فائزة داود - عن إحراق الكتب أو إخفائها..كافكا وأبو حيان التوحيدي نموذجان

مازالت رواية ألف ليلة وليلة وبعد مرور قرون طويلة على كتابتها من أهم كتب التراث العربية,. وأفضل مدرسة يتعلم الأدباء من خلال قراءتها أصول كتابة الرواية والقصة, وأقدر أن الغرب مدين للمستشرق الفرنسي أنطون غالان في التعريف بهذا الكتاب الذي أثرى الأدب الأوروبي واللاتيني. ويكاد لا يخرج إلى السوق الأدبية عمل عظيم إلا وتفوح منه رائحة ألف ليلة وليلة بدءا من أعمال اللاتيني غابرييل غارسيا ماركيز مروراً بـ «اسم الوردة» لامبرتو إيكو دون أن ننسى أورهان باموق صاحب رواية «اسمي أحمر» وكذلك هاري بوتر للأديبة البريطانية ج. ك. رولينغ. ‏

وعربياً لانستطيع أن نتجاهل صاحب النوبل نجيب محفوظ في رواية «الحرافيش» و«زقاق المدق» وثلاثيته بين القصرين وقصر الشوق والسكرية».. إلخ. ‏


كاتب أم كاتبة ؟ ‏

وكثيرا ما رافق ذلك الاهتمام بكتاب ألف ليلة وليلة سؤال يتعلق بصاحب أو صاحبة العمل. وثمة من يرى أن العمل كتبته امرأة عاصرت زمن هارون الرشيد وتبرأت منه راضخة بذلك لسياسة النظام البطريركي الذي لا يقبل أن تكتب امرأة أدباً حواسياً جريئاَ. فيما يرى آخرون في الموقف المتطرف الذي اتخذته الرواية من المرأة عبر لياليها الألف وليلتين دليلاً لا يقبل الشك على أن صاحب العمل هو رجل لم يعرف طعم السعادة مع المرأة ولذلك نسب إليها أسوأ الصفات وجعلها تمارس أحط الأعمال وحولها إلى سلعة تباع وتشترى بل وتطلب من مالكها حين يفتقر أن يبيعها إلى آخر غني. ‏

وبعيداً عن الرأيين السابقين يبرز تساؤل حول موقف بعض الكتاب من أعمالهم الإبداعية والفلسفية والبحثية وما السبب أو الأسباب التي دفعت البعض إلى إحراق كتبهم أو إخفائها خاصة وأن التاريخ ذكر بعضا من هؤلاء, فها هو أبو حيان التوحيدي يعلن أنه أحرق كتبه, ثم تستوقفنا وصية فرانز كافكا الأخيرة التي كتبها قبل موته وفيها يطالب صاحب رواية المسخ ورثته وصديقه بإحراق كل كتبه بعد موته فيما قامت مرغريت ميتشل نفسها بإحراق مخطوطات رواياتها بعد أن خرجت رائعتها «ذهب مع الريح» بعد نشرها عن سيطرتها وخلدت اسمها كأهم كاتبة عرفها العالم الجديد حتى اليوم. ‏


إحراق وتبرؤ ! ‏

ولتوضيح فكرة الحرق أو التبرؤ لابد من عرض رغبة هؤلاء الكتاب في التخلص من كتبهم وإذا بدأنا بأبي حيان التوحيدي، فسنقرأ رغبته هذه في رسالة بعثها إلى صديقه القاضي أبي سهل علي بن محمد، وفيها يفسر الأسباب التي دفعته إلى إحراق كتبه، وهذا دليل قاطع على أن التوحيدي أحرق بعضاً من كتبه, فيما طلب فرانز كافكا من صديق له يقال له برود أن يتلف كل أعماله بعد وفاته وذلك عند مرضه شتاء سنة 1921, حين كان يمضي أيامه في المصح للعلاج, ولكن برود اختار عصيان هذه الرغبة وأبقى على كل مؤلفات كافكا ليظل الأخير هو ومسخه ومحاكمته وأعماله بين يدي القراء. كما انضم ما تبقى من كتب التوحيدي ورسائله إلى التراث العربي والعالمي، والسؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بخيار بعض الكتاب في حرق كتبهم واختيار آخرين بإبقاء ما كتبوه وحذف أسمائهم كما هو الحال في كتاب ألف ليلة وليلة. ‏

وإذا سلّمنا بأن جرأة الكتاب الأخير أو خوف المؤلف من الرقيب أو الحاكم جميعها أسباب أدت إلى خلوّ الكتاب من اسم بعينه يحق لنا أن نتساءل عن الأسباب التي تقف وراء لجوء و رغبة بعض الكتاب في إحراق كتبهم في الوقت الذي يحلم البعض في الخلود وذلك بترك أثر فني أو أدبي قبل رحيله عن هذا العالم, فيما يدعي البعض أن ثمة من سطا على كتاب له أو فكرة اقتبسها احدهم منه أو من مكان ما... إلخ. ترى هل يأتي قرار الحرق لعلة يراها الكاتب في نصوصه أم أن الأمر يتعلق بكبرياء الأديب ونظرته الدونية إلى المجتمع الذي يعيش فيه وقناعته بعجز أفراده عن استيعاب ما يريد إيصاله أو يرمي إليه وتالياً خوفه من تسخيف أعماله ومن ثم التهجم عليه والسخرية منه ؟ أم أن الشعور بعدم جدوى كل ما كتبه هو الذي يقف وراء حرق الكتب ؟ أيكون الدافع أحياناً عملاً إبداعياً كبيراً عجز الأديب فيما بعد عن تجاوزه أو كتابة ما يوازيه فيلجأ عندئذ إلى إخفاء أو حرق ما يراه غير جدير بالبقاء كونه يسيء إلى مكانته كمبدع ؟ أم أن الأمر يتعلق في كليته بسوداوية الكاتب أو ما يسمى عند البعض بالألم المبدع وللإجابة على هذا السؤال الإشكالي لابد من عرض حجة أبي حيان التوحيدي التي دفعته إلى إحراق بعض كتبه ورسائله وكان ذلك في أواخر أيام حياته. حيث يقول في رسالة أرسلها إلى صديقه القاضي أبي سهل علي بن محمد (عجبت من انزواء وجه العذر عنك في ذلك, يقصد في حرقه لكتبه. وكأنك لم تعلم أنه لإثبات شيء وإن كان شريف الجوهر,كريم العنصر) (ثم اعلم –علمك الله الخير– أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سراً وعلانية, فأما ما كان سراً فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغباً, وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالباً, على أني جمعت أكثرها, للناس, ولطلب المثالة منهم, ولعقد الرياسة بينهم ولمدّ الجاه عندهم,فحرقت ذلك كله, ولاشك في حسن ما اختاره الله لي, وناطه بناصيتي, وربطه بأمري, وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي). ثم يعقب قائلاً: (... فشقّ علي أن أدعها لقومٍ يتلاعبون بها, ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها, ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها, ويتراؤون نقصي وعيبي من أجلها). ‏

تبدو أسباب أبي حيان التوحيدي وكأنها شهادة على عصر أكثر منها أسباب مقنعة في التخلص من كتب قضى حياته في تأليفها. وهي في الوقت ذاته تشير إلى التهميش والمرارة والعوز الذي وصل به كما هو معروف إلى درجة كان يأكل بسببه من حشائش الأرض. كما أن رسالة التوحيدي تلخص شقاءه ومعاناته في مجتمع لا يعترف إلا بالمنافقين والمرائين ويهمش المبدعين وأصحاب الفكر الحقيقيين, وهذا ما جعله يزهد في كل شيء متكئا في ذلك على آيات قرآنية تشير إلى حالة عبثية يتخبط فيها الإنسان أثناء صراعه مع الفناء وتوقه للخلود, ولاشك أن صاحب «مثالب الوزيرين» كان رائد المبدعين في عصره وما بقي من كتبه ورسائله يؤكد ذلك. ‏


فتش عن التهميش ‏

ترى هل حرق الكتب له علاقة بالتهميش الذي يعانيه الكاتب في حياته وهل كان التوحيدي سيحرق كتبه ورسائله لو أنه نال ما يستحقه في حياته؟ وماذا عن فرانز كافكا الذي كان يرى في كل ما كتبه هراء لا يستحق أن يسمى أدباً؟ يؤكد البعض أن حياة صاحب رواية المسخ لم تكن مترفة ولم يكن هو الآخر راضياً لاعن مجتمعه ولاعن أدبه وكان يعتقد بعدم الجدوى في أي شيء في هذا العالم وتكاد رواية المسخ أن تلخص نظرته التشاؤمية للإنسان الذي ينسى كل ما هو نبيل ورائع ويحتفظ بطبعه الأناني الذي ينبع من مصلحة مجردة لم تستطع الديانات ولا القوانين الوضعية والشرعية تغييبها أو التخفيف من سطوتها وقوتها التدميرية, وهنا نجد أنفسنا أمام شخصيتين إشكاليتين ومختلفتين في الأسباب التي جعلت أحدهما يحرق كتبه بنفسه والثاني يوصي بحرقهما لكنهما يتفقان في سوداويتهما ويبقى سؤال يتعلق بلجوء صاحبة رواية ذهب مع الريح إلى حرق مخطوطات روايات كانت قد كتبتها, ترى هل تكمن الأسباب في تقدير مرغريت ميتشل إلى أن كل ما كتبته لايرقى إلى مستوى رائعتها الأولى ؟ ما يدفعني إلى طرح هذا التساؤل يتعلق بالضجة الكبيرة التي أثيرت حول روايتها الأولى والتي تم تحويلها بعد صدورها بوقت قصير إلى فيلم سينمائي. ‏

أخيراً أياً كانت الأسباب التي تقف وراء إحراق أو إخفاء كتبٍ ومخطوطات فإن كتاباً واحداً قد يخلد اسم صاحبه فيما تعجز ربما عشرات الكتب عن جعل الأجيال والمهتمين بالأدب يتذكرون صاحبها. وهنا لابد من التنويه إلى تصريح غابرييل غارسيا ماركيز حول عدد ساعات عمله في الكتابة حيث صرح بأن نتاج هذه الساعات غالبا ما ينتهي في سلة
 
أعلى