ربيعه وما قيس وما قيس معرفة علمية صحيحة ، أي لأننا نذكر أو نشك علي اقل تقدير شكا قويا في قيمة هذه الأسماء التي تسمي بها قبائل ، وفي قيمة الأنساب التي تصل بين الشعراء وبين أسماء هذه القبائل ، ونعتقد أو نرجح أن هذا كله أقرب إلي الأساطير منه إلي العلم اليقين .
ولكن مسألة النسب وقيمته مسألة لا تعنينا الآن .
فلندعها إلي حيث نعرض لها إذا اقتضت مباحث هذا الكتاب أن نعرض لها .
وقد بينا رأينا فيها بيانا مجملا في " ذكري أبي العلاء " إنما المسألة التي تعنينا الآن وتحملنا علي الشك في قيمة هذه النظرية ( نظرية تنقل الشعر في قبائل عدنان قبل الإسلام ) مسألة فنية خالصة فالرواة مجمعون علي أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام فيقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيرا من تباين اللهجات .
وكان من المعقول أن تختلف لغات العرب العدنانية وتتباين لهجاتهم قبل ظهور الإسلام .
ولا سيما إذا صحت النظرية التي أشرنا إليها آنفا وهي نظرية العزلة العربية وثبت أن العرب متقاطعين متنابذين ، وأنه لم يكن بينهم من أسباب المواصلات المادية والمعنوية ما يمكن من توحيد اللهجات .
فإذا صح هذا كله كان من المعقول جدا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام ،وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القرآن علي العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة .
ولكننا لا نري شيئا من ذلك في الشعر العربي الجاهلي .
فأنت تستطيع أن تقرأ هذه المطولات أو المعلقات التي يتخذها أنصار القديم نموذجا للشعر الجاهلي الصحيح ، فستري أن فيها مطولة لامريء القيس وهو من كنده أي من قحطان ، وأخري لزهير ، وأخري لعنترة ، وثالثة للبيد ، كلهم من قيس ، ثم قصيدة لطرفة ، وقصيدة لعمرو أبن كلثوم ، وقصيدة أخري لحارث أبن حلزة وكلهم من ربيعه .
تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون أن تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافا في اللهجة أو تباعدا في اللغة أو تباينا في مذهب الكلام .
البحر العروضي هو هو وقواعد القافية هي هي ، والألفاظ مستعملة في معانيها كما نجدها عدد شعراء المسلمين ، والمذهب الشعري هو هو .
كل شيء في هذه المقولات يدل علي أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرا ما .
فنحن بين اثنتين : إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي ، وأما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل وانما حمل عليها حملا بعد الإسلام ، ونحن إلي الثانية أميل منا إلي الأولي .
فالبرهان القاطع قائم علي أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلي عدنان وقحطان يعترف القدماء أنفسهم بذلك كما رأيت أبا عمرو أبن العلاء ، ويثبته البحث الحديث .
وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من الوقت ما يمكننا من استقصائه وتفصيل القول فيه ،وهو أن القرآن الذي تلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها ما لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتي كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينا كثيرا ،جد القراء العلماء المتأخرين في ضبطه وتحقيقه وأقاموا له علما أو علوما خاصة .
ولسنا نشير هنا إلي هذه القراءات التي تختلف فيما بينها اختلافا كثيرا في ضبط الحركات سواء أكانت حركات بنية أو حركات إعراب .
لسنا نشير إلي اختلاف القراء في نصب " الطير " في الآية ( يا جبال أوبي معه والطير ) أو رفعها ولا اختلافهم في ضم الفاء أو فتحها في الآية (لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) ولا إ لي اختلافهم في ضم الحاء أو كسرها في الآية ( وقالوا حجرا محجورا ) ولا إلي اختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية ( غلبت الروم في أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ) لا نشير إلي هذا النحو من اختلاف الروايات في القرآن فتلك مسألة معضلة نعرض لها ولم ينشأ عنها من النتائج إذا أتيح أن ندرس تاريخ القرآن .
إنما نشير غلي اختلاف في القراءات يقبله العقل ويسيغه النقل .
وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي وعشيرته من قريش ، فقرأته كما كانت تتكلم ، فأمالت حيث لم تكن تميل قريش ومدت حيث لم تكن تمد ، وقصرت حيث لم تكن تقصر ، وسكنت حيث لم تكن تسكن ، وأدغمت أو اخفت أو نقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفي ولاتنقل .
فهذا النوع من اختلاف اللهجات له أثره الطبيعي اللازم في الشعر في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام .
ولسنا نستطيع أن نفهم كيف استقامت أوزان الشعر وبحوره وقوافيه كما دونها الخليل لقبائل العرب كلها علي ماكان بينها من تباين اللغات واختلاف اللهجات .
وإذا لم يكن نظم القرآن ، هو ليس شعرا ولا مقيدا بما يتقيد به الشعر ، قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل ، فكيف استطاع الشعر ، وهو مقيد بما تعلم من القيود ، أن يستقيم لها !
وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقي ، أى كيف لم توجد صلة واضحة بين هذا الاختلاف في اللهجة وبين الأوزان الشعرية التي كانت تصطنعها القبائل ؟
ستقول ولكن اختلاف اللهجات كان قائما بعد القرآن ، وليس من شك في ان قبائل العرب علي اختلافها قد تعاطت الشعر بعد الإسلام ولم يظهر فيه اختلاف اللهجات ، فكما استقامت بحوره وأوزانه علي هذا الاختلاف بعد الإسلام فليس ما يمنع أن تكون قد استقامت عليه في العصر الجاهلي .
ولست أنكر أن اختلاف اللهجات كان حقيقة واقعة بعد الإسلام .
ولست أنكر أن الشعر قد استقام للقبائل كلها رغم هذا الاختلاف .
ولكنني أظن أنك تنسي شيئا يحسن ألا تنساه ، وهو أن القبائل بعد الإسلام قد اتخذت للأدب لغة غير لغتها ،وتقيدت في الأدب بقيود لم تكن لتتقيد بها لو كتبت أو شعرت في لغتها الخاصة ، أي أن الإسلام قد فرض علي العرب جميعا لغة عامة واحدة هي لغة قريش .
فليس غريبا أن تتقيد هذه القبائل بهذه اللغة الجديدة في شعرها ونثرها في أدبها بوجه عام .
فلم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام يقوله بلغة تميم أو قيس ولهجتها ، وإنما كان يقوله بلغة قريش ولهجتها .
مثل ذلك واضح في اللغة العربية من اللغات الحديثة .
كان للدوريين من اليونان شعرهم الدوري وأوزانهم الدورية ، وكان لليوبيين شعرهم اليوني وأوزانهم اليونية ، ثم لما ظهرت أثينا علي البلاد اليونانية عامة ذاع الشعر اليوناني والأوزان اليونية والنثر الأتيكي وأصبح الدوريين إذا نظموا أو نثروا يصطنعون ما كان يصطنع في أثينا من مناهج النظم والنثر .
ويصطنعون اللغة اليونية التي هذبها مذهب الأثنيين في الكلام ، فهم كانوا يعدلون عن لغتهم ولهجاتهم وأوزانهم وأساليبهم في لغة الأثنيين ولهجتهم وأوزانهم وأساليبهم وكذلك فعل العرب بعد الإسلام : عدلوا في لغتهم الأدبية عن كل ما كانت تمتاز به لغتهم ولهجتهم الخاصة إلي لغة القرآن ولهجتها .
والأمر كذلك في الأمم الحديثة الكبرى ذات الأقاليم المتنائية الأطرف المتباعدة والتكوين الجنسي المعقد .
ولست أضرب لذلك إلا مثلا واحدا حيا هو مثل فرنسا ففي فرنسا إلي جانب اللغة الفرنسية لغات إقليمية لها نحوها ولها قوامها الخاص ولها شعرها ، ومع ذلك فأهل الأقاليم إذا أرادوا أن يظهروا آثارا أدبية أو علمية قيمة يعدلون عن لغتهم الإقليمية إلي اللغة الفرنسية .
وقليل جدا من بينهم من يذهب مذهب ( ميسترال ) فيكتب في لغته الإقليمية الخاصة .
وأنا اشعر بالحاجة إلي أن أضرب مثلا آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي ،لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب .
ذلك أن في لغتنا المصرية العصرية لهجات مختلفة وأنحاء متباينة من أنحاء القول ، فلأهل مصر العليا لهجاتهم ولأهل مصر الوسطي لهجاتهم ولأهل القاهرة لهجتهم ولهل مصر السفلي لهجاتهم .
وهناك اتفاق مطرد بين هذه اللهجات وبين ما للمصريين من شعر في لغتهم العامية ، فأهل مصر العليا يصطنعون أوزانا لا يصطنعها أهل القاهرة ولا أهل الدلتا وهؤلاء يصطنعون اوزانا لا يصطنعها أهل مصر العليا .
وهذا ملائم لطبيعة الأشياء .
فما كان للشعر لطبيعة الأشياء .
فما كان للشعر أن يخرج عما ألف له أصحابه من لغة ولهجة في الكلام .
مع هذا كله فنحن حين ننظم الشعر الأدبي أو نكتب النثر الأدبي والعلمي نعدل عن لغتنا ولهجتنا الإقليمية إلي هذه اللغة واللهجة التي عدل إليها العرب بعد الإسلام وهي لغة قريش ولهجة قريش أي لغة القرآن ولهجته .
فالمسألة أذن هي أن نعلم : أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية ، وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده ؟
أما نحن فنتوسط ونقول :إنها سادت قبيل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين أخذت مكة تستحيل إلي وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط علي أطراف البلاد العربية .
ولكن سيادة لغة قريش قبيل الإسلام لم تكن شيئا يذكر ولم تكد تتجاوز الحجاز .
فلما جاء الإسلام عمت هذه السيادة وصار سلطان اللغة واللهجة مع السلطان الديني والسياسي جنب إلي جنب .
وإذن فنحن إذا استطعنا أن نفسر اتفاق اللغة واللهجة في شعر أولئك الذين عاصروا النبي من أهل الحجاز ، فلن نستطيع أن نفسره في شعر الذين لم يعاصروه أو يجاوروه .
ولندع هذه المسألة الفنية الدقيقة التي نعترف بأنها في حاجة إلي تفصيل وتحقيق أوسع واشمل مما يسمح لنا به المقام في هذا الفصل إلي مسألة أخري ليست أقل منها خطرا ، وإن كان أنصار القديم سيجدون في فهمها شيئا من العسر والمشقة ، لأنهم لم يتعودوا مثل هذه الريبة في البحث العلمي .
وهي أنا نلاحظ أن العلماء قد اتخذوا هذا الشعر الجاهلي مادة للاستشهاد علي ألفاظ القرآن والحديث ونحوهما ومذاهبهما الكلامية .
ومن الغريب أنهم لا يكادون يجدون في ذلك مشقة ولا عسرا ، حتى أنك لتحس كأن هذا الشعر الجاهلي قد علي قد القرآن والحديث كما يقد الثوب علي قد لابسه لا يزيد ولا ينقص عما أراد طولا وسعة .
إذن فنحن نجهر بأن هذا ليس من طبيعة الأشياء ، وان هذه الدقة في الموازاة بين القرآن والحديث والشعر الجاهلي لا ينبغي أن تحمل علي الاطمئنان إلا الذين رزقوا حظا من السذاجة لم يتح لنا مثله .
إنما يجب أن تحملنا هذه الدقة في الموازاة علي الشك والحيرة علي أن نسأل أنفسنا : أليس يمكن ألا تكون هذه الدقة في الموازاة نتيجة من نتائج المصادفة ، وإنما هي شيء تكلف وطلب وانفق فيه أصحابه بياض الأيام وسواد الليالي ؟
يجب أن نكون علي حظ عظيم جدا من السذاجة لنصدق أن فلانا أقبل علي ابن عباس وقد اعد له طائفة من المسائل تتجاوز المائتين حول لغة القرآن فأخذ يلقي عليه المسألة ، فإذا أجاب عليها سأله : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟
فيقول : نعم !
قال امرؤ القيس أو قال عنترة أو قال غيرهما من الشعراء وينشد بيتا لا تشك إن كنت من أهل الفقه في أنه إنما وضع ليثبت صحة اللفظ الذي يستشهد عليه من ألفاظ القرآن !
وهنا نمس أمرا من هذه الأمور التي سيغضب لها أنصار الأدب القديم ، ولكننا سنمضي في طريقنا كما بدأنا لا مواربين ولا مخادعين : أليس من الممكن أن تكون قصة ابن عباس ونافع بن الأزرق قد وضعت في تكلف وتصنع لغرض من هذه الأغراض المختلفة التي كانت تدعوا إلي وضع الكلام وانتحاله لإثبات أن ألفاظ القرآن كلها مطابقة للفصيح من لغة العرب ، أو لإثبات أن عبد الله بن عباس كان من اقدر الناس علي تأويل القرآن وتفسيره ومن احفظهم لكلام العرب الجاهليين ؟
وأنت تعلم أن ذاكرة ابن عباس كانت مضرب المثل في القرن الثاني والثالث للهجرة .
وأنت تذكر قصته مع نافع بن الأزرق هذا ، وعمر بن أبي ربيعة حين أنشده : " أمن آل نعم أنت غاد فمبكر " وأنت أن عبد الله بن عباس كان له مولي أخذ عنه العلم ونقله إلي الناس ودس علي مولاه شيئا كثيرا ، وهو عكرمة .
وأنت تعلم أن إثبات هذا الحفظ الكثير لعبد الله أبن عباس لم يكن يخلو من فائدة سياسية ، لأن ابن عباس روي أشياء كثيرة أو رويت عنه أشياء كثيرة تنفع الشيعة ، ولأن ابن عباس أجاب نافع بن الأزرق حين قال له : ما رأيت أحفظ منك يا ابن عباس ، بقوله وأنت تعلم أن هناك حديثا ترويه الشيعة يجعل النبي مدينة العلم ، ويجعل عليا بابها .
بل أليس يمكن أن تكون قصة ابن عباس هذه قد وضعت في سذاجة وسهولة ويسر لا لشيء إلا لهذا الغرض التعليمي اليسير ، وهو أن يسمع الطالب لفظا من ألفاظ القرآن ويجد الشاهد عليه من غير مشقة ولا عناء ، أراد أحد العلماء أن يفسر طائفة من ألفاظ القرآن فوضع هذه القصة واتخذها سبيلا إلي ما أراد ؟
ولعل لهذه القصة أصلا يسيرا جدا ، لعل نافعا سأل ابن عباس عن مسائل قليلة فزاد فيها هذا العالم ومدها حتى أصبحت رسالة مستقلة يتداولها الناس .
وهذا النحو من التكلف والانتحال للأغراض التعليمية الصرفة كان شائعا معروفا في العصر العباسي ولاسيما في القرن الثالث والرابع .
ولست أريد أن أطيل ولا أتعمق في إثبات هذا ، إنما أحيلك إلي كتاب " الأماني لأبي علي القالي " وإلي ما يشبهه منة الكتب فستري طائفة من الأحاجي والأوصاف تنسب إلي الأعراب رجالا ونساء وشبابا وشيبا .
ستري مثلا بنات سبعا اجتمعن وتواصفن أفراس آبائهن ، فتقول كل واحدة منهن في فرس أبيها كلاما غريبا وسجوعا يأخذه أهل السذاجة غلي انه قد قيل حقا ، في حين أنه لم يقل ، وإنما كتبه معلم يريد أن يحفظ تلاميذه أوصاف الخيل وما يقال فيها ، أو عالم يريد أن يتفيهق ويظهر كثرة ما وعي من العلم .
وقل مثل ذلك في سبع بنات اجتمعن وتواصفن المثل الأعلى للزوج الذي تطمع فيه كل واحدة منهن ، فأخذن يقلن كلاما غريبا مسجوعا في وصف الرجولة والفتوة أو التلميح إلي ما تحب المرآة من الرجل .
ومثل هذا كثير شعرا ونثرا وسجعا ، تجده في الأمالي والعقد الفريد وديوان المعاني لأبي هلال وغيرها من الكتب .
وأكاد اعتقد أن هذا النحو من الانتحال هو اصل المقامات وما يشبهها من هذا النوع من أنواع الإنشاء .
ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر ، فلأعد إليه لأقول ما كنت أقول منذ حين ، وهو أن من الحق علينا و لأنفسنا وللعلم أن نسأل : أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت انه لا يمثل حياة العرب الجاهليين ولا عقليتهم ولا دياناتهم ولا حضاراتهم بل لا يمثل لغتهم ، أليس هذا الشعر قد وضع وضعا وحمل علي لصحابه حملا بعد الإسلام ؟
أما أنا فلا أكاد اشك الآن في هذا .
ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت لنا هذه النظرية أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس غلي وضع الشعر وانتحاله بعد الإسلام .



.../...
 
الكتاب الثاني

أسباب انتحال الشعر

-1 ليس الانتحال مقصورا علي العرب

يجب أن يتعود الباحث درس تاريخ الأمم القديمة التي قدر لها أن تقوم بشيء من جلائل الأعمال ، وما اعترض حياتها من الصعاب والمحن وألوان الخطوب والصروف ، ليفهم تاريخ الأمة العربية علي وجهه ويرد كل شيء فيه إلي أصله .
وإذا كان هناك شيء يؤخذ به الذين كتبوا تاريخ العرب وآدابهم فلم يوفقوا إلي الحق فيه .
فهو أنهم لم يلموا إلماما كافيا بتاريخ هذه الأمم القديمة ، أو لم يخطر لهم أن يقارنوا بين الأمة العربية والأمم التي خلت من قبلها ، وإنما نظروا غلي هذه الأمة العربية كأنها امة فذة لم تعرف أحدا ولم يعرفها احد ، لم تشبه احد ولم يشبهها احد ، لم تؤثر في احد ولم يؤثر فيها احد ، قبل قيام الحضارة العربية انبساط سلطانها علي العالم القديم .
والحق أنهم لو درسوا تاريخ هذه الأمم القديمة وقارنوا بينه وبين تاريخ العرب لتغير رأيهم في الأمة العربية ، ولتغير بذلك تاريخ العرب أنفسهم ، ولست اذكر من هذه الأمم القديمة إلا أمتين اثنتين : الأمة اليونانية والأمة الرومانية .
فقد قدر لهاتين الأنتين في العصور القديمة مثل ما قدر للأمة العربية في العصور الوسطي .
كلتاهما تحضرت بعد بداوة .
وكلتاهما خضعت في حياتها الداخلية لهذه الصروف السياسية المختلفة .
وكلتاهما انتهت إلي نوع من التكوين السياسي دفعها إلي أن تتجاوز موطنها الخاص وتغير علي البلاد المجاورة وتبسط سلطانها علي الأرض .
وكلتاهما لم تبسط سلطانها علي الأرض عبثا وإنما نفعت وانتفعت وتركت للإنسانية تراثا قيما لاتزال تنتفع به غلي الآن : ترك اليونان فلسفة وأدبا ، وترك الرومان تشريعا ونظاما .
وكذلك كان شان هذه الأمة العربية ، تحضرت كما تحضر اليونان والرومان بعد بداوة ، وتأثرت كما تأثر اليونان والرومان بصروف سياسية مختلفة وأنتهي بها تكوينها السياسي إلي ما انتهي التكوين السياسي لليونان والرومان إليه من تجاوز الحدود الطبيعية وبسط السلطان علي الأرض وتركت كما ترك اليونان والرومان للإنسانية تراثا قيما خالدا فيه علم وأدب ودين .
وليس من العجب في شيء أن تكون العوارض التي عرضت لحياة العرب علي اختلاف فروعها مشبهة للعوارض التي عرضت لحياة اليونان والرومان من وجوه كثيرة .
وفي الحق أن التفكير الهادىء في حياة هذه الأمم الثلاث ينتهي بنا إلي متشابهة إن لم نقل متحدة .
ولم لا ؟
أليست هذه الإشارة التي قدمناها إلي ما بين هذه الأمم الثلاث من شبهة تكفي لتحملك علي أن تفكر في أن مؤثرات واحدة أو متقاربة قد أثرت في حياة هذه الأمم فانتهت إلي نتائج واحدة أو متقاربة!
ولسنا نريد أن نترك الموضوع الذي نحن بإزائه للبحث عما يمكن أن يكون من اتفاق أو افتراق بين العرب واليونان والرومان ، فنحن لم نكتب لهذا ، وإنما نريد أن نقول أن هذه الظاهرة الأدبية التي نحاول أن ندرسها في هذا الكتاب والتي يجزع لها أنصار القديم جزعا شديدا ليست مقصورة علي الأمة العربية ، وإنما تتجاوزها إلي غيرها من الأمم القديمة ، ولاسيما هاتين الأمتين الخالدتين .
فلن تكون الأمة العربية أول أمة أنتحل فيها الشعر انتحالا وحمل علي قدمائها كذبا وزورا ، وإنما انتحل الشعر في الأمة اليونانية والرومانية من قبل وحمل علي القدماء من شعراؤهما ، وانخدع به الناس وآمنوا له ، ونشأت عن هذا الانخداع والإيمان سنة أدبية توارثها الناس مطمئنين إليها ، حتى هذا العصر الحديث وحتى استطاع النقاد من أصحاب التاريخ والأدب واللغة والفلسفة أن يردوا الأشياء إلي أصولها ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا .
وأنت تعلم أن حركة النقد هذه بالقياس إلي اليونان والرومان لم تنته بعد ، وأنها لن تنتهي غدا ولا بعد غد .
وأنت تعلم أنها قد وصلت إلي نتائج غيرت تغيرا تاما ما كان معروفا متوارثا من تاريخ هاتي الأمتين وآدابهما.
وأنت إذا فكرت فستوافقني علي أن منشأ هذه الحركة النقدية إنما هو في حقيقة الأمر تأثر الباحثين في الأدب والتاريخ بهذا المنهج الذي دعوت إليه في أول هذا الكتاب ، وهو منهج ديكارت الفلسفي .
وسواء رضينا أو كرهنا فلابد من أن نتأثر بهذا المنهج في بحثنا العلمي والأدبي كما تأثر من قبلنا به أهل الغرب .
ولابد من أن نصطنعه في نقد آدابنا وتاريخنا كما أصطنعه أهل الغرب في نقد آدابهم وتاريخهم .
ذلك لأن عقليتنا نفسها قد أخذت منذ عشرات من السنين تتغير وتصبح غربية ، أو قل أقرب إلي الغربية منها إلي الشرقية .
وهي كلما مضي عليها الزمن جدت في التغير وأسرعت في الاتصال بأهل الغرب .
وإذا كان في مصر الآن قوم ينصرون القديم وآخرون ينصرون الجديد ، فليس ذلك إلا لأن في مصر قوما قد اصطبغت عقليتهم بهذه الصبغة الغربية ، وآخرين لم يظفروا منها بحظ أو لم يظفروا منها إلا بحظ قليل .
وانتشار العلم الغربي في مصر وازدياد انتشاره من يوم إلي يوم واتجاه الجهود الفردية والجماعية إلي نشر هذا العلم الغربي ، كل هذا سيقضي غدا أو بعد غد بأن يصبح عقلنا غربيا ، وأن ندرس آداب العرب وتاريخهم متأثرين بمنهج ديكارت كما فعل أهل الغرب في درس آدابهم وآداب اليونان والرومان .
ولقد أحب أن تلم إلماما قليلا بأي كتاب من هذه الكتب الكثيرة التي تنشر الآن في أوروبا في تاريخ الآداب اليونانية أو اللاتينية ، وأن تسأل نفسك بعد هذا الإلمام ماذا بقي مما كان يعتقده القدماء في تاريخ الآداب عند هاتين الأمتين : أحق ما كان يعتقده القدماء في شان الإلياذة والأوديسا ؟
أحق ما كانوا يتحدثون به بل ما كانوا يؤمنون به في شأن ( هوميروس ) و (هيريودوس ) وغيرهما من الشعراء القصصيين ؟
أحق ما كان القدماء يتخذونه أساسا لسياستهم وعلمهم وآدابهم وحياتهم كلها من أخبار اليونان والرومان ؟
إن من اللذيذ حقا أن تقرأ ما كتب (هيرودوت ) في تاريخ اليونان ، و (تيتوس ليفوس ) في تاريخ الرومان ، وما يكتب المحدثون الآن في تاريخ هاتين الأمتين .
ولكنك لا تكاد تجد شيئا من الفرق بين ما كان يتحدث به ابن إسحاق ويرويه الطبري من تاريخ العرب وآدابهم ، وما يكتبه المؤرخون والأدباء في هذا العصر .
ذلك لأن الكثرة من هؤلاء المؤرخين والأدباء لم تتأثر بعد بهذا المنهج الحديث ، ولم تستطع بعد أن تؤمن بشخصيتها وأن تخلص هذه الشخصية من الأوهام والأساطير .
وإذا كان قد قدر لهذا الكتاب ألا يرضي الكثرة من هؤلاء الأدباء والمؤرخين فنحن واثقون بأن ذلك لن يضيره ولن يقلل من تأثيره في هذا الجيل الناشيء .
فالمستقبل لمنهج ( ديكارت ) لا لمنهج القدماء .



-2 السياسة وانتحال الشعر

قلت أن العرب قد خضعوا لمثل ما خضعت له الأمم القديمة من المؤثرات التي دعت إلي انتحال الشعر والأخبار .
ولعل أهم هذه المؤثرات التي طبعت الأمة العربية وحياتها بطابع لا يمحى ولا يزول هو هذا المؤثر الذي يصعب تمييزه والفصل فيه ، لأنه مزاج من عنصرين قويين جدا ، هما السياسة والدين .
والحق أن لا سبيل إلي فهم التاريخ الإسلامي مهما تختلف فروعه إلا إذا وضحت هذه المسألة (مسألة الدين والسياسة ) توضيحا كافيا .
فقد أرادت الظروف ألا يستطيع العرب منذ ظهور الإسلام أن يخلصوا من هذين المؤثرين في لحظة من لحظات حياتهم في القرنين الأول والثاني .
هم مسلمون لم يظهروا علي العالم إلا بالإسلام ، فهم محتاجون إلي أن يعتزوا بهذا الإسلام ويرضوه ويجدوا في اتصالهم به ما يضمن لهم هذا الظهور وهذا السلطان الذي يحرصون عليه .
وهم في نفس الوقت أهل عصبية وأصحاب مطامع ومنافع ، فهم مضطرون إلي أن يرعوا هذه العصبية ويلائموا بينها وبين منافعهم ومطامعهم ودينهم .
وإذن فكل حركة من حركاتهم وكل مظهر من مظاهر حياتهم متأثر بالدين ، متأثر بالسياسة .
وإذا كانت حياتهم كما نصف تأثرا متصلا بالدين والسياسة ، واجتهادا متصلا في التوفيق بسنهما ، أو بعبارة أصح : في الاستفادة منهما جميعا ، فخليق بالمؤرخ السياسي أو الأدبي أو الاجتماعي أن يجعل مسألة الدين والسياسة عند العرب أساسا للبحث عن الفرع الذي يريد أن يبحث عنه من فروع التاريخ .
وستري عندما نتعمق بك قليلا في هذا الموضوع أنا لسنا غلاة ولا مخطئين .
وأول ما يحسن أن نلاحظه هو هذا الجهاد العنيف الذي اتصل بين النبي وأصحابه من ناحية ، وبين قريش وأوليائها من ناحية أخري .
أما في أول عهد الإسلام بالظهور حين كان النبي وأصحابه في مكة فقد كان هذا الجهاد جدليا خالصا ، وكان النبي يكاد يقوم به وحده بإزاء الكثرة المطلقة من قومه ، يجادلهم بالقرآن ويقارعهم بهذه الآيات المحكمات ، فيبلغ منهم ويفحمهم ويضطرهم إلي الإعياء .
وهو كلما بلغ من ذلك حظا أنتصر له من قومه فريق حتى تكون له حزبا ذو خطر ولكنه لم يكن حزبا سياسيا ، ولم يكن يطمع في ملك ولا تغلب ولا قهر ، أو لم يكن ذلك في دعوته .
غير أن هذا الحزب كان كلما اشتدت قوته وقوي أسره اشتدت مناضلة قريش له وفتنتها إياه حتى كان ما تعلم من الهجرة الأولي ثم من هجرة النبي إلي المدينة .
وليس هذا موضع البحث عن هذه الهجرة إلي المدينة ، وعما أعد الأنصار لنصر النبي وإيوائه ، وعن النتائج المختلفة التي أنتجتها الهجرة .
ولكنا نستطيع أن نسجل مطمئنين أن هذه الهجرة قد وضعت مسألة الخلاف بين النبي وقريش وضعا جديدا جعلت الخلاف سياسيا يعتمد في حله علي القوة والسيف بعد ان كان من قبل دينيا يعتمد علي الجدال والنضال بالحجة ليس غير .
منذ هاجر النبي إلي المدينة تكونت للإسلام وحدة سياسية لها قوتها المادية وبأسها الشديد ، وأحست قريش أن الأمر قد تجاوز الأوثان والآراء الموروثة والسنن القديمة ، إلي شيئا آخر كان فيما يظهر أعظم خطرا في نفوس قريش من الدين وما يتصل به ، وهو السيادة السياسية في الحجاز ، والطرق التجارية بين مكة والبلاد التي كانت ترحل إليها بتجارتها في الشتاء والصيف .
وأنت تعلم أن الاستيلاء علي العير هو اصل الوقعة الكبرى الأولي بين النبي وقريش في بدر.
فليس من شك إذن في أن الجهاد بين النبي وقريش كان دينيا خالصا ما أقام النبي في مكة .
فلما أنتقل إلي المدينة أصبح هذا الجهاد دينيا وسياسيا واقتصاديا ، وأصبح موضوع النزاع بين قريش والمسلمين ليس مقصورا علي أن الإسلام حق أو غير حق ، بل هو يتناول مع ذلك الأمة العربية أو الحجازية علي أقل تقدير لمن تذعن ، والطرق التجارية لمن تخضع .
وعلي هذا النحو وحده تستطيع أن تفهم سيرة النبي منذ أن هاجر إلي المدينة لا مع قريش وحدها بل مع غيرها من العرب ، بل مع اليهود أيضا .
ولكننا لا نكتب تاريخ النبي وإنما نريد أن نصل مسرعين إلي ما يعنينا من هذا كله ، وهو أن استحالة الجهاد إلي جهاد سياسي بعد أن كان جهاد دينيا قد استحدث عداوة بين مكة والمدينة ، أو بين قريش والأنصار لم تكن موجودة من قبل .
فالسيرة تحدثنا بأن صلات المودة كانت قوية بين قريش وبين الأوس والخزرج قبل أن يهاجر النبي إلي المدينة .
وكان هذا معقولا وطبيعيا ، فقد كان الأوس والخزرج علي طريق قريش إلي الشام .
ولم يكن بد لهذه المدينة التجارية التي تسمي مكة من أن تؤمن طرقها التجارية وتوثق صلات الود مع الذين يستطيعون أن يعرضوا هذه الطريق إلي الخطر .
نشأت إذن بعد الهجرة عداوة بين مكة والمدينة ، وما هي إلا أن اصطبغت هذه العداوة بالدم يوم أنتصر الأنصار في " بدر " ويوم انتصرت قريش في " أحد " .
وما هي إلا أن اشترك الشعر في هذه العداوة مع السيف ، فوقف شعراء الأنصار وشعراء قريش يتهاجون ويتجادلون ويتناضلون ، يدافع كل فريق عن أحسابه وأنسابه ويشيد بذكر قومه .
ثم كان الموقف دقيقا ، فقد كان شعراء الأنصار يدافعون قريشا عن النبي وأصحابه ، وهم من خلاصة قريش .
ويجب أن يكون هذا الهجاء قد بلغ أقصي ما يمكن من الحدة والعنف ، فإن النبي كان يحرض عليه ، ويثيب أصحابه ويقدمهم ويعدهم ، مثل ما كان يعد المقاتلين من الأجر والمثوبة عند الله ، ويتحدث أن جبريل كان يؤيد "حسانا " .
كثر الهجاء إذن واشتد بين قريش والأنصار لما كثرت الحرب واشتدت .
وأنت تعلم مقدار حظ العرب من العصبية وحرصهم علي الثأر للدماء المسفوكة ، وجدهم في الدفاع عن الأعراض المنتهكة .
فليس غريبا أن تبلغ الضغينة بين هذين الحيين من أهل الحجاز أقصي ما كانت تستطيع أن تبلغ .
وقد مضت قريش في جهادها بالسنان واللسان والأنفس والأموال ، وأعانها من أعانها من العرب واليهود ، ولكنها لم توفق .
وأمست ذات يوم إذا خيل النبي قد أظلت مكة ، فنظر زعيمها وحازمها أبو سفيان فإذا هو بين اثنتين : إما أن يمضي في المقاومة فتفني مكة وإما أن يصانع ويصالح ويدخل فيما دخل فيه الناس وينتظر لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من مكة إلي المدينة ومن قريش إلي الأنصار أن يعود إلي قريش وإلي مكة مرة أخري .
أسلم أبو سفيان وأسلمت معه قريش ، وتمت للنبي هذه الوحدة العربية ، وأصبح الناس جميعا في ظاهر الأمر أخوانا مؤتلفين في الدين .
ولعل النبي لو عمر بعد فتح مكة زمنا طويلا لاستطاع أن يمحو تلك الضغائن ، وأن يوجه نفوس العرب وجهة أخري ، ولكنه توفي بعد الفتح بقليل ، ولم يضع قاعدة للخلافة ، ولا دستورا لهذه الأمة التي جمعها بعد فرقة.
فأي غرابة في أن تعود تلك الضغائن إلي الظهور وفي أن تستيقظ الفتنة بعد نومها ، وفي أن يزول هذا الرماد الذي كان يخفي تلك الأحقاد !
وفي الحق أن النبي لم يكد يدع هذه الدنيا حنى أختلف المهاجرون من قريش والأنصار من الأوس والخزرج في الخلافة أين تكون ؟ ولمن تكون ؟
وكاد المر يفسد بين الفريقين لولا بقية من دين وحزم نفر من قريش ، ولولا أن القوة المادية كانت إذ ذاك إلي قريش .
فما هي إلا أن أذعنت الأنصار وقبلت أن تخرج منهم الإمارة إلي قريش .
وظهر أن الأمر قد استقر بين الفريقين ، وأنهم قد اجمعوا علي ذلك لا يخلفهم فيه إلا سعد بن عبادة الأنصاري الذي أبي أن يبايع أبا بطر ، وأن يبايع عمر ، وأن يصلي بصلاة المسلمين ، وأن يحج بحجهم وظل يمثل المعارضة قوي الشكيمة ماضي العزيمة ، حتى قيل غيلة في بعض أسفاره .
قتلته الجن فيما يزعم الرواة .
وانصرفت قوة قريش والأنصار إلي ما كان من انتقاض العرب علي المسلمين أيام أبي بكر ، وإلي ما كان من الفتوح أيام عمر .
ولكن المقيمين من أولئك وهؤلاء في مكة والمدينة لم يكونوا يستطيعون أن ينسوا تلك الخصومة العنيفة التي كانت بنهم أيام النبي ، ولا تلك الدماء التي سفكت في الغزوات .
وليس من شك في إن حزم عمر قد حال بين المهاجرين والأنصار ، أو بعبارة أصح : بين قريش والأنصار وبين الفتنة .
فالرواة يحدثوننا أن عمر نهي رواية الشعر الذي تهاجي به المسلمون والمشركون أيام النبي .
وهذه الرواية نفسها تثبت رواية أخري ، وهي أن قريشا والأنصار تذاكروا ما كان قد هجا به بعضهم بعضا أيام النبي ، وكانوا حراصا علي روايته يجدون في ذلك من اللذة والشماتة ما لا يشعر به إلا صاحب العصبية القوية إذا وتر أو انتصر .
وقد ذكر الرواة إن عمر مر ذات يوم فإذا حسان في نفر من المسلمين ينشدهم شعرا في مسجد النبي فأخذ بأذنه وقال : أرغاء كرغاء البعير ؟
قال حسان : إليك عني يا عمر، فوالله لقد كنت انشد في هذا المكان من هو خير منك فيرضي ، فمضي عمر وتركه .
وفقه هذه الرواية يسير لمن يلاحظ ما قدمنا من أن الأنصار كانوا موتورين ، وان عصبيتهم كانت لا تطمئن إلي انصراف الأمر عنهم ، فكانوا يتعزون بنصرهم للنبي وانتصافهم من قريش وما كان لهم من البلاء قبل موت النبي وما أفادوا بأيديهم والسنتهم من مجد .
وكان عمر قرشيا تكره عصبيته أن تزدري قريش ، وتذكر ما اصابها من هزيمة ، وما اشيع عنها من مذكر .
وكان فوق هذا كله اميرا حازما يريد ان يضبط امور الرعية ، وان يؤسس ملك المسلمين علي شيء غير العصبية .
وقد وفق بعض التوفيق ، ولكنه لم يظفر بكل ما كان يريد .
تحدث الرواة ان عبد الله بن الزبعري وضرار بن الخطاب قدما إلي المدينة ايام عمر فذهبا إلي أبي احمد بن جحش ، وكان رجلا ضريرا حسن الحديث يألفه الناس ويتحدثون عنده ، قالا جئناك لتدعو لنا حسان بن ثابت لينشدنا وننشده ، قال : هو ما تريدان ، وأرسل إلي حسان فجاء ، قال هناك اخواك قد اقبلا من مكة يريدان يسمعاك ويسمعا لك قال حسان ان شئتما فابدآ وان شئتما بدأت ، : بل نبدأ ، فأخذا ينشدانه مما قالت قريش في الأنصار حتى فار وأخذ يغلي كالمرجل ، فلما فرغا استوي كل منها علي راحلته ومضيا إلي مكة .
وذهب حسان مغضبا إلي عمر وقص عليه الخبر فقال عمر : سأردهما عليك ان شاء الله .
حتى إذا كانا بين يدي عمر ومعه نفر من أصحاب النبي ، قال لحسان : انشدهما ما شئت ، فأنشدهما حتى اشتفي .
وقال عمر بعد ذلك - فيما يحدثنا صاحب ألاغاني : قد كنت نهيتكم عن رواية هذا الشعر لأنه يوقظ الضغائن ، فأما إذ أبوا فاكتبوه .
وسواء قال عمر هذا ام لم يقله ، فقد كان الأنصار يكتبون هجاءهم لقريش ويحرصون علي إلا يضيع .
قال ابن سلام : وقد نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية ، فاستكثرت منه في الإسلام .
وليس من شك عندي في أنها استكثرت بنوع خاص من هذا الشعر الذي يهجي فيه الأنصار .
ولما قتل عمر وانتهت الخلافة إلي عثمان بعد المشقة ، تقدمت الفكرة السياسية التي كانت تشغل أبا سفيان خطوة أخري فلم تصبح الخلافة في قريش فحسب ، بل أصبحت في بني أمية خاصة .
واشتدت عصبية قريش واشتدت عصبية الأمويين ، واشتدت العصبيات الأخرى بين العرب ، وقد هدأت حركة الفتح ، وأخذ العرب يفزع بعضهم لبعض .
وكان من نتائج ذلك ما تعلم من قتل عثمان وافتراق المسلمين وانتهاء الأمر كله إلي بني أمية بعد تلك الفتن والحروب .
في ذلك الوقت تغيرت خطة الخليفة السياسية أو بعبارة أدق : فشلت هذه الخطة التي كان يختطها عمر ، وهي منع العرب ان يتذاكروا ما كان بينهم من الضغائن قبل الإسلام .
وعاد العرب إلي شر مما كانوا فيه في جاهليتهم من التنافس والتفاخر في جميع الأمصار الإسلامية .
ويكفي ان أقص عليك ما كان من تنافس الشعراء من الأنصار وغيرهم عند معاوية ويزيد بن معاوية ، لتعلم إلي اى حد عاد العرب في ذلك الوقت إلي عصبيتهم القديمة .
ولعلك قرأت تلك القصة التي تخبرنا بان عبد الرحمن بن حسان شبب برملة بنت معاوية نكاية في بني أمية .
فأما معاوية فاصطنع الحلم كعادته ، وقال لعبد الرحمن : فاين أنت من أختها هند ! وأما يزيد فقد كان صورة لجده ابي سفيان ، كان رجل عصبية وقوة وفتك وسخط علي الإسلام وما سنه للناس من سنن فاغري كعب بن جعيل بهجاء الأنصار ، فاستعفاه وقال : أتريد ان تردني كافرا بعد إسلام ؟
فاغري الأخطل وكان نصرانيا فأجابه وهجا الأنصار هجاء مقذعا مشهورا .
قلت ان يزيد كان صورة صادقة لجده ابي سفيان ، يؤثر العصبية علي كل شيء .
وأنت لا تنكر ان يزيد هو صاحب وقعة الحرة التي انتهكت فيها حرمات الأنصار في المدينة ، والتي انتقمت فيها قريش من الذين انتصروا عليها في بدر , والتي لم تقم للأنصار بعدها قائمة .
ولأمر ما يقول الرواة حين يقصون وقعة الحرة إنه قتل فيها ثمانون من اللذين شهدوا بدرا ، اى من اللذين أذلوا قريش .
ولست في حاجة إلي أن أقص عليك هذه القصة الأخرى التي تمثل لنا عمرو بن العاص وقد ضاق ذرعا بالأنصار حتى كره اسمهم هذا ، وطلب إلي معاوية أن يمحوه ، واضطر النعمان بن بشير وهو الأنصاري الوحيد الذي شايع بني أمية إلي أن يقول :
يا سعد لا تجب الدعاء فما لنا = نسب نجيب به سوى الأنصار
نسب تخيره الإله لقومنا = أثقل به نسبا علي الكفار !
إن اللذين ثووا ببدر منكم = يوم القليب هم وقود النار

وقد سمع معاوية هذا الشعر فلام عمرا علي تسرعه ليس غير .
فلم يكن معاوية اقل بغضا للأنصار وتعصبا لقريش من مشيره عمرو، أو ولي عهده يزيد .
ولكن أصحاب هذه العصبية القرشية كانوا يتفاوتون فيما بينهم تفاوتا شديدا ، فكان منهم السرف كيزيد، والمقتصد كمعاوية .
وكان منهم من يتجاوز الاقتصاد في العصبية إلي شيء يشبه العطف علي الأنصار والرثاء لهم .
ولعل الزبير بن العوام كان من هؤلاء العاطفين علي الأنصار الراثين لهم الحافظين لعهدهم والراعين لوصية النبي فيهم ، فقد يحدثنا الرواة أنه مر بنفر من المسلمين فإذا فيهم حسان ينشدهم ، وهم غير حافلين بما يقول ، فلامهم علي ذلك وذكرهم موقع شعر حسان من النبي ،وأثر ذلك في نفس حسان فقال يمدحه - وأحب أن تلتفت إلي أول هذا الشعر ، فهو حسن الدلالة علي ما أريد أن اثبته من دخول الحزن علي نفوس الأنصار لهذا الموقف الجديد الذي وقفته منهم قريش :
أقام علي عهد النبي وهديه = حواريه والقول بالفعل يعدل
أقام علي مناهجه وطريقه = يوال ولي الحق والحق أعدل
هو الفارس المشهور والبطل الذي = يصول إذا ما كان يوم محجل
إذا ما كشفت عن ساقها الحرب حشها = بأبيض سباق إلي الموت يرقل
وإن أمرا كانت صفية أمه = ومن أسد في بيتها لمرفل
له من رسول الله قربي قربية = ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل
فكم كربة ذب الزبير بسيفه = عن المصطفي والله يعطي فيجزل
فما مثله فيهم ولا كان قبله = وليس يكون الدهر مادام يذبل
ثناؤك خير من فعال معاشر = وفعلك يابن الهاشمية أفضل


فأنظر إلي هذين البيتين في أول هذه المقطوعة كيف يمثلان ذكر حسان لعهد النبي وحزبه عليه وأسفه علي ما فات من موالاة النبي لهم وإنصافه إياهم .
ولكن بقية هذه الأبيات تدعوا إلي شيء من الاستطراد لا بأس به ، لأنه لا يتجاوز الموضوع كثيرا ، فقد يظهر من قراءة هذه الأبيات أنه قصد بها إلي الإلحاح في مدح الزبير وإحصاء مآثره وقد يظهر أن في أخرها ضعفا لا يلائم قوة أولها .
وقد روى هذه القصة نفر من أل الزبير ومن أحفاد عبد الله بن الزبير بالدقة .
أفتستبعد أن تكون عصبية الزبيريين قد مدت هذه الأبيات وطولتها وتجاوزت بها ما كان قد أراد حسان من الاعتراف بالجميل إلي ما كانت تريد العصبية الزبيرية من تفضيل الزبير علي منافسيه أو علي منافسي أبنه عبد الله بنوع خاص .
واستطرد آخر لا بأس به ، لأنه يثبت ما نحن فيه أيضا ، فقد ذكرت لك ما كان من هجاء الأخطل للأنصار .
وهم يتحدثون - كما رأيت - أن النعمان بن بشير غضب لهذا الهجاء وانشد بين يدي معاوية أبيات نرويها لك ، فستري فيها مثل ما رأيت في أبيات حسان من أثر هذه العصبية التي تضيف إلي الشعراء ما لم يقولوا .
وقد كان النعمان بن بشير في الأنصار يتعصب لقريش وبني أمية ، أو قل يمالئهم التماسا للدفع عندهم .
وقد تحدثوا أنه كان الأنصاري الوحيد الذي شهد " صفين " مع معاوية، كما كان الزبير من هذه القلة القرشية التي كانت تعطف علي الأنصار ذكرا لعهد النبي ، أو احتفاظا بمودة الأنصار ليوم الحاجة .
قال النعمان بن بشير لمعاوية :
معاوي ألا تعطينا الحق تعترف = لحي الأزد مشدودا عليها العمائم
أيشتمنا عبد الأراقم ضلة = ا لي ثأر دون قطع لسانه
فدونك من ترضيه عنك الدراهم = وراع رويدا لا تسمنا دنية
لعلك في غب الحوادث نادم = متي تلق منا عصبة خزرجية
وماذا الذي تجدي عليك الأراقم = فمأو الأوس يوما تخترمك المخارم
وتلقاك خيل كالقطا مستطيرة = شماطيط إرسال عليها الشكائم
يسومها العمران عمرو بن عامر = وعمران حتى تستباح المحارم
ويبدو من الخود العزيزة حجلها = وتبيض من هول السيوف المقادم
فنطلب شعب الصدع بعد التئامه = فتغريه فآلان والأ مر سالم
إلا فثوبي لأمة تبعية = تواريث آبائي وابيض صارم
واسمر خطى كأن كعوبه = بوى القسب فيها لهذمي خثارم
فإن كنت لم تشهد ببدر وقيعة = أذلت قريش والأنوف روا غم
فسائل بنا حيي لؤي بن غالب = وأنت بما يخفي من الأمر عالم
الم تتبدر يوم بدر سيوفنا = وليلك عما ناب قومك قاتم
ضربناكم حتى تفرق جمعكم = وطارت اكف منكم وجماجم
وعادت علي البيت الحرام عرائس = وأنت علي خوف عليك التمائم
وعضت قريش بالأنامل بغضة = ومن قبل ما عضت عليك الأداهم
فكنا لها فى كل آمر نكيدة = ما كان الشجا والأمر فيه تفاقم
فما إن رمي رام فأوهي صفاتنا = ولا ضامنا يوم من الدهر ضائم
وإني لأغضي م عن امور كثيرة = سترقي بها يوما إليك السلالم
أصانع فيها عبد شمس وإنني = لتلك التي في النفس مني أكاتم
فما أنت والأمر الذي لست أهله = ولكن ولي الحق والأمر هاشم
إليهم يصير الأمر عند شتاته = فمن لك بالأمر الذي هو لازم
بهم شرع الله الهدى فاهتدي بهم = ومنهم له هاد إمام وخاتم

فظاهر جدا أن هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة علي أقل تقدير قد حملت علي النعمان بن بشير حملا ، حملها عليه الشيعة .
ومع أننا نعلم أن الأنصار حين أخطأهم الحكم فأضطغنوا علي قريش مالوا بطبيعة موقفهم السياسي إلي تأييد الحزب المناويء لبني أمية ، فانضموا إلي علي ، فلسنا نشك في أن النعمانبن بشير لم يكن هاشمي المذهب ولا علوي الرأي ، إنما كان امويا أو بعبارة أصح : سفيانيا .
فلما أحس أنتقال الأمر من أل ابي سفيان إلي مروان بن الحكم تحول عن الأمويين إلي ابن الزبير وقتل في ذلك .
فأنت ترى إلي أي حد كانت العصبية قد انتهت بقريش والأنصار .
وأنت ترى تأثيرها في الشعر والشعراء .
وأن ترى من هذين الاستطرادين كيف استغلت العصبية الزبيرية والهاشمية شعر حسان وشعر النعمان بن بشير لمناهضة خصومها ولكني لم أفزع بعد من أمر هذه العصبية بين قريش والأنصار وتأثيرها في الشعر والشعراء ، ولا أريد أن أدع هذه العصبية دون أن أذكر ما كان بين عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن الحكم أخي الخليفة مروان من هذا النضال العنيف الذي تبق لنا منه أثار ضئيلة .
والرواة يختلفون في اصل هذه المهاجاة بين هذين الرجلين .
وهم مضطرون إلي أن يختلفوا فقد دخلت العصبية في الرواية أيضا .
أما الأنصار فكانوا يتحدثون أن هذين الرجلين كانا صديقين ، ولكن عبد الرحمن الأنصاري كان يحب امرأة صاحبة القرشي ويختلف إليها ، فبلغ ذلك صاحبه فراسل امرأة عبد الرحمن بن حسان ، وأنبأت هذه زوجها فأحتال حتى حمل امرأة صاحبة علي أن تزوره في بيته ، وأخفاها في أحدى الحجر ، واحتالت امرأة حتى حملت القرشي علي أن يزورها ، فلما استقر به المقام عندها أقبل زوجها فأرادت أن تخفيه فأدخلته في أحدى الحجر فإذا هو يرى امرأته ، ففسد الأمر بين الصديقين .
وأما قريش فكانت تروي القصة نفسها ، ولكنها تعكسها وتظهر صاحبها مظهر الوفي لصديقه بأنه كانت تأتيه رسائل امرأة عبد الرحمن بن حسان فلا يجيبها إلي ما كانت تريد رعاية لحرمة الصديق .
وليس من شك في أن هذه القصة خيال كانت تتفكه به الأنصار وقريش بعد أن هدأت نار الخصومة العملية بسنهما ، وأن ما يرويه صاحب الأغاني عن أصل هذه المهاجاة بعيد كل البعد عن النساء : كان الصديقان يتصيدان بأكلب لهما ، فقال القرشي لصاحبه :
ازجر كلابك إنها قلطية = بقع ومثل كلابك لم تصطد
فرد عليه ابن حسان
من كان يأكل من فريسة صيده = فالتمر يغنينا عن المتصيد
إنا أناس ريقون وأمكم = ككلابكم في الولع والمتمرد
حزناكم للضب تحترشونه = والريف يمنعكم بكل مهند
وعظم الشر بين الصديقين منذ ذلك اليوم .
ولعل عبد الرحمن بن حسان قد أحسن تصوير نفسية الأنصار حين قال :
صار الذليل عزيزا والعزيز به = ذل وصار فروع الناس أذنابا
إني لملتمس حتى يبين لكم = فيكم متى كنتم للناس أربابا
وفارقوا طلعكم ثم أنظروا وسلوا = عنا عنكم قديم العلم انسابا

علي أن الأمر تجاوز هذين الشاعرين ، فاستعان القرشي بشعراء من مضر وربيعة .
ثم تجاوز الأمر الشعر والشعراء إلي معاوية ، فأرسل إلي سعيد بن العاص ، كان واليه علي المدينة ، يأمره بأن يضرب كلا من الشاعرين مائة سوط ، وكان سعيد عطوفا علي الأنصار في ايام معاوية كما كان الزبير عطوفا عليهم أيام عمر ، وكانت بين سعيد وعبد الرحمن بن حسان مودة فكره أن يضربه ، وكره أيضا أن يضرب القرشي فعطل أمر معاوية .
غير أنه لم يلبث أن ترك ولاية المدينة لمروان بن الحكم الذي اسرع فتعصب لأخيه وضرب عبد الرحمن ابن حسان مائة سوط .
هنا ذكر عبد الرحمن بن حسان أن للأنصار سفيرا في الشام هو النعمان بن بشير فكتب إليه :
ليت شعري أغائب انت بالشام = خليلي ام راقد نعمان
أية ما تكن فقد يرجع الغائب = يوما ويوقظ الوسنان
إن عمرا وعامرا أبوينا = وحراما قدما علي العهد كانوا
إنهم مانعوك أم قلة الكتاب = أم أنت عاتب غضبان
أم جفاء أم أعوزتك القراطيس = أم أمري به عليك هوان
يوم أنبئت أن ساقي رضات = وأنتكم بذلك الركبان
ثم قالوا إن ابن عمك في بلوي = أمور أتي بها الحدثان
فنسيت الأرحام والود والصحبة = فيما أتت به الأزمان
إنما الرمح فاعلمن قناة = أو كبعض العيدان لولا السنان

قالوا : فدخل النعمان بن بشير علي معاوية ، فذكر له أن سعيد عطل أمره ، وأن مروان نفذه في الأنصاري وحده ، قال معاوية : فتريد ماذا ؟
قال النعمان : أريد أن تعزم علي مروان ليمضين أمرك في الرجلين جميعا .
ويروى أن النعمان قال في ذلك هذه الأبيات :
يابن أبي سفيان ما مثلنا = جار عليه ملك أو أمير
اذكر بنا مقدم أفراسنا = بالحنو إذا أنت ألينا فقير
واذكر غداة الساعدي الذي = آثركم بالأمر فيها بشير
فاحذر عليهم مثل بدر وقد = مر بكم ببدر يوم عسير
إن ابن حسان له ثائر = فأعطه الحق تصح الصدور
ومثل أيام لنا شتت = ملكا لكم أمرك فيها صغير
أما ترى الأزد وأشياعها = تجول خزرا كاظمات تزير
يصول حولي منهم معشر = إن صلت صالوا وهم لي نصير
يأبي لنا الضيم فلا نعتلي = عز منيع وعديد كثير
وعنصر في عز جرثومة = عادية تنقل عنها الصخور

وانتهي أمر معاوية إلي مروان ، فضرب أخاه خمسين سوطا ، وأستعفي عبد الرحمن بن حسان في الباقي فعفي .
ولكنه أخذ يذيع في المدينة أن مروان قد ضربه حد الحر مائة سوط وضرب أخاه حد العبد خمسين .
فشقت هذه المقالة علي عبد الرحمن بن الحكم وأقبل علي أخيه فطلب أن يتم عليه المائة ففعل .
واتصل الهجاء بين الرجلين .
ولقد يستطيع الكاتب في التاريخ السياسي أن يضع كتابا خاصا ضخما في هذه العصبية بين قريش والأنصار ، وما كان لها من التأثير في حياة المسلمين أيام بني أمية ، لا نقول في المدينة ومكة ودمشق ، بل نقول في مصر وأفريقيا والأندلس .
ويستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرا مستقلا في ما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام ، وفي الشعر الذي انتحله الفريقان علي شعرائهما في الجاهلية .
هذا دون أن يتجاوز المؤرخ السياسي أو الأدبي الخصومة بين قريش والأنصار ، فكيف إذا تجاوزها إلي الخصومة بين القبائل الأخرى !
ذلك أن العصبية لم تكن مقصورة علي أهل مكة والمدينة ، ولكنها تجاوزتهم إلي العرب كافة ، فتعصبت العدنانية علي اليمنية ، وتعصبت مضر علي بقية عدنان ، وتعصبت ربيعة علي مضر .
وانقسمت مضر نفسها فكانت فيها العصبية القيسية والتميمية والقرشية .
وانقسمت ربيعة فكانت فيها عصبية تغلب وعصبية بكر .
وقل مثل ذلك في اليمن ، فقد كانت للأزد عصبيتها ، ولحمير عصبيتها ، ولقضاعة عصبيتها .
وكانت كل هذه العصبيات تتشعب وتتفرع وتمتد أطرافها وتتشكل بأشكال الظروف السياسية والإقليمية التي تحيط بها ، فلها شكل في الشام ، وآخر في العراق ، وثالث في خراسان ، ورابع في الأندلس .
وأنت تعلم حق العلم أن هذه العصبية هي التي ازالت سلطان بني أمية ، لأنهم عدلوا عن سياسة النبي التي كانت تريد محو العصبيات ، وأرادوا أن يعتزوا بفريق من العرب علي فريق .
قووا العصبية ثم عجزوا عن ضبطها ، فأدالت منهم ، بل أدالت من العرب إلي الفرس .
وإذا كان هذا تأثير العصبية في الحياة السياسية وقد رأيت طرفا يسيرا من تأثيرها في الشعر والشعراء، فأنت تستطيع أن تتصور هذه القبائل العربية في هذا الجهاد السياسي العنيف ، تحرص كل واحدة منها علي أن يكون قديمها في الجاهلية خير قديم ، وعلي أن يكون مجدها في الجاهلية رفيعا مؤثلا بعيد العهد .
وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر الجاهلي ، لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد ، وإنما كانت ترويه حفظا .
فلما كان ما كان في الإسلام من حرب الردة ثم الفتوح ثم الفتن ، قتل من الرواة والحفاظ خلق كبير .
ثم اطمأنت العرب في الأمصار أيام بني أمية وراجعت شعرها ، فإذا أكثره قد ضاع ، وإذا اقله قد بقي .
وهي بعد في حاجة إلي الشعر تقدمه وقودا لهذه العصبية المضطرمة .
فاستكثرت من الشعر وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال ونحلتها شعراءها القدماء .
ليس هذا شيئا نفترضه نحن أو نستنبطه استنباطا ، وإنما هو شيء كان يعتقده القدماء أنفسهم .
وقد حدثنا به محمد بن سلام في كتابه " طبقات الشعراء " وهو يحدثنا بأكثر من هذا ، يحدثنا بأن العرب كانت أقل شعرا في الجاهلية ، فاضطرها ذلك غلي أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الإسلام .
وابن سلام يحدثنا عن يونس ابن حبيب أنه نقل عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : ما بقي لكم من شعر الجاهلية إلا اقله ولو جاءكم علم وشعر كثير .
ولابن سلام مذهب من الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع لابأس بأن نلم به المامة قصيرة.
فهو يرى أن طرفة بن العبد وعبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدهم تقدما ز وهو يرى أن الرواة الصحيحين لم لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر .
فهو يقول : أن لم يكن هذان الشاعران قد قالا ما يحفظ لهما فهما لا يستحقا هذه الشهرة وهذا التقدم ، وإذن فقد قالا شعرا كثيرا ولكنه ضاع ، ولم يبق منه إلا القليل .
وشق علي الرواة أو غير الرواة أن يروى لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر فأضافوا إليهما ما لم يقولا ، وحمل عليهما كما يقول أبن سلام حملا كثيرا .
ولكن ابن سلام لا يقف عند هذا الحد ، بل هو ينقد ما يرويه ابن إسحاق وغيره من أصحاب السير من الشعر يضيفونه إلي عاد وثمود وغيرهم ، ويؤكد أن هذا الشعر منحول مختلق .
وأي دليل علي ذلك اوضح من هذه النصوص القرآنية التي تثبت أن الله قد أباد عادا وثمود ولم يبق منهم باقية !
وسنعرض بعد قليل لهذا النحو من شعر عاد وثمود وغير عاد وثمود.
ولكننا إنما ذكرناه الآن لنبين كيف كان القدماء يتبينون كما نتبين ويحسون كما نحس أن هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين أكثره منحولا ، لأسباب منها السياسي ومنها غير السياسي .
كان القدماء يتبينون هذا .
ولكن مناهجهم في النقد كانت أضعف من مناهجنا ، فكانوا يبدءون ثم يقصرون عن الغاية .
ومن هنا زعم ابن سلام أنه يستطيع أن يروي لنا شيئا من أولية الشعر العربي .
فروي أبياتا تنسب لجزيمة الأبرش ، وأخرى تنسب لزهير ابن جناب ، ونحو هذا وسترى أننا نحن لا نستطيع أن نقبل هذا الشعر ، كما أن ابن سلام لم سستطع أن يقبل شعر عاد وثمود .
ومهما يكن من شيء فإن هذا الفصل الطويل ينتهي بنا إلي نتيجة نعتقد أنها لا تقبل الشك ، وهي أن العصبية وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من اهم السباب التي حملت العرب علي انتحال الشعر وإضافته إلي الجاهليين .
وقد رأيت أن القدماء قد سبقونا إلي هذه النتيجة .
وأريد ان ترى أنهم قد شقوا بها شقاء كثيرا .
فإن ابن سلام يحدثنا بأن أهل العلم قادرون علي أن يميزوا الشعر الذي ينتحله الرواة في سهولة ، ولكنهم يجدون مشقة وعسر في تمييز الشعر الذي ينتحله العرب أنفسهم ، ونحن لا نقف عند استخلاص هذه النتيجة وتسجيلها ، وإنما نستخلص منها قاعدة علمية وهي أن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يسمي جاهليا أن يشك في صحته كلما رأى من شأنه تقوية العصبية أو تأييد فريق من العرب علي فريق .
ويجب أن يشتد هذا الشك كلما كانت القبيلة أو العصبية التي يؤيدها هذا الشعر قبيلة أو عصبية قد لعبت - كما يقولون - دورا في الحياة السياسية للمسلمين .



.../...
 
3- الدين وانتحال الشعر

ولم تكن العواطف والمنافع الدينية أقل من العواطف والمنافع السياسية أثرا في تكلف الشعر وانتحاله وإضافته إلي الجاهليين ، لا نقول في العصور المتأخرة وحدها ، بل فيها وفي العصر الأموي أيضا .
وربما ارتقى عصر الانتحال المتأثر بالدين إلي ايام الخلفاء الراشدين أيضا، ولو أن لدينا من سعة الوقت وفراغ البال ما يحتاج إليه هذا الموضوع للهونا وألهينا القاريء بنوع من البحث لا يخلو من فائدة علمية وأدبية قيمة ، وهو أن نضع تاريخا لهذا الانتحال المتأثر بالدين .
فنحن نرى أنه تشكل إشكالا مختلفة دعت إليها الظروف المختلفة التي أحاطت بالحياة الدينية للعرب خاصة وللمسلمين عامة .
فكل هذا الانتحال في بعض أطواره يقصد به إلي إثبات صحة النبوة وصدق النبي ، وكان هذا النوع موجها إلي عامة الناس .
وأنت تستطيع أن تحمل علي كل هذا كل ما يروى من هذا الشعر الذي قيل في الجاهلية ممهدا لبعثة النبي وكل ما يتصل به من هذه الأخبار والأساطير التي تروى لتقنع العامة بأن علماء العرب وكهانهم وأحبار اليهود ورهبان النصارى كانوا ينتظرون بعثة نبي عربي يخرج من قريش أو من مكة .
وفي سيرة ابن هشام وغيرها من كتب التاريخ والسير ضروب كثيرة من هذا النوع .
وأنت تستطيع أن تحمل علي هذا لونا آخر من الشعر المنتحل لم يضف إلي الجاهليين من عرب الإنس وإنما أضيف إلي الجاهليين من عرب الجن .
فقد يظهر أن الأمة العربية لم تكن أمة من الناس الذين ينتسبون إلي آدم ليس غير ، وإنما كان بإزاء هذه الأمة الإنسية أمة أخرى من الجن كانت تحيا حياة الأمة الإنسية وتخضع لما تخضع له من المؤثرات ، وتحس مثلما تحس ، وتتوقع مثل ما تتوقع .
وكانت تقول الشعر وكان شعرها أجود من شعر الإنس ، بل كان شعراؤها هم الذين يلهمون شعراء الإنس فأنت تعرف قصة عبيد وهبيد .
وأنت تعرف أن الأعراب والرواة قد لهو بعد الإسلام بتسمية الشياطين الذين كانوا يلهمون الشعراء قبل النبوة وبعدها .
وفي القرآن سورة تسمي " سورة الجن " أنبأت بأن الجن استمعوا للنبي وهو يتلو القرآن فلانت قلوبهم وآمنوا بالله ورسوله ، وعادوا فأنذروا قومهم ودعوهم إلي الدين الجديد .
وهذه السورة تنبيء أيضا بأن الجن كانوا يصعدون في السماء يسترقون السمع ، ثم يهبطون وقد ألموا إلماما يختلف قوة وضعفا بأسرار الغيب ، فلما قارب زمن النبوة حيل بينهم وبين استراق السمع فرجموا بهذه الشهب وانقطعت أخبار السماء عن أهل الأرض حينا .
فلم يكد القصاص والرواة يقرءون هذه السورة وما يشبهها من الآيات التي فيها حديث عن الجن حتى ذهبوا في تأويلها كل مذهب واستغلوها استغلالا لا حد له ، وأنطقوا الجن بضروب من الشعر وفنون من السجع ، ووضعوا علي النبي نفسه أحاديث لم يكن بد منها لتأويل آيات القرآن علي النحو الذي يريدونه ويقصدون إليه .
وأعجب من هذا أن السياسة نفسها قد اتخذت الجن أداة من أدواتها وأنطقتها بالشعر في العصر الإسلامي نفسه .
فقد أشرنا في الفصل السابق إلي ما كان من قتل سعد بن عبادة ، ذلك الأنصاري الذي أبي أن يذعن بالخلافة لقريش ، وقلنا أنهم تحدثوا أن الجن قد قتلته .
وهم لم يكتفوا بهذا الحديث ، وإنما رووا شعرا قالته الجن تفتخر فيه بقتل سعد بن عبادة هذا :

قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده = ورميناه بسهمين فلم نخطيء فؤاده

وكذلك قالت الجن شعرا رثت فيه عمر بن الخطاب

أبعد قتيل بالمدينة أظلمت = له الأرض تهتز العضاه بأسوق
جزى الله خيرا من إمام وباركت = يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة = ليدرك ما حاولت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها = بوائق في أكمامها لم تفتق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته = بكفي سبتني أزرق العين مطرق

والعجب أن أصحاب الرواية مقتنعون بأن هذا الكلام من شعر الجن .
وهم يتحدثون في شيء من الإنكار والسخرية بأن الناس قد أضافوا هذا الشعر إلي الشماخ بن ضرار .
ولنعد إلي ما نحن فيه فقد أظهرناك علي نحو من الشعر علي الجن والإنس باسم الدين .
والغرض من هذا الانتحال - فيما نرجح - إنما هو إرضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة في كل شيء ، ولا يكرهون أن يقال لهم أن من دلائل صدق النبي في رسالته أنه كان منتظرا قبل أن يجيء بدهر طويل ، تحدثت بهذا الانتظار شياطين الجن وكهان الإنس وأحبار اليهود ورهبان النصارى .
وكما أن القصاص والمنتحلين قد اعتمدوا علي الآيات التي ذكرت فيها الجن ليخترعوا ما اخترعوا من شعر الجن وأخبارهم المتصلة بالدين فهم قد اعتمدوا علي القرآن أيضا فيما رووا أو انتحلوا من الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلي الأخبار والرهبان .
فالقرآن يحدثنا بأن اليهود والنصارى يجدون النبي مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
وإذن فيجب أن تخترع القصص والأساطير وما يتصل بها من الشعر ليثبت أن المخلصين من الأحبار والرهبان كانوا يتوقعون بعثة النبي ويدعون الناس إلي الإيمان به حتى قبل أن يظل الناس زمانه .
ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلي الجاهليين ، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش .
فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم ، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف ، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي ، وأن يكون قصي صفوة قريش .
وقريش صفوة مضر ومضر صفوة عدنان ، وعدنان صفوة العرب ، والعرب صفوة الإنسانية كلها .
وأخذ القصاص يجتهدون في تثبيت هذا النوع من التصفية والتنقية وما يتصل منه بأسرة النبي خاصة ، فيضيفون إلي عبد الله وعبد المطلب وهاشم وعبد مناف وقصي من الأخبار ما يرفع شأنهم ويعلي مكانتهم ويثبت تفوقهم علي قومهم خاصة وعلي العرب عامة .
وأمن نعلم أن طبيعة القصص عند العرب تستتبع الشعر ، ولا سيما إذا كانت العامة هي التي تراد بهذا القصص .
وهنا تتظاهر العواطف الدينية والعواطف السياسية علي انتحال الشعر .
فقد أرادت الظروف أن تكون الخلافة والملك في قريش رهط النبي ، وأن تختلف قريش حول هذا الملك فيستقر حينا في بني أمية وينتقل منهم إلي بني هاشم رهط النبي الأدنين .
ويشتد التنافس بين أولئك وهؤلاء ، ويتخذ أولئك وهؤلاء القصص وسيلة من وسائل الجهاد السياسي .
فأما في أيام بني أمية فيجتهد القصاص في أثبات ما كان لأمية من مجد في الجاهلية .
وأما في أيام العباسيين فيجتهد القصاص إثبات ما كان لبني هاشم من مجد في الجاهلية .
وتشتد هذه الخصومة بين قصاص هذين الحزبين السياسيين ، وتكثر الروايات والأخبار والأشعار .
ثم لا يقتصر الأمر علي هذين الصنوين من بني عبد مناف ، فالأرستقراطية القرشية كلها طموحة إلي المجد حريصة علي أن يكون لها حظ منه في قديمها كما أن لها حظا منه في حديثها.
وإذن فالبطون القرشية علي اختلافها تنتحل الأخبار والأشعار وتغري القصاص وغير القصاص بانتحالها .
ولا أصل لهذا كله إلا أن قريشا رهط النبي من ناحية ، وأن الملك قد استقر فيها من ناحية أخرى .
فأنظر إلي تعاون العواطف الدينية والسياسية علي انتحال الشعر أيام بني أمية وبني العباس .
ولست في حاجة إلي أن أضرب لك من الأمثال .
فأنت تستطيع أن تنظر في سيرة ابن هشام وغيرها من كتب السير والتاريخ لترى من هذا كله الشيء الكثير .
وإنما أضرب لك مثلا واحدا يوضح ما ذهبت إليه من أن بطون قريش كانت تحث علي انتحال الشعر منافسة للأسرة المالكة أموية كانت أو هاشمية .
وهذه القصة التي سأرويها تمس رهط بني مخزوم من قريش ، وهي تعطيك مثلا صادقا قويا لحرص قريش علي انتحال الشعر لا تتحرج في ذلك ولا ترعى فيه صدقا ولا دينا .
تحدث صاحب الأغاني بإسناد له عن عبد العزيز بن أبي نهشل قال : قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث ابن هشام وجئته اطلب منه مغرما : يا خال هذه أربعة آلاف درهم وانشد هذه الأبيات الأربعة وقل سمعت حسان ينشدها رسول الله صلي الله عليه وسلم ؛ فقلت أعوذ بالله أن أفتري علي الله ورسوله ، ولكن إن شئت أن أقول سمعت عائشة تنشدها فعلت.
فقال لا ، إلا أن تقول سمعت حسان ينشدها رسول الله صلي الله عليه وسلم ورسول الله صلي الله عليه وسلم جالس ؛ فأبي علي وأبيت عليه .
فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليال .
فأرسل إلي فقال قل أبياتا تمدح بها هشاما - يعني ابن المغيرة - وبني أمية ؛ فقلت سمهم لي ؛ فسماهم ، وقال اجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك ؛ فقلت :
ألا لله قوم ولدت أخت بني سهم = هشام وأبو عبد مناف مدرة الخصم
وذو الرمحين أشباك علي القوة والحزم = فهذان يذودان وذا عن كثب يرمي
أسود تزدهي الأفران مناعون للهضم = وهم يوم عكاظ منعوا الناس من الهزم
وهم من ولدوا أشبوا بسر الحسب الضخم = فإن أحلف وبيت لله لا أحلف علي إثم
لما من أخوة تبني قصور الشام والردم = بأزكى من بني ربطة أو أوزن في الحلم

قال : ثم جئت فقلت : هذه قالها أبي ؛ فقال لا ولكن قل قالها ابن الزبعري ؛ قال فهي إلي الآن منسوبة في كتب الناس إلي ابن الزبعري .
فأنظر إلي عبد الرحمن ابن الحارث ابن هشام كيف أراد صاحبه علي أن يكذب وينتحل الشعر علي حسان ؛ ثم لا يكفيه هذا الانتحال حتى يذيع صاحبه أنه سمع حسانا ينشد هذا الشعر بين يدي النبي ، كل ذلك بأربعة الآلاف درهم .
ولكن صاحبنا كره أن يكذب علي النبي بهذا المقدار ، وأستباح أن يكذب علي عائشة .
وعبد الرحمن لا يرضيه إلا الكذب علي النبي ؛ فاختصما .
وكلاهما شديد الحاجة إلي صاحبه ، هذا يريد شعرا لشاعر معروف ، والآخر يريد المال ؛ فيتفقان آخر الأمر علي ان ينحل الشعر عبد الله بن الزبعري شاعر قريش .
ومثل هذا كثير .
نحو آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وهو هذا الذي يلجأ إليه القصاص لتفسير ما يجدونه مكتوبا في القرآن من أخبار الأمم القديمة البائدة كعاد وثمود ومن إليهم .
فالرواة يضيفون إليهم شعرا كثيرا .
وقد كفانا ابن سلام نقده وتحليله حين جد في طبقات الشعراء في إثبات أن هذا الشعر وما يشبهه مما يضاف إلي تبع وحمير موضوع منتحل ، وضعه ابن إسحاق ومن إليه من أصحاب القصص .
و ابن إسحاق ومن إليه من أصحاب القصص لا يكتفون بالشعر يضيفونه إلي عاد وثمود وتبع وحمير ، وإنما هم يضيفون الشعر إلي آدم نفسه ، فهم يزعمون أنه رثى هابيل حين قتله أخوه قابيل .
ونظن أن من الإطالة والإملال أن نقف عند هذا النحو من السخف .
ونحو آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر ، وذلك حين ظهرت الحياة العلمية عند العرب بعد أن اتصلت الأسباب بينهم وبين الأمم المغلوبة .
فأرادوا هم أو الموالي أو أولئك وهؤلاء أن يدوسوا القرآن درسا لغويا ويثبتوا صحة ألفاظه ومعانيه .
ولأمر ما شعروا بالحاجة إلي إثبات أن القرآن كتابا عربيا مطابق في ألفاظه للغة العرب .
فحرصوا علي أن يستشهدوا علي كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيل إلي الشك في عربيتها .
وأنت توافقني في غير مشقة علي أن من العسير كما قدمت في الكتاب الأول أن نطمئن إلي كل هذا الشعر الذي يستشهد به الرواة والمفسرون علي ألفاظ القرآن ومعانيه .
وقد عرفت رأينا في ذلك وفي قصة عبد الله بن عباس ونافع ابن الأزرق ، فلا حاجة إلي أن نعيد القول فيه .
وإنما نعيد شيئا واحدا وهو أننا نعتقد أنه إذا كان هناك نص عربي لا تقبل لغته شكا ولا ريبا وهو لذلك أصدق مصدر للغة العربية فهو القرآن .
وبنصوص القرآن وألفاظه يجب أن نستشهد علي صحة ما يسمونه الشعر الجاهلي بدل أن نستشهد بهذا الشعر علي نصوص القرآن .
ولست أفهم كيف يمكن أن يتسرب الشك إلي عالم جاد في عربية القرآن واستقامة ألفاظه وأساليبه ونظمه علي ما عرف العرب أيام النبي من لفظ ونظم وأسلوب !
وإنما هناك مسألة أخرى وهي أن العلماء وأصحاب التأويل من الموالي بنوع خاص لم يتفقوا في كثير من الأحيان علي فهم القرآن وتأويل نصوصه ، فكانت بينهم خصومات في التأويل والتفسير .
وعن هذه الخصومات نشأت خصومات أخرى بين الفقهاء وأصحاب التشريع .
وهنا نوع جديد من تأثير الدين في انتحال الشعر .
فهذه الخصومات بين العلماء كان لها تأثير غير قليل في مكانة العالم وشهرته ورأي الناس فيه وثقة الأمراء والخلفاء بعلمه .
ومن هنا كان هؤلاء العلماء حراصا علي أن يظهروا دائما مظهر المنتصرين في خصوماتهم الموفقين إلي الحق والصواب فيما يذهبون إليه من رأي .
وأي شيء يطيح لهم هذا مثل الاستشهاد بما قالته العرب قبل نزول القرآن !
وقد كثر استغلالهم لهذا الاستشهاد فاستشهدوا بشعر الجاهليين علي كل شيء وأصبحت قراءة الكتب الأدبية واللغوية وكتب التفسير والمقالات تترك في نفسك أثرا قويا وصورة غريبة لهذا الشعر الجاهلي ، حتى ليخيل إليك أن أحد هؤلاء العلماء علي اختلاف ما كان ينظر فيه من فروع العلم لم يكن عليه إلا أن يمد يده إذا احتاج فيظفر بما شاء الله من كلام العرب قبل الإسلام كأن كلام العرب قبل الإسلام قد وعي كل شيء وأحصي كل شيء .
هذا وهم مجمعون علي أن هؤلاء الجاهليين الذين قالوا في كل شيء كانوا جهلة غلاظا فظاظا .
أفترى إلي هؤلاء الجهال الغلاظ يستشهد بجهلهم وغلظتهم علي ما انتهت إليه الحضارة العباسية من علم ودقة فنية !
فالمعتزلة يثبتون مذاهبهم بشعر العرب الجاهليين .
وغير المعتزلة من أصحاب المقالات ينقضون آراء المعتزلة معتمدين علي شعر الجاهليين .
وما أرى إلا أنك ضاحك مثلي أمام هذا الشطر الذي رواه بعض المعتزلة ليثبت أن كرسي الله الذي هو وسع السماوات والأرض هو علمه ؛ وهذا الشطر هو قول الشاعر ( المجهول طبعا ) : " ولا بكرسي علم الله مخلوق " .
وكذلك أصحاب العلم علي الجاهليين كثير لا سبيل إلي إحصائه أو استقصائه .
فهو ليس مقصورا علي رجال الدين وأصحاب التأويل والمقالات ورجال اللغة وأهل الأدب ، وإنما هو يجاوزهم إلي غيرهم من الذين قالوا في العلم مهما يكن الموضوع الذي تناولوه .
لأمر ما كان البدع في العصر العباسي عند فريق من الناس أن يرد كل شيء إلي العرب حتى الأشياء التي استحدثت أو جاء بها المغلوبون من الفرس والروم وغيرهم .
وإذا كان الأمر كذلك فليس لانتحال الشعر علي الجاهليين حد .
وأنت إذا نظرت في كتاب الحيوان للجاحظ رأيت من هذا الانتحال ما يقنعك ويرضيك .
ولكني لا أريد أبعد عما أنا فيه من تأثير العواطف والمنافع الدينية في انتحال الشعر وإضافته إلي الجاهليين .
وقد رأينا إلي الآن فنونا من هذا التأثير ولكننا لم نصل بعد إلي أعظم هذه الفنون كلها خطرا وابعدها أثرا وأشدها عبثا بعقول القدماء والمحدثين ، وهو هذا النوع الذي ظهرعندما استأنف الجدال في الدين بين المسلمين وأصحاب الملل الأخرى ، ولا سيما اليهود والنصارى .
هذا الجدل الذي قوي بين النبي وخصومة ، ثم هدأ بعد أن تم انتصار النبي علي اليهود والوثنيين في بلاد العرب ، وانقطع أو كاد ينقطع أيام الخلفاء الراشدين ؛ لأن الكلمة في أيام هؤلاء لم تكن للحجة ولا للسان ، وإنما كانت لهذا السيف الذي أزال سلطان الفرس وأقتطع من دولة الروم الشام وفلسطين ومصر وقسما من أفريقيا الشمالية .
فلما انتهت هذه الفتوح واستقر العرب في الأمصار واتصلت الأسباب بينهم وبين المغلوبين من النصارى وغير النصارى استؤنف هذا الجدال وأخذ صورة أقرب إلي النضال منها إلي شيء آخر .
وذهب المجادلون في هذا النوع من الخصومة مذاهب لا تخلو من الغرابة نحب أن نشير إلي بعضها في شيء من الإيجاز .
أما المسلمين فقد أرادو أن يثبتوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي ، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلي الأنبياء من قبل .
فليس غريبا أن نجد قبل الإسلام قوما يدينون بالإسلام أخذوه من هذه الكتب السماوية التي أوحيت قبل القرآن .
والقرآن يحدثنا عن هذه الكتب ، فهو يذكر التوراة والإنجيل ويجادل فيهما اليهود والنصارى .
وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئا آخر هو صحف إبراهيم .
ويذكر غير دين اليهود والنصارى دين آخر هو ملة إبراهيم ، هو هذه الحنيفية التي لم نستطيع إلي الآن أن نتبين معناها الصحيح .
وإذا كان اليهود قد استأثروا بدينهم وتأويله ، وكان النصارى قد استأثروا بدينهم وتأويله ، وكان القرآن قد وقف من أولئك وهؤلاء موقف من ينكر عليهم صحة ما يزعمون ، فطعن في صحة ما بين أيديهم من التوراة والإنجيل واتهمهم بالتحريف والتغيير ، ولم يكن أحد قد أحتكر ملة إبراهيم ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويلها ، فقد أخذ المسلمون يردون الإسلام في خلاصته إلي دين إبراهيم هذا الذي هو أقدم وانقي من دين اليهود والنصارى .
وشاعت في العرب أثناء ظهور وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم .
ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت إلي عبادة الأوثان .
ولم يحتفظ بدين إبراهيم إلا أفراد قليلون يظهرون من حين إلي حين .
وهؤلاء الأفراد يتحدثون فنجد من أحاديثهم ما يشبه الإسلام .
وتأويل ذلك يسير ، فهم أتباع إبراهيم ، ودين إبراهيم هو الإسلام .
وتفسير هذا من الوجهة العلمية يسير أيضا ، فأحاديث هؤلاء الناس قد وضعت لهم وحملت عليهم حملا بعد الإسلام لا لشيء إلا ليثبت أن للإسلام في بلاد العرب قدمه وسابقة .
وعلي هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلي الجاهليين والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن من الحديث شبه قوي أو ضعيف .
وهنا نصل إلي مسألة عني بها الباحثون عن تاريخ القرآن من الفرنج والمستشرقين خاصة ، وهي تأثير المصادر العربية الخالصة في القرآن .
فقد كان هؤلاء الباحثون يرون أن القرآن تأثر باليهودية والنصرانية ومذاهب أخرى بين بين كانت شائعة في البلاد العربية وما جاورها .
ولكنهم رأوا أن يضيفوا إلي هذه المصادر مصدرا عربيا خالصا ؛ والتمسوا هذا المصدر من شعر العرب الجاهليين ، ولاسيما الذين كانوا يتمنعون منهم .
وزعم الأستاذ ( كليمان هوار ) - في فصل طويل نشرته له المجلة الأسيوية سنة 1804 - أنه قد ظفر من ذلك بشيء قيم واستكشف مصدرا جديدا من مصادر القرآن ، هذا الشيء القيم وهذا المصدر الجديد هو شعر أمية بن أبي الصلت .
وقد أطال الأستاذ ( هوار ) في هذا البحث وقارن بين هذا الشعر الذي ينسب إلي أمية ابن أبي الصلت وبين آيات القرآن ، وانتهي من هذه المقارنة إلي نتيجتين :

( الأولى ) أن هذا الشعر الذي ينسب لأمية ابن أبي الصلت صحيح لأن هناك فروقا بين ما جاء فيه وما جاء في القرآن من تفصيل بعض القصص ، ولو كان منتحلا لكانت المطابقة تامة بينه وبين القرآن .
وإذا كان هذا الشعر صحيحا ، فيجب في رأي الأستاذ ( هوار ) أن يكون النبي قد استعان به قليلا أو كثيرا في نظم القرآن .
( الثانية ) أن صحة هذا الشعر واستعانة النبي به في نظم القرآن قد حملتا المسلمين علي محاربة شعر أمية ابن أبي الصلت ومحوه ليستأثر القرآن بالجدة وليصح أن النبي قد انفرد بتلقي الوحي من السماء .


وعلي هذا النحو استطاع الأستاذ ( هوار ) أو خيل أليه أنه استطاع أن يثبت أن هناك شعرا جاهليا صحيحا ، وأن هذا الشعر الجاهلي قد كان له أثر في القرآن .
ومع أني من أشد الناس إعجابا بالأستاذ ( هوار ) وبطائفة من أصحابه المستشرقين وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان من النتائج العلمية القيمة في تاريخ الأدب العربي وبالمناهج التي يتخذونها للبحث ، فأني لا استطيع أن أقرأ مثل هذا الفصل الذي أشرت إليه آنفا دون أن أعجب كيف يتورط العلماء أحيانا في مواقف لا صلة بينها وبين العلم .
وليس يعنيني هنا أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أو لا يكون ، فأنا لا أؤرخ القرآن ، وأنا لا أزود عنه ولا أتعرض للوحي وما يتصل به ، ولا للصلة بين القرآن وما كان يتحدث به اليهود والنصارى .
وإنما الذي يعنيني هو شعر أمية بن أبي الصلت وأمثاله من الشعراء .
والغريب من أمر المستشرقين في هذا الموضوع وأمثاله أنهم يشكون في صحة السيرة نفسها ويتجاوز بعضهم الشك إلي الجحود ، فلا يرون في السيرة مصدرا تاريخيا صحيحا ، وإنما هي عندهم كما ينبغي أن تكون عند العلماء جميعا : طائفة من الأخبار والأحاديث تحتاج إلي التحقيق والبحث العلمي الدقيق ليمتاز صحيحها من منتحلها .
هم يقفون هذا الموقف العلمي من السيرة ويغلون في هذا الموقف ؛ ولكنهم يقفون من أمية بن أبي الصلت وشعره موقف المستيقن المطمئن ، مع أن أخبار أمية ليست ادني إلي الصدق ولا أبلغ في الصحة من أخبار السيرة .
فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلي نحو من الأخبار دون النحو الآخر ؟ أيمكن أن يكون المستشرقين أنفسهم لم يبرءوا من هذا التعصب الذي يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات ؟
أما أنا فلست مستشرقا ولست رجلا من رجال الدين .
وإنما أريد أن اقف من شعر أمية بن أبي الصلت نفس الموقف العلمي الذي وقفته من شعر الجاهليين جميعا .
وحسبي أن شعر أمية ابن أبي الصلت لم يصل إلينا إلا من طريق الرواية والحفظ لأشك في صحته كما شككت في شعر أمريء القيس والأعشى وزهير ، وأن لم يكن لهم من النبي موقف أمية بن أبي الصلت .
ثم أن هذا الموقف نفسه يحملني علي أن ارتاب الارتياب كله في شعر أمية ابن أبي الصلت ؛ فقد وقف أمية من النبي موقف الخصومة : هجا أصحابه وأيد مخالفيه ورثي أهل بدر من المشركين .
وكان هذا وحده يكفي لينهي عن رواية شعره ، وليضيع هذا الشعر كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هجا فيه النبي وأصحابه حين كانت الخصومة شديدة بينهم وبين مخالفيهم من العرب الوثنيين واليهود .
وليس يمكن أن يكون من الحق في شيء أن النبي نهي عن رواية شعر أمية لينفرد بالعلم والوحي وأخبار الغيب .
فما كان شعر أمية ابن أبي الصلت إلا شعرا كغيره من الشعر لا يستطيع أن ينهض للقرآن كما لم يستطع غيره من الشعر أن ينهض للقرآن .
وما كان علم أمية ابن أبي الصلت بأمور الدين إلا كعلم أحبار اليهود ورهبان النصارى . وقد ثبت النبي لأولئك وهؤلاء واستطاع أن يغلبهم علي عقول العرب بالحجة مرة وبالسيف مرة أخرى .
فأمر النبي مع أمية بن أبي الصلت كأمره مع هؤلاء الشعراء الكثيرين الذين هجوه وناهضوه وألبوا عليه .
ومن هنا تستطيع أن تفهم ما يروى من أن النبي أنشد شيئا من شعر أمية فيه دين وتحنف فقال : " آمن لسانه وكفر قلبه " آمن لسانه لأنه كان يدعو إلي مثل ما كان يدعو إليه النبي ، وكفر قلبه لأنه كان يظاهر المشركين علي صاحب هذا الدين الذي كان يدعو إليه . فأمره كأمر هؤلاء اليهود الذين أيدوا ووادعوه ، حتى إذا خافوه علي سلطانهم السياسي والاقتصادي والديني ظاهروا عليه المشركين من قريش .
ليس إذا شعر أمية بن ابي الصلت بدعا في شعر المتحنفين من العرب أو المنتصرين والمتهودين منهم .
وليس يمكن أن يكون المسلمون قد تعمدوا محوه ؛ إلا ما كان منه هجاء النبي وأصحابه ونعيا علي ألإسلام ؛ فقد سلك المسلمون فيه مسلكهم في غيره من الشعر الذي أهمل حتى ضاع .
ولكن في شعر أمية بن ابي الصلت وردت في القرآن كأخبار ثمود وصالح والناقة والصيحة .
ويرى الأستاذ ( هوار ) أن ورود هذه الأخبار في شعر أمية مخالفة بعض المخالفة لما جاء في القرآن دليل علي صحة هذا الشعر من جهة ، وعلي أن النبي قد استقى منه أخباره من جهة أخرى .
ولست أدري قيمة هذا النحو من البحث .
فمن الذي زعم أن ما جاء في القرآن من أخبار كان كله مجهولا قبل أن يجيء به القرآن ؟ ومن الذي يستطيع أن ينكر أن كثيرا من القصص القرآني كان معروفا بعضه عند اليهود وبعضه عند النصارى وبعضه عند العرب أنفسهم ، وكان من اليسير أن يعرفه النبي ، كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبي من المتصلين بأهل الكتاب .
ثم كان النبي وأمية متعاصرين .
فلم يكون النبي هو أخذ عن أمية ولا يكون أمية هو الذي أخذ عن النبي ؟
ثم من الذي يستطيع أن يقول : إن من ينتحل الشعر ليحاكي القرآن ملزم أن يلائم بين شعره وبين نصوص القرآن ؟
أليس المعقول أن يخالف بسنهما ما استطاع ليخفي الانتحال ويوهم أن شعره صحيح لا تكلف فيه ولا تعمل ؟ بلى !
ونحن نعتقد أن هذا الشعر الذي يضاف إلي أمية بن أبي الصلت وإلي غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبي أو جاءوا قبله ، إنما انتحل انتحالا .
انتحله المسلمون ليثبتوا - كما قدمنا - أن للإسلام قدمه وسابقه في البلاد العربية ، ومن هنا لا نستطيع أن نقبل ما يضاف إلي هؤلاء الشعراء والمتحنفين إلا مع شيء من الاحتياط والشك غير قليل .
هذا شأن المسلمين .
فأما غير المسلمين من أصحاب الديانات الأخرى فقد نظروا فإذا لهم في حياة الأمة العربية قبل الإسلام قديم .
وفي الحق أن اليهود قد استعمروا جزءا غير قليل من بلاد الحجاز في المدينة وحولها وعلي طريق الشام .
وفي الحق أيضا أن اليهود قد جاوزت الحجاز إلي اليمن .
ويظهر أنها استقرت حينا عند سراة اليمن وأشرافها ، وأنها أثرت بوجه ما في الخصومة التي كانت بين أهل اليمن وبين الحبشة ، وهم نصارى .
ثم في الحق أن اليهودية قد استتبعت حركة اضطهاد للنصارى في نجران قد ذكرها القرآن في سورة البروج .
كان هذا حق لا شك فيه .
وكل هذا ظاهر في أخبار العرب وأساطيرهم ، وهو ظاهر في القرآن بنوع خاص ؛ فليس قليلا ما يمس اليهود من سور القرآن وآياته .
وأنت تعلم ما كان بين النبي واليهود من خصومة انتهت بإجلاء اليهود عن بلاد العرب أيام عمر بن الخطاب .
وكان اليهود قد تعربوا حقا ، وكان كثير من العرب قد تهودوا .
وليس من شك عندي في أن الاختلاط بين اليهود وبين الأوس والخزرج قد أعد هاتين القبيلتين لقبول هذا الدين الجديد وتأييد صاحبه .
هذا حال اليهود .
فأما النصارى فقد انتشرت ديانتهم انتشارا قويا في بعض بلاد العرب فيما يلي الشام حيث كان الغسانيون الخاضعون لسلطان الروم .
وفيما يلي العراق حيث كان المناذرة الخاضعون لسلطان الفرس ، وفي نجران من بلاد اليمن التي كانت علي اتصال بالحبش وهم نصارى .
ويظهر أن قبائل من العرب البادين تنصرت قبل الإسلام بأزمان تختلف طولا وقصرا .
فنحن نعلم مثلا أن تغلب كانت نصرانية وأنها أثارت مسألة من مسائل الفقه .
فالقاعدة أنه لا يقبل من العربي إلا الإسلام أو السيف ؛ فأما الجزية فتقبل من غير العرب .
ولكن تغلب قبلت منها الجزية ، قبلها عمر فيما يقول الفقهاء .
تغلغلت النصرانية إذن كما تغلغلت اليهودية في بلاد العرب .
وأكبر الظن أن الإسلام لو لم يظهر لانتهى الأمر بالعرب إلي اعتناق إحدى هاتين الديانتين .
ولكن الأمة العربية كان لها مزاجها الخاص الذي لم يستقم لهذين الديانتين والذي استتبع دينا جديدا أقل ما يوصف به أنه ملائم ملائمة تامة لطبيعة الأمة العربية .
مهما يكن من شيء ، فليس من المعقول أن ينتشر هذان الدينان في البلاد العربية دون أن يكون لهما أثر ظاهر في الشعر العربي قبل الإسلام .
وقد رأيت أن العصبية العربية حملت العرب علي أن ينتحلوا الشعر ويضيفوه إلي عشائرهم في الجاهلية بعد أن ضاع شعر هذه العشائر .
فالأمر كذلك في اليهود والنصارى : تعصبوا لأسلافهم من الجاهليين وأبوا إلا أن يكون لهم شعر كشعر غيرهم من الوثنيين ، وأبوا إلا أن يكون لهم مجد وسؤدد كما كان لغيرهم مجد وسؤدد أيضا ، فانتحلوا كما انتحل غيرهم ، ونظموا شعرا أشافوه إلي السموءل بن عادياء وإلي عدي بن زيد وغيرهم من شعراء اليهود والنصارى .
والرواة القدماء أنفسهم يحسون شيئا من هذا فهم يجدون فيما ينسب إلي عدي بن زيد من الشعر سهولة ولينا لا يلائمان العصر الجاهلي ، فيحاولون تعليل ذلك بالإقليم والاتصال بالفرس واصطناع الحياة الحضرية التي كان يصطنعها أهل الحيرة .
ونحن نجد مثل هذه السهولة في شعر اليهود ، في شعر السموءل بنوع خاص .
ولا نستطيع أن نعللها بمثل ما عللت به في شعر عدي .
فقد كان السموءل - إن صحت الأخبار - يعيش عيشة خشنة أقرب إلي حياة السادة البادية منها إلي حياة أصحاب الحضر .
ويحدثنا صاحب الأغاني بأن ولد السموءل انتحلوا قصيدة قافية أضافوها إلي أمريء القيس وزعموا أنه مدح بها السموءل حين أودعه سلاحه في طريقه إلي قسطنطينية .
ونرجح نحن أن ولد السموءل هم الذين انتحلوا هذه القصيدة الرائية التي تضاف للأعشى والتي يقال إنه مدح بها شرحبيل بن السموءل في قصته المشهورة مع الكلبي .
فأنت ترى أن للعواطف الدينية علي اختلافها وتنوع أغراضها مثل ما للعواطف السياسية من التأثير في انتحال الشعر وإضافته إلي الجاهليين .
وإذا كان من الحق أن نحتاط في قبول الشعر الذي يظهر فيه تأثير ما للأهواء السياسية ، فمن الحق أيضا أن نحتاط في قبول الشعر الذي يظهر فيه تأثير ما للأهواء الدينية .
وأكبر الظن أن الشعر الذي يسمى جاهليا مقسم بين السياسة والدين ، ذهبت هذه بشطر منه وذهب هذا بالشطر الآخر ولكن أسباب الانتحال ليست مقصورة علي السياسة والدين بل هي تتجاوزها إلي أشياء أخرى .



.../...
 

4- القصص وانتحال الشعر

من هذه الأشياء شيء ليس دينا ولا سياسة ولكنه يتصل بالدين وبالسياسة اتصالا قويا ، بريد به القصص الذي أشرنا إليه غير مرة فيما قدمنا من القول .
فالقصص في نفسه ليس من السياسة ولا من الدين ، وإنما هو فن من فنون الأدب العربي توسط بين آداب الخاصة والآداب الشعبية .
وكان مرآة للون من ألوان الحياة النفسية عند المسلمين .
وأزهر في عصر غير قصير من عصور الأدب العربي الراقية ، أزهر أيام بني أمية وصدرا من أيام بني العباس ، حتى إذا كثر التدوين وانتشرت الكتب واستطاع الناس أن يلهوا بالقراءة دون أن يتكلفوا الانتقال إلي مجالس القصاص ، ضعف أمر هذا الفن وأخذ يفقد صفته الأدبية الراقية شيئا فشيئا حتى ابتذل وأنصرف عنه الناس .
وهذا الفن الأدبي تناول الحياة العربية والإسلامية كلها من ناحية خيالية لم يقدرها الذين درسوا تاريخ الآداب العربية قدرها ، لا أكاد أستثني منهم إلا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ؛ فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلي القدماء ، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه " تاريخ آداب العرب " .
نقول أن هذا الفن تناول الحياة العربية والإسلامية من ناحية خيالية خالصة .
ونعتقد أن الذين يدرسون تاريخ الأدب العربي لو أنهم عنوا بدرس هذا الفن عناية علمية صحيحة لوصلوا إلي نتائج قيمة ولغيروا رأيهم في تاريخ الأدب .
فمهما تكن الأسباب التي دعت إلي نشأة فن القصص عند المسلمبن ، فقد نشأ هذا الفن ، وكانت منزلته عند المسلمين هي بعينها منزلة الشعر القصصي عند قدماء اليونان .
وكانت الصلة بينه وبين الجماعات هي الصلة بين الشعر القصصي اليوناني وجماعات القدماء .
وليس من شك عندنا في أن هؤلاء القصاص من المسلمين قد تركوا آثارا قصصية لا تقل جمالا وروعة وحسن موقع في النفس عن " الإلياذة " و" الأودسا " .
وكل ما بين القصص الإسلامي واليوناني من الفرق هو أن الأول لم يكن شعرا كله وإنما كان نثرا يزينه الشعر من حين إلي حين بينما كان الثاني كله شعرا ، وأن الأول لم يكن يلقيه صاحبه علي أنغام الأدوات الموسيقية بينما كان القاص اليوناني يعتمد علي الأداة الموسيقية اعتمادا ما ، وأن الأول لم يجد من عناية المسلمين مثلما وجد الثاني من عناية اليونان ؛ فبينما كان اليونان يقدس " الإلياذة "و" الأودسا " ويعنون بجمعهما وترتيبهما وروايتهما وأذاعتهما عناية المسلمين بالقرآن ، كان المسلمون مشغولين بالقرآن وعلومه عن قصصهم هذا .
وفي الحق أن الأدب العربي لم يدرس في العصور الإسلامية الأولى لنفسه وإنما درس من حيث هو وسيلة إلي تفسير القرآن وتأويله واستنباط الأحكام منه ومن الحديث .
وكان هذا كله أدني إلي الجد وألصق به من هذا القصص الذي كان يمضي مع الخيال حيث أراد ويتقرب من نفس الشعب ويمثل له أهواءه وشهواته ومثله العليا . فليس غريبا أن ينصرف عن القصص أصحاب الجد من المسلمين .
كان قصاص المسلمين يتحدثون إلي الناس في مساجد الأمصار فيذكرون لهم قديم العرب والعجم وما يتصل بالنبوات ، ويمضون معهم في تفسير القرآن والحديث ورواية السيرة والمغازي والفتوح إلي حيث يستطيع الخيال أن يذهب بهم لا إلي حيث يلزمهم العلم والصدق أن يقفوا .
وكان الناس كلفين بهؤلاء القصاص مشغوفين بما يلقون إليهم من حديث .
وما أسرع ما فطن الخلفاء والأمراء لقيمة هذه الأداة الجديدة من الوجهة السياسية والدينية , فاصطنعوها وسيطروا عليها واستغلوها استغلالا شديدا ، وأصبح القصص أداة سياسية كالشعر وليس من شك في أن العناية بدرس هذا الفن ستنتهي إلي مثل ما انتهت إليه العناية بدرس الشعر من أن الأحزاب السياسية علي اختلافها كانت تصطنع القصاص ينشرون لها الدعوة في طبقات الشعب علي اختلافها ، كما كانت تصطنع الشعراء يناضلون عنها ويذودون عن آرائها وزعمائها .
ونحن نعرف من سيرة ابن إسحاق أنه كان هاشمي النزعة والهوى ، وأنه لقي في ذلك عناء من الأمويين في آخر عهدهم بالسلطان ، وأنه ظفر بحسن المنزلة عند العباسيين في أول عهدهم بالملك .
والتعمق في درس حياة القصاص الذين كانوا يقصون في البصرة والكوفة ومكة والمدينة وغيرها من الأمصار يظهرنا من غير شك علي الصلات التي كانت تصل بين هؤلاء القصاص وبين الأحزاب السياسية .
غير أن القصص لم يتأثر بالسياسة وحدها ، وإنما تأثر بالدين أيضا .
وقد رأيت في الفصل الماضي مثلا توضح هذا التأثر .
وتأثر القصص بشيء آخر غير الساسة والدين هو روح الشعب الذي كان يتحدث إليه .
ومن هنا عني عناية شديدة بالأساطير والمعجزات وغرائب الأمور .
ومن هنا اجتهد في تفسير هذه الأساطير وإكمال الناقص منها وتوضيح الغامض .
فنحن نستطيع أن نقول أن هذا القصص كان يستمد قوت وثروته من مصادر مختلفة أهمها أربعة :

( الأول ) مصدر عربي هو القرآن وما كان يتصل به من الأحاديث والروايات ، وما كانت تتحدث به العرب في الأمصار من أخبارها وأساطيرها وما كانت تروي من شعر ،وما كان يتحدث به الرواة من سيرة النبي والخلفاء وغزواتهم وفتوحهم.
( الثاني ) مصدر يهودي نصراني ، وهو ما كان يأخذه القصاص عن أهل الكتاب من أخبار الأنبياء والأحبار والرهبان وما يتصل بذلك ، وليس ينبغي أن ننسى هنا تأثير أولئك اليهود والنصارى الذين أسلموا وأخذوا يضعون الأحاديث ويدسونها مخلصين أو غير مخلصين .
( الثالث ) مصدر فارسي ، وهو هذا الذي كان يستقيه القصاص في العراق خاصة من الفرس مما يتصل بأخبارهم وأساطيرهم وأخبار الهند وأساطيرها .
ثم المصدر الرابع مصدر مختلط هو هذا الذي يمثل نفسية العامة غير العربية من أهل العراق والجزيرة والشام من الأنباط والسريان ومن إليهم من هؤلاء الأخلاط الذين كانوا منبثين في هذه الأقطار والذين لم تكن لهم سيادة ولا وجود سياسي ظاهر .
كل هذه المصادر كانت تمد القصاص .
فكنت ترى في قصصهم ألوانا من القول وفنونا من الحديث قد لا تعجب العالم المحقق لاضطرابها وظهور سلطان الخيال عليها ؛ ولكن لها جمالا أدبيا فنيا رائعا يعجب به من يستطيع أن يقدر التئام هذه الأهواء المختلفة التي تتصل بشعوب مختلفة وأجيال متباينة من الناس .
ويعجب به بنوع خاص الذين يحاولون أن يستبينوا فيه نفسية الشعوب والأجيال التي كانت تلهم هؤلاء القصاص .
مهما يكن من شيء فإن هذه المصادر كلها كانت تطلق ألسنة القصاص بما كانوا يتحدثون به إلي مسامعيهم في الأمصار .
وأنت تعلم أن القصص العربي لا قيمة له ولا خطر في نفس سامعيه إذا لم يزنه الشعر من حين إلي حين .
ويكفي في أن تنظر في ألف ليلة وليلة وفي قصة عنترة وما يشبهها ، فسترى أن هذه القصص لا تستطيع أن تستغني عن الشعر ، وأن كل موقف قيم أو ذي خطر من مواقف هذه القصص لا يستقيم لكاتبه وسامعه إلا إذا أضيف إليه قدر من الشعر قليل أو كثير يكوون عمادا له ودعامة .
وإذن فقد كان القصاص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلي مقادير لا حد لها من الشعر يزينون بها قصصهم ويدعمون بها مواقفهم المختلفة فيه .
وهم قد وجدوا من هذا الشعر ما كانوا يشتهون وفوق ما كانوا يشتهون .
وأكاد لا أشك في أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يستقلون بقصصهم ولا بما يحتاجون إليه من الشعر في هذا القصص ، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم الأحاديث والأخبار ويلفقونها ، وآخرين ينظمون لهم القصائد وينسقونها .
ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض ؛ فقد يحدثنا ابن سلام أن ابن إسحاق كان يعتذر عما كان يروى من غثاء الشعر فيقول : لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله .
فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله .
فمن هؤلاء القوم ؟
أليس من الحق لنا أن نتصور أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلي الناس فحسب ، وإنما كان كل واحد منهم يشرف علي طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين ومن النظام والمنسقين ، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق وتنسيق هؤلاء طبعوا بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم وأذاعوه بين الناس .
وكان مثلهم في هذا مثل القاص الفرنسي المعروف ( ألكسندر دوما ) الكبير .
وأنت تدهش إذا رأيت هذه الكثرة الشعرية التي تنبث فيما بقي لنا من آثار القصاص .
فلديك في سيرة ابن هشام وحدها دواوين من الشعر نظم بعضها حول غزوة بدر ، وبعضها حول غزوة أحد ، وبعضها في غير هاتين الغزوتين من المواقف والوقائع ، وأضيف كل هذا إلي الشعر من الأشخاص المعروفين ، وأضيف بعضه إلي حمزة ، وبعضه إلي علي ، وبعضه إلي حسان ، وبعضه إلي كعب بن مالك ، وأضيف بعضه إلي نفر من شعراء قريش ، وإلي نفر من قريش لم يكونوا شعراء قط ، وإلي نفر آخرين من غير قريش .
وليس غير سيرة ابن هشام أقل منها حظا في هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين مرة وإلي المخضرمين مرة أخرى .
وكثرة هذا الشعر الذي صدر عن المصانع الشعرية في الأمصار المختلفة أيام بني أمية وبني العباس كانت سببا في نشأة رأي يظهر أن القدماء كانوا مقتنعين به ، وأن الكثرة المطلقة من المحدثين ليست أقل به اقتناعا ، وهو أن الأمة العربية كلها شاعرة ، وأن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته ، يكفي أن يصرف همه إلي القول فإذا هو ينساق إليه انسياقا .
كان القدماء يعتقدون هذا ، وما زال المحدثون يرونه .
وعذر أولئك وهؤلاء أن لديهم كثرة فاحشة من الشعر تضاف إلي ناس منهم المعروف ومنهم غير المعروف ، منهم الحضري ومنهم البدوي .
فأما العلماء والمحققين منهم استطاعوا أن ينفوا من هذا الشعر مقدارا قليلا أو كثيرا لم يستطيعوا أن يقبلوا ولا أن يطمئنوا إليه .
ولكنهم بعد الحذف والنفي والنقد والتمحيص نظروا فإذا لديهم مقادير ضخمة تضاف إلي ناس منهم المعروف ومنهم المجهول ، ومنهم الحضري ومنهم البدوي .
فأي شيء أيسر من أن يعتقدوا أن العربي شاعر بفطرته ، وأنه يكفي أن يكون الرجل عربيا ليقول الشعر متى شاء وكيف شاء .
ولكن رأيا كهذا لا يلائم طبيعة الأشياء .
فنحن نستطيع أن نؤمن بأن الأمم تتفاوت حظوظها من الشعر ، فبعضها أشعر من بعض ، وبعضها أكثر شعراء من بعضها الآخر .
ولكن لا نستطيع أن نفهم أن يكون جيل من الناس شاعرا كله ، أو أن تكون امة من الأمم شاعرة كلها رجالا ونساء شبانا وشيبا وولدانا أيضا .
ولدينا نصوص قديمة تدلنا علي أن العرب لم يكونوا جميعا شعراء .
فكثيرا ما حاول العربي قول الشعر فلم يوفق إلي شيء .
وقد طلب إلي النبي في بعض المواقف التي أحتاج فيها المسلمون إلي الشعر أن يأذن لعلي في أن يقول شعرا يرد به علي شعراء قريش فأبى النبي أن يأذن له ، لأنه لم يكن من ذلك في شيء وأذن لحسان .
وما نظن أننا في حاجة إلي أن نقيم الأدلة ونبسط البراهين علي أن العرب لم يكونوا كلهم شعراء .
وإنما سبيلنا أن نوضح أن كثرة هذا الشعر هي التي خيلت إلي القدماء والمحدثين أن لفظ العربي مرادف للفظ الشاعر .
فإذا ما أضفت إلي ما قدمنا أنك تجد كثيرا من الشعر يضاف إلي قائل غير معروف بل غير مسمى ، فتراهم يقولون مرة قال الشاعر ، وأخرى قال الأول ، وثالثة قال الآخر ، ورابعة قال رجل من بني فلان ، وخامسة قال أعرابي وهلم جرا - نقول إذا لاحظت هذا كله عذرت القدماء والمحدثين إذا اعتقدوا أن العرب كلهم شعراء .
والحق أن العرب كانوا كغيرهم من الأمم ذات الفصاحة واللسن والأذهان القوية ويكثر فيهم الشعر دون أن يعم كافتهم ، وأن أكثر هذا الشعر الذي بضاف إلي غير قائل أو إلي قائل مجهول إنما هو شعر مصنوع موضوع انتحل انتحالا بسبب من هذه الأسباب التي نحن بإزائها ومنها القصص .
كثرة هذا الشعر الذي أحتاج إليه القصاص لتزدان به قصصهم من ناحية وليسيغها القراء والمستمعون من ناحية أخرى خدعت فريقا من العلماء ، فقبلوها علي أنها صدرت عن العرب حقا .
وقد فطن بعض العلماء إلي ما في هذا الشعر من تكلف حينا ومن سخف وإسفاف حينا آخر ، وفطن إلي أن بعض هذا الشعر يستحيل أن يكون قد صدر عن الذين ينسب إليهم .
ومن هؤلاء العلماء محمد ابن سلام الذي أنكر - كما رأيت - ما يضيفه ابن إسحاق إلي عاد وثمود وحمير وتبع ، وأنكر كثيرا مما رواة ابن إسحاق في السيرة من شعر الرجال والنساء سواء منهم من عرف بالشعر ومن لم يقل شعرا قط .
وآخرون غير ابن سلام أنكروا ما روى ابن إسحاق وأصحابه القصاصون ؛ نذكر منهم ابن هشام الذي يروي لنا في السيرة ما كان يرويه ابن إسحاق ، حتى إذا فرغ من رواية القصيدة.
قال : وأكثر أهل العلم بالشعر أو بعض أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة أو ينكرها لمن تضاف إليه .
ولكن هؤلاء العلماء الذين فطنوا لأثر القصص في انتحال الشعر خدعوا أيضا؛ فلم يكن صناع الشعر جميعا ضعافا ولا محمقين ، بل كان منهم ذو البصيرة النافذة والفؤاد الذكي والطبع اللطيف ، فكان يجيد الشعر ويحسن انتحاله وتكلفه ، وكان فطنا يجتهد في إخفاء صنعته ويوفق من ذلك إلي الشيء الكثير .
وابن سلام نفسه يحدثنا بأنه إذا سهل علي العلماء النقاد أن يعرفوا ما تكلفه الضعفاء من المنتحلين ، فمن العسير عليهم أن يميزوا ما كان يتكلفه العرب أنفسهم كانوا يتكلفون ويضعون ويكذبون ، فيسرفون في هذا كله .
ولعل من أوضح الأمثلة لانخداع ابن سلام عن هذا الشعر المنتحل هذه الطائفة التي رواها علي أنها أقدم ما قالته العرب من الشعر الصحيح ؛ والتي يضاف بعضها إلي جذيمة الأبرش ، وبعضها إلي زهير بن جناب ، وبعضها إلي العنبر بن تميم ، وبعضها إلي أعصر بن سعد ابن قيس عيلان .
وكل هذا الشعر إذا نظرت فيه ، سخيف سقيم ظاهر التكلف بين الصنعة .
واضح جدا أن راويا من الرواة أو قاصا من القصاص تكلفة ليفسر مثلا من الأمثال أو أسطورة من الأساطير أو لفظا غريبا أو ليلذ القاريء أو السامع ليس غير .
ولنضرب مثلا هذين البيتين الذين يضافان إلي أعصر بن سعد ابن قيس عيلان ، وهما :

قالت عميرة ما لرأسك بعد ما = نفذ الزمان أتى بلون منكر
أعمير أن أباك شيب رأسه = كر الليالي واختلاف الأعصر

قال ابن سلام وغيره من العلماء والرواة : أن هذا الرجل إنما سمي " أعصر " لهذا البيت الأخير .
قال ابن سلام : وبعض الناس يسميه " يعصر " وليس بشيء .
وابن سلام نفسه يحدثنا أن " معدا " كان يعيش في العصر الذي كان يعيش فيه موسى بن عمران ، أي قبل المسيح بقرون عدة أي قبل الإسلام بأكثر من عشرة قرون .
فإذا لاحظنا أن أعصر هذا هو ابن سعد بن قيس عيلان بن إلياس ابن مضر بن نزار بن معد ، رأينا أنه أن عاش فقد عاش في زمن متقدم جدا أي قبل الإسلام بعشرة قرون علي اقل تقدير .
أفتظن أن هذين البيتين الذين قرأتهما آنفا يمكن أن يكونا قد قيلا قبل الإسلام بألف سنة !
ونحن لا نعرف اللغة العربية قبل الإسلام بثلاثة قرون أو أربعة قرون ؛ ونحن نجد مشقة غير قليلة في فهم الشعر العربي الصحيح الذي قيل أيام النبي أو بعد النبي ، ولا نجد شيئا من العسر في فهم هذا الكلام الذي إن صح رأي ابن سلام فقد قيل قبل النبي بأكثر من عشرة قرون أليس واضحا جليا أن هذين البيتين إنما قيلا في الإسلام ليفسرا أسم هذا الرجل الذي هو في حقيقة الأمر من أشخاص الأساطير لا نعرف أوجد في حقيقة الأمر أم لم يوجد .
وقل مثل هذا فيما يضيفه ابن سلام إلي مالك وسعد ابنى زيد مناة ابن تميم . فنحن لا نعرف من سعد ومن مالك ومن زيد مناة ومن تميم . وأكبر الظن عندنا أنهم أشخاص أساطير لم يوجدوا قط .
ولكن رأى الرواة والقصاص مثلا تستعمله العرب وهو : " ما هكذا تورد يا سعد الإبل " .. وهم فى حاجة إلى تفسير الأمثال ؛ والشعوب نفسها فى حاجة إلى تفسير الأمثال أيضاً .
من هنا اخترعت هذه القصة التى نطق فيها سعد ومالك بما يضاف إليها من الرجز .
وقل مثل هذا فيما يضاف للعبير ابن تميم وهو:

قد رابنى من دلوي اضطرابها
والنأي في بهراء واغترابها
إلاًّ تجئ ملأى يجئ قرابها



فالأمر عندنا لا يتجاوز تفسير هذا البيت الأخير الذى كان يجرى مجرى المثل فيما يظهر وقل مثل هذا فى هذا الشعر الذى يضاف إلى جذيمة الأبرش , وفى كل ما يتصل بجذيمة وصاحبته الزبّاء وابن أخته عمرو بن عدى ووزيره قصير .فليس لهذا كله إلا أصل واحد هو تفسير طائفة من الأمثال ذكرت فيها أسماء هؤلاء الناس كلهم أو بعضهم كقولهم " لا يطاع لقصير أمر " .
وقولهم : " لأمر ما جدع قصير أنفه " , وقولهم : " شب عمرو على الطوق " . أو ذكر فيها ما يتصل بهؤلاء الناس فى هذه القصص التى كانت شائعة عند هؤلاء الأخلاط من سكان العراق والجزيرة الشأم وما يتصل بها من بوادي العرب , كفرس جذيمة التى كانت تسمى " العصا " والبرج الذى بناه قصير على العصا بعد أن نفقت وكان يسمى " برج العصا" , ودم جذيمة الذى جمعت الزباء فى طست من الذهب , وجمال عمرو بن عدى التى احتال قصير فى إدخالها تدمر وعليها الرجال فى الغرائر . وتستطيع أن تذهب هذا المذهب من الفهم والتفسير فى كل هذه الحكايات والأساطير التى تتصل بالأسماء والأمثال والأمكنة وما إليها وما ينشد فيها من الشعر . ولكن القدماء لم يذهبوا هذا المذهب ؛ وإنما قلبوا هذه الأخبار والأشعار على علاتها ورووها على أنها صحيحة لأنهم سمعوها من رواة كانوا يعتقدون أنهم ثقات مصححون .
ومن هنا روى ابن سلام وغيره أبياتاً لجذيمة على أنها من أقدم الشعر العربي التي تبتدئ بهذا البيت :
ربما أوفيت فى علم = ترفعن ثوبى شمالات

وهناك لون من ألوان القصص كان الناس يتحدثون به ويميلون إليه ميلا شديدا ويروون فيه الأكاذيب والأعاجيب وهو أخبار المعمرين الذين مدّت لهم الحياة إلى أبعد مما ألف الناس .
وقد رويت حول هؤلاء المعمّرين أخبار وأشعار قبلها العلماء الثقات فى القرن الثالث للهجرة كأبي حاتم السجستانى وابن سلام نفسه , وهو يروى لنا فى كتاب الطبقات هذا الشعر المتكلف السخيف الذى يضاف إلى أحد هؤلاء المعمّرين وهو المستوغر ابن ربيعه بن كعب بن سعد الذى بقى بقاء طويلا حتى قال :
ولقد سئمت من الحياة وطولها = وازددت من عدد السنين مئينا
مائة أتت من بعدها مئتان لي = وازددت من عدد الشهور سنينا
هل ما بقى إلا كما قد فاتنا = يوم يكــرّ وليلة تحـدونــا

ويروى لنا ابن سلام شعراً آخر ليس أقل من هذا الشعر سخفًا ولا تكلفًا ولا انتحالا يضيفه إلى دويد بن زيد بن نهد حين حضره الموت :
اليوم يبنى لدويد بيته = لو كان للدهر بلىً أبليته
أو كان قرني واحداً كفيته = يارب نهب صالح حويته
ورب غيل حسن لويته = ومعصم مخضّب ثنيته

فأنت ترى أن ابن سلام على ما أظهر من الشك فيما كان ريوى ابن إسحاق من شعر عاد وثمود ويبع وحمير , قد انخدع عما كان يرويه ابن إسحاق وغير ابن إسحاق من القصاص من الشعر يضيفونه إلى القدماء من حاضرة العرب وباديتهم .
والرواة أشدّ انخداعًا حين يتصل الأمر بالبادية اتصالا شديداً , وذلك فى هذه الأخبار التى يسمونها " أيام العرب " أو " أيام الناس " .
فهم سمعوا بعض هذه الأخبار من الأعراب ثم رأوها تقص مفصلة مطوّلة فقبلوا ما كان يروى منها على أنه جدّ من الأمر , ورووه وفسروه وفسروا به الشعر واستخلصوا منه تاريخ العرب ؛ مع أن الأمر فيه لا يتجاوز ما قدمناه .
فليست هذه الأخبار إلا المظهر القصص لهذه الحياة العربية القديمة , ذكره العرب بعد أن استقرّوا فى الأمصار فزادوا فيه ونموه وزيّنوه بالشعر ؛ كما ذكر اليونان قديمهم فأنشأوا فيه " الإلياذة " و " الأودسا " وغيرهما من قصائد الشعر القصص التى لم يكن يكاد يبلغها الإحصاء .
فحرب البسوس وحرب داحس والغبراء وحرب الفساد وهذه " الأيام " الكثيرة التى وضعت فيها الكتب ونظم فيها الشعر ليست فى حقيقة الأمر - إن استقامت نظريتنا - إلا توسيعًا وتنمية لأساطير وذكريات كان العرب يتحدّثون بها بعد الإسلام .
ومن هنا نستطيع أن نقول مطمئنين إن مؤرّخ الآداب العربية خليق أن يقف موقف الشك - إن لم يقف موقف الإنكار الصريح - أمام هذا الشعر الذى يضاف إلى الجاهليين , والذي هو في الحقيقة الأمر تفسير أو تزيين لقصة من القصص أو توضيح لاسم من الأسماء أو شرح لمثل من الأمثال .
كل ما يروى عن عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعماليق موضح لا أصل له . وكل ما يروى عن تبع وحمير وشعراء اليمن فى العصور القديمة , وأخبار الكهان , وما يتصل بسيل العرم وتفرّق العرب بعده موضوع لا أصل له .
وكل ما يروى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها وما يتصل بذلك من شعر خليق أن يكون موضوعاً .
والكثرة المطلقة من موضوع من غير شك . وكل ما يروى من هذه الأخبار والأشعار التى تتصل بما كان بين العرب والأمم الأجنبية من العلاقات قبل الإسلام كعلاقاتهم بالفرس واليهود والحبشة خليق أن يكون موضوعاً .
وكثرته المطلقة موضوعة من غير شك . ولسنا نكر شعر آدم وما يشبهه فنحن لم نكتب هذا الكتاب هازلين ولا لاعبين .


.../...
 

5- الشعوبية وانتحال الشعر

والشعوبية ما رأيك فيهم وفيما يمكن أن يكون لهم من الأثر القوى فى انتحال الشعر والأخبار وإضافتها إلى الجاهليين ؟
أما نحن فنعتقد أن هؤلاء الشعوبية قد انتحلوا أخباراً وأشعاراً كثيرة وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين .
ولم يقف أمرهم عند انتحال الأخبار والأشعار , بل هم قد اضطروا خصومهم ومناظريهم إلى الانتحال والإسراف فيه .
وأنت تعلم أن أصل هذه الفرقة إنما هو هذا الحقد الذى أضمره الفرس المغلوبون للعرب الغالبين , وأنت تعلم أن هذه الخصومة قد أخذت مظاهر مختلفة منذ تم الفتح للعرب , وأحدثت آثاراً مختلفة بعيدة فى حياة المسلمين الدينية والسياسية والأدبية .
ولكنا لا نريد أن نتجاوز فى هذا الفصل تأثير الشعوبية فى الحياة الأدبية وحدها وفى انتحال الشعر على الجاهليين بنوع خاص .
لم يكد ينتصف القرن الأول للهجرة حتى كان فريق من سبئ الفرس قد استغرق وأتقن العربية واستوطن الأقطار العربية الخالصة , وأخذ يكون له فيها نسل وذرية , وأخذ هذا الشباب الفارسى الناشئ يتكلم العربية كما يتكلمها العرب أنفسهم . وما هى إلا أن أخذ هذا الشباب يحاول نظم الشعر العربي على نحو ما كان ينظمه شعراء العرب .
ثم لم يقف أمرهم عند نظم الشعر بل تجاوزوه إلى أن شاركوا العرب فى أغراضهم الشعرية السياسية , فكان من هؤلاء الموالى شعراء يتعصبون للأحزاب العربية السياسية ويناضلون عنها .
وهذا الموقف السياسى الذى وقفه الموالى من الأحزاب يسر الأمر عليهم تيسيرا شديدا , فقد كان أحدهم لا يكاد يظهر تأييده لحزب من هذه الأحزاب حتى يفرح به هذا الحزب ويعطف عليه ويجزل له الصلات ويذهب فى تشجيعه كل مذهب , على نحو ما تفعل الأحزاب السياسية الآن بالصحف التى تقف منها مواقف التأييد , تقبل عليها وتمنحها المعونة لا تبالي في ذلك بشئ , لأنها لا تزيد إلا نشر الدعوة , ولأنها لا تزيد إلا الفوز .
ومن ابتغى الفوز وحده كان خليقاً ألا يحقق فى اختيار الوسائل وتدبر العواقب .
وكذلك كانت تفعل الأحزاب العربية أيام بنى أمية , كان المولى يعلن تأييده للأمويين فى قصيدة من الشعر فما أسرع ما يضمه الأمويون إليهم لا يعنيهم أكان مخلصًا لهم أو مبتغيًا للحظوة وتزلفي .
وكذلك كان يفعل حزب آل الزبير وحزب الهاشميين .
وكذلك ماتت الخصومة بين الأحزاب العربية تبيح للمغلوبين الموتورين من الموالى أن يتدخلوا فى السياسة العربية وأن يهجوا أشراف قريش وقرابة النبى .
كان بنو أمية يشجعون أبا العباس الأعمى , وكان آل الزبير يشجعون إسماعيل بن يسار , وكان هذان الشاعران يستبيحان لأنفسهما هجو أشراف قريش خاصة والعرب عامة فى سبيل التأييد لآل مروان .
وآل حرب أو آل الزبير .
ولم يكن هؤلاء الموالى مخلصين للعرب حقا، إنما كانوا يستغلون هذه الخصومة السياسية بين الأحزاب ليعيشوا من جهة وليخرجوا من حياة الرق أو حياة الولاء إلى حياة تشبه حياة الأحرار والسادة من جهة أخرى ، ثم ليشفوا ما فى صدورهم من غل وينفسوا عن أنفسهم ما كانوا يضمرون من ضغينة للعرب من جهة ثالثة .
ولعل إسماعيل بن يسار أظهر مثل لهذه الطائفة من الشعراء الموالى الذين كانوا يبغضون العرب ويزدرونهم ويستغلون ما بينهم من الخصومات السياسية لحاجاتهم ولذاتهم وأهوائهم .
قالوا : كان إسماعيل بن يسار زبيرى الهوى ، فلما ظفر آل مروان بآل الزبير أصبح إسماعيل مر وانيا وقبله بنو أمية ، فاستأذن ذات يوم على الوليد بن عبد الملك فأخره ساعة حتى إذا أذن له دخل عليه يبكى، فلما سأله عن بكائه هذا قال : أخرتني وأنت تعلم مروانيتى ومروانية أبى؛ فأخذ الوليد يهون عليه ويعتذر إليه وهو لا يزداد إلا إغراقا فى البكاء ، حتى وصله الوليد فأحسن صلته ، فلما خرت تبعه بعض من حضر فسأله عن هذه المر وانية التي ادعاها: ما هى؟ ومتى كانت ؟
فأجاب : إن هذه المر وانية هي بغضنا لآل مروان وهى التى حملت اباه يسارم وهو يموت على أن يتقرب إلى الله بلعن مروان بن الحكم ، وهى التى تحمل أمه على أن تلعن آل مروان مكان ما تتقرب به من التسبيح . ولكن آل مروان كانوا في حاجة إلى اصطناع هؤلاء الشعراء يذودون عنهم ويناضلون بنى هاشم خاصة ، فقد علمت منزلة بنى هاشم فى نفوس الموالى والفرس .
والرواة يحدثوننا بأن حب بنى أمية لشاعرهم أبى العباس الأعمى لم يكن له حد؟ فقد كانت صلات بنى أمية ترسل إليه فى مكة .
وحج عبد الملك مرة فدخل عليه هذا الشاعر وأنشده شعرا هجا به ابن الزبير، فحلف عبد الملك على من فى المجلس من قرابته ومن قريش ليكسونه كل واحد منهم ؟ قالوا فألقيت عليه الحلل والثياب حتى كادت تخفيه ، ونهض فجلس عليها بقية مجلسه مع عبدا لملك .
ولم تكن سيرة الهاشميين مع أنصارهم من الموالى أقل من سيرة الأمويين والزبيريين .
وكانت النتيجة لهذا كله أن استباح هؤلاء الموالى لأنفسهم هجو العرب أولا ثم ذكر قديمهم والافتخار بالفرس ثانيا .
وقد ضاع أكثر ما قال هؤلاء الموالى فى الافتخار بالفرس وهجاء العرب أيام بنى أمية؟ ولكنك تجد من ذلك طرفا مجزئا مغنيا فى الأغانى وغيره من كتب الأدب .
أما العصر العباسي فيكفى أن تقرأ هذه القصيدة التى قالها أبو نواس يهجو فيها العرب وقريشا ، والتي يقال إن الرشيد أطال حبسه فيها .
وهم يحدثوننا أن الجرأة بلغت بإسماعيل بن يسار أن أنشد فخره بالفرس بين يدى هشام بن عبدا لملك فغضب عليه الخليفة وأمر به فألقى في بركة كانت بين يديه ولم يخرج إلا وقد أشرف على الموت .
نسوق هذا كله لنعطيك صوره من حقد الفرس على العرب وما كان له من أثر في الحياة الأدبية لهؤلاء الشعراء.
وقد وصلنا إلى ما كنا نريد من تأثير هذه الشعوبية فى انتحال الشعر، فيكفى أن يحاول الشاعر من الموالى الافتخار على العرب ليفكر فى أن يثبت ان العرب أنفسهم كانوا قبل أن يطيح لهم الإسلام هذا التغلب يعترفون بفضل الفرس وتقدمهم ، ويقولون فى ذلك الشعر يتقربون به إليهم ويبتغون به المثوبة عندهم ، ولاسيما إذا كانت الحوادث التاريخية والأساطير تعين على ذلك وتدنى منه .
ومن الذى يستطيع أن ينكر أن الفرس قد سيطروا قبل الإسلام على العراق وأخضعوا لسلطانهم من كان يسكن حضره وباديته من العرب !
ومن ذا الذى يستطيع أن ينكر أن الفرس قد أرسلوا جيشا احتل اليمن وأخرج منه الحبشة !
ومن ذا الذى يستطيع أن ينكر أنه قد كانت بين الفرس والعرب وقائع ، وأن ملوك الحيرة كانوا أتباعا للفرس يوفدون إليهم من حين إلى حين أشراف البادية العربية ؟ وإذا كان هذا كله حقا فلم لا يستغله الموالى؟ ولم لا يعتزون به على العرب المتغلبين الذين يزدرونهم ويتخذونهم رقيقا وخدما ؟ الحق أن الموالى لم يقصروا فى هذا ، فهم أنطقوا العرب بكثير من نثر الكلام وشعره ، فيه مدح للفرس وثناء عليهم وتقرب منهم .
وهم زعموا لنا أن الأعشى زار كسرى ومدحه وظفر بجوائزه .
وهم أضافوا الى عدى بن زيد ولقيط بن يعمر وغيرهما من إياد والعباد كثيرا من الشعر فيه الإشادة بملوك الفرس وسلطانهم وجيوشهم .
وهم أنطقوا شاعرا من شعراء الطائف بأبيات رواها السقاة من الرواة على أنها صحيحة لاشك فيها وهى أبيات تضاف إلى أبى الصلت بن رييعة ، وهو أبو أمية بن ابى الصلت المعروف .
وقد يكون من الخير أن نروى هذه الأبيات وهى:
لله درهم من عصبة خرجوا = ما إن ترى لهم في الناس أمثالا
بيضا مرازبة غرا جحا جحة = أسدا تربب فى الغيضات أشبالا
لا يرمضون إذا حرت مغافرهم = ولا ترى منهم في الطعن ميالا
من مثل كسرى وسابورالجنود له = أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا = في رأس غمدان دارا منك محلالا
واحتطم بالمسك إذا شالت نعامتهم = وأسبل اليوم فى بريدك إسبالا
تلك المكارم لا كعبان من لبن = شيبا ماء فعادا بعد ابوالا
والشعر في مدح سيف بن ذىيزن . وقد زاد ابن قتيبة فى أوله هذه الأبيات وهى أبلغ فى الدلالة على ما نريد أن ندل عليه وهى:
لن يطلب الوتر أمثال ابن ذى يزن = لحج في البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامته = فلم يجد عنده القول الذى قالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد تاسعة = من السنين ، لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم = إنك عمري لكد أسرعت قلقالا
فانظر إليه كيف قدم الفرس على الروم فى أول الشعر و على العرب فى سائرة !
ولو أن العرب غلبوا الروم بعد الإسلام وأزالوا سلطانهم كما أزالوا سلطان الفرس وأخضعوهم لمثل ما أخضعوا له الفرس لكان للروم مع العرب شأن يشبه شأن الفرس معهم .
ولكن العرب لم يقوضوا سلط!ان الروم وانما اقتطعوا طائفة من أقاليمهم وظلت دولتهم قائمة .
ومن الخيران نرى أبياتا قالها إسماعيل بن يسار فى الفخر بالفرس ، فسترى بينها وبين الشعر الذى يضاف إلى أبى الصلت ما يحمل على شيء من الشك والريبة
بذي خور عند الحفاظ = ولا حوضي بمهدوم
أصلى كريم ومجدي لا يقاس به = ولى لسان كحد السيف مسموم
أحمى به مجد أقوام ذوى حسب = من كل قرم بتاج الملك معموم
جحا جح سادة بلج مرازبة ج = رد عتاق مساميح مطاعيم
من مثل كسرى وسابورالجنود معا = والهرمزان لفخر أو لتعظيم
أسد الكتائب يوم الروع ان زحفوا = وهم أذلوا ملوك الترك والروم
يمشون فى حلق الماذى سابغه = مشى الضراغمة الأسد اللهاميم
هناك إن تسألى تنبي بأن لنا = جرثومة قهرت عز الجراثيم على هذا النحو من انتحال الموالى للشر والأخبار يضيفونها إلى العرب ذكرا مضطرين إلى أن يجيبوا بلون من الانتحال يشبه هذا اللون ، فيه تغليب للعرب على الفرس ، وفيه إئبات لأن ملك الفرس فى الجاهلية وتسلطهم على العرب لم لكن من شأنه أن يذل هؤلاء أو أن يقدم عليهم أولئك .
ومن هنا مواقف هذه الوفود التى تتحدث أمام كسرى بمحامد العرب وعزتها ومنعتها وابائها للضيم . ومن هنا هذه المواقف التى تضاف إلى ملوك الحيرة والتي تظهر هؤلاء الملوك أحيانا عصاة مناهضين للمك الأعظم .
ثم من هنا هذه الأيام والوقائع التى كانت للعرب على الفرس والني تحدث النبي عن بعضها وهو يوم ذى قار .
فأنت ترى أن الشعوبية فى مظهرها السياسى الأول قد حملت الفرس على انتحال الأشعار والأخبار وأكرهت العرب على أن يلقوا الانتحال بمثله .
على أن هذه الشعوبية لم تلبث أن استحالت بعد سقوط الأمويين وقيام سلطان الفرس على يد العباسيين إلى خلاف له صورة علمية أدبيه أقرب إلى البحث والجدل فى أنواع العلم منها إلى ما كان معروفا من الخصومة السياسية بين الغالب والمغلوب .
وكان هذا النحو من الشعوبية أخصب من النوع السابق وأبلغ فى حمل العرب والفرس على الانتحال والإسراف فيه . ولعلك تلاحظ أن الكثرة المطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الأدب واللغة والكلام والفلسفة كانوا من العجم الموالى ، وكانوا يستظلون بسلطان الوزراء والمشيرين من الفرس أيضا ؟ وكانت غايتهم قد استحالت من إثبات سابقة الفرس فى الملك والسلطان إلى ترويج هذا السلطان الذى كسبوه أيام بنى العباس وإقامة الأدلة الناهضة على أن الأمر قد رد الى أهله وعلى أن هؤلاء العرب الذين حيل بينهم وبين السيادة الفعلية ليسوا ولم يكونوا أهلا لهذه السيادة .
ومن هنا كان هؤلاء العلماء والمناظرون أصحاب ازدراء للعرب ونعى عليهم وغض من أقدارهم .
فأما أبو عبيدة معمر بن المثنى الذى يرجع العرب إليه فيما يروون من لغة وأدب ، فقد كان اشد الناس بغضا للعرب وازدراء لهم ؟ وهو الذى وضع كتابا لا نعرف الآن إلا اسمه وهو " مثالب العرب " .
وأما غير ابى عبيدة من علماء الموالى ومتكلميهم وفلاسفتهم فقد كانوا يمضون فى ازدراء العرب إلى غير حد : ينالونهم فى حروبهم ، ينالونهم فى شعرهم ، ينالونهم فى خطابتهم ، وينالونهم فى دينهم أيضا .
فليست الزندقة إلا مظهرا من مظاهر الشعرية ، وليس تفضيل النار على الطين وإبليس على آدم إلا مظهرا من مظاهر الشعوبية الفارسية التي كانت تفضل المجوسية على الإسلام .
وأنت تجد فى " البيان والتبيين " ، كلاما كثيرا تستبين منه إلى أي حد كان الفرس يعجبون بآثار الأمم الأعجمية ويقدمونها على آئار العرب ، فهم يعجبون بخطب الفرس وسياستهم ، وعلم الهند وحكمتها، ومنطق اليونان وفلسفتهم ؟ وهم ينكرون على العرب أن يكون لهم شيء يقارب هذا .
والجاحظ ينفق ما يملك من قوة ليثبت أن العرب يستطيعون أن ينهضموا لكل هذه المفاخر الأعجمية وأن يأتوا بخير منها .
ولعل أصدق مثال لهذه الخصومة العنيفة بين علماء العرب والموالى : هذا الكتاب الذى كتبه الجاحظ فى البيان والتبيين وهو " كتاب العصا " . واصل هذا الكتاب كما تعلم ان الشعوبية كانوا ينكرون على العرب الخطابة ، وينكرون على خطباء العرب ما كانوا يصطنعون أثناء خطابتهم من هيئة وشكل وما كانوا يتخذون من أداة ، وكانوا يعيبون على العرب اتخاذ العصا والمخصرة وهم يخطبون . فكتب الجاحظ كتاب العصا ليثبت فيه أن العرب أخطب من العجم ، وأن اتخاذ الخطيب العربي للعصا لايغض من فنه الخطابي .
أليست العصا محمودة فى القرآن والسنة وفى التوراة وفى أحاديث القدماء ؟ ومن هنا مضى الجاحظ فى تعداد فضائل العصا حتى أنفق فى ذلك سفرا ضخما .
والذي يعنينا من هذا كله هو أن نلاحظ أن الجاحظ وأمثاله من الذين كانوا يعنون بالرد على الشعوبية ، مهما يكن علمهم ومهما تكن روايتهم لم يستطيعوا أن يعصموا أنفسهم من الانتحال الذى كانوا يضطرون الله اضطرارا ليسكتوا خصومهم من الشعوبية .
فليس من اليسير ان نصدق أن كل ما يرويه الجاحظ من الأشعار والأخبار حول العصا والمخصرة يضيفه الى الجاهليين صحيح .
ونحن نعلم حق العلم ان الخصومة حين تشتد بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب .
وكانت الشعوبية تنتحل من الشعر ما فيه عب للعرب وغض منهم .
وكان خصوم الشعوبية ينتحلون من الشعر ما فيه ذود عن العرب ورفع لأقدارهم .
ونوع آخر من الانتحال دعت إليه الشعوبية ، نجده بنوع خاص فى كتاب الحيوان للجاحظ وما يشبهه من كتب العلم التى ينحو بها أصحابها نحو الأدب .
ذلك أن الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى ان يزعموا أن الأدب العربي القديم لا يخلو أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدثة .
فإذا عرضوا لشيء مما في هذه العلوم الأجنبية فلابد من أن يثبتوا أن العرب قد عرفوه أو ألموا به أو كادوا يعرفونه ويمون به .
ومن هنا لا تكاد تجد شيئا من هذه الأنواع الحيوانية التى عرض لها الجاحظ فى كتاب الحيوان إلا ولقد قالت العرب فيه شيئا قليلا أو كثيرا طويلا أو قصيرا ، واضحا أو غامضا. يجب أن يكون للعرب قول فى كل شيء وسابقة في كل شئ ، هم مضطرون إلى ذلك اضطرارا ليثبتوا فضلهم على هذه الأمم المغلوبة .
واضطرارهم يشتد ويزداد شدة بمقدار ما يفقدون من الشطان السياسى ، وبمقدار ما ترفع هذه الأمم المغلوبة رءوسها. وأنا أستطيع أن أمضى فى تفصيل هذه الآثار المختلفة التي تركتها الشعوبية فى الأدب العربي وفى الانتحال بنوع خاص ؟ ولكني لم أكتب هذا الكتاب إلا لألم إلماما بكل هذه الأسباب التى تحمل على الشك فى قيمة ما يضاف إلى الجاهليين من الشعر. وأحسبنى قد ألممت بالشعوبية وتأثيرها فى ذلك إلماما ، كافيا .

6 - الرواة وانتحال الشعر
فإذا فرغنا من هذه الأسباب العامة التى كانت تحمل على الانتحال والتي كانت تتصل بظروف الحياة السياسية والدينية والفنية للمسلمين فلن نفرغ من كل شيء ، بل نحن مضطرون إلى أن نقف وقفات قصيرة عند طائفة أخرى من الأسباب ، ليست من العموم والاطراد بمنزلة الأسباب المتقدمة .
ولكنها ليست أقل منها تأثيرا فى حياة الأدب العربي القديم ، وحثا على تحميل الجاهليين ما لم يقولوا من الشعر والنثر.
أريد بها هذه الأسباب التى تتصل بأشخاص أولئك اللذين نقلوا إلينا أدب العرب ودونوه . وهؤلاء الأشخاص هم الرواة .
وهم بين اثنتين : إما أن يكونوا من العرب ، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب .
وإما أن يكونوا من الموالى ، فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالى من تلك الأسباب العامة . وهم على تأثرهم بهذه الأسباب العامة متأثرون بأشياء أخرى هى التى أريد أن اقف عندها وقفات قصيرة كما قلت .
ولعل أهم هذه المؤثرات التى عبثت بالأدب العربي وجعلت حظه من الهزل عظيما : مجون الرواة وإسرافهم فى اللهو والعبث وانصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق الى ما يأباه الدين وتنكره الأخلاق .
ولعلى لا أحتاج بعد الذى كتبته مفصلا فى الجزء الأول من " حديث الأربعاء " إلى ان أطيل فى وصف ما كان فيه هؤلاء الناس من اللهو والمجون . ولست اذكر هنا إلا اثنين إذا ذكرتهما فقد ذكرت الرواية كلها والرواة جميعا : فأما أحدهما فحماد الراوية .
وأما الآخر فخلف الأحمر .
كان حماد الراوية زعيم أهل الكوفة فى الرواية والحفظ .
وكان خلف الأحمر زعيم أهل البصرة فى الرواية والحفظ أيضا .
وكان كلا الرجلين مسرفا على نفسه ليس له حظ من دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار .
كان كلا الرجلين سكيرا فاسقا مستهترا بالخمر والفسق . وكان كلا الرجلين صاحب شك ودعابة ومجون .
فأما حماد فقد كان صديقا لحماد عجرد وحماد الزبرقان ومطيع بن إياس .
وكلهم أسرف فيما لا يليق بالرجل الكريم الوقور. وأما خلف فكان صديقا لوالبه ابن الحباب وأستاذا لأبى نواس .
وكان هؤلاء الناس جميعا فى أمصار العراق الثلاثة مظهر الدعابة والخلاعة ؟ ليس منهم إلا من اتهم فى دينه ورمى بالزندقة ، يتفق على ذلك الناس جميعا : لا يصفهم أحد بخير، ولا يزعم لهم أحد صلاح فى دين أو دنيا .
وأهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم فى الرواية حماد ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب .
وأهل البصرة مجمعون على أن أستاذهم فى الرواية خلف ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب أيضا .
وأهل الكوفة والبصرة مجمعون على تجريح الرجلين فى دينهما وخلقهما ومروءتهما.
وهم مجمعون على أنهما لم يكونا يحفظان الشعر ويحسنان روايته ليس غير؟ وانما كانا شاعرين مجيدين يصلان من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطلع أحد أن يميز بين ما يرويان وما ينتحلان .
فأما حماد فيحدثنا عنه راوية من خيرة رواة الكوفة هو المفضل الضبي أنه قد افسد الشعر إفسادا لا يصلح بعده أبدا ؟ فلما سئل عن سبب ذلك ألحن أم خطأ ؟ قال : ليته كان كذلك ، فإن أهل العلم يردون من أخطأا إلى الصواب ، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم ، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله فى شعره ويحمل ذلك عنه فى الآفاق ، فتختلط أشعار القدماء ، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد ، وأين ذلك ؟ ويحدثنا محمد بن سلام أنه دخل على بلال بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعري ، فقال له بلال : ما أطرفتني شيئا فغدا عليه حماد فأنشده قصيدة للخطيئة في مدح أبى موسى ة قال بلال : ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعرف ذلك ، وأنا أروى شعر الخطيئة !
ولكن دعها تذهب فى الناس ؟
وقد تركها حماد فذهبت فى الناس وهى فى ديوان الحطيئة .
والرواة أنفسهم يختلفون ، فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقا.
وكان يونس بن حبيب يقول : العجب لمن يروى عن حماد، كان يكسر ويلحن ويكذب .
وثبت كذب حماد فى الرواية للمهدى فأمر حاجبه فأعلن فى الناس أنه يبطل رواية حماد .
وفى الحق أن حمادا كان يسرف فى الرواية والتكثر منها .
وأخباره فى ذلك لا يكاد يصدقها أحد، فم يكن يسأل عن شئ إلا عرفه .
وقد زعم للوليد بن يزيد أنه يستطيع أن يروى على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة لمن لم يعرفهم من الشعراء .
قالوا وامتحنه الوليد حتى ضجر فوكل به من أتم امتحانه ثم أجازه ، وأما خلف فكلام الناس فى كذبه كثير.
وابن سلام ينبئنا بأنه كان أفرس الناس ببيت شعر. ويتحدثون أنه وضع لأهل الكوفة ما شاء الله أن يضع لهم ، ثم نسك فى آخر أيامه فأنبأ أهل الكوفة بما كان قد وضع لهم من الشعر، فأبوا تصديقه . واعترف هو للأصمعي بأنه وضع غير قصيدة .
ويزعمون أنه وضع لامية العرب على الشنفرى، ولامية أخرى على تأبط شرا رويت فى الحماسة.
وهناك راوية كوفي لم يكن أقل حظا من صاحبيه هذين فى الكذب والانتحال .
كان يجمع شعر القبائل حتى إذا جمع شعر قبيلة كتب مصحفا بخطه ووضعه فى مسجد الكوفة.
ويقول خصومه : إنه كان ثقة لولا إسرافه فى شرب الخمر، وهو أبو عمرو الشيبانى . ويقولون : إنه جمع شعر سبعين قبيلة .
وأكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل يجمع لكل واحدة منها شعرا يضيفه إلى شعرائها. وليس هذا غربتا فى تاريخ الأدب ، فقد كان مثله كثيرا فى تاريخ الأدب اليونانى والرمانى .
وإذا فسدت مروءة الرواة كما فسدت مروءة حماد وخلف وابى عمرو الشيبانى ، وإذا أحاطت بهم ظروف مختلفة تحملهم على الكذب والانتحال ككسب المال والتقرب إلى الأشراف والأمراء والظهور على الخصوم والمنافسين ونكاية العرب - نقول : إذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف ، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا من شعر القدماء .
والعجب أن رواه لم تفسد مروءتهم ولم يعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية قد كذبوا أيضا وانتحلوا . فأبو عمرو بن العلاء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتا :
وانكرتنى وما كان الذى نكرت = من الحوادث إلا الشيب والصلعا
ويعترف الأصمعى بشئ يشبه ذلك .
وبقول اللاحقي إن سيبوبه سأله عن إعمال العرب " فعلا " ، فوضع له هذا البيت :
حذر أمورا لا تضير وآمن = ما ليس ينجيه من الأقدار
ومثل هذا كثير.
وهناك طائفة من الرواة غير هؤلاء ليس من شك فى أنهم كانوا يتخذون الانتحال فى الشعر واللغة وسيله من وسائل الكسب .
وكانوا يفعلون ذلك فى شئ من السخرية والعبث ، نريد بهم هؤلاء الأعراب الذين كان يرتحل إليهم فى البادية رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب .
فليس من شك عند من يعرف أخلاق الأعراب فى أن هؤلاء الناس حين رأوا إلحاح أهل الأمصار عليهم فى طلب الشعر والغريب وعنايتهم بما كانوا يلقون إليهم منهما، قدروا بضاعتهم واستكثروا منها .
ثم لم يلبثوا أن أحسوا ازدياد حرص الأمصار على هذه البضاعة ، فجدوا فى تجارتهم وأبوا أن يظلوا فى باديتهم ينتظرون رواه الأمصار.
ولم لا يتولون هم إصدار بضاعتهم بأنفسهم ؟
ولم لا يهبطون إلى الأمصار يحملون الشعر والغريب والنوادر إلى الرواة فيريحونهم من الرحلة ومشاق السفر ونفقاته ، ويحدثون التنافس بينهم ، ويفيدون من ذلك ما لم يكونوا يفيدون حين لم يكن يقتحم الصحارى إليهم إلا رجل كالأصمعي أو أبى عمرو ابن العلاء ؟ وكذلك فعلوا : انحدروا إلى الأمصار فى العراق خاصة ، وكثر ازدحام الرواة حولهم فنفقت بضاعتهم ، تعلم أن نفاق البضاعة أدعى إلى الإنتاج ، فأخذ هؤلاء الأعراب يكذبون وأسرفوا فى الكذب ، حنى أحس الرواة أنفسهم ذلك .
فالأصمعى يحدثنا عن أحد هؤلاء الأعراب ، واسمه أبو ضمضم ، أنه أنشد لمائة شاعر أو ثمانين شاعرا كلهم يسمى عمرا ؛ قال الأصمعى :فعددت أنا وخلف الأحمر فلم نقدر على ثلاثين .
ويحدثنا ابن سلام عن أبى عبيدة أن داود بن متمم بن نويرة ورد البصرة فيما يقدم له الأعراب ، فأخذ أبو عبيدة يسأله عن شعر أبيه وكفاه حاجته ؟ فلما فرغ داود من رواية شعر أبيه وكره أن تنقطع عناية أبى عبيدة به أخذ يضع على أبيه ما لم يقل ، وعرف ذلك أبو عبيدة .
ونظن أننا قد بلغنا ما كنا نريد من إحصاء الأسباب المختلفة التى حملت على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين ، والتي تضطرنا نحن فى هذا العصر إلى أن نقف موقف الشك والاحتياط أمام هذا الشعر.
كل شئ فى حياة المسلمين فى القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه سواء فى ذلك الحياة الصالحة حياة الأتقياء والبررة ، والحياة السيئة حياة الفساق وأصحاب المجون .
فإذا كان الأمر على هذا النحو فهل تظن أن من الحزم والفطنة أن نقبل ما يقول القدماء فى غير نقد ولا تحقيق؟
وقد قدمنا أن هذا الكذب والانتحال فى الأدب والتاريخ لم يكونا مقصورين على العرب ، وانما هما حظ شائع فى الآداب القديمة كلها .
فخير لنا أن نجتهد فى تعرف ما يمكن أن تصح إضافته إلى الجاهليين من الشعر.
وسبيل ذلك أن ندرس الشعر نفسه فى ألفاظه ومعانيه بعد أن درسنا ما يحيط به من الظروف .



.../...



الكتاب الثالث
 

الكتاب الثالث

الشعر والشعراء

1- قصص وتاريخ
نظن ان أنصار القديم لا يطمعون مثلنا فى أن نغير لهم حقائق الأشياء أو أن نسمى هذه الحقائق بغير أسمائها، لنبلغ رضاهم ونتجنب سخطهم .
ومهما نكن حراصا على أن يرضوا ومهما نكن شديدى الكره لسخطهم فنحن على رضا الحق أحرص ، وللعبث بالحق والعلم أشد كرها.
ولن نستطيع أن نسمى حقا ما ليس بالحق ، وتاريخا ما ليس بالتاريخ .
ولن نستطيع أن نعترف بأن ما يروى من سيرة هؤلاء الشعراء الجاهليين وما يضاف إليهم من الشعر تاريخ يمكن الاطمئنان إليه أو الثقة به ؟
وانما كثرة هذا كله قصص وأساطير لا تفيد يقينا ولا ترجيحا، وانما تبعث فى النفوس ظنونا وأوهاما .
وسبيل الباحث المحقق أن يستعرضها فى عناية وأناة وبراءة من الأهواء والأغراض ، فيدرسها محللا ناقدا مستقصيا في النقد والتحليل .
فإن انتهى من درسه هذا إلى حق أو شئ أو شئ يشبه الحق أثبته محتفظا بكل ما ينبغى أن يحتفظ به من الشك الذى قد يحمله على ان يغير رأيه ويستأنف بحثه ونظره من جديد .
ذلك أن أخبار الجاهليين واشعارهم لم تصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة ، وانما وصلت إلينا من هذه الطريق التى تصل منها القصص والأساطير: طريق الرواية والأحاديث ، طريق الفكاهة واللعب ، طريق التكلف والانتحال .
فنحن مضطرون أمام هذا كله إلى أن نحتفظ بحريتنا كاملة، والى ان نقاوم ميولنا وأهواءنا وفطرتنا التى هى مستعدة للتصديق والاطمئنان فى سهولة ويسر.
ونحن لا نعرف نصا عربيا وصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة يمكن ان نطمئن إليها قبل القرآن إلا طائفة من النقوش لا تثبت فى الأدب حقا ولا تنفى منه باطلا .
وهى إن أفادت فى تاريخ الرسم فذلك كل ما يمكن أن يؤخذ منها إلى الآن .
القرآن وحده هو النص العربي القديم الذي يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته ويعتبره مشخصا للعصر الذي تلي فيه .
فأما شعر هؤلاء الشعراء وخطب هؤلاء الخطباء وسجع هؤلاء الساجعين فلا سبيل إلى الثقة بها ولا إلى الاطمئنان إليها، ولاسيما بعد ما بسطنا لك فى الكتاب الأول من الأسباب التى تدعو إلى الشك فى صحتها ، وبعد ما بسطنا لك فى الكتاب الثاني من الأسباب التى كانت تحمل الناس على التكلف والانتحال .
إذا فيجب أن يكون لمؤرخ الآداب العربية موقفان مختلفان : أحدهما أمام الأساطير والأقاصيص والأسمار التى تروى سكن العصر الجاهلى .
والثاني أمام النصوص التاريخية الصحيحة التى تبتدئ بالقرآن .
وقد بينا لك فى الكتاب الماضي أن هذا ليس شأن الآداب العربية وحدها، وانما هو شأن الآداب القديمة كلها ، وضربنا لك الأمثال بالأدب اليونانى والأدب اللاتيني .
ولولا أنا نحرص على الإيجاز لضربنا لك أمثالا أخرى لطائفه من الآداب الحية الحديثة ؟ فلكل أدب قسمه الصحيح وقسمه المتكلف ، ولكل أمة تاريخها الصحيح وتاريخها المنتحل .
ولسنا ندرى لم يريد أنصار القديم أن يميزوا الأمة العربية والأدب العريى من سائر الأمم والآداب ؟
ومن الذى يستطيع أن يزعم أن الله قد وضع القوانين العامة لتخضع لها الإنسانية كلها إلا هذا الجيل الذى كان ينتسب إلى عدنان وقحطان ؟ كلا !
الجيل العربي كغيره من الأجيال خاضع لهذه القوانين العامة التى تسيطر على حياة الأفراد والجماعات .
للعرب خيالهم الشعبي .
وهذا الخيال قد جد وعمل وأثمر، وكانت نتيجة جده وعمله وأثماره هذه الأقاصيص والأساطير التى تروى لا عن العصر الجاهلى وحده بل عن العصور الإسلامية التاريخية أيضا .
وقد رأيت فى فصولنا التى سميناها " حديث الأربعاء " أنا نشك فى طائفة من هذه القصص الغرامية التى تروى عن العذريين وغيرهم من العشاق فى العصر الأموي . ويجب حقا أن نلغى عقولنا- كما يقول بعض الزعماء السياسيين - لنؤمن بأن كل ما يروى لنا عن الشعراء والكتاب والخلفاء والقواد والوزراء صحيح ، لأنه ورد فى كتاب الأغانى أو فى كتاب الطبري أو في كتاب المبرد أو في سفر من أسفار الجاحظ .
نعم يجب أن نلغى عقولنا وأن نلغى وجودنا الشخصي وأن نستحيل إلى كتب متحركة: هذا يحفظ الكامل لا يعدوه فيصبح نسخه من كتاب الكامل تمشى على رجلين وتنطق بلسان ؟ وهذا يحفظ كتاب البيان والتبيين فيصبح نسخة منه ؟
وهذا يحفظ أخلاطا من هذه الكتب فيصبح مزاجا غريبا يتكلم مرة بلسان الجاحظ وأخرى بلسان المبرد وثالثة بلسان ثعلب ورابعة بلسان ابن سلام .
لأنصار القديم أن يرضوا لأنفسهم بهذا النحو من أنحاء الحياة العلمية .
أما نحن فنأبى كل الإباء أن نكون أدوات حاكية أو كتبا متحركة، ولا نرضى إلا أن تكون لنا عقول نفهم بها ونستعين بها على النقد والتمحيص فى غير تحكم ولا طغيان . وهذه العقول تضطرنا، كما اضطرت غيرنا من قبل ، إلى أن ننظر إلى القدماء كما ننظر إلى المحدثين دون أن ننسى الظروف التى تحيط بأولئك وهؤلاء .
فأنا لا أقدس أحدا من الذين يعاصرونني ولا أبرئه من الكذب والانتحال ولا أعصمه من الخطأ والاضطراب .
فإذا تحدث إلى بشيء أو نقل لي عنه شئ، فأنا لا أقبل حتى أنقد وأتحرى، وأحلل وأدقق فى التحليل .
وما أعرف أن أحدا من أنصار القديم أنفسهم يقدس المعاصرين ويطمئن إليهم من غير نقد ولا تبصر. وآية ذلك أنهم يحيون حياتهم اليومية كما يحياها أنصار الجديد، فهم يبيعون ويشترون ويدخرون كما يبيع غيرهم وكما يشترى وكما يذخر، وهم يدبرون أمورهم الخاصة كما يدبرها سائر الناس فى مقدار من الذكاء والفطنة والحذر.
فما بالهم يصطنعون مماتهم الناقدة بالقياس إلى المعاصرين ولا يصطنعونها بالقياس الى القدماء؟ وما بالهم إذا كانوا يحبون التصديق والاطمئنان إلى هذا الحد لا يصدقون البائع حين يزعم لهم أن سلعته تساوى عشرين ، بل يعرضون عليه عشرة وألقل من عشره ويساومون حتى ينتهوا إلى ما يريدون ؟ ولو أنهم صدقوا المحدثين واطمأنوا إليهم كما يصدقون القدماء . ويطمئنون إليهم لكانوا مضرب الأمثال فى الغفلة والبله والحمق ، ولكانت حياتهم كدا وضنكا وعناء .
ولكنا نحمد لهم الله ، فهم بالقياس إلى معاصريهم أصحاب بصر بالأمور وفطنة بدقائقها وحيلة واسعة للتخلص من المآزق ، وهم يشترون اللحم كما نشتريه ويبذلون فى الخبز والسمن مثل ما نبذل .
وإذا فما مصدر هذه التفرقة التى يصطنعونها بين القدماء والمحدثين ؟
ما لهم يؤمنون لأولئك ويشكون فى هؤلاء ؟ ليلى لهذه التفرقة مصدر إلا هذه الفكرة التى تسيطر على نفوس العامة فى جميع الأمم وفى جميع العصور، وهى أن القديم خير من الجديد ، وان الزمان صائر إلى الشر لا إلى الخير، وأن الدهر يسير بالناس القهقرى : يرجع بهم إلى وراء ولا يمضى بهم إلى أمام . . .
زعموا أن القمحة كانت فى العصور الذهبية تعدل التفاحة العظيمة حجما، ثم غضب الله على الناس فأخذت القمحة تتضاءل حتى وصلت إلى حيث هى الآن .
وزعموا أن الرجل من الأجيال القديمة كان من الطول والضخامة والقوة بحيث كان يغمس يده فى البحر فيأخذ منه السمك ثم يرفع يده فى الجو فيشويه فى جذوة الشمس ثم يهبط بيده إلى فمه فيزدرد شواءه ازدرادا .
وزعموا أن أهل الأجيال القديمة كانوا من الضخامة والجسامة بحيث استطاع بعض الملوك ، أو بعض الأنبياء ، أن يتخذ فخذ أحدهم جسرا يعبر عليه الفرات . فالقديم خير من الجديد ، والقدماء خير من المحدثين .
يؤمن العامة بهذا إيمانا لا سبيل إلى زعزعته .
وهذا الإيمان يتطور ويتغير ؛ ولكن أصله ثابت .
فأصحاب الحضارة والمدنية الذين أخذوا من العلم بحظ لا يؤمنون بمثل هذه الأحاديث التى قدمتها لك ؛ ولكنهم يرون أن الأخلاق مثلا كانت أشد استيقاظا فى العصور الأولى، وأن الأفئدة كانت أشد ذكاء ، وأن الأبدان كانت أعظم حظا من الصحة
.
وعلى هذا النحو يكون تفضيل القديم ، لأنه قديم لا نراه من جهة، ولأننا ساخطون بطبعنا على الحاضر من جهة أخرى .
فهل تظن أن الذين يثقون بخلف وحماد والأصمعي وأبى عمرو بن العلاء يثقون بهم لشيء غير ما قدمت لك ؟ كلا !
كان هؤلاء الناس أحسن من المعاصرين أخلاقا وأقل منهم ميلا إلى الكذب ، كانوا أذكى منهم أفئدة، كانوا أقوى منهم حافظه ، كانوا أثقب منهم بصائر.
لماذا ؟ لأنهم قدماء ! لأنهم كانوا يعيشون فى هذا العصر الذهبي ! أليس العصر العباسي عصرا ذهبيا بالقياس إلى هذا العصر الذى نعيش فيه ؟
أما نحن فلا نزعم أن القدماء كانوا شرا من المحدثين ، ولكنا لا نزعم أيضا أنهم كانوا خيرا منهم. وانما أولئك وهؤلاء سواء ، لا تفرق بينهم إلا ظروف الحياة التى تصور طبائعهم صورا ملائمة لها دون أن تغير هذه الطبائع .
كان القدماء يكذبون كما يكذب المحدثون ، وكان القدماء، يخطئون كما يخطئ المحدثون ، وكان حظ القدماء من الخطأ أعظم من حظ المحدثين ، لأن العقل لم يبلغ من الرقى فى تلك العصور ما بلغ فى هذا العصر ولم يستكشف من مناهج البحث والنقد ما استكشف فى هذا العصر.
فإذا أخذنا أنفسنا بأن نقف أمام القدماء موقف الشك والاحتياط فلسنا غلاة ولا مسرفين ، وانما نحن نؤدي لعقولنا حقها ونؤدي للعلم ماله علينا من دين .
وإذا كنا نطلب إلى أنصار القديم شيئا فهو أن يكونوا منطقيين ، وأن يلائموا بين حياتهم حين يقرءون ويكتبون وحياتهم حين يبيعون ويشترون .
وإذا فلنتناول مع الإيجاز الشديد شيئا من البحث عن الشعر والشعراء فى العصر الجاهلى لنرى إلى أي شيء نستطيع أن نطمئن من هذه الأشعار والأخبار التى امتلأا بها الكتب والأسفار.




.../...
 

  1. 2- امرؤ القيس - عبيد - علقمة

    لعل أقدم الشعراء الذين يروى لهم شعر كثير ويتحدث الرواة عنهم بأخبار كثيرة فيها تطويل وتفصيل هو امرؤ القيس .
    ونحن نعلم أن الرواة يتحدثون بأسماء طائفة من الشعراء زعموا أنهم عاشوا قبل امرئ القيس وقالوا شعرا ، ولكنهم لا يروون لهؤلاء الشعراء إلا البيت أو البيتين أو الأبيات .
    وهم لا يذكرون من أخبار هؤلاء الشعراء إلا الشىء القليل الذى لا يغنى .
    وهم يعللون قلة الأخبار والأشعار التى يمكن أن تضاف إلى هؤلاء الشعراء ببعد العهد وتقادم الزمن وقلة الحفاظ .
    وقد رأيت فى الكتاب الماضي أن لمكيلا من النقد لما يضاف إلى هؤلاء الشعراء ينتهى بك إلى جحود ما يضاف إليهم من خبر أو شعر.
    فلندع هؤلاء الشعراء ولنقف عند امرئ القيس وأصحابه الذين يظهر أن الرواة عرفوا عنهم ورووا لهم الشىء الكثير .
    من امرؤ القيس ؟
    أما الرواة فلا يختلفون فى أنه رجل من كنده .
    ولكن ، من كنده ؟
    لا يختلف الرواة فى أنها قبيلة من قحطان ؛ وهم يختلفون بعض الاختلاف فى نسبها وفى تفسير اسمها وفى أخبار سادتها .
    ولكنهم على كل حال يتفقون على أنها قبيلة يمانية، وعلى أن امرأ القيس منها .
    فأما اسم امرئ القيس واسم أبيه واسم أمه فأشياء ليس من اليسير الاتفاق عليها بين الرواة ؟
    فقد كان اسمه امرأ القيس ، وقد كان اسمه حندجا، وقد كأن اسمه قيسا.
    وقد كان اسم أبيه عمرا ، وقد كان اسم أبيه حجرا أيضا .
    وكان اسم أمه فاطمة بنت ربيعة أخت مهلهل وكليب ، وكأن اسم أمه تملك .
    وكان امرؤ القيس يعرف بأبى وهب ، وكان يعرف بأبى الحارث .
    ولم يكن له ولد ذكر.
    وكان يئد بناته جميعا. وكانت له ابنه يقال لها هند ؟
    ولم تكن هند هذه ابنته وانما كانت بنت أبيه .
    وكان يعرف بالملك الضليل ، وكان يعرف بذي القروح .
    وعليك أنت ان تستخلص من هذا الخليط المضطرب ما تستطيع ان تسميه حقا أو شيئا يشبه الحق .
    وأي شيء أيسر من أن تأخذ ما اتفقت عليه كثرة الرواة على أنه حق لاشك فيه ؟
    وكثرة الرواة قد اتفف على أن اسمه حندج بن حجر، ولقبه امرؤ القيس ، وكنيته أبو وهب ؟
    وأمه فاطمة بنت ربيعه .
    على هذا اتفقت كثرة الرواة .
    وإذا اتفقت الكثرة على شيء فيجب أن يكون صحيحا أو على اقل تقدير يجب أن يكون راجحا .
    أما أنا فقد أطمئن إلى آراء الكثرة، أو قد أرانى مكرها على الاطمئنان لأراء الكثرة، فى المجالس النيابية وما يشبهها .
    ولكن الكثرة فى العلم لا تغنى شيئا ؟
    فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها ، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة .
    وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنه غير صحيح . فالكثرة فى العلم لا تغنى شيئا .
    وإذا فليس من سبيل الى أن نقبل قول الكثرة في امرئ القيس ؟ وانما السبيل أن نوازن بينه وبين ما تزعم القلة .
    وليس إلى هذه الموازنة المنتجة من سبيل إذا لاحظت ما قدمناه فى الكتاب الماضي من هذه الأسباب التى كانت تحمل على الانتحال وتكلف القصص .
    وإذا فلسنا نستطيع أن نفصل بين الفريقين المختلفين ، وانما نحن مضطرون إلى أن نقبل ما يقول أولئك وهؤلاء على أن الناس كانوا يتحدثون به دون أن نرف وجه الحق فيه .
    ولعل ، هذا وأشباهه من الخلط فى حياة امرئ القيس أوضح دليل على ما نذهب إليه من أن امرأ القيس إن يكن كد وجد حقا- ونحن نرجح ذلك ونكاد نوقن به - فإن الناس لم يعرفوا عنه شيئا إلا اسمه هذا ، وإلا طائفة من الأساطير والأحاديث تتصل بهذا الاسم .
    وهنا يحسن أن نلاحظ أن الكثرة من هذه الأساطير والأحاديث لم تشع بين الناس إلا فى عصر متأخر: وفى عصر الرواة المدونين والقصاصين .
    فأكبر الظن إذا أنها نشأت فى هذا العصر ولم تورث عن العصر الجاهلى حقا .
    وأكبر الظن أن الذى أنشأ هذه القصة ونماها إنما هو هذا المكان الذى احتلته قبيلة كندة فى الحياة الإسلامية منذ تمت للنبي السيطرة على البلاد العربية إلى القرن الأول للهجرة .
    فنحن نعلم أن وفدا من كندة وفد على النبى وعلى رأسه الأشعث بن قيس .
    ونحن نعلم أن هذا الوفد طلب - فيما تقول السيرة - إلى النبى أن يرسل معهم مفقها يعلمهم الدين .
    نحن نعلم أن كندة ارتدت بعد موت النبى ، وأن عامل ابى بكر حاصرها فى النُجير وأنزلها على حكمه وقتل منها خلقا كثيرا وأوفد ملها طائفة إلى أبى بكر فيها الأشعث بن قيس الذى تاب وأناب وأصهر إلى أبى بكر فتروج أخته أم فروة ؟
    وخرج - فيما يزعم الرواة - إلى سوق الإبل فى المدينة فاستل سيفه ومضى فى إبل السوق عقرا ونحرا حتى ظن الناس به الجنون ، ولكنه دعا أهل المدينة إلى الطعام وأدى إلى أصحاب الإبل أموالهم ؟
    وكانت هذه المجزرة الفاحشة وليمة عرسه .
    ونحن نعلم أن الرجل قد اشترك فى فتح الشام وشهد مواقع المسلمين فى حرب الفرس ، وحسن بلاؤه فى هذا كله ، وتولى عملا لعثمان ، وظاهر عليا على معاوية ، وأكره عليا على قبول التحكيم في صفين .
    ونحن نعلم أن ابنه محمد بن الأشعث كان سيدا من سادات الكوفة ، عليه وحده اعتمد زياد حين أعياه أخذ حجر بن عدى الكندي .
    ونحن نعلم أن قصة حجر بن عدى هذا وقتل معاوية إياه فى نفر من أصحابه قد تركت فى نفوس المسلمين عامة واليمنيين خاصة أثرا قويا عميقا مثل هذا الرجل فى صوره الشهيد.
    ثم نحن نعلم أن حفيد الأشعث بن قيس وهو عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث قد ثار بالحجاج ، وخلع عبد الملك ، وعرض دولة آل مروان للزوال ، وكان سببا فى إراقة دماء المسلمين من أهل العراق والشام ، وكان اللذين قتلوا فى حروبه يحصون فيبلغون عشرات الآلاف ، ثم انهزم فلجأ إلى ملك الترك ، ثم أعاد الكرة فتنقل فى مدن فارس ، ثم استيأس فعاد إلى ملك الترك ، ثم غدر به هذا الملك فأسلمه إلى عامل الحجاج ، ثم قتل نفسه فى طريقه إلى العراق ، ثم احتلت رأسه وطوف به فى العراق والشام ومصر.
    أفتظن أن أسرة كهذه الأسرة الكندية تنزل هذه المنزلة فى الحياة الإسلامية وتؤثر هذه الآثار فى تاريخ المسلمين لا تصطنع القصص ولا تأجر القصاص لينشروا لها الدعوة ويذيعوا عنها كل ما من شأنه أن يرفع ذكرها ويبعد صوتها ؟
    بلى! ويحدثنا الرواة أنفسهم أن عبدالرحمن بن الأشعث اتخذ القصاص وأجرهم كما اتخذ الشعراء وأجزل صلتهم : كان له قاص يقال له عمرو بن ذر ؟
    وكان شاعره أعشى همذان .
    فما يروى من أخبار كندة فى الجاهلية متأثر من غير شك بعمل هؤلاء القصاص الذين كانوا يعملون لآل الأشعث .
    وقصه امرئ القيس بنوع خاص تشبه من وجوه كثيرة حياة عبدالرحمن ابن الأشعث .
    فهي مثل لنا امرأ القيس مطالبا بثأر أبيه .
    وهل ثار عبد الرحمن عند الذين يفقهون التاريخ إلا منتقما لحجر بن عدى ؟
    وهى تمثل لنا امرأ القيس طامعا فى الملك .
    وقد كان عبدالرحمن بن الأشعث يرى أنه ليس أقل من بنى أميه استئهالا للملك ؛ وكان يطالب به .
    وهى تمثل لنا أمرا القيس متنقلا فى قبائل العرب .
    وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث متنقلا فى مدن فارس والعراق .
    وهى تمثل امرأ القيس لاجئا إلى قيصر مستعينا به .
    وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث لاجئا إلى ملك الترك مستعينا به .
    وهى تمثل لنا أخيرا امرأ القيس وقد غدر به قيصر بعد أن كاد له أسدى فى القصر.
    وقد غدر ملك الترك بعبد الرحمن بعد أن كاد له رسل الحجاج .
    وهى تمثل لنا بعد هذا وذاك امرأ القيس وقد مات فى طريقه عائدا من بلاد الروم .
    وقد مات عبد الرحمن فى طريقه عائدا من بلاد الترك .
    أليس من اليسير أن نفترض بل إن نرجح أن حياة امرئ القيس كما يتحدث بها الرواة ليست إلا لونا من التمثيل لحياه عبدالرحمن استحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية فى العراق واستعاروا له اسم الملك الضليل اتقاء لعمال بنى أمية من ناحية ، واستغلالا لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضليل من ناحية أخرى؟ ستقول : وشعر امرئ القيس ما شأنه ؟
    وما تأويله ؟
    شأنه يسير، وتأويله أيسر.
    فأقل نظر فى هذا الشعر يلزمك أن تقسمه إلى قسمين : أحدهما يتصل بهذه القصة التى قدمنا الإشارة إليها .
    وإذا فشأنه شأن هذه القصة انتحل لتفسيرها أو تسجيلها، وانتحل لتمثيل هذا التنافس القوى الذى كان قائما بين قبائل العرب وأحيائهم فى الكوفة والبصرة .
    واقل درس لهذا الشعر يقنعك ، إن كنت من الذين يألفون البحث الحديث ، بأن هذا الشعر الذى يضاف إلى امرئ القيس ويتصل بقصته إنما هو شعر إسلامي لا جاهلي، قيل وانتحل لهذه الأسباب التى أشرنا إليها ولأسباب أخرى فصلناها فى القسم الثاني من هذا الكتاب .
    فهذا أحد القسمين .
    وأما القسم الثاني فشعر لا يتصل بهذه القصة، وانما يتناول فنونا من القول مستقلة من الأهواء السياسية والحزبية .
    ولنا فى هذا القسم رأى نسطره بعد حين .
    وخلاصة هذا البحث القصير أن شخصية امرئ القيس - إذا فكرت - أشبه شئ بشخصية الشاعر اليوناني هوميروس .
    لا يشك مؤرخو الآداب اليونانية الآن فى أنها قد وجدت حقا، وأثرت فى الشعر القصصي حقا، وكان تأثيرها قويا باقيا ؟ ولكنهم لا يعرفون من أمرها شيئا يمكن الاطمئنان إليه ، وانما ينظرون إلى هذه الأحاديث التى تروى عنه كما ينظرون إلى القصص والأساطير لا أكثر ولا أقل .
    فامرؤ القيس هو الملك الضليل حقا : نريد أنه الملك الذى لا يعرف عنه شيء يمكن الاطمئنان إليه .
    هو ضل بن قل كما يقول أصحاب المعاجم اللغوية .
    ومن غريب الأمر أن طائفة من الشعر تنسب إلى امرئ القيس على انه قالها حينما كان متنقلا فى القبائل العربية يمدح بها هذه ويهجو تلك ، وتتصل بهذه الأشعار طائفة من الأخبار تبين نزول امرئ القيس فى هذه القبيلة، والتجاءه إلى تلك القبيلة، وجواره عند فلان ، واستعانته بفلان ، وأن شيئا مكل هذا يلاحظ فى حياة هوميروس ؟
    فهو- فيما يزعم رواة اليونان - قد تنقل فى المدن اليونانية فلقي من بعضها الكرامة والتجلة، رمن بعضها الإعراض والانصراف .
    ومؤرخو ا لآداب اليونانية يفسرون هذه الأحاديث على أنها مظهر من مظاهر التنافس بين المدن اليونانية : كلها يزعم لنفسه أنه ضيف هوميروس أو نشأه أو أجاره أو عطف عليه .
    ونحن نذهب هذا المذهب نفسه فى تفسير هذه الأخبار والأشعار التى تمس تنفل امرئ القيس فى قبائل العرب .
    فهي محدثه انتحلت حين تنافست القبائل العربية فى الإسلام وحين أرادت كل قبيلة وكل حي أن تزعم لنفسها من الشرف والفضل أعظم حظ ممكن . وقد أحس القدماء بعض هذا ؟
    فصاحب الأغانى يحدثنا أن القصيدة القافية التى تضاف إلى امرئ القيس على أنه قالها يمدح بها السموءل حين لجأ إليه منحولة نحلها دارم بن عقال وهو من ولد السموءل .
    واكبر ظننا أن دارم بن عقال لم ينحل القصيدة وحدها وانما نحل القصة كلها وانتحل ما يتصل بها أيضا ؛ نحل قصة ابن السموءل الذى قتل بمنظر من أبيه حين أبى تسليم أسلحه امرئ القيس ، نحل قصة الأعشى الذي استجار بشريح بن السموءل وقال فيه هذا الشعر المشهور :
    شريح لا تتركنى بعد ما علقت = حبالك اليوم بعد القد أظفاري
    قد حلت ما بين بانقيا إلى عدن = وطال فى العجم تردادي وتسيارى
    فكان أكرمهم عهدا وأوثقهم = مجدا أبوك بعرف غير إنكار
    كالغيث ما استمطروه جاد وابله = وفى الشدائد كالسمتأسد الضاري
    كن كالسموءل إذ طاف الهمام به = فى جحفل كهزيع الليل جزار
    إذ سامه خطتي خسف فكال له = قل ما تشاء فإني سامع حار
    فقال غدر وثكل أنت بسنهما = فاختر وما فلهما حظ لمختار
    فشط غير طويل ثم قال له = أقتل أسيرك إني مانع جارى
    أنا له خلف إن كنت قاتله = وإن قتلت كريما غير غوار
    وسوف يعقبنيه إن ظفرت به = رب كريم وبيض ذات أطهار
    لاسرهن لدينا ذاهب هدرا = وحافظات إذا استودعن اسرارى
    فأختار أد راعه كي لا يسب بها = ولم يكن وعده فيها بختار

    ثم كانت هذه القصة المنتحلة سببا فى انتحال قصة أخوى هى قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية وما يتصل بها من الأشعار. منتحلة هذه القصيدة الرائية الطويلة التى مطلعها .
    سما لك شوق بعد ما كان أقصرا = وحلت سليمي بطن ظبي فعرعرا

    منتحل هذا الشعر الذى قاله امرؤ القيس حين دخل الحمام مع قيصر والذي تنزه هذا الكتاب عن روايته .
    منتحل هذا الحب الذى يقال إن امرؤ القيس أضمره لابنة قيصر.
    منتحلة هذه الأشعار التى تضاف إلى امرئ القيس حين أحس السم وهو قافل من بلاد الروم .
    كل هذا منتحل لأنه يفسر هذه الأحاديث التى شاعت ، لتلك الأسباب التى قدمناها .
    وإذا لم يكن بدا من التماس الأدلة الفنية على انتحال هدا الشعر، فقد نحب أن نعرف كيف زار امرؤ القيس بلاد الروم وخالط قيصر حتى دخل معه الحمام وفتن ابنته ورأى مظاهر الحضارة اليونانية فى قسطنطينية ولم يظهر لذلك أثر ما فى شعره : لم يصف القصر ولم يذكره ، لم يصف كنيسة من كنائس قسطنطينية ، لم يصف هذه الفتاه الإمبراطورية التى فتنها، لم يصف الروميات ، لم يصف شيئا ما يمكن أن يكون روميا حقا .
    ثم يكفى أن تقرأ هذا الشعر لتحس فيه الضعف والاضطراب والجهل بالطريق إلى قسطنطينية .
    ومهما يكن من شيء فإن السذاجة وحدها هى التى تعيننا على أن نتصور أن شاعرا عربيا قديما قال هذا الشعر الذى يضاف إلى امرئ القيس فى رحلته إلى بلاد الروم وقفوله منها.
    وإذا رأيت معنا أن كل هذا الشعر الذى يتصل ! بسيرة امرئ القيس إنما هو من عمل القصاص فقد يصح أن نقف معك وقفة قصيرة عند هذا القسم الثاني من شعر امرئ القيس وهو الذى لا يفسر سيرته ولا يتصل بها .
    ولعل أحق هذا الشعر بالعناية قصيدتان اثنتان : الأولى : " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل " والثانية " ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي " فأما ما عدا هاتين القصيدتين فالضعف فيه ظاهر والاضطراب فيه بين والتكلف والإسفاف فيه يكادان يلمسان باليد .
    وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدرى كيف تتخلص منها أنصار القديم ، وهى أن امرأ القيس - إن، صحت أحاديث الرواة - يمنى، وشعره قرشي اللغة ، لا فرق بينه وبين القرآن فى لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام .
    ونحن نعلم - كما قدمنا - أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز فكيف نظم الشاعر اليمنى شعره فى لغة أهل الحجاز ؟
    بل فى لغة قريش خاصة ؟
    سيقولون : نشأ امرؤ القيس فى قبائل عدنان وكان ، أبوه ملكا على بنى أسد وكانت أمة من بنى تغلب وكان مهلهل خاله ، فليس غريبا ان يصطنع لغة عدنان ويعدل عن لغة اليمن .
    ولكننا نجهل هذا كله ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذى ينسب إلى امرئ القيس .
    ونحن بشك فى هذا الشعر ونصفه بأنه منتحل .
    وإذا فنحن ندور: نثبت لغة امرئ القيس الذى نشك فيه .
    على أننا أمام مسألة أخرى ليست أقل من هذه المسألة تعقيدا فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هى، اللغة السائدة فى البلاد العربية أيام امرئ القيس ؟
    وأكبر الظن أنها لم تكن لغة العرب فى ذلك الوقت ، وأنها إنما أخذت تسود فى أواسط القرن السادس للمسيح وتمت لها السيادة بظهور الإسلام كما قدمنا .
    وإذا فكيف نظم امرئ القيس اليمنى شعره فى لغة القرآن مع أن هذه اللغة لم تكن سائدة فى العصر الذى عاش فيه امرؤ القيس ؟ وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقا فى شعر أمرؤ القيس لفظا أو أسلوبا أو نحوا من أنحاء القول يدل على أنه يمنى .
    فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغه عدنان فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته الأولى قد محيت من نفسه محوا تاما ولم يظهر لها أثر ما فى شعره ؟ نظن أن أنصار القديم سيجدون كثيرا من المشقة والعناء ليحلوا هذه المشكلة ونظن أن إضافة هذا الشعر إلى امرئ القيس مستحيلة فبل أن تحل هذه المشكلة .
    على أننا نحب أن نسأل عن شئ أخر ؛ فامرؤ القيس ابن أخت مهلهل وكليب ابنى ربيعه - فيما يقولون - ، وأنت تعلم أن قصة طويلة عريضة قد نسجت حول مهلهل وكليب هذين ، هى قصة البسوس وهذه الحرب التى اتصلت أربعين سنة - فيما يقولون القصاص - وأفسدت ما بين القبيلتين الأختين بكر وتغلب .
    فمن العجيب ألا يشير امرؤ القيس بحرف واحد إلى مقتل خاله كليب ، ولا إلا بلاء خاله مهلهل ، ولا إلى هذه المحن التى أصابت أخواله من بنى تغلب ، ولا إلى هذه المآثر التى كانت لأخواله على بنى بكر.
    وإذا فأينما وجت فلن تجد إلا شكا : شكا فى القصة، شكا فى اللغة، شكا فى النسب ، شكا فى الرحلة ، شكأ فى الشعر .
    وهم يريدون بعد هذا أن نؤمن ونطمئن إلى كل ما يتحدث به القدماء عن امرئ القيس ! نعم نستطيع أن نؤمن وأن نطمئن لو أن الله قد رزقنا هذا الكسل العقلى الذى يحبب إلى الناس أن يأخذوا بالقديم تجنبا للبحث عن الجديد .
    ولكن الله لم لرزقنا هذا النوع من الكسل ، فنحن نؤثر عليه تعب الشك ومشقة البحث .
    وهذا البحث ينتهى بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذى يضاف لامرئ القيس ليس من امرئ القيس فى شئ وانما هر محمول عليه حملا ومختلق عليه اختلاقا ، حمل بعضه العرب نفسهم ، وحمل بعضه الآخر الرواة الذين دونوا الشعر فى القرن الثاني للهجرة .
    ولننظر فى المعلقة نفسها ، فلسنا نعرف قصيدة يظهر فيها التكلف والتعمل أكثر مما يظهران فى هذه القصيدة .
    لا نحفل بقصة تعليق هذه القصائد السبع أو العشر على الكعبة أو فى الدفاتر .
    فما نظن أن أنصار القديم يحفلون بهذه القصة التى نشأت فى عصر متأخر جدا والتي لا يثبتها شئ فى حياة العرب وعنايتهم بالآداب .
    ولكننا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكون فى بعض هـذه القصيدة فهم يشكون فى صحة هذين البيتين :
    ترى بعر الآرام في عرصاتها = وقيعانها كأنه حب فلفل
    كأني غداة البين يوم تحملوا = لدى سمرات الحي ناقف حنطل

    وهم يشكون فى هذه الأبيات :
    وقرية أقوام جعلت عصامها = على كاهل منى ذلول ، مرحل
    رواد كجوف العير قفر قطعته = به الذئب يعوى كالخليع المعيل
    فقلت له لما عوى إن شأننا = قليل الغنى إن كنف لما تمول
    كلانا إذا ما نال شيئا أفاته = ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل

    وهم بعد هذا يختلفون اختلافا كثيرا فى رواية القصيدة : فى ألفاظها وفى ترتيبها ، ويضعون لفظا مكان لفظ وبيتا مكان بيت .
    وليس هذا الاختلاف مقصورا على هذه القصيدة، وانما يتناول الشعر الجاهلى كله .
    وهو اختلاف قد أعطى المستشرقين صورة سيئة كاذبة من الشعر العربي، فخيل إليهم أنه غير منسق ولا مؤلف ، وأن الوحدة لا وجود لها فى القصيدة وان الشخصية الشعرية لا وجود لها فى القصيدة أيضا ، وأنك تستطيع أن تقدم وتؤخر وان تضيف الى الشاعر شعر غيره دون أن تجد فى ذلك حرجا أو جناحا مادمت لم تخل بالوزن ولا بالقافية .
    وقد يكون هذا صحيحا فى الشعر الجاهلى ، لأن كثرة هذا الشعر منتحلة مصطنعة .
    فأما الشعر الاسلامى الذى صحت نسبته لقائليه فأنا أتحدى أي ناقد أن يعبث به أقل عبث دون أن يفسده .
    وأنا أزعم أن وحدة القصيدة فيه بيئة، وان شخصية الشاعر فيه ليست اقل ظهورا منها فى أي شعر أجنبي.
    إنما جاء هذا الخطأ من اتخاذ هذا الشعر الجاهلى نموذجا للشعر العريى؟ مع أن هذا الشعر الجاهلى - كما قدمنا- لا يمثل شيئا ولا يصلح إلا نموذجا لعبث القصاص وتكلف الرواة .
    ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون فى أن هذين البيتين قلقان فى القصيدة وهما :
    وليل كموج البحر أرخى سدوله = على بأنواع الهموم ليبتلى
    فقلت له لما تمطى بصلبه = وأردف أعجازا وناء بكلكل

    فقد وضع هذان البيتان للدخول على البيت الذى يليهما وهو :
    ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى = بصبح وما الإصباح منك بأمثل

    وهذان البيتان أشبه بتكلف المشطر والمخمس منهما بأي شئ آخر.
    فإذا فرغنا من هذا الشعـر الذى لا نكاد نختلف فى أنه دخيل فى القصيدة ، فقد نستيطع أن نرد القصيدة إلى أجزائها الأولى .
    وهذه الأجزاء هى : أولا وقوف الشاعر على الدار وما يتصل بذلك من بكاء وإعوال ، ثم ذكره أيام لهوه مع العذارى ، ثم عتابه لصاحبته وما يتصل بذلك من وصف خليلته ، ثم ذكر- الليل والاستطراد منه إلى الصيد وما يتوسل به إلى الصيد من وصف الفرس ، ثم ذكر البرق وما يتبعه من السيل .
    ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش أشبه بأن يكون من انتحال الفرذدق منه بأن يكون جاهليا .
    فالرواة يحدثوننا أن الفرزدق خرج فى يوم مطير إلى ضاحية البصرة فاتبع آثارا حتى انتهى إلى غدير وإذا فيه نساء يستحممن ، فمال : ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جلجل ، وولى منصرفا ؛ فصاح النساء به : يا صاحب البغلة ؛ فعاد إليهن فسألنه وعزمن عليه ليحدثهن بحديث دارة جلجل ؛ فقص عليهن قصة امرئ القيس وأنشدهن قوله :
    إلا رب يوم لك منهن صالح = ولا سيما يوم بدارة جلجل

    والذين يقرءون شعر الفرذدق ويلاحظون فحشه وغلظته وأنه قد ليم على هذا الفحش وعلى هذه الغلظة لا يجدون مشقة فى أن يضيفوا إليه هذه الأبيات ، فهي بشعره أشبه .
    وكثيرا ما كأن القدماء يتحدثون بمثل هذه الأحاديث يضيفونها الى القدماء وهم ينتحلونها من عند أنفسهم .
    ومهما يكن من شئ، فلغة هذه الأبيات كلغة القصيدة كلها عدنانية قرشية يمكن أن تصدر عن شاعر إسلامي اتخذ لغة القرآن لغة أدبية .
    أما وصف امرئ القيس لخليلته " وزيارته إياها، وتجشمه ما تجشم للوصول إليها، وتخوفها الفضيحة حين رأته ، وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها، وما كان بسنهما من لهو ، فهو أشبه بشعر عمر بن أبى ربيعة منه بأى شئ آخر.
    فهذا النحو من القصص الغرامى فى الشعر، فن عمر بن أبى ربيعة قد احتكره احتكارا ولم ينازعه فيه أحد.
    ولقد يكون غريبا حقا أن يسبق امرؤ القيس الى هذا الفن ويتخذ فيه هذا الأسلوب ويعرف عنه هذا النحو، ثم يأتى ابن أبى ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد الى أن ابن ابى ربيعة قد تأثر بامرئ القيس مع أنهم قد أشاروا الى تأثير امرئ القيس فى طائفة من الشعراء فى أنحاء من الوصف .
    فكيف يمكن أن يكون امرؤ القيس هو منشئ هذا الفن من الغزل الذى عاش عليه ابن أبى ربيعة والذي كون شخصية ابن أبى ربيعة الشعرية ولا يعرف له ذلك ؟
    وأنت إذا قرأت قصيدة أو قصيدتين من شعر ابن أبى رييعة لم تكد نشك فى أن هذا الفن فنه ابتكره ابتكارا واستغله استغلالا قويا، وعرفت العرب له هذا .
    وقل مثل هذا فى هذا القصص الغرامى الذى تجده فى قصيدة امرئ القيس الأخرى : " ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي " . ففي هذا القصص الفاحش فن ابن أبى رييعة وروح الفرزدق .
    ونحن نرجح إذا أن هذا النوع من الغزل إنما أضيف الى امرئ القيس ، أضافه رواة متأثرون بهذين الشاعرين الإسلاميين .
    بقى الوصف ، ولاسيما وصف الفرس والصيد.
    ولكننا نقف فيه موقف التردد أيضا .
    واللغة هى التى تضطرنا الى هذا الموقف .
    فالظاهر أن امرأ القيس كان قد نبغ فى وصف الخيل والصيد والسيل والمطر.
    والظاهر أنه قد استحدث فى ذلك أشياء كثيرة لم تكن مألوفة من قبل .
    ولكن أقال هذه الأشياء فى هذا الشعر الذى بين أيدينا أم قالها فى شعر آخر ضاع وذهب به الزمان ولم يبق منه إلا الذكرى وإلا جمل مقتضبة أخذها الرواة فنظموها فى شعر محدث نسقوه ولفقوه وأضافوه إلى شاعرنا القديم ؟
    هذا مذهبنا الذى نرجحه .
    فنحن نقبل أن امرأ القيس وهو أول من قيد الأوابد ، وشبه الخيل بالعصى والعقبان وما إلى ذلك ، ولكننا نشك أعظم الشك فى أن يكون قد قال هذه الأبيات التى يرويها الرواة .
    وأكبر الظن أن هذا الوصف الذى تجده فى المعلقة وفى اللامية الأخرى فيه شئ من ريح امرئ القيس ، ولكن من ريحه ليس غير.
    هناك قصيدة ثالثة نجزم نحن بأنها منتحلة انتحالا .
    وهى القصيدة البائية التى يقال إن امرأ القيس أنشأها يخاصم بها علقمة بن عبدة الفحل ، وأن أم جندب زوج امرئ القيس قد غلبت علقمة على زوجها. وأنت تجد القصيدتين فى ديوان امرئ القيس وديوان علقمة . فأما قصيدة امرئ القيس فمطلعها :
    خليلي مرا بي على أم جندب = نقض لبانات الفؤاد المعذب

    وأما قصيدة علقمة فمطلعها :
    ذهبت من الهجران لي في كل مذهب = ولم يك حقا كل هذا التجنب

    ويكفى أن نقرأ هذان البيتين لنحس فيهما رقة إسلامية ظاهرة .
    على أن النظر فى هاتين القصيدتين سيقفك على أن هذين الشاعرين قد تواردا على معان كثيرة بل على ألفاظ كثيرة بل على أبيات كثيرة تجدها بنصها فى القصيدتين معا ، وعلى أن البيت الذى يضاف إلى علقمة وبه ربح القضية يروى لامرئ ا لقيس، وهو:
    فأدركهن ثانيا من عنانه = يمر كمر الرائح المتحلب

    والبيت الذى خسر به امرؤ القيس القضية يروى لعلقمة وهو :
    فللسوط ألهوب وللساق درة = وللزجر منه وقع أهوج منعب

    وأنت تستطيع أن تقرأ القصيدتين دون أن تجد فيهما فرقا بين شخصية الشاعرين ، بل أنت لا تجد فيهما شخصية ما ، وانما تحس أنك تقرأ كلاما غريبا منظوما فى جمع ما يمكن جمعه من وصف الفرس جملة وتفصيلا.
    وأكثر الظن أن علقمة لم يفاخر امرأ القيس ، وأن أم جندب لم تحكم بسنهما ، وأن القصيدتين ليستا من الجاهلية فى شئ ، وانما هما صنع عالم من علماء اللغة لسبب من تلك الأسباب التى أشرنا فى الكتاب الماضي إلى أنها كانت تحمل علماء اللغة على الانتحال .
    وكان أبو عبيدة والأصمعي يتنافسان في العلم بالخيل ووصف العرب إياها: أيهما اقدر عليه وأحذق به .
    وما نظن إلا أن هاتين القصيدتين وأمثالهما آثر من آثار هذا النحو من التنافس بين العلماء من أهل الأمصار الإسلامية المختلفة .
    وهنا وقفة أخرى لابد منها. ذلك أن امرأ القيس لا يذكر وحده وانما يذكر معه من الشعراء علقمة-كما رأيت - وعبيد ابن الأبرص .
    فأما علقمة فلا يكاد الرواة يذكرون عنه شيئا إلا مفاخرته لامرئ القيس ومدحه ملكم من ملوك غسان ببائيته التى مطلعها :
    طحا بك قلب لحسان طروب = بعيد الشباب عصر حان مشيب

    وإلا أنه كان يتردد على قريش ويناشدها شعره ، وإلا انه مات بعد ظهور الإسلام اى فى عصر متأخر جدا بالقياس إلى امرئ القيس الذى مهما يتأخر فقد مات قبل مولد النبى . والذي نرى نحن أنه عاش قبل القرن السادس وربما عاش قبل القرن الخامس أيضا .
    وأما عبيد فقد التمسنا فى سيرته وما يضاف إليه من الشعر ما يعيننا على إثبات شخصية امرئ القيس وشعره فكانت النتيجة محزنة جدا .
    ذلك أنها انتهت بنا إلى أن نقف من عبيد وشعره نفس الموقف الذى وقفناه من امرئ القيس وشعره وليس علينا فى ذلك ذنب ، فالرواة لا يحدثوننا عن عبيد بشيء يقبل التصديق .
    إنما عبيد عند الرواة والقصاص شخص من أصحاب الخوارق والكرامات ، كان صديقا للجن والسماء معا ، عمر عمرا طويلا يصلون به إلى ثلاثة قرون ومات ميتة منكرة : قتله النعمان بن المنذر أو المنذر بن ماء السماء فى لوم بؤسه .
    والرواة يعرفون شيطان عبيد .
    واسم هذا الشيطان هبيد، وقد حاول بعضهم أن يرسل هذا المثل : " لولا هبيد ما كان عبيد " .
    وقد رووا لهبيد هذا شعرا وزعموا أنه أراد أن يلهم الشعر ناسا غير عبيد فلم يوفق.
    ولعبيد مع الجن أحاديث لا تخلو من لذة وعجب .
    ولكن كل ما نقرأ من أخبار عبيد لا يعطينا من شخصيته شيئا ولا يبعث الاطمئنان إلا فى انفس العامة أو أشباه العامة .
    فأما شعر عبيد فليس أشد من شخصيته وضوحا .
    فالرواة يحدثوننا بأنه مضطرب ضائع .
    وابن سلام يحدثنا فى موضع من كتابه " طبقـات الشعراء " ، أنه لم يبق من شعر عبيد وطرفه إلا قصائد بقدر عشر ، ولكنه يحدثنا فى موضع آخر أنه لا يعرف له إلا قوله :
    أقفر من أهله ملحوب = فالقطبيات فالذنوب

    ثم يقول ابن سلام : ولا أدرى ما بعد ذلك . ولكن رواة آخرين يروون هذه القصيدة كاملة ويروون له شعرا آخر فى هجاء امرئ القيس ومعارضته ، وفى استعطافه حجر على بنى أسد .
    ويكفى أن تقرأ هذه القصيدة التى قدمنا طلعها لتجزم بأنها منتحلة لا أصل لها .
    وحسبك أته يثبت فيها وحدانية الله وعلمه على نحو ما يثبتها القرآن فيقول :
    والله ليس له شريك = علام ما أخفت القلوب

    فأما شعره الآخر الذى عارض فيه امرأ القيس وهجا فيه كندة فلا حظ له من صحة فيما نعتقد .
    وذلك أن فيه إسفافا وضعفا وسهولة فى اللفظ والأسلوب لا يمكن أن تضاف إلى شاعر قديم . ويكفى أن تقرأ هذه القصيدة النى أولها :
    يا ذا المخوفنا بقت = ل أبيه إذلالا وحينا
    أزعمت انك قد قتلتت = ت ستراتنا كذبا ومينا

    لتعرف أنها من عمل القصاص ، وأن هذا الشعر وأشباهه إنما هو من أثر التنافس بين العصبية اليمنية والمضرية .
    ولولا أننا نؤثر الإيجاز ونحرص عليه لروينا لك هذا الشر ووضعنا يدك على مواضع التوليد فيه ؟
    ولكن الرجوع إلى هذا الشعر يسير والحكم عليه أيسر.
    وإذن فكل شعر امرئ القيس الذى يتصل بشعر عبيد هذا منحول أيضا كشعر عبيد.
    وقد رأيت من هذه الالمامة القصيرة بهؤلاء الشراء الثلاثة : (امرئ القيس وعبيد وعلقمة) أن الصحيح من شعرهم لا يكاد يذكر وأن الكثرة المطلقة من هذا الشعر مصنوعة لا تثبت شيئا ولا تنفى شيئا بالقياس إلى العصر الجاهلى ، لا نستثنى من ذلك إلا قصيدتين اثنتين لعلقمة : الأولى : " طحا بك قلب للحسان طروب " والثانية : " هل ما علمت وما استودعت مكتوم " فقد يمكن أن يكون لهاتين القصيدتين نصيب من الصحة مع شئ من التحفظ فى بعض أبيات القصيدة الثانية .
    ولكن صحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا فى الشعر الجاهلى فقد رأيت أن علقمة متأخر العصر جدا، وأنه مات بعد ظهور الإسلام ، ورأيت أيضا أنه كان يأتى قريشا ويعرض عليها شعره.
    على أننا احتفظنا لأنفسنا بالشك فى بعض أبيات القصيدة الثانية يظهر فيها التوليد، وهى هذه الأبيات التى يذهب فيها الشاعر مذهب ؟ الحكمة وضرب المثل ؟

    3- عمرو بوقميئة- مهلهل - جليلة

    وشاعران آخران يتصل ذكرهما بذكر امرئ القيس .
    كان أحدهما - فيما يقول الرواة صديقا له ، صحبه فى رحلته فى قسطنطينية، ولم لعد من هذه الرحلة كما لم يعد امرئ القيس ، وهو عمرو اثن قميئة .
    وكان الآخر خال امرئ القيس - فيما يقول الرواة - وهو مهلهل بن ربيعة .
    ولابد من وقفة قصيرة عند هذين الشاعرين فسترى بعد قليل من التفكير أن حياتهما ليست أوضح ولا أثبت من حياة امرئ القيس وعبيد ، وأن شعرهما ليس أصح ولا أصدق من شعر امرئ القيس وعبيد .
    ولنلاحظ قبل كل شئ أن بين امرئ القيس وعمرو بن قميئة شبها غريبا ، فقد كان امرؤ القيس يسمى الملك الضليل.
    وفسرنا نحن هذا الاسم تفسيرا غير الذى اتفق عليه الرواة وأصحاب اللغة .
    فقلنا إنه الملك المجهول الذي لا يعرف عنه شئ، قلنا إنه ضل بن قل .
    وكانت العرب تسمى عمرو بن قميئة عمرا الضائع.
    فأما المتأخرون من الرواة بعد الإسلام فقد التمسوا لهذه التسمية تفسيرا فوجدوه فى سهولة ويسر، أليس قد رحل مع امرئ القيس فى القسطنطينية ؟
    أليس قد مات فى هذه الرحلة ؟ فهو إذن عمرو الضائع لأنه ضاع فى غير قصد ولا وجه .
    أما نحن فنفسر هذا الاسم كما فسرنا اسم امرئ القيس ، ونرى أن عمرو بن قميئة ضاع كما ضاع امرؤ القيس من الذاكرة، ولم يعرف من أمره شئ إلا اسمه هذا كما لم يعرف أمر امرئ القيس ولا من أمر عبيد إلا اسمهما ، ووضعت له قصة كما وضعت لكل من صاحبيه قصة، وحمل عليه شعر كما حمل علي صاحبيه الشعر أيضا .
    قال الرواة : إن ابن قميئة عمر طويلا وعرف امرأ القيس وقد انتهت به السن إلى الهرم ، ولكن امرأ القيس أحبه واستصحبه فى رحلته رغم سنه .
    قال ابن سلام : إن بنى اقيش كانوا يدعون بعض شعر امرئ القيس لعمرو بن قميئة، وليس هذا بشيء . وفى الحق إن هذا ليس بشيء ؟
    فإن هذا الشعر لا يمكن أن يكون لعمرو ابن قميئة كما لا يمكن أن يكون لامرئ القيس فهو شعر محدث محمول .
    وإذا كأن عمرو بن قميئة لم يعرف امرأ القيس ، إلا بعد أن تقدمت به السن وأدركه الهرم فيجب أن يكون قد قال الشعر قبل امرئ القيس الذى لم تتقدم به السن .
    والرواة يزعمون أن ابن قميئة قال الشعر فى شبابه الأول .
    وإذن فليس امرؤ القيس هو أول من فتع للناس باب الشعر، ولكن ما لنا نقف عند شيء كهذا والرواة يضطربون فيه اضطرابا شديدا ؟ فهم يزعمون أن أول من قصد القصائد مهلهل ابن ربيعة خال امرئ القيس .
    وكان امرأ القيس إنما جاءه الشعر من قبل أمه ومعنى ذلك أن الشعر عدنانى لا قحطانى .
    ومن هنا نشأت نظرية أخرى تزعم أن الشعر يمانى كله ، بدئ بامرئ القيس فى الجاهلية وختم بأبى نواس فى الإسلام .
    فأنت ترى أنا حين نقف عند مسألة كهذه لا تتجاوز العصبية بين عدنان وقحطان ولكن سترى أكثر من هذا بعد قليل .
    قصة عمرو بن قميئة التى يرويها الرواة ليست شيئا قيما، وانما هى حديث كغيره من الأحاديث ؟
    فهم يزعمون أن أباه توفى عنه طفلا فكفله عمه ؟ونشأ
    عمرو جميلا وضئ الطلعة فكلفت به امرأة عمه وتكلمت ذلك حتى إذا غاب زوجها لأمر من أموره أرسلت إلى الفتى، فلما جاء دعته إلى نفسها فامتنع وفاء لعمه وامتناعا عن منكر الأمر، وانصرف .
    ولكنها حنقت عليه وألقت على أثره جفنه ، حتى إذا عاد زوجها أظهرت الغضب والغيظ وقصت على زوجها الأمر وكشفت عن الأثر، فغضب الرجل على ابن أخيه .
    هنا يختلف الرواة، فمنهم من يزعم أنه هم بقتله " فهرب الى الحيرة، ومنهم من يزعم أنه أعرض عنه .
    ومهما يكن من شئ فقد اعتذر الشاب إلى عمه في شعر نروى لك منه طرفا لتلمس بيدك ما فيه من سهولة ولين وتوليد :
    خليلي لا تستعجلا أن تزودا = وأن تجمعا شملي وتنتظرا غدا
    فما لبثي يوما بسائق مغنم = ولا سرعتي يوما بسائقة الردى
    ون تنظرا فى اليوم أقض لبانه = وتستوجبا منا على وتحمدا
    لعمرك ما نفس بجد رشيدة = تؤامرنى سوءا لأصوم مرثدا
    وإن ظهرت منى قوارص جمة = وأفرغ من لؤمي مرارا واصعدا
    على غير جرم أن أكون جنيته = سوى قول باغ كادني فتجهدا
    لعمري لنعم المرء تدعو بخلة = إذا المنادى فى المقامة نددا
    عظيم رماد القدر لا متعبس = ولا مؤيس منها إذا هو أوقدا
    وإن صرحت كحل وهبت عرية = من الريح لم تترك من المال مرقدا
    صبرت على وطء الموالى وخطبهم = إذا ضن ذو القربى عليهم واخمدا
    ولم يحم حرم الحي إلا محافظ = كريم المحيا ماجد غير أجردا

    ونظن أن النظر فى هده القصيدة يكفى ليقنع القارئ بأننا أمام شئ منتحل متكلف لا حظ له من صدق .
    وليس خيرا من هذه القصيدة هذا الشعر الذى يقال إن عمرو ابن قميئة أنشأه لما لقدمت به السن يصف به هرمه ضعفه .
    ولعله قاله قبل أن ، يرتحل مع امرئ القيس إلى بلاد الروم .
    ويزعم الشعبي، أو من روى عن الشعبي أن عبد الملك ين مروان تمثل به فى علته التى مات فيها. وهو:
    كأني وقد جاوزت تسعين حجه = خلعت بها عنى عنان لحامى
    على الراحتين مرة وعلى العصا = أنوء ثلاثا بعدهن قيامي
    رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى = فما بال من يرمى وليس برام
    فلو أن ما أرمى بنبل رميتها = ولكنما أرمى بغير سهام
    إذا ما رآنى الناس قالوا ألم يكن = حديثا جديد البرى غير كهام
    وأفنى وما أفنى من الدهر ليلة = وما يفنى ما أفنيت سلك نظامي
    وأهلكني تأميل يوم وليلة = وتأميل عام بعد ذاك وعام

    فنحن نستطيع بعد هذا أن نضيف عمرو بن قميئة إلى صاحبيه الضائعين : (عبيد وامرئ القيس ) ، وأن ننتقل الى مهلهل ، لنرى ماذا يمكن أن يثبت لنا من أمره وشعره .
    فأما أمره فنظن أنه يسير لا سبيل إلى الاختلاف فيه . فيجب أن نبلغ من السذاجة حظا غير قليل لنسلم بما كان يتحدث به الرواة من أمر هذه القصة الطويلة العريضة : قصة اليسوس .
    ونظن ان الاتفاق يسير على أن هذه القصة كد طولت ونمت وعظم أمرها فى الإسلام حين اشتد التنافس بين ربيعة ومضر من ناحية ، وبين بكر وتغلب من ناحية أخرى ؟ وليس مهلهل فى حقيقة الأمر إلا بطل هذه القصة ؟
    فقد عظم أمره وارتفع شأنه بمقدار ما نميت هذه القصة وطول فلها . ولسنا نذكر أن خصومة عنيفة كانت بين القبيلتين الشقيقتين بكر وتغلب فى العصور الجاهلية القديمة ، وأن هذه الخصومة كد انتهت إلى حروب سفكت فيها الدماء وكثرت فيها القتلى ؟
    ولكن أسباب هذه الخصومة ومظاهرها وأعراضها وآثارها الأدبية قد ذهبت كلها ولم يبق منها إلا ذكرى ضئيلة تناولها القصاص فاستغلوها قويا ، ووجدت بكر، تغلب وبيعة كلها حاجتها فى هذا الاستغلال .
    ولم لا ؟
    ألم تكن النبوة والخلافة ومظاهر الشرف كلها لمضر فى الإسلام ؟
    وكيف يستطيع العرب من رييعة أن يؤمنوا لمضر بهذه السيادة وهذا المجد دون أن يثبتوا لأنفسهم فى قديم العهد على أقل تقدير مجدا وشرفا وسيادة ؟ وقد فعلوا : فزعموا أنهم كانوا سادة العرب من عدنان فى الجاهلية : كان منهم الملوك والسادة ، وكان منهم الذين ذادوا القحطانية عن ولد عدنان ، وكان منهم الذين قاوموا طغيان اللخميين فى العراق الغسانيين فى الشام ، وكان منهم الذين هزموا جيوش كسرى فى يوم ذى قار.
    لمضر إذن حديث العرب بعد الإسلام ، ولربيعة قديم العرب قبل الإسلام .
    فإذا لاحظت إلى هذا ما كان من الخصومة الفعلية بين ربيعة ومضمر أيام بنى أمية وما كان من الخصومة الأدبية بين جرير شاعر مضر الذى يقول :
    ان الذى حرم المكارم تغلبا = جعل النبوة والخلافة فينا
    هذا ابن عمى فى دمشق خليفة = لو شئت ساقكم الى قطينا

    وبين الأخطل الذى يقول :
    أبنى كليب ان عمى اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا نقول إذا لاحظت كل هذه الخصومات لم يصعب عليك أن تتصور كثرة الانتحال فى القصص والشعر.
    حول رييعة عامة وحول هاتين القبيلتين من ربيعة خاصة ، وهما بكر وتغلب .
    على أن بعض الرواة كانوا يظهرون كثيرا من الشك فيما كانت تتحدث به بكر وتغلب من أمر هذه الحروب - ومهما يكن من شئ فليست شخصية مهلهل بأوضح من شخصية امرئ القيس أو عبيد أو عمرو بن قميئة ؟
    وانما تركت لنا قصه البسوس منه صورة هى إلى الأساطير أقرب منها إلى اى شئ آخر ، ومن هنا قال ابن سلام إن العرب كانت ترى أن مهلهلا كان يتكثر ويدعى فى شعره أكثر مها يعمل ، والحق إن مهلهلا لم يتكثر ولم يدع شيئا، وانما تكثرت تغلب فى الإسلام ونحلته ما لم يقل .
    ولم تكتف بهذا الانتحال بل زعمت أن أول من قصد القصيد وأطال الشعر، ثم أحست ما نحس الآن أو أحسه الرواة أنفسهم وهو أن فى هذا الشعر اضطرابا واختلاطا فزعمت ، أو زعم الرواة ، أنه لهذا الاضطراب والاختلاط سمى مهلهل ، لأنه هلهل الشعر. والهلهلة الاضطراب .
    يستشهد ابن سلام على هذا بقول النابغة : " أتاك بقول هلهل النسج كاذب " وليس من شك فى أن شعر مهلهل مضطرب ، فيه هلهلة واختلاط .
    ولكننا نستطيع أن نجد هذه الهلهلة نفسها فى شعر امرئ القيس وعبيد وابن قميئة وكثير غيرهم من شعراء العصر الجاهلى، فقد كانوا جميعا مهلهلا أذن .
    غير أننا لا نستطيع أن نطمئن إلى أن يهلهل شعراء الجاهلية جميعا الشعر بحيث يصبح لكل واحد منهم شخصيات شعرية مختلفة تتفاوت فى القوة والضعف وفى الشدة واللين وفى الأغراب والسهولة .
    وإذن فمن الذي هلهل الشعر؟ هلهله الذين وضعوه من القصاص والمنتحلين وأصحاب التنافس والخصومة بعد الإسلام .
    ويحسن أن نظهرك على شئ من شعر مهلهل لترى كما نرى أنه لا يمكن أن يكون أقدم شعر قالته العرب :
    أل يلتنا بذي حسم أنيري = إذا أنت انقضيت فلا تحوري
    فإن يك بالذنائب طال ليلى ف = قد أبكى من الليل القصير
    فلو نبش المقابر عن كليب = لأخبر بالذنائب اى زير
    ويوم الشعشمين لقرعينا = وكيف لقاء من تحت القبور
    على أنى تركت بواردات = بجيرا فى دم مثل العبير
    هتكت به بيوت بنى عباد = وبعض الغشم أشفى للصدور
    على أن ليس يوفى فى كليب = إذا برزت مخبأة الخدود
    وهمام بن مرة قد تركنا = عليه القشعمان من النسور
    ينوء بصدره والرمح فيه = ويخلجه خدب كالبعير
    فلولا الريح أسمع من بحجر = صليل البيض تقرع بالذكور
    فدى لبنى شقيقة يوم جاءوا = كأسد الغالط لجت فى الزئير
    كأن رماحهم أشطان بئر = بعيد بين جاليها جرور
    غداة كأننا وبنى أبينا = بجنب عنيزة رحيا مدير
    تظل الخيل عاكفة عليهم = كأن الخيل ترحض فى غدير

    أليس يقع من نفسك موقع الدهش أن يستقيم وزن هذا الشعر وتطرد قافيته وان يلائم قواعد النحو وأساليب النظم لا يشذ فى شئ ولا يظهر عليه شئ من أعراض الندم أو مما يدل على أن صاحبه هو أول من قصد القصيد وطول
    الشعر؟ أليس يقع فى نفسك هذا كله موقع الدهش حين تلاحظ معه سهولة اللفظ ولينه وإسفاف الشاعر فيه إلى حيث لا تشك أنه رجل من الذين لا يقدرون إلا على مبتذل اللفظ وسوقيه
    ؟ ولكننا لا نريد أن نترك مهلهلا هذا دون ان نضيف إليه امرأة أخيه جليلة التى رثت كليبا- فيما يقول الرواة - بشعر لا ندرى أيستطيع شاعر أو شاعرة فى هذا العصر الحديث أن يأتى بأشد منه سهولة ولينا وابتذالا مع أننا نقرأ للخنساء وليلى الأخيلية شعرا فيه من قوة المتن وشدة الأسر ما يعطينا صورة صادقة للمرأة العربية البدوية .
    قالت جليلة :
    يا ابنة الأقوام ان شئت فلا = تعجلي باللوم حتى تسألى
    فإذا أنت تبينت الذى = يوجب اللوم فلومي واعذلي
    إن تكن أخت امرئ ليمت على = شفق منها عليه فافعلي
    جل عندي فعل جساس فيا = حسرتى عما انجلى أو ينجلي
    فعل جساس على وجدى به = قاصم ظهري ومدن أجلى
    يا قتيلا قوض الدهر به = سقف بيتي جميعا من عل
    هدم البيت الذى استحدثته = وانثنى فى هدم بيتي الأول
    ورمانى قتله من كثب = رمية المصمى به المستأصل
    يا نسائي دونكن اليوم قد = خصنى الدهر برزء معضل
    خصنى قتل كليب بلظى = من ورائي ولظى مستقبلي
    ليس من يبكى ليوميه كمن = إنما يبكى ليوم ينجلي

    وقد أعرضنا فى كل هذه الأحاديث عن أسجاع ما نظن أن أحدا يرتاب فى أنها مصنوعة متكلفة .
    ونعتقد أن قراءة هذا الشعر الذى رويناه تكفى لنضيف فى غير مشقة مهلهلا وامرأة أخيه إلى ابن أخته امرئ القيس.
    وقد فرغنا من امرئ القيس ومن يتصل به من الشعراء ولكننا لم نفرغ من الشعراء أنفسهم ؛ فلابد من وقفات أخرى قصيرة عند طائفة منهم .
    وستثبت لك هذه الوقفاف أننا لسنا غلاة ولا مسرفين إن خشينا ألا يقتصر الشك على امرئ القيس وشعره .





 


  1. 4- عمرو بن كلثوم - الحارث بن حلزة

    ونحن حين ندع مهلهلا وامرأة أخيه إلى هذين الشاعرين من أصحاب المعلقات لا نتجاوز ربيعة بل لا نتجاوز هذين الحيين من ربيعة وهما حيا بكر وتغلب .
    فعمرو بن كلثوم تغلبى ، وهو فى عرف الرواة لسان تغلب الناطق ، هو الذى سجل مفاخرها وأشاد بذكرها فى شعره ، أو بعبارة أدق : فى قصيدته التى تروى بين المعلقات .
    وقد كان - فيما يقول الرواة- بطلا من أبطال تغلب ورث القوة والأيد وشده البأس واباء الضيم عن جده مهلهل ؟
    فقد كانت أمه ليلى بنت مهلهل .
    وقد أحيط عمرو بن كلثوم فى مولده ونشأته بل فى مولد أمه بطائفة من الأساطير لا يشك أشد الناس سذاجة فى أنها لون من ألوان العبث والانتحال : زعموا أن مهلهلا لما ولدت له ليلى أمر بوأدها فأخفتها أمها، ثم نام فأتاه آت وتنبأ له بأن ابنته هذه ستلد ابنا يكون له شأن ، فلما اصبح سأل عن ابنته فقيل وئدت فكذب وألح فأظهرت له فأمر بإحسان غذائها.
    ثم تزوجت كلئوما فما زالت ترى فيما يرى النائم من يأتيها فيخبرها عن ابنها بالأعاجيب حتى ولدته ونشأته .
    قالوا وقد ساد عمرو ابن كلثوم قومه ولما يتجاوز الخامسة عشرة .
    فكل هذه الأحاديث التى نشير إليها إشارة ، تدل على أن عمرو بن كلثوم قد أحيط بطائفة من الأساطير جعلته إلى أبطال القصص أقرب منه إلى أشخاص التاريخ .
    ومع ذلك فقد يظهر انه وجد حقا، وقد يظهر أنه على خلاف من قدمنا ذكرهم من الشعراء.
    وقد أعقب ؟ فصاحب الأغانى يحدثنا بأن له عقبا كان باقيا إلى أيامه .
    وسواء أكان عمرو بن كلثوم شخصا من أشخاص التاريخ أم بطلا من إبطال القصص، فإن القصيدة التى تنسب إليه لا يمكن أن تكون جاهلية أو لا يمكن أن تكون كثرتها جاهلية .
    وهل نستطيع قبل كل شئ أن نطمئن إلى ما يتحدث به الرواة من أن عمرو بن كلثوم قتل ملكا من ملوك الحيرة هو عمرو بن هند المشهور، وذلك حين بغى عمرو بن هند هذا وانتهى به الطغيان الى أن طمع فى أن تستخدم أمه ليلى بنت مهلهل أم عمرو هذا ؟ قال الرواة : فطلبت هند أم الملك إلى ليلى بنت مهلهل أن تناولها طبقا ؟
    فأجابتها ليلى : لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها ، فألحت هند فصاحت ليلى : وأذلاه يا لتغلب !
    وكان ابنها عمرو فى قبة الملك فسمع دعاءها فوثب إلى سيف معلق فضرب به الملك ، ونهضت بنو تغلب فنهبوا قبة الملك وعادوا إلى باديتهم .
    غير أن النص التاريخى الذى يثبت هذه القصة لم يصل إلينا بعد.
    وهل من المعقول أن يقتل ملك الحيرة هذه القتله ويقف الأمر عند هذا الحد بين آل المنذر وبنى تغلب من ناحية وبين ملوك الفرس وأهل البادية من ناحية
    أخرى؟ أليس هذا لونا من الأحاديث التى كان يتحدث بها القصاص يستمدونها من حاجة العرب إلى المفاخرة والتنافس ؟ بلى!
    وقصيدة عمرو بن كلثوم نفسها نوع من هذا الشعر الذى كان ينتحل مع هذه الأحاديث .
    وأنت إذا قرأت هذه القصيدة رأيت أن مهلهلا لم يكن يتكثر وحده وانما أورث التكثر والكذب سبطه عمرو بن كلثوم فلسنا نعرف كلمة تضاف إلى الجاهليين وفيها من الإسراف والغلو ما فى كلمة عمرو بن كلثوم هذه .
    على أن رأى الرواة فيها يشبه رأيهم فى معلقة امرئ القيس ، فهم يشكون فى بعضها وهم يختلفون فى الأبيات الأولى منها : أقالها عمرو بن كلثوم أم قالها عمرو ابن عدى ابن أخت جذيمة الأبرش
    ؟ فأما الذين يضيفون هذه الأبيات لعمرو بن كلثوم فيرون أن مطلع القصيد ة : " ألا هبى لصحنك فاصبحينا " وأما الآخرون فيرون أن مطلعها : " قفي كبل التفرق يا ظعينا " وأولئك وهؤلاء لا يختلفون فى إنطاق عمرو بن عدى بالبيتين :
    صدت الكأس أم عمرو = وكان الكأس مجراها اليمينا
    وما شر الثلاثة أم عمرو = بصحبك الذى لا تصبحينا

    وأنت حين تمضى فى القصيدة ترى فيها أبياتا مكررة تقع فى وسط القصيدة وفى آخرها .
    ولكن هذا النحو من الاضطراب مشترك فى أكثر الشعر الجاهلى ، مصدره اختلاف الروايات .
    فإذا قرأت القصيدة نفسها فستجد فيها لفظا سهلا لا يخلو من جزالة ، وستجد فيها معاني حسانا وفخرا لا بأس به لولا أن الشاعر يسرف فيه من حين إلى حين إسرافا ينتهى به إلى السخف كقوله :
    إذا بلغ الرضيع لنا فطاما = تخر له الجبابر ساجدينا

    وستجد فيها أبياتا تمثل إباء البدوي للضيم واعتزازه بقوته وبأسه كقوله :
    ألا لا يجهلن احد علينا = فنجهل فوق جهل الجاهلينا

    قلت إن هذأ البيت يمثل إباء البدوي للضيم . ولكنى أسرع فأفول إنه لا يمثل سلامة الطبع البدوي وإعراضه عن تكرار الحروف إلى هذا الحد الممل :
    ألا لا يجهلن احد علينا = فنجهل فوق جهل الجاهلينا

    فقد كثرت هذه الجيمات والهاءات واللامات واشتد هذا الجهل حتى مل .
    وهم يحملون على الأعشى بيتا فيه مثل هذا النوع من التعسف .
    ولكنا نشك فى صحة هذا البيت الذى يضاف إلى الأعشى .
    ومهما يكن من شئ ، فإن فى قصيدة ابن كلثوم هذه من رقة اللفظ وسهولته ما يجعل فهمها يسيرا على أفل الناس حظا من العلم باللغة العربية فى هذا ا العصر الذى نحن فيه .
    وما هكذا كانت تتحدث العرب فى منتصف القرن السادس للمسيح وقبل ظهور الإسلام بما يقرب من نصف قرن.
    وما هكذا كانت تتحدث ربيعة خاصة فى هذا العصر الذى لم تسد فيه لغة مضر ولم تصبح فيه لغة الشعر.
    بل ما هكذا كان يتحدث الأخطل التغلبى الذى عاش فى العصر الأموي اى بعد ابن كلثوم بنحو قرن .
    واقرأ هذه الأبيات وحدثني أطمئن إلى جاهليتها :
    قفي قبل التفرق يا ظعينا = نخبرك اليقين وتخبرينا
    قفي نسألك هل أحدثت صرما = لو شك البين أم خنت الأمينا
    بيوم كريهة ضربا وطعنا = أقر به مواليك العيونا
    وإن غدا وإن اليوم رهن = وبعد غد بما لا تعلمينا
    تريك إذا دخلت على خلاء = وقد أمنت عيون الكاشحينا
    ذراعى عيطل أدماء بكر = هجان اللون لم تقرأ جنينا
    وثديا مثل حق العاج رخصا = حصانا من أكف اللامسينا
    ومتنى لدني سمقت وطالت = روادفها تنوء بما ولينا
    ومأكمة يضيق الباب عنها = وكشحا قد جننت به جنونا
    وساريتي بلنط أو رخام = يرنن خشاش حليهما رنينا
    واقرأ هذه الأبيات أيضا :
    ألا لا يعلم الأقوام أئا تضعضعنا وأنا قد ونينا
    ألا لا يجهلن احد علينا = فنجهل فوق جهل الجاهلينا
    بأى مشيئة ب هند = نكون لقيلكم فيها قطينا
    بأى مشبئة عمرو بن هند = تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
    تهددنا وأوعدنا رويدا = متى كنا لأمك مقتوينا
    فإن قناتنا يا عمرو أعيت = على الأعداء قبلك أن تلينا

    وهذه الأبيات :
    ونحن التاركون لما سخطنا = ونحن الآخذون لما رضينا
    وكنا الأيمنين إذا التقينا = وكان الأيسرين بنو أبينا
    فصالوا صولة فيمن يليهم = وصلنا صولة فيمن يلينا
    فآبوا بالنهاب وبالسبايا = وأبنا بالملوك مصفدينا
    إليكم يا بنى بكر إليكم = ألما تعرفوا منا اليقينا

    وهذه الأبيات وقارن بينها وبين الأبيات الأخيرة :
    وقد علم القبائل من معد = إذا قبب بأبطحها بنينا
    بانا المطعمون إذا = قدرنا وأنا المهلكون إذا ابتلينا
    وإنا المانعون لما أردنا = وإنا النازلون بحيث شينا
    وإنا التاركون إذا سخطنا = وإنا الآخذون إذا رضينا
    وأنا العاصمون إذا أطعنا = وأنا إلعارمون إذا عصينا
    ونشرب إذا وردنا الماء صفوا = ويشرب غيرنا كدرا وطينا
    وهذه الأبيات :
    إذا ما الملك سام الناس خسفا = أبينا أن نقر الذل فينا
    لنا الدنيا ومن أمسى عليها = ونبطش حين نبطش قادرينا
    ملأنا البر حتى ضاق عنا = وماء البحر نملؤه سفينا
    إذا بلغ الرضيع لنا فطاما = تخر له الجبابر ساجدينا

    أمتن من هذه القصيدة ،وأرصن قصيدة الحارث بن حلزة، وكان لسان بكر، فيما يقول الرواة ، ومحاميها ، والذائد عنها بين يدى عمرو بن هند أيضا ؟ زعموا أن عمرو بن هند أصلح بين القبيلتين المختصمتين بكر وتغلب واتخذ منهما رهائن ، فتعرضت رهائن تغلب لبعض الشر وهلكت أو هلك أكثرها ، فتجنب تغلب على بكر وطالبت بدية الهلكى ، وأبت بكر، وكادت تستأنف الحرب بينهما، واجتمعت أشرافها إلى عمرو بن هند ليحكم بينهم ، وأحس الحارث ميل الملك إلى تغلب فنهض فاعتمد على قوسه وارتجل هذه المصيدة.
    قالوا وكان به وضح ، وكان الملك قد أمر أن يكون بينه وبينه ستار ، فلما أخذ ينشد قصيدته أخذ الملك يعجب به ويدنيه شيئا فشيئا حتى أجلسه إلى جانبه وقضى لبكر.
    ويكفى أن تقرأ هذه المصيدة لترى أنها ليست مرتجلة ارتجالا وانما هى قصيده نظمت وفكر فيها الشاعر تفكيرا طويلا ورتب أجزاءها ترتيبا دقيقا، وليس فيها من مظاهر الارتجال إلا شئ واحد هو هذا الإقواء الذى تجده فى قوله :
    فملكنا بذلك الناس حتى = ملك المنذر بن ماء السماء
    فالقافية كلها مرفوعة إلا هذا البيت .
    ولكن الإقوا، كان شيئا شائعا حتى عند الشعراء المسلمين الذين ، لم يكونوا يرتجلون فى كل وقت ، نقول إن قصيدة الحارث أمتن وأرصن من قصيدة ابن كلثوم ' وقد نظمتا فى عصر واحد ، إن صح ما يقول الرواة ، فهما مسوقتان إلى عمرو بن هند .
    فاقرأ هذه الأبيات للحارث وقارن بسنهما فى ، اللفظ والمعنى وبين ما قدمنا لك من شعر عمرو:
    ملك أضرع البرية لا يوجد = فيها لما لديه كفاء
    ما أصابوا من تغلبي فمطلول= عليه إذ ا أصيب العفاء
    كتكاليف قومنا إذ غزا المنذر = هل نحن لاين هند رعاء
    إذا أحل العلياء قبة ميسون = فأدنى ديارها العوصاء
    فتأوت له قراضبة = من كل حي كأنهم ألقاء
    فهداهم بالأسودين وأمر اللi = بلغ تشقى به الأشقياء
    إذ تمنونهم غرورا فساقتهم = إليكم أمنية أشراء
    لم يغركم غرورا ولكن= رفع الآل شخصهم والضحاء

    وانظر إلى هذه الأبيات يعير قيها الشاعر تغلب بإغارات كانت عليهم لم ينتصفوا لأنفسهم من أصحابهما :
    أعلينا جناح كندة أن يغنم = غازيهم ومنا الجزاء
    ليس منا المضربون ولا = قيس ولا جندل ولا الحذاء
    أم جنايا بنى عتيق فمن يغدر= فإنا من حربهم براء
    أم علينا جرى العباد كما = نبط يجوز إلمحمل الأعباء
    وثمانون من تميم بأيديهم = رماح صدورهن القضاء
    تركوهم ملحبين وآبوا = بنهاب يصم منها الحداء
    ام علينا جرى حنيفة أم = ما جمعت من محارب غبراء
    أم علينا جرى قضاعة أم ليس = علينا فيما جنوا أنداء

    ثم جاءوا يسترجعون فلم ترجع لهم شامة ولا زهراء فأنت ترى أن بين القصيدتين فرقا عظيما فى جودة اللفظ وقوة المتن وشدة الأسر. على أن هذا لا يغير رأينا فى القصيدتين ، فنحن نرجح انهما منتحلتان .
    وكل ما فى الأمر أن الذين كانوا ينتحلون كانوا كالشعراء أنفسهم يختلفون قوة وضعفا وشدة ولينا .
    فالذي انتحل قصيدة الحارث بن حلزة كان من هؤلاء الرواة الأقوياء الذين يحسنون تخير اللفظ وتنسيقه ونظم القصيد فى متانة وأيد. ولسنا نتردد فى أن نعيد ما قلناه من أن هاتين القصيدتين وما يشبههما مما يتصل بالخصومة بين بكر وتغلب إنما هو من آثار التنافس بين القبيلتين فى الإسلام لا فى الجاهلية .

    5- طرفة بن العبد - المتلمس

    وشاعران آخران من ربيعه نقت عندهما وقفة قصيرة هما طرفة بن العبد والمتلمس وانما نجمعهما لأن القصص جمعهما من قبل .
    فقد زعموا أن المتلمس كان خال طرفة.
    ولم يقف جمع القصص بسنهما عند هذا الحد بل قد جمعهما فى الشىء القليل الذى نعرفه عئهما ؛ ذلك أن لطرفة والمتلمس أسطورة لهج بها الناس منذ القرن الأول للهجرة .
    وهم يختلفون فى روايتها اختلافا كثيرا ؟ ولكنا نتخير من هذه الروايات أيسرها وأقربها إلى الإنسان : زعموا أن هذين الشاعرين هجوا عمرو بن هند حتى أحنقاه عليهما، ثم وفدا عليه فتلقاهما لقاء حسنا وكتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين وأوهمهما أنه كتب لهما بالجوائز والصلات ، فخرجا يقصدان إلى هذا العامل .
    ولكن المتلمس شك في كتابه فأقرأه غلاما من أهل الحيرة فإذا فيه أمر بقتل المتلمس ، فألقى كتابه فى النهر، والح على طرفه فى أن يفعل فعله
    فأبى؟ وافترق الشاعران : مضى أحدهما إلى الشام فنجا، ومضى الآخر إلى البحرين فلقي الموت .
    وكان طرفة حديث السن لم يتجاوز العشرين فى رأى بعض الرواة ولم يتجاوز السادسة والعشرين فى رأى بعضهم الآخر.
    وقد كثرت الأحاديث حول هذه القصة وأضيفت إليها أشياء أعرضنا عن ذكرها لظهور الانتحال فيها .
    وغضب عمرو ابن هند على المتلمس حين هرب إلى الشام وأفلت من الموت فأقسم لا يطعم حب العراق واتصل هجاء المتلمس له . والرواة المحققون يعدون هذين الشاعرين من المقلين .
    بل لم يرو ابن سلام للمتلمس شيئا ولم يسم له قصيدة .
    فأما طرفة فقد قال ابن سلام عنه فى موضع إنه هو وعبيد من أقدم الفحول ولم يبق لهما إلا قصائد بمقر عشر.
    واستقل ابن سلام هذه القصائد على الشاعرين وقال إنه قد حمل عليهما حمل كثير. وقد رأيت أنه حين أراد أن يضع عبيدا فى طبقته لم يعرف له إلا بيتا واحدا .
    فأما طرفة فقد عرف له المطولة وروى مطلعها هكذا :
    لخولة أطلال ببرقة ثهمد = وقفت بها أبكى وأبكى إلى الغد

    وعرف له الرائية المشهورة : " أصحوت اليوم أم شاقتك هر " وعرف له قصائد أخرى لم يدل عليها .
    وقال إنه أشعر الناس بواحدة .
    يريد المعلقة.
    وبين يديلا ديوان لطرفة يشتمل هاتين القصيدتين قصيدة أخرى مشهورة ، وهى :
    سألوا عنا الذى يعرفنا = بخزازى يوم تحلق اللمم

    ثم مقطوعات أخرى ليست بذات غناء .
    وأنت إذا قرأت شعر طرفة رأيت فيه ما ترى فى أكثر هذا الشعر الذى يضاف إلى الجاهليين ولا سيما المضريين منهم من مكانة اللفظ وغرابته أحيانا، حتى لتقرأ الأبيات المتصلة فلا تفهم منها شيئا دون ان تستعين بالمعاجم .
    ولكنك مضطر أن تلاحظ أن هذا الشعر أشبه بشعر المضريين منه بشعر الربيعيين
    ؟ فنحن لم نجمع شعراء ربيعة عفوا ؛ وانما جمعناهم فيما تحدثنا به إليك فى هذا الكتاب إلى الآن لأن بينهم شيئا يتفقون فيه جميعا ، هو هذه السهولة التى تبلغ الإسفاف أحيانا
    ؟ لا نستثنى منهم فى ذلك إلا قصيدة الحارث بن حلزة .
    فكيف شذ طرفه عن شعراء ربيعة جميعا فقوى متنه واشتد أسره وآثر من الإغراب ما لم يؤثر أصحابه ودنا شعره من شعر المضريين ؟
    وانظر فى هذه الأبيات التى يصف بها الناقة :
    وأنى لأمضى الهم عند احتضاره = بعوجاء مرقال تروح وتغتدى
    أمون كألواح الأران نصأتها = على لاحب كأنه ظهر برجد
    جمالية وجناء تردى كأنها = سفنجة تبرى لأزعر أريد
    تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت = وظيفا وظيفا مور معبد
    تربعت القفين فى الشول ترتعى = حدائق مولى الأسرة أغيد
    تريع إلى صوت المهيب وتتقى = بذى خصل روعات أكلف ملبد
    كأن حناحى مضرحى تكنفا = حفافيه شكا فى العسيب بمسرد

    وهو يمضى على هذا النحو فى وصف ناقته فيضطرنا إلى أن نفكر فيما قلناه من قبل من ان أكثر هذه الأوصاف أقرب إلى أن يكون من صنعة العلماء باللغة منه إلى أى شئ آخر .
    ولكن دع وصفه الناقة واقرأ:
    ولست بحلال التلاع مخافة = ولكن متى يسترفد القوم أرفد
    فإن تبغنى فى حلقة القوم تلقني = وإن تلتمسنى فى الحوانيت تصطد
    متى تأتنى أصبحك كأسا روية = وإن كنت عنها ذا غنى فاغن وازدد
    وإن يلتق الحي الجميع تلاقني = إلى ذروة البيت الشريف المصمد
    نداماى بيض كالنجوم وقينة = تروح إلينا بين برد ومجسد
    رحيب قطاب الجيب منها رفيقة = بجس الندامى بضة المتجرد
    إذا نحن قلنا أسمعينا انبرت لنا = على رسلها مطروقة لم تشدد
    إذا رجعت فى صوتها خلت صوتها = تجاوب اظار على , ربع ردى

    فسترى فى هذه الأبيات لينا ولكن فى غير ضعف ، وشدة ولكن فى غير عنف .
    وسنرى كلاما لا هو بالغريب الذى لا يفهم ، ولا هو بالسوقي المبتذل ، ولا هو بالألفاظ قد رصفت رصفا دون أن تدل على شئ .
    وامض فى قراءة القصيدة فستظهر لك شخصية قوية ومذهب فى الحياة واضح جلى مذهب اللهو واللذة يعمد إليهما من لا يؤمن بشيء بعد الموت ولا يطمع من الحياة إلا فيما تتيح له من نعيم برئ من الإثم والعار على ما كان يفهمهما عليه هؤلاء، الناس :
    وما زال تشرابى الخمور ولذتى = وبيعى وانفاقى طريفى ومتلدى
    إلى أن تحامتننى العشيرة كلها = وأفردت إفراد البعير المعبد
    رأيت بنى غبراء لا ينكروننى = ولا أهل هذاك الطراف الممدد
    ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى = وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي
    فإن كنن لا تستطيع دفع منيتي = فدعنى أبادرها بما ملكت يدى
    ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى = وجدك لم أحفل متى قام عودي
    فمنهن سبقى العاذلات بشربة = كميت متى ما تعل بالماء تزيد
    وكرى إذا نادى المضاف محنبا = كسيد الغضا نبهته المتورد
    وتقصير يوم الدجن والدجن معجب = ببهكنة تحت الخباء المعمد




    فى هذا شخصية بارزة قوية لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة أو منتحلة أو مستعارة .
    وهذه الشخصية ظاهرة البداوة واضحة الإلحاد بينة الحزن واليأس والميل إلى الإباحة فى قصد واعتدال .
    هذه الشخصية تمثل رجلا فكر والتمس الخير والهدى فلم يصل إلى شئ ، وهو صادق فى يأسه ، صادق فى حزنه ، صادق فى ميله الى هذه اللذات التى يؤثرها.
    ولست أدرى أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل
    آخر؟ وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذا الشعر.
    بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر؟ وانما الذى يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح لا تكلف فيه ولا انتحال ، وأن هذا الشعر لا يشبه ما قدمناه فى وصف الناقة ولا يمكن أن يتصل به ، وأن هذا الشعر النادر من الشعر الذى نعثر به من حين إلى حين فى تضاعيف هذا الكلام الكثير الذى يضاف إلى الجاهليين ، فنحن حين نقرؤه أنا نقرأ شعرا حقا فيه قوة وحياة وروح .
    وإذا فأنا ارجح أن فى هذه القصيدة شعرا صنعه علماء اللغة هو هذا الوصف الذى قدمنا بعضه ، وشعرا صدر عن شاعر حقا هو هذه الأبيات وما يشبهها.
    ولسنا نأمن أن يكون فى هذه الأبيات نفسها ما دس على الشاعر دسا وانتحل عليها انتحالا .
    فأما صاحب القصيدة فيقول الرواة إنه طرفه .
    ولست أدرى اهو طرفة أم غيره ؟ بل لست أدرى أجاهلي هو أم
    إسلامي؟ وكل ما أعرفه هو أنه شاعر بدوى ملحد شاك .
    ولست أحب أن أقف عند القصيدتين الأخريين ، فإن شخصية الشاعر تستخفي فيهما استخفاء وتعود معهما إلى هذا الشعر الذى وقفت عنده غير مرة والذي يمثل مجد القبيلة وفخرها القديم .
    وأكبر الظن أن هاتين القصيدتين كقصيدة الحارث بن حلزة وضعتا فى الإسلام تخليدا لمآثر بكر بن وائل .
    فلندع طرفة ولنصل إلى المتلمس .
    وأمر المتلمس أيسر من أمر طرفة .
    فشعره يعود بنا إلى شعر ربيعة الذى قدمنا الإشارة إليه والى ما فيه من رقة وإسفاف وابتذال.
    ومن غريب أمره أن التكلف فيه ظاهر، ولاسيما فى القافية ، فيكفى أن تقرأ سينيته التي أولها :
    يا آل بكر ألا لله أمكم = طال الثواء وثوب العجز ملبوس

    لتحس تكلف القافية .
    على أن هذه القصيدة مضطربة الرواية فقد يوضع آخرها فى أولها ، وقد يروى مطلعها :
    كم دون مية من مستعمل قذف = ومن فلاة بها تستودع العيس

    وللمتلمس قصيدة أخرى ليست أجود ولا أمتن من هذه ، ولعلها أدنى منها إلى الرداءة، وهى التى مطلعها:
    ألم تر أن المرء رهن منية = صريع لعافى الطير أو سوف يرمس
    فلا تقبلن ضيما مخافة ميتة = وموتن بها حرا وجلدك أملس

    ويقول فيها :
    وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا = وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا

    وربما كانت ميمية المتلمس أجود ما يضاف إليه من الشعر، وهى التى أولها :
    يعيرني أمي رجال ولا أرى = أخا كرم إلا بأن يتكرما

    وأكبر الظن أن كل ما يضاف إلى المتلمس من شعر- أو أكثره على أقل تقدير- مصنوع ، الغرض من صنعته ، تفسير طائفة من الأمثال وطائفة من الأخبار حفظت فى نفوس الشعب عن ملوك الحيرة وسيرتهم فى هؤلاء الأخلاط من العرب وغير العرب الذين كانوا يسكنون السواد.
    ولا أستبعد أن يكون شخص المتلمس نفسه قد اخترع اختراعا تفسيرا لهذا المثل الذى كان يضرب بصحيفة المتلمس والذي لم يكن الناس يعرفون من أمره شيئا، ففسره القصاص !
    واستمدوا تفسيره من هذه الأساطير الشعبية التي أشرنا إليها غير مرة .
    وهناك شعراء آخرون من ربيعة كنا نستطيع أن نقف عندهم ونلم بشعرهم إلهاما وننتهى فيهم إلى مثل ما انتهينا إليه فى أمر هؤلاء الشعراء ، الذين درسناهم فى هذا البحث القصير.
    ولكنا نكتفي بما قدمنا ؟ فقد ضربنا المثل .
    ويخيل إلينا أنا قد وضحنا وبينا وأزلنا الحجاب عن كل ما نريد أن نقوله فى موقفنا بازاء الشعر الجاهلى .
    ونحن لم نقصد فى هذا الكتاب الى أن ندرس الشعراء ولا الى أن نحلل شعرهم وانما قصدنا الى أن نبسط رأينا فى طريقة درس هذا الشعر الجاهلى وهؤلاء الشعراء الجاهلين
    وقد بلغنا من ذلك ما كنا نريد
    فأما تتبع الشعراء شاعرا شاعرا ودرس شعرهم قصيدة قصيدة ومقطوعة مقطوعة فقد نفرغ لبعضه فى غير هذا الكتاب
    ومهما نفعل فلن نستطيع أن ننهض به وحدنا فى عام أو أعوام ، بل لابد من أن ينهض به معنا الذين يحبون الحق فيسعون إليه ويطلبونه
    على أن نريد أن نختم هذا السفر بملاحظتين :

    ( الأولى ) أن هذا الدرس الذى قدمناه ينتهى بنا الى نتيجة إلا تكن تاريخية صحيحة فهي فرض يحسن أن يقف عنده الباحثون ويجتهدوا فى تحقيقه ، وهى أن أقدم الشعراء فيما كانت تزعم العرب وفيما كان يزعم الرواة أنما هم يمنيون أو ربعيون 0 وسواء أكانوا من أولئك أو من هؤلاء فما يروى من أخبارهم يدل على أن قبائلهم كانت تعيش فى نجد والعراق والجزيرة أي في هذه البلاد التى تتصل بالفرس اتصالا ظاهرا والتي كان يهاجر إليها العرب من عدنان وقطحان على سواء
    وإذا فنحن نرجح أن هذه الحركات التى دفعت أهل اليمن من ناحية وأهل الحجاز من ناحية أخرى الى العراق والجزيرة ونجد ، فى عصور مختلفة لكنها لا تكاد تتجاوز القرن الرابع للمسيح ، قد أحدثت نهضة عقلية وأدبية ، لما كان من اختلاط هذين الجنسين العربيين فيما بسنهما ومن اتصالهم بالفرس
    ومن هذه النهضة نشأ الشعر أو أقل إذا كنت تريد التحقيق ظهر الشعر وقوى وأصبح فنا أدبيا
    وقد ذهب هذا الشعر ولم يبق لنا منه شيء إلا الذكرى ، ولكن لم يكد يأتى القرن السادس للمسيح حتى تجاوزت هذه النهضة أقطار العراق والجزيرة ونجد وتغلغلت فى أعماق البلاد العربية نحو الحجاز فمست أهله 0 ومن هنا ظهر الشعر فى مضر ومن إليهم من أهل البلاد العربية الشمالية 0 فالشعر كما ترى يمنى قوى حين اتصلت القحطانية بربيعة
    ولكنا لم نعرفه ولم نصل إليه إلا حين تغلغل فى البلاد العربية وأخذته مضر عن ربيعة
    ومن هنا نستطيع أن نقول أنا تعمدنا الوقوف ببحثنا عند هذا الحد الذى انتهيا إليه ؛ فلنا فى شعر مضر رأى غير رأينا فى شعر اليمن وربيعة ، لأننا نستطيع أن نؤرخه ونحدد أوليته تقريبا ، ولأننا نستطيع أن نقبل بعض قديمه دون أن تحول بيننا وبين ذلك عنيفة
    وإذا فنحن نستطيع أن نستأنف هذا البحث فى سفر أخر
    وسترى أن الشعراء الجاهلين من مضر قد أدركوا الإسلام كلهم أو أكثرهم فليس غريبا أن يصح من شعرهم شيء كثير
    (الثانية ) أن الذين يقرءون هذا الكتاب قد يفرغون من قراءته وفى نفوسهم شيء من الأثر المؤلم لهذا الشك الأدبي الذي نردده في كل مكان من الكتاب
    وقد يشعرون ، مخطئين أو مصيبين ، بأننا نتعمد الهدم تعمدا ونقصد إليه في غير رفق ولا لين
    وقد يتخوفون عواقب هذا الهدم على الأدب العربي عامة وعلى القرآن الذي يتصل به هذا الأدب خاصة

    فلهؤلاء نقول أن هذا الشك لا ضرر منه ولا بأس به ، لا لأن الشك مصدر اليقين ليس غير ، بل لأنه قد آن للأدب العربي وعلومه أن تقوم على أساس متين
    وخير للأدب العربي أن يزال منه فى غير رفق ولا لين مالا يستطيع الحياة ولا يصلح لها من أن يبقى مثقلا بهذه الأثقال التى تضر أكثر مما تنفع ، وتعوق عن الحركة أكثر مما تمكن منها
    ولسنا نخشى على القرآن من هذا النوع من الشك والهدم بأسا ؛ فنحن نخالف أشد الخلاف أولئك الذين يعتقدون أن القرآن في حاجة إلى الشعر الجاهلي لتصح عربيته وتثبت ألفاظه
    نخالفهم فى ذلك أشد الخلاف لأن أحدا لم ينكر عربية النبى فيما نعرف ، ولأن أحدا لم ينكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته
    وإذا لم ينكر أحد أن النبى عربي وإذا لم ينكر أحد أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه ، فأي خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الجاهلى أو هذا الشعر الذى يضاف الى الجاهليين ؟ وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع فى أن المسلمين قد احتاطوا أشد الاحتياط فى رواية القرآن وكتابته ودرسه وتفسيره حتى أصبح أصدق نص عربي قديم يمكن الاعتماد عليه فى تدوين اللغة العربية وفهمها
    وهم لم يحلفوا برواية الشعر ولم يحتاطوا فيها ، بل انصرفوا عنها فى بعض الأوقات طائعين أو كارهين ، ولم يراجعوها إلا بعد فترة من الدهر وبعد أن عبث النسيان والزمان بما كان قد حفظ من شعر العرب فى غير كتابة ولا تدوين
    فأيهما أشد إكبارا للقرآن وإجلالا له وتقديسا لنصوصه وايمانا بعربيته : ذلك الذى يراه وحده النص الصحيح الصادق الذى يستدل بعربيته القاطعة على تلك العربية المشكوك فيها ، أم ذلك الذى يستدل على عربية القران بشعر كان يرويه وينتحله فى غير احتياط ولا تحفظ قوم منهم الكذاب ومنهم الفاسق منهم المأجور ومنهم صاحب اللهو والعبث ؟
    أما نحن فمطمئنون الى مذهبنا مقتنعون بأن الشعر الجاهلى أو كثرة هذا الشعر الجاهلى لا تمثل شيئا ولا تدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والانتحال ، وأن الوجه -إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص - إنما هو الاستدلال بنصوص القران على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القران

    طه حسين
    18 مارس 192
 
أعلى