عبد العزيز الساوري - أدب الأدارسة

نواجه في عهد الأدارسة عوامل ساهم في نشر اللغة العربية وتوسع حركة التعريب ويلخصها د.عباس الجراري فيما يلي(1):
1- حالة الاستقرار التي سادت مناطق نفوذ الأدارسة.
2- عروبة الأدارسة.
3 – إنشاء جامع القرويين.
4- خروج المغاربة في رحلات علمية إلى المشرق والقيروان والأندلس وعودتهم إلى المغرب.
5- كثرة الوفود العربية التي قصدت مدينة فاس قادمة إليها من الأندلس والقيروان.
وقد تقدم الأدب شيئا بفضل هذه العوامل، وإن بقي متسما بسمات المدرسة الشرقية المحافظة: فالمدح والعتب والفخر والهجاء من فنون الشعر والخطابة والمراسلة من فنون النشر أنواع أدبية ضاع كثير من نصوصها وسط تلك الفتن التي دهت المغرب غداة تفرق الأدارسة.

من أبرز شخصيات هذا العصر الإمام إدريس بن عبد الله رضي الله عنه الذي يلقيه ابن أبي زرع بالشاعر المجيد ويورد بعض أشعاره (2). كما يورد ابن الأبار ترجمته واشعاره (3). ولشعره دلالة تاريخية نتيجة تأثير الأحداث ودلالة نفسية لبعد الأهل والتشوق إليهم. فمن الشعر الأول قوله في بهلول بن عبد الواحد المدغري. وكان من خاصته وأركان دولته فاستماله إبراهيم بن الأغلب صاحب إفريقية حتى بايع للرشيد. (4)
أبهلول قد شمعت (5) نفسك خطة تبدلت منها ضلة (6) برشاد
أضلك إبراهيم من بعـــد داره فأصبحت منقادا بغير قـياد
كأنك لم تسمع بمكر ابــن أغلب غدا آخذا بالسيف كل بـاد
ومن دون مامــنتك نفسك خاليا ومناك إبراهيم شوك قتـاد
وكان ابن الأغلب قد دس إلى راشد مولى إدريس الذي كفله منذ ولادته من قتله غيلة وقال في ذلك (7).
ألم ترني أرديت بالكيد راشــدا وأني بأخرى لابن إدريس راصد
تناوله عزمي علي نـــأي داره بمختومة في طيهـن المكائـــد
وقد كان يرجو أن يفوت مكائدي كما كان يخشاني على البعد راشـد
ثلاثون ألفا سقتهن لقتلــــه لأصلح بالغرب الذي هو فاســد
فأضحى لدينا راشد ينتبـــذنه بنات المنايا والحسان الخـــرائد
فتاه أخو عك (8) بنهلك راشد وقد كنت فيه ساهرا وهو راقد
يقول د. حسين مؤنس: "وهذه الأبيات ظاهرة النحل, فهي تخلط بين مقتل رائد وموت إدريس". (9)
وقد علق المرحوم العلامة المؤرخ عبد الله الجراري على الأبيات بقوله: "كل هذا والمسلم البربري – يرى ويسمع من بين تفاعيل القريض وأراجيز الشعر وأشطار القافية الجذابة – ما يرهف حسه. ويلين طبعه ويحفره للتأثر تحت نقرات الوزن. ودندنة الترتيلات الشعرية وقد ألبست حلة القوة المخبوءة وراء شاشة هذا العرض الذي كان ينطوي عليه ابن الأغلب من خداع وكيد اعربت عنهما القافية بهذا اللون ممن الأساليب الشعرية, وشيء ممن هذا القبيل هو بطبيعته المنسجمة دقة ورقة لا يعتم أن يسمو بمعنوية المستمع ويشحذ إحساسه المزدوج فيثب وثبة المتفاني الولوع للتمرن على هذا الفن الرقيق من القول. (10)
وكتب إلى إبراهيم بن الأغلب يدعوه إلى طاعته أو الكف عن ناحيته. ويذكره قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي أسفل كتابه (11).
أذكر إبراهيم حق محمـــد وعترته والحق خير مقول
وأدعوه للأمر الذي فيه رشده ومـا هو لولا رأيه بجهول
فإن أثر الدنيا فإن أما مــه زلازل يوم للعقاب طويـل
إن الظروف السياسة التي واجهها إدريس جعلت من إحساسه بالهموم وبعد الأحباب دائم التشكي والشكوى في عصر يكثر فيه هول الأحداث وعلامات الخطر الجاثم وحالات يقلق لها الإنسان ويتشوق للأهل بيته (12).
لو مال صبري بصبر الناس كلهم = لضل في روعتي أوضل في جزعي
وما أريع إلى يأس ليسلنـــي = إلا (.... ...) يأس إلى طمـــع
وكيف يصبر مطوي هضائمـه = على وساوس هم غير منقطـــع
إذا الهموم توافت بعد هجعتــه = كرت عليه بكأس مرة الجـــرع
بأن الأحبة واستبدلت بعدهـــم = هما مقيما وشملا غير مجتمــع
وكأنني حين يجري الهم ذكرهم = على ضميري مخبول من الفـزع
تأوي همومي إذا حركت ذكرهم = إلى جوانح جسم دائم الولع
يقول عبد الله كنون: "هذه الأبيات وقع فيها اختلاف في اللفظ وزيادة تركناها لعدم انسجام المعنى بها" (13).
وفي هذه الأبيات تعبير عن واقع لا سبيل إلى الصبر على شدائده ولو جمع صبر الناس وحتى لولا الشاعر باليأس ليستريح لبرق إليه بارق الطعم، ولعل ذلك إشارة إلى ما انتاب الشاعر من نواجس الركون إلى الرحة أو الدخول إلى حلبة الصراع السياسة طمعا في السلطة, فالأحداث الخاجرية ومحاولاتها الانقضاض على الأدارسة والصراعات الداخلية وموالاة البربر لعناصر غير إدريسية. أقلق إدريس وربما لقلة تجربته وحداثة سنه أتاح للخواطر والوساوس أن تقض مضجعه وتجرعه الهموم بمرارة. ولا سبيل إلى غير ذلك ما دام بعد الأحباب وتشتت الشمل وملازمة الهم يحتل كل ذلك واقعه الذي سيصبر مأوى تأويه إليه الهموم التي تجلبها الذكريات.
ومما يذكر عنه أنه أنشد في حال قتاله لمن عائده (14):
فلنا نمل الحرب حتى تملنا = ولا نشتكي مما يؤول إلى النكـب
ولكننا أهل الحفائظ والنهى = إذا طار أرواح الكماة من الرعب
وينم أدب المولى إدريس الثاني عن حماسته الفياضة وعرة نفسه وثباته في الحرب. يقول المرحوم العالمة الجليل عبد الله الجراري: "...هذه الأبيات الحماسية القوية لها سبب أدبي خاص عليه أثبتت قافيتها المطبوعة بطابع الرجولة الفياضة المتركزة على أناة الطويل المتوالي النيرات الهادئة والمشعرة في نفس اللحظة باندفاع كل من المنشد والمستمع عهن حساسية وشعور لمنازل الأحرار.." (15).
ومثل هذا الشعر الذي قيل في المغرب في هذه الفترة لا يمثل نمطا ثقافية وحضاريا متميزا لأن أدب الأدارسة ظل يعيش في بيئة عربية خالصة لم تعرف عوامل الاندماج أو أسباب التجانس في سبيل خلق نمط واحد يضمهم مع المغاربة داخل إطار ثقافي ونطاق حضاري يقول د. عباس الجراري: "وقد ظل الأدارسة مشارقة بالروح والعقلية وبنمط الحياة وبطبيعة العلاقات ومستوى التعبير، لا يفارقهم الشعور بأرومتهم. ذلكم الشعور الذي كان ثابتا فيهم متأصلا يتمثل في الحنين الذي لم يخب قط في تفوسهم. بل أن هذا الحنين ظل يراودهم بقوة في بعض الأحيان. وخاصة حين تتأزم الأحداث والظروف (16).
أما آثار إدريس الثاني النثرية فنجد خطبته التي قالها باتر مبايعته وهو بان إحدى عشرة سنة ويذكر علي الجزنائي عجب الناس من فصاحته وبيانه ورصانة عقله وبلاغته (17) وفيها جاء: "الحمد لله أحمده وأستغفره وأستعين به وأتوكل عليه. وأعوذ بالله من شر نفسي وشرذي شر. وأشهد أن لا إله إلا الله. وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى الثقلين بشيرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا صلى الله عليه وعلى آله الذي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، أيها الناس أنا قد ولينا هذا الأمر الذي يضاعف للمحسن فيه الأجر، وللمسيء الوزر ونحن والحمد لله على طريق قصد فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإن الذي تطلبونه من إقامة الحق إنما تجدونه عندنا" (18).
ولعلك تعجب أن تكون هذه الخطبة الموجزة المحكمة قالها غلام في الحادية عشرة من عمره,. ولكنا لا نستبعد صدورها منه, فقد روت كتب التاريخ أنه نال قسطتا وافرا من الآداب والمعارف والفروسية في سن مبكرة (19).
هذا إلى أنه سليل أسرة عرفت بالفصاحة والبلاغة.
ءل محمد بن تاويت ود محمد الصادق عفيفي مؤلفا كتاب "الأدب المغربي" (20) "ونحن في ذكرنا لمثل هذه الخطبة نذكرها بشيء من الحذر رغم تواتر المصادر التي ذكرتها، لأن هذه المصادر ذكرتها بصورة مضطربة مبتورة تجعلنا نتشكك في صحتها ولأنها ربما كانت هي أو غيرها من وحي المعجبين أو ربما كانت لبعض العرب النازحين كتبت للأمير.
وهذه الخطبة مع ذلك من السهل أن يكون قد حضرها. فما هي – إذا استثنينا مقدمة التمجيد والثناء – إلا بضع جمل يخبر فيها بولايته ويتحمل تبعاتها ومسؤولياتها ويطلب من الناس في حزم وقوة إلا يقعوا في فتنة أو يتطلعوا إلى غيره وإن لهم عنده ما يحبون من خير وعدل.
وأما تمجيداته وصلواته وعاؤه – فإنها قوية "أعوذ بالله من شر نفسي وشر ذي شر" 6 أرسليه إلى الثقلين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا" – "أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ". ولعله لا يخفى عليك أن أكثر معانيه مقتبس من القرآن الكريم والحديث الشريف. فالجملة الأولى مأخوذة من سورة العلق "قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد" (21) والثانية مأخوذة بنصها تقريبا من قوله تعالى: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا" (22) والثالثة كذلك من قوله تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" (23) أما قوله: "يضاعف للمحسن فيه الأجر وللمسيء الوزر" فمأخوذة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الإمام العادل والظالم وجزاء كل منهما وهي كالتالي (24):
"عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة. وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحا رواه الطبري في الكبير والأوسط وإسناد الكبير حسن…
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة عدل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها. ويا أبا هريرة جور ساعة في حكم أشد وأعظم الله عز وجل من معاصي ستين سنة.
وفي رواية: عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة رواه الأصبهاني.
و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلسا، إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله تعالى، وأبعدهم منه مجلسا، إمام دائر رواه الترمذي والطبراني في الأوسط مختصرا إلى أنه قال: أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام جائر (25)، وقال الترمذي، حديث حسن غريب.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الناس عند الله منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق (26). وشر عباد الله عند الله منزلة يوم القيامة جائر خرق (27) رواه الطبراني في الأوسط رواية ابن لهيعة وحديثه حسن في المنابعات".
وجميل تعبيره "ونحن والحمد لله على طريق قصد فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا" إنه تعبير يدل على رجولة مبكرة ويكشف عن نفس سيد وعزة ملك.
وهذه خطبة – لعمر الحق – وافية شافية رغم قصرها. ويكفي أن يشعر الناس أن إمامهم شاعر بمسؤولياته مقدر لخطورة منصبه. قد جعل العدل منهجه وقد صمم على قطع دابر الفتن قبل بزوغها، فاطمأنوا إلى قوته وحسن سياسته. واستظلوا بعد له وجميل رعايته.
وقد عرفنا خطبا لكثير من الخلفاء في مثل هذا الموضوع فكانت أقرب إلى الإنجاز وأجمع لرسم المنهج الواضح لطريقة الحمم وفيها التهديد وفيها الوعد والوعيد فلم تخرج خطبة المولى إدريس الثاني عن هذا الأسلوب.
لكن هل ترى أن ما يتبعه الملوك والرؤساء في العصر الحديث حين يتولون مناصبهم من إعطاء برنامج تفصيلي أفضل أم هذه الطريقة التي تجنح إلى التركيز وتكتفي بالإشارة واللمح؛ أم أن لكل عصر مقتضياته وظروفه وطريقته في المشورة والديمقراطية؟ وان الشعوب الواعية الفاهمة تخطب بما لم تكن تخاطب به الشعوب التي لم تكن تشارك في سياسة الدولة إلا بعدد أصابع اليد الواحدة من الرجال الذين يختارهم الحاكم لا الشعب !
هذا ولعلنا نلاحظ أن الخطيب لم يهتم بسجع أن بديع. وأن جمله مرسلة لا يلتزم فيها نظاما ما يعنيه من قصر أو طول أو ازدواج أو غير ذلك.
يقول عبد الله كنون: "والحقيقة أن هذه الخطبة على قصر هاتين مدى فعالية التربية الحسنية التي قام بها راشد لإدريس: إعداد للمهمة الكبرى التي تنتظره. وتدل على بعد نظر إدريس وإلمامه بالظروف التي بويع فيها وطبيعة الأحداث التي تواجهه فهو لم يعتر بنصرة القوم له والحماس الذي أظهروه في بيتعه. وإنما اعتمد في ولايته الح.... وتوخي العدل وطلب الثواب من الله عز وجل ثم ألمع على خصومه وما يدبرونه له من المكائد فأنذر من يصغي لهم ويتخدع بكلامهم أن مرادهم هو التسلط والقهر وإشاعة الفتنة. وأما الحق والعدل وحكم الشرع فإنهم بمعزل عنه، ولا يقيمه إلا أهل البيت الذين ثاروا من أجله وأراقوا دماءهم الزكية في سبيله فما أشبه هذه الخطبة في اختصارها وجمعها بخطبة أبي بكر الصديق التي خطب بها عند مبايعته. وفي إن تكن من كلامه في هذه السن المبكرة فذلك منتهى النبوغ. وإن تكن مما خطب به عبد تقدمه في السن واستتباب الأمر له. وإنما المؤرخون هم الذين جعلوها خطبته الأولى فذلك منتهى التوفيق". (28)
وأما الخطبة الثانية.وقالها بعد الأولى بنحو ست سنوات بعد بناء مدينة فاس. فلعل حدة الشك حولها تخف وقد ختمها بهذا الدعاء: "اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة ولا رياء ولا سمعة ولا مكابرة، وإنما أردت أن تعبد بها ويتلى بها كتابك وتقام بها حدودك وشرائع دينك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ما بقيت الدنيا. اللهم وفق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عليه وألحفهم مؤنة أعدائهم وأدر عليهم الأرزاق وأغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق إنك علة كل شيء قدير. (29)
يقول عبد الله كنون: "وقد أثبت إدريس بهذا أنه رجل دولة من الطراز الأول. فهو سياسي باري وإداري محنك وصاحب سيف وقلم. يحب العمارة ويسعى في أسباها من إقامة العدل ونشر الأمن وتعميم الرخاء. فلم يزده ذلك إلا شهرة وبعد صيت ورفعة ذكر". (30)
ومن اللطائف الأدبية ما حدث به داود بن القاسم بن عبد الله بن جعفر الأوروبي (نسبة العزيز) قال: "شهدت مع إدريس بن إدريس بعض غزواته للخوارج الصيفرية من البربر فلقياهم وهم ثلاثة أضعافنا. فلما تقارب الجمعان نزل إدريس فتوضأ وصلى ركعتين ودعا الله تعالى ثم ركب فرسه وقدم للقتال. فقاتلناهم قتلا شديدا. فكان إدريس يضرب في هذا الجانب مرة ثم يكر في الجانب الثاني فلم يزل كذلك حتى ارتفع النهار فرجع إلى رايته. فوقف بارائها والناس يقاتلون بين يديه فطفقت أنظر إليه وأديم الالتفات نحوه وهو تحت ظلال البنود يحض الناس ويشجعهم. فأعجبني ما رأيت منه من شجاعته وقوة جأشه. فالتفت نحوي فقال لي: يا داود مالي أراك تديم النظر إلي؟ قلت: أيها الإماء إنه أعجبني منك خصال لم أرها في غيرك. قال: وما هي داود؟ قلت: أولها ما أراه من حسنك وجمالك وتبات عقلك وممن طلاقة وجهك, وما خصصت به من البشر عند لقاء عدوك. قال: ذلك من بركة جدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه لنا وصلاته علينا وأرائه عن أبينا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قلت: أيها الإمام وأراك تبصق مجتمعا وأنا أطلب قليل الريق في فمي فلا أجده. قالك يا داود ذلك لاجتماع عقلي وقوة بأسي عند الحروب. وعدم الريق ممن فمك لطيش لبك وافتراق عقلك ولما خامرك من الرعب. قال: داود: فقلت أيها الأمير وأنا أيضا أتعجب من كثرة تقلبك في سرجك وقلة قرارك في موضعك. قال: ذلك مني زمع إلى القتال وحزم وصرامة.وهو أحسن في الحرب, فلا تظنه رعبا. وفي هذه اللحظة أنشأ يقول: أليس أبونا هائم شد أزره الأبيات" (31).

يقول العلامة الشهيد عبد الله الجراري: "فهذا التجاوب الإسلامي المكو حلة وصفاء بين خليفة المسلمين وفرد من أفراد رعيته المخلصين ليهدينا في وضوح إلى – ما لرجال الخلافة وملوك الإسلام في عهوده المشرفة من انطلاق وانشراح ولين في الوقوف جنبا لجنب تشخيصا لروح الديمقراطية الحق ذوبانا منهم وامتزاجا بالأوساط الشعبية دون أن يتبرموا أو يأنفوا أو يعرفوا للاستقراطية والميز مدلولا يحول دون اتصالهم برعاياهم الأوفياء. ولا أدل على هذا المعنى الكامل أو التاريخ يعيد نفسه (ما أصبحنا نراه اليوم في جلالة عاهلنا المفدى البطل الأشوس مولانا الحسن الثاني حفظه الله في رحمة الصغير، والعطف على الكبير, ومواساة المحتاج والمعوز في استرسال وتتابع. (الله عودك الجميل فقس ما قد مضى)" (32).
ويتضح من خلال هذا العرض الذي أدلى به داود الأوروبي أن قائد المعركة وبطل الدولة إدريس عندما حان اللقاء تطهر ركعتين ودع ربه، ثم امتطى صهوة جواده واقتحم الساحة ضاربا مرة هنا وأونة هناك غير غافل عن جنده الباسل وهو في وطيس المعركة يستميت دون الانتصار الذي تستحلي الشهادة في ساحته المقدسة واعتباره الطاهر. وفي هذا الجو القاتم. والظرف المتزاحم الحاسم يذهب الإمام ويجيء تحت ظلال البنود. وخطوك الرماح يحرص ويشجع والرجل الأوروبي يديم النظر إليه اتباعا متعجبا من ثباته وطلاقة وجهه الشيء الذي اضطر معه الخليفة لسؤاله عن ذلك فما كان من الأوروبي إلا أن صارحه شارحا له دوافع استغرابه وتعجبه.
وكان هذا من المولى إدريس فتحا للباب في وجه الرجل البربري جعله يسترسل في الاستفهام بلسان عربي مبين عن كل ما لفا نظره من حالة الإمام وقوة جأشه. وخفة حركاته ومواصلة جولاته الحربية ميمنة وميسرة. وإمام وخلف وقلبا. قلت أيها الإمام وأراك تبصق بصاقا مجتمعا وأنا أطلب قليل الريق في فمي فلا أجده. قال: يا داود ذلك لاجتماع عقلي وقوة بأسي عند الحروب. وعدم الريق من فمك لطيش لبك وافتراق عقلك ولما خامرك من الرعب.
وقد علق فقيد العلم والدين والأدب الأستاذ الكبير عبد الله الجراري علي هذا الكلام بقوله: "انها لحقيقة ثابتة في النوع البشري كلما أصيب أودهاه مشكل. أو غمرته داهية في هذا المحيط الرهيب وفي مضيق هذا الفزع المساور يجف الريق وينقطع البصاق أن لم يغر نهائيا ويصبح الإنسان الفرق متبلعا كالشرق بريقه يبحث عن جرعة ماء يدفع بها غصته. وانحراف لهواته عن الطبيعة خورا وجنبا يمنى بهما كثير ممن لم يتلقوا دروسا في الصرامة والبطولة. ولم يساعدهم الحظ بالتشبع بمبادئ التربية الوطنية التي تستطيع أن تبرز ما كمن في النفس من رجولةز واستبطن في خلاياها من نبل وقوة وإيمان وثبات ضمير وصمود إمام الخطوب والشدائد مكارم يمنحها الإنسان بالطبع والوراثة أو يكتسبها أحيانا بمثقافة أكفاء أشبعوا بروح التربية الصحيحة. وتلقفوا مبادئها المشرقة في الإسلام وسننه التربوية الخالدة التي كم اعتنت بهذا المبدأ الإنساني.وأحاطته بمزيد الاعتبار والإكبار رغبة في تحبيبه إلى النفوس الواعية لما له من تأثير في تقدم المجموعة الإنسانية وانتصارها على المناوئين والأعداء,..وهذا ما تتابع واسترسل متسلسلا منذ حقب وأجيال بعيدة حتى عصرنا المائل حيث أصبحنا ولله الحمد وله المنة نلمسه في غير ميدان وقد ناصرنا الثبات. وحالفنا الفوز" (33).
ومن شجاعة هذا الأوروبي الأدبية الشجاعة المشربة بروح البطولة التي أوحت بها طبيعة البساط ما رأى عليه ممن تقدم نحو الإمام بسؤاله الجريء قائلا: أيها الأمير وأنا أيضا أعجب من كثرة تقليلك في سرجك وقلة قراراك في موضعك. قال: ذلك مني زمع إلا القتال وحزم وصرامة, وهو أحسن في الحرب, فلا تظنه رغبا ثم أردف ذلك بالأبيات الآنفة الذكر.
يقول المرحوم العلامة المؤرخ عبد الله الجراري: "هكذا قام البربري الصريح سائلا أمام الدولة ابن الرسول الأكرم دون أن يتهيبن أو يخشى سلطانه وقوته هذا السؤال العظيم الذي أوحى للإمام بعض هذا الدرس الحربي الخطير الذي كان فيه توجيه وإرشاد لا بناء المغرب العربي إلى باة الذين خلقوا مطبوعين على الشهامة والأدباء. خلقوا ليكونوا أحرارا أعزاء يأبون الضيم والذل وينشدون بالتوس والطبع..لا تسقني ماء الحياة بذلة/ بل فاسقني بالعز كأس الحنظل..وإن هذا الدرس من الإمام إدريس نور الله ضريحه – لمن ترسم خطاه, واستظل ببنوده وطبق نقطة الحربية. ليعدل دروس ودروس فنية بمدرسة لها مناهجها وتصميماتها السريعة التكوين – لما للبرامج العملية من فعالية وتأثيرات عاملة في النفوس الواعية- فمن هو يا ترى الرجل الذي كان منتظرا يهيب بنا لشرح تلك المعاني الحربية الدقيقة ووضعها مكان الهناء من النقب سوى الإمام إدريس الذي وجد مجالا فسيحا من وراء هذا السؤال الصريح المنبثق عن أمثال تلك الفوائد القيمة التي أرتنا شاشتها الحية الصادقة حنكة الإمام وتبريزه الخاص في فنون اللقاء وخطط الطعان والبراز علاوة على ما توفر عليه من شيم وإخلاق أرق في طيبها من عليل النسيم" (34)
وللأمير القاسم بن إدريس لما اخرج عيسى بن إدريس على أخيه محمد وكتب له محمد بأمره بحرب عيسى فامتنع وقال معتذرا عن ذلك (35).
سأترك للراغب العرب نهــيا = وإن كنت في الغرب قيلا وندبا
وأسمو إلى الشرق في همــة = يعزبها رتبا من أحـــــبا
وأترك عيسى على رأيـــه = يعالج في العرب هـما وكربا
ولو كان قلبي عن قلبـــه = لكنت له في الـــقرابة قلبا
وإن أحدث الدهر من ريبــه = شقاقا علينا وأحدث حــربا
فإني أرى البعد ستـــرا لنا = يجدد شوقا لدينا وحــــبا
والبين مغرى كيده بأولى النهى = طبعا تطبع والطبيعة أغلــب
أيقنت أني للرزايا مطعــم = ودمي لوافدة المكاره مشـرب
فأنا من الآفات عرض سالم = وجوامح تكوى وعقل يذهـب
ولم نجن قطعا لأرحامنــا = نلاقي به آخر الدهر عتــبا
وتبقى العدواة في عقبنــا = وأكرم به حين نعقب عقــبا
وأوفق من ذك جوب الفلاة = وقطع المخارم نقبا فنقـــبا
وقد علق البحاثة الجليل عبد الله كنون على الأبيات بقوله: "وتعجبني هذه الأبيات ويسمو القاسم بها في نفسي سمو الأحد له فمنم ناحية البلاغة أراها في الذروة العليا نصاعة لفظ ومتانة تركيب وانسجام معنى ومن ناحية القصد والغرض أراها تعبر عن نفس كبيرة وهمة عالية مترفعة عن سفاسف الحياة ومهازلها التي تقطع الأرحام وتجلب الموت الزؤام.
ومعلوم أن القاسم كان واليا على طنجة من قبل أخيه محمد وأنه زهد في الولاية لما نشب النزاع بين أبناء إدريس المدعو المؤبل وكان قد سكن قرطبة إلى أن أخرجه المنصور ابن أبي عامر من الأندلس فيمن أخرجه من أهل بيته بعد قتل الحسن بن كنون كبيرهم وهذا قوله يخاطب المروانية لما رأى غلبة المنصور على هشام المؤيد واستبداده بالأمر دونه (39).
فيما رأى عجب لمن يتعجب = جلت مصيبتنا وضاق المذهب
إني لأكذب مقلتي فيمـا أرى = حتى أقول غلطت فيما أحسب
أيكون حيا من أمية واحــد = ويسوس هذا الملك هذا الأحدب؟
تمشي عساكرهم حوالي = هودج أعواده فيهن فرج أشهــــب
أبني أمية أين أقمار الدجــى = منكم ومالوجوهها تتغــيب؟
وقد روى المؤرخون لهذا الأمير غير هذه القطعة ولا شك أنك تلاحظ في القطعة التي أمامك مدح أمير علوي لأبناء أمية !!! وهو غريب... ! في بابه وله في هذا الوزن قصيدة طويلة يمدح بها مؤيد الدولة هذيل بن خلف بن رزين صاحب القلاع ويهجو في درجها غيره. وقد أورد منها ابن الآبار هذه الأبيات (40).
للبين في تعذيب نفسي مذهب = ولنائبات الدهر عندي مطلب
................................=.................................
............................... = تأتي لوقت صادق لا تكذب
وفي هذا الإطار يقول عبيد الله بن يحيى بن إدريس يخاطب الناصر لدين الله الأموي بعد أن فتح سبتة سنة 319 (41).
بسيفك دانت عنوة وأقــرت = بصائر كانت رهة قد تولـــت
وما قربت أهواؤها إذ تقربت = ولا حليت بالزي لما تحلـــت
ولكن أزالت راسيات عقودها = عزائم لو ترمي بها العصم زلت
ودولة منصور اللواء مؤيـد = تدال بحمد الله من شر دولــة
فهذا أول النصر منها وهـذه = بشائره تروي الأنام بسبتـــة
ولعله واضح من هذه القطع والأبيات – وهي تمثل جل ما صدر عن الأدارسة – إنها في غالبها تصوير لبعض جوانب الاضطراب النفسي الناتج عن الظروف المتأزمة التي كان يعيشها الأدارسة سوا فيما بينهم أو مع خصومهم، وإنها بلغت من اليسر في الأسلوب ومن البساطة في العواطف ومن الوضوح في المعاني درجة تكاد أن تصل إلى الفتور والضعف. مما يجعلنا لا نبالغ حين نحكم عليها بالهزال. وكذلك نحكم على حال الأدب المغربي عموما في هذه المرحلة.

* المراجع والمصادر
1 – القرآن الكريم.
2- الأدب المغربي – محمد بن تاويت ود. محمد الصادق عفيفي ط 2 مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني بيروت 1969.
3- الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه – د.عباس الجراري ج 1 ط 1 مكتبة المعارف الرباط 1979.
4- الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى – أبو العباس أحمد بن خالد الناصري. تحقيق وتعليق ولدي المؤلف: جعفر الناصري – محمد الناصري دار الكتاب الدرالبيضاء 1954.
5- الإمام إدريس – عبد الله كنون سلسلة "ذكريات مشاهير رجال المغرب" العدد 33 مكتلة المدرسة ودار الكتاب اللبناني بيروت
6- أمراؤنا الشعراء – عبد الله كنون المطبعة المهدية تطوان.
7- الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبر ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس – علي ابن زرع الفاسي دار المنصور للطباعة والوراقة الرباط 1972.
8- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب –ابن عذاري المراكشي تحقيق ومراجعة ج س كولان وإن ليفي بروفنسال دار الثقافة بيروت.
9- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف – الحافظ ابن عبد القوي المنذري. ضبط أحاديثه وعلق عليه المرحوم مصطفى محمد عمارة ط 3 دار أحياء التراث العربي بيروت 1968.
10 – جني زهرة الآس في بناء مدينة فاس – علي الجزنائي المطبعة الملكية الرباط 1967.
11- الحلة السيراء – محمد بن أبي بكر القضاعي (ابن الآبار) تحقيق د. حسين مؤنس الشركة العربية للطباعة والنشر ط 1 القاهرة 1963.
12- اللغة العربية في المغرب (1) – عبد الله الجراري (مجلة "دعوة الحق" وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الرباط ع 4 س 2 رجب 1378 يناير 1959).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) الأدب المغربي من خلال ظاهرو القضايا ج: ص 50
2) الأنيس المطرب ص 26.
3) الحلة السيراء ج 1 ص 51-56.
4) الأنيس المطرب ص 27.
5) أي أطهت نفسك بخطة لم تدركها الاش...
6) أي جوارا وميلا عن الحق.
7) الحلة السيراء ج 1 ص 98.
8) والعكي هذه هو ابن مقاتل العكي والي إفريقية للرشيد.
9) نفس المصدر.
10) مجلة (دعوة الحق ) العدد الرابع السنة الثانية رجب 1378 يناير 1959 ص 37.
11) الحلة السيراء ج 1 ص. 55
12) المصدر السابق ص 55-56.
13) أمراؤنا الشعراء ص 9.
14) حتي زهرة الآس ص 17.
15) مجلة (دعوة الحق) العدد الرابع السنة الثانية رجب 1378 يناير 1939 ص 38.
16) الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه ج 1 ص 71.
17) جني زهرة الآس ص 16.
18) نفس المصدر.
19) المصدر السابق ص 15-16 الأنيس المطرب ص 26.
20) ص 122.
21) الآيات 5.4.3.2.1
22) سورة الأحزاب الآيتان: 45-46
23) نفس السورة : الآية: 33.
24) الترغيب والترهيب من الحديث الشريف – الحافظ ابن عبد القوي المنذري ج 3 ص 167-168.
25) ظالم يغضب ويأكل أموال الناس ويجور في حكمه.
26) شفيق رحيم قال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشدا على الكفار رحماء بينهم) فالرحمة من صفات المؤمنين.
27) أحمق غير جاهل سقيه.
28) الإمام إدريس ص 12-13 سلسلة "ذكريات مشاهير رجال المغرب" العدد 31.
29) الاستقصا ج 1ص 167.
30) الإمام إدريس ص 18.
31) الأنيس المطرب ص 26.
32) مجلة (دعوة الحق ) العدد الرابع السنة الثانية رجب 1378 يناير 1959 ص 38.
33) المجلة السابقة ص 39.
34) نفس المجلة.
35) الحلة السيراء ج 1 ص 132-133.
36) أي رئيسا.
37) المخارم: رؤوس الجبال والنقب الطريق في الجبل.
38) أمراؤنا الشعراء ص 13.
39)
40) الحلة السيراء ج 1 ص 227.
41) نفس المصدر
42) البيان المغرب ج: ص 201.



الادب المغربي.jpg
 
أعلى