عباس أرحيلة - عناية كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وعناية محمد بن عبد الله العلويّ به

تمهيد:
يُعتبر كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني (284 – نحو 362هـ) من ذخائر التراث العربي؛ إذ هو – كما قال ابن خلدون (808هـ) - « كتاب العرب وديوانهم، وفيه لغتهم وأخبارهم وأيامهم وملتهم العربية، وسيرتهم وآثار خلفائهم، وآثار ملوكهم وأشعارهم وغناؤُهم، وسائر مغانيهم له»[2].
ونظراً لوفرة مادة الكتاب، فقد كانت له اختصارات أشهرها:
-(تجريد الأغاني من ذكر المثالث والمثاني) لأبن واصل الحموي (697هـ)، وقد جرّده من الأغاني والإيقاعات والأسانيد ( (مطبوع).
- (مختار الأغاني في الأخبار والتهاني) لابن منظور (711هـ)، صاحب (لسان العرب)، فقد لخّصه ورتبه على حروف الهجاء (مطبوع).
- ( إدراك الأماني من كتاب الأغاني)، وضعه عبد الرحمن السلاوي بتوجيه من السلطان المغربي محمد بن عبد الله العلوي.
أولا: قيمة الكتاب واحتفاء كبراء العصر به
أ – قيمة كتاب الأغاني:
1 – قيمة حضارية: ظل الكتاب سجلا هاما للحضارة َّ الإسلامية في كثير من مظاهرها: ( قصور الخلفاء والأمراء، ووصف للمنتزهات والبساتين والورود، والمجالس والمنتديات، ووصف النوادي والجواري، والملاعب والملاهي، والمآكل والمشارب، وعادات الناس ومشاغلهم...).
2 – قيمة تاريخية: اهتم أبو الفرج بتاريخ العرب من الجاهلية إلى نهاية القرن الثالث الهجري، مع عناية بأيام العرب وأخبار قبائلهم وأنسابهم ومياههم، مع تقديم تفصيلات دقيقة عن قصص الملوك في الجاهلية، والخلفاء الأمويين والعباسيين إلى حدود 277هـ تقريبا. يقول في مقدمته أنه جعل كتابه:« بين آثار وأخبار، وسيَر وأشعار، متصلة بأيام العرب المشهورة، وأخبارها المأثورة، وقصص الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام»[3].
ولم يجد ابن خلدون أكثر منه استيعابا لأبار العرب وأنسابهم وأيامهم ودولهم [4]. وقال جورجي زيدان (1961 – 1914م):« ولولاه لضاع كثير من أخبار الجاهلية وصدر الإسلام وبني أمية»[5]. أما المستشرق الألماني كارل بروكلمان (1956م)، فقال على لسان المستشرقين:« ونحن نَدينُ له بمعرفة أهم أحبارهم»[6].
3 – قيمة أدبية: حفِظ كتاب الأغاني مادة شعرية غزيرة ونصوصا نثرية هامة لا توجد في غيره؛ مما جعله من أمهات المصادر، ويندُر أن تجد مؤرخا للأدب لا يعتمده ضمن مصادره. وقد أعتبره د. أمجد الطرابلسي، [أستاذ الأجيال في المغرب الحديث رحمة الله عليه، 1916 – 2001م] « من أغنى الموسوعات الأدبيَّة القديمة التي تعتز بها المكتبة العربيّة»[7].
4 – قيمة في مجال التراجم: يعتبر الكتاب موسوعة في مجال الشعراء والمغنين؛ فأبو الفرج حين كان ِّ الأصوات العربيّة أي النصوص الشعرية المغناة بألحانها؛ اضطُر أن يُعرِّفَ بأصحاب تلك النصوص. فبلغت التراجم التي قدمها حوالي خمسمائة ترجمة لشعراء وشاعرات، من الجاهليّة إلى العصر العباسيّ الأول. ولاحظ د. أمجد الطرابلسي، رحمه الله، أن تلك التراجم جاءت« شديدة التفصيل، غزيرة المادة، تحتوي على قسط وافر من أخبار الشعراء، والمترجَم لهم، ومن آثارهم»[8]. ويبدو أن أبا الفرج استوعب الكتبَ المؤلفةَ في أبار الشعراء، وقدم أرقى صورة للتراجم الأدبيَّة في التاريخ الأدبيّ إلى عصره.
5 – قيمة موسيقية: كانت غاية أبي الفرج أن يُدوِّن أشهر أغاني عصره بكلماتها وألحانها. ومن هنا العنوان الذي اختاره لكتابه؛ بل نراه يذكر في مقدمة الكتاب أن من أهدافه، جمعُ المادة الغنائية العربية وتصفيتها من الشوائب.
6 – والكتاب خزانة نوادر وطرائف ومُلَح: عُنيَ بغرائب القصص والأسمار، وما تلتذ به مواطن اللهو، ومجامع السمر، ومجالس الشراب؛ بل جاء الكتاب حافلا بأخبار الخلاعة والمجون، يجمع بين الجد والهزل. وقرر أن تكون طبيعة كتابه « رونقٌ يروقُ الناظر ويُلهي السامع»، على حد قوله[9]. فالكتاب يروق الناظر بعرضه لمظاهر المتعة وملذات الحياة في العصر العباسي، كما أنه يُلهي السامع بألحانه وقصصه وطرائفه.
6 – قيمة لغوية ونقدية: شرح الألفاظ الغريبة وأوضحها، وخلَّف مادة معجميَّة لم تحظ بعناية الدارسين حتى اليوم. أما القيمة النقدية للكتاب فيه جديرة بالتقدير والاهتمام، وإن كان كثير من مؤرخي النقد قد أهملوها. وعموما لا يمكن للنقد العربي القديم أن يستغني عن المادة الإخبارية المتعلقة بالأحكام النقدية الواردة في الكتاب، ولا الآفاق الفسيحة التي فتحتها نظرات أبي الفرج في الظواهر الأدبيَّة.
ولأهمية الكتاب دخل خزائن أمراء العصر، وانتقل بين المشرق والمغرب. وكم قال الطاهر أحمد مكي :«ولم يتوقفْ نسخُه منذ أن خَطَّ أبو الفرج أولَ نُسخة إلى اختُرعت الطباعة»[10].
وقبل نحو قرن من طباعة الكتاب لأول مرة مطبعة بولاق سنة 1868م؛ أمر السلطان المغربي محمد بن عبد الله، تحرير نسخة من كتاب الأغاني وتحقيقها، وذلك في أوائل محرم سنة 1180هـ/1767م.
ثانيا: عناية محمد بن عبد الله بكتاب
1 – الانطلاقة المبكرة لحركة الإصلاح في المغرب في القرن 18م:
في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تولى محمد بن عبد الله حكم المغرب ( 1171 – 1204هـ/1757 – 1790م)، وكان العالم العربي آنذاك يعاني من النفوذ التركي، وكانت أوربا تعيش عصر أنوارها، وفرنسا تتهيأ لأجواء ثورتها، وأمريكا تعرف حروب استقلالها. أما المغرب الأقصى فقد انطلقت منه حركة إصلاحية، امتدت إلى جميع مظاهر الحياة المغربية. وكانت تلك الانطلاقة من مدينة مراكش؛ إذ كانت آنذاك محط الأنظار، تُعقدُ بها المعاهدات، وتُتخذ بها القرارات، ويُستقبل فيها السفراء والبعثات. ومن تلك المدينة انطلقت مبادرات الإصلاح، لخلق كيان مغربيّ متشبث بوحدته وأصالته. وساعدت ظروف الاستقرار الاقتصاديّ والسياسيّ، أن تنفتح الدولة على العالم الخارجي، وأن تنظم نفسها إداريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، حتى يمكن القول إنَّ المغرب قد أخذ أهبة الدخول إلى عوالم العصور الحديثة؛ بانفتاحه وحضوره الدولي، ودعوته إلى الاجتهاد والتجديد.
وإن المؤرخ للحركات الإصلاحية التي قامت بالمشرق منذ أواخر القرن الثامن عشر، لا يسعه أن يتجاهل السبق الزمني الذي عرفته الحركة الإصلاحية؛ التي انطلقت من المغرب في عهد السلطان محمد الثالث.
2 – عناية السلطان بالتاريخ والأدب والموسيقى:
كان عمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين حيث تولى النيابة عن والده بمدينة مراكش، جنوب المغرب (1158 – 1171هـ/1745 – 1757م)، وتميزت هذه الفترة من حياته باهتمامه بالعلم والتاريخ والأدب والموسيقى. فقد أعاد إلى مدينة مراكش مكانتها الأدبيَّة، وجعلها منتدى للأدباء والشعراء. وذكر د. الحسن العبادي أن أهل مراكش قد عرفوا حب الأمير للعلم والأدب، فرفعوا إليه كتاب (مناهل الصفا في تاريخ دولة الشرفا) للشاعر والمؤرخ الفشتالي (عبد العزيز بن محمد 1031هـ) لقيمة الكتاب الأدبية، واستحسان الأمير لسيرة السلطان المنصور الذهبي، فكان الكتابُ يُسرَدُ عليه[11].
وذكر ابن زيدان ( عبد الرحمن بن محمد 1365هـ/1945م) في كتابه (إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس) أن محمد بن عبد الله كان مولعا في بداية حياته بعلم اللغة، وبدراسة كلام العرب وأشعارهم وآدابهم[12].
وقد نوّه المؤرخون باهتمام محمد بن عبد الله بالأدب والتاريخ والأنساب، في الفترة التي كان فيها خليفة لأبيه بمراكش، كما بين ذلك د. الحسن العبادي في عمله الجامعي الجدير بكل تنويه وتقدير.
وكان من ضمن اهتمامات الأمير في هذه المرحلة، انشغالُه بالموسيقى، وخاصة الأندلسيّة منها، كما يدل ديوانه على ذلك. وقيل إن الفنان ابن نصيحة كانت علاقته بالأمير كعلاقة إسحاق الموصلي بهارون الرشيد.
3 – عنايته بكتاب الأغاني:
أبدى الأمير عناية خاصة بكتاب (الأغاني)، ولعل ذلك يرجع إلى طبيعة الكتاب الأدبيّة والتاريخيّة والموسيقيّة. وكانت هذه أهم الاهتمامات العلمية والأدبية للأمير في المرحلة الأولى من حياته. فلا عجب أن ينصرف الأمير إلى الكتاب، حتى قيل إنه كان يحفظه، أو كما قال أبو القاسم الزياني (1249 – 1834م) في كتابه (الترجمانة الكبرى):« وكاد أن يحفظ ما في كتاب الأغاني من كلام العرب وأشعارها ونوادرها، وأشعار المولدين وشعراء الإسلام»[13].
وأرى أن اهتمام الأمير بالكتاب يدخل ضمن توجهه الإصلاحيّ العام؛ إذ كان يرى ضرورة العودة إلى الأصول التراثية لضمان النهوض الحضاري السليم للعالم الإسلامي. من هنا شغفه بكتاب الأغاني باعتباره مصدراً من مصادر التراث الأدبيّ والتاريخيّ والفني، في تاريخ العرب والمسلمين.
4- (إدراك الأماني من كتاب الأغاني):
ونظرا لعناية السلطان بكتاب الأغاني، أمر كاتبَه عبد القادر السلاوي أن يقوم بتلخيص الكتاب، في ضوء توجيهات له، ويسمي الملخص بـ(إدراك الأماني من كتاب الأغاني) [ والكتاب ما يزال مخطوطا، في خمسة وعشرين جزءا، رقمه الخزانة الملكيَّة 2706].
وذكر عبد القادر السلاوي شغَف السلطان بكتاب الأغاني « شغفَ جميل بثينة، وغيلان بمَي، وكثير عزة... فأحاط به علماً، واستولى على جواهره الحسان حفْظاً وفهْماً»، وذهب إلى أن السلطان:« علم من أسراره ما لم يعلمه أحد ممن تقدمه... من فحول العلماء وأئمة الأدب، واطلع على خباياه، وعلم ما في زواياه... وانتقده انتقاد بصير، ولا ينئك مثل خير».
وذكر أن السلطان محمد بن عبد الله قد أمره بتجريد نسخة من كتاب الأغاني« بتحريرها وتصحيحها، وتحقيقها وتهذيبها، وتلقيحها على ترتيب لطيف...اقتضاه رأيُه السديد... وأن أضيف إليه ما أختارَه ... من كلام المولدين، وانتخَبَه من أشعار المُحدثين؛ مما تحسُنُ إضافتُه، وتُستحسَنُ روايتُه ودرايتُه، ويتميز به عن غيرها من جميع النسخ الأغانية».
وقد وجَّه السلطانُ كاتبَه إلى نخْل الكتاب من أغانيه القديمة؛« لأنها اصطلاح قديمٌ ذهب بذهاب أربابه، وانقرض بانقراض أهاليه وأصحابه».
وكما أمره أن يُقدم التراجم على الأصوات والأشعار؛ أمره أن تُرتَّبَ تراجمُ الشعراء عندما تقتضي الترجمة التقديم أو التأخير، « وأن يفتتح كلَّ سِفْرٍ من أسفاره الخمسة والعشرين بشاعر كبير، من فحول الشعراء، أو سيد جليل من السادة السّراة الجِلَّة الكبراء». واختار أن يبتدئ السفر الأول بحسان بن ثابت، شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم [14].
كانت هذه محاولة للتعريف بهذا التلخيص، وإن كان الأمر يحتاج إلى مجهود خاص عندما يظهر الكتاب محققا، هذا إذا حصل ذلك!


[1] نشر هذا المقال في مجلة الدراسة والإعلام المغربية، رقم 280، 9 يوليوز 1995، ص23 – 28.
[2] مقدمة ابن خلدون، تحقيق: د. علي عبد الواحد وافي:3/1295 – ط3 [ القاهرة، دار نهضة مصر، 1979].

[3] الأغاني:1/2 ( ط. دار الكتب، د.ت).
[4] مقدمة ابن خلدون:3/1295 .
[5] تاريخ آداب اللغة العربية: جورجي زيدان:2/282.
[6] تاريخ لأدب العربي: بروكلمان، ترجمة: عبد الحليم النجار:3/68.

[7] نظرة تاريخية في حركة التأليف عند العرب في اللغة والأدب: د. أمجد الطرابلسي، ص185 (ط5).
[8] المرجع الساق، ص187.
[9] الأغاني:1/2.
[10] دراسة في مصادر الأدب: الطاهر أحمد مكي، ص200 – ط4، [ القاهرة، دار المعارف، 1977].


[11] الملك المصلح سيدي محمد بن عبد الله العلوي: د. الحسين العبادي، ص65 ( ط1، 1986).

[12] إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس: ابن زيدان:3/183

[13] الترجمانة الكبرى التي جمعت أخبار المعمور برا وبحرا: الزياني، ص51 – ط1 [ الرباط، وزارة الأنباء، 1387هـ].

[14] ينظر كتاب: الملك الصالح، ص172 – 174




عباس أرحيلة
 
أعلى