سيد الوكيل - من حكايات شهرزاد إلي برزخ محفوظ: هل نحن جديرون بالليالي؟

"عجيبة هذه السلطنة بناسها وعفاريتها.. ترفع شعار الله وتغوص في الدنس" ليالي ألف ليلة، ص 384
أتخيل نجيب محفوظ إذ كان يتأهب ليعيد خلق "الليالي"، فأنتفض هلعا، وأشفق علي هذا المبدع الجليل وهو يُقْدِم علي هذا العمل الجلل. إنه هنا لا يستلهم قصة من قصص الليالي البديعة، ولا تقنية من تقنياتها الباهرة، ولا ثيمة من ثيماتها الغنية، بل يقيم عملاً موازيا ًلذلك العمل الفذ. يريد نجيب محفوظ بدءا من العنوان أن يعتصر روح الليالي ليخلق روحا تبعث الأثر أكثر مما تُشغَل بسرد الحكايات وربط الشخصيات إذ تتشابك مصائرها. ماذا وجد نجيب محفوظ في الليالي من سحر خفي ليعيد خلقها؟ لا شك في أنه وجد الكثير مما قد ندرك بعضه الآن.
ولكن عن أية ليال يتكلم محفوظ؟ وهل يشير الظلام إلي الليالي القديمة بوصفها الرحم الحاوي لكل المشاعر الخفية والغرائز المتوفزة والمخاوف الدفينة؟ وهل يشير الضياء إلي ليالي محفوظ الجديدة، ومن ثم فإنها تصير نهارات. أهذا ما يمكن فهمه من جملة شهريار في البداية وهو يواجه والد شهرزاد ويعلمه بقرار الإبقاء علي ابنته واتخاذها زوجة له:
"أمر السلطان بإطفاء القنديل الوحيد فساد الظلام، ولاحت بوضوح نسبي أشباح الأشجار الفواحة... تمتم شهريار:
- ليكن الظلام كي أرصد انبثاق الضياء". (ليالي ألف ليلة، ص 371. ضمن الأعمال الكاملة)

وهكذا ينتهي الجزء المعنون ب "شهريار" بأن ينظر ومعه والد شهرزاد إلي الأفق وهو يتورد بالسرور المقدس، ولعله تعبير عن انبثاق الوعي بالوجود الذي هو - وكما قال شهريار - "أغمض ما في الوجود". ولكن كيف ينبثق الوعي بالوجود الغامض من قلب حكايات الظلمة؟ إنها رحلة طويلة يقطعها كتاب "ليالي ألف ليلة" وما كان له أن يقطعها بدون الليالي القديمة. والحق أن ليالي محفوظ لا تبدو نهارات حقيقية، بل هي أشبه ما تكون بالبرزخ، إذ تقف الشخصيات علي الحافة وهي تكتشف خيوط الحقائق وتستشرفها من دون أن تصل إلي مكنوناتها. وهكذا تتبدي السعادة والعدل والحقيقة من غير أن تلمسها الأيدي ويتحققها الوعي ويُري أثرها في الواقع.
ولعل التأكيد علي البرزخية إشارة إلي حالة حاضرة تسم الواقع بالترقب والحراك والرغبة في الانتقال إلي مقام آخر. البرزخية يقابلها طبائع الشخصيات القلقة والمنافِقة أيضا. هذه سمات كثير من شخصيات محفوظ في لياليه. ولهذا نري الأسي يعتصر شهرزاد وهي تتهم شهريار بسبب تاريخه الدموي، وتصرح لأبيها بقولها:
"- لكن الجريمة هي الجريمة. كم من عذراء قَتل! كم تقي ورع أهلك! لم يبق في المملكة إلا المنافقون".
وهذا ما نجد صداه في قول الطبيب عبد القادر المهيني صديق شيخ شهرزاد "عبد الله البلخي"؛ إذ يقول: "- أسفي عليك يا مدينتي التي لا يتسلط عليك اليوم إلا المنافقون".
تستعير الرواية منذ بدايتها ذلك التركيب العبقري لألف ليلة، فنجد القصة الإطار التي تضم شهرزاد وشهريار ومَن حولهما من شخصيات، كما تقدم وصفا عاما للبيئة مكان الأحداث والشخصيات الكامنة في خلفية الحدث، وبعد ذلك تبدأ الحكايات الفرعية المولدة لغيرها والناسلة لسواها، بدءا من قصة "صنعان الجمالي" التي تماثل قصة الليلة الأولي في ألف ليلة أيضا، وهي "حكاية التاجر مع العفريت". فالتاجر "انفصل من جسد أم السعد الدافئ هابطا إلي الأرض.. (ف) نطق الصوت في غضب: دست رأسي يا أعمي" ص 374.
إن الحكايات هنا وهناك تستلزم بداية، أو "نواة" أو "ضربة" تستنفر طاقات الإلهام. الحكايات لا تأتي حين نطلبها، بل حين يحتاج العالم إلي وجودها، لتستثير الوعي وتطلق جن الإبداع من القمقم، ولابد أن تقترن في كل ذلك بالبرزخ بين الظاهر والباطن، بين النوم واليقظة، ودائما يكون الخروج من الظلمة إلي النور، فالليلة الأولي أو قصة "صنعان الجمالي" تبدأ هكذا: "الزمن يدق دقة خاصة في باطنه فيوقظه. مد بصره نحو نافذة قريبة من الفراش فرأي من خلال خصاصها المدينة مسربلة في الظلام" ص 374.
الرواية تبحث عن الخلاص. في "ألف ليلة وليلة" تنجو الشخصيات إن اخطأت عن غير قصد. الحكايات تكون المخلص، كما حدث مع التاجر والعفريت؛ أما هنا فالمصير يرتبط بالطبيعة الشخصية وحقائقها الخفية، ولا يكون الخلاص إلي بمواجهة الذات.
الحكايات عند نجيب محفوظ لم تعد غاية ووسيلة معا، كما كانت في الليالي، فلم نعد نجد هنا من يستسلم تماما لجملة: "اسمع حكايتي العجيبة"؛ إذ نجد رد البلخي علي جمصة البلطي كبير الشرطة: "- الحكاية حكايتك وحدك، والقرار قرارك وحدك". هنا يصبح الضمير هو أساس الجدل داخل العمل.
يعيد نجيب محفوظ خلق شخصيات ألف ليلة غارسا إياها في سياقات اجتماعية جديدة وأجواء إنسانية وعلاقات تحولها من شخصيات خارج التاريخ إلي شخصيات تنتمي إليها، وهكذا نشعر بحياة الحمالين، ومن بينهم السندباد، ونتعاطف مع رغبته في الهجرة هربا من قسوة الحياة تحت إمرة السلولي حاكم الحي. وها نحن نجد أنفسنا - من خلال زاوية نظر جمصة البلطي رئيس الشرطة - نري عالما يعج بالصراع الاجتماعي والديني والطائفي. إنه عالم روائي غني يأخذ من ألف ليلة، لكنه لا يُسلم لها القياد، ولا يستسلم لفتنتها الآسرة.
الحكايات لا تجذب وجدان أحد إلا في القصة الإطار، وهكذا ينجذب السطان إلي قصة جمصة البلطي ويدعه يحكي حكايته، أما في القصص الفرعية فإن الفعل لا يكون للحكايات بل ليقظة الضمير. وتفتح الرواية الباب للخلاص أمام كل إنسان، حتي جمصة البلطي الذي صيرته الرواية أشبه ما يكون بالمسيح المخلِّص الذي ما قتل وما صلب ولكن شُبِّه لهم.
تحاول الرواية اختصار تأويل كتاب "ألف ليلة وليلة" في أنه حديث الموت كما قال شهريار شارحا: أمم تلتها أمم، يطرق بابها في النهاية طارق مصمم واحد هو هازم اللذات!" (ص 396) وهكذا يلتفت التأويل إلي ثلاثية عناصرها الحكاية واللذة والموت في نص "ألف ليلة وليلة" الذي يكشف عن علاقة الأنا الذكوري (الممثل للعناصر المهيمنة داخل الثقافة) بالآخر الأنثي (الممثل للعناصر المقهورة داخل الثقافة). ويتبين من الحكاية النواة - التي ينبني عليها النص بكماله - السلطة الذكورية الواضحة في قدرة شهريار علي فعل إراقة الدم المزدوج (فض البكارة والقتل)، في مقابل خنوع الجنس الأنثوي أو انتقامه بالخيانة الزوجية بدون القدرة علي حماية فعل التمرد هذا. كما أن فعل التمرد يظل منظورا إليه من قبل الثقافة المهيمنة بوصفه مدانا يستحق المساءلة والعقاب. لكن النص -من ناحية أخري- يكشف عن آليات الصراع، وعن نقاط ضعف السلطة وكيفية تفكيكها وإعادة موضعة أطراف الصراع أو تغيير توازناتها. أما رواية محفوظ فإنها تخلق ثلاثية موازية عناصرها الضمير والحرية والخلاص.

تظهر العفاريت هنا في ليالي محفوظ ببراءة شديدة يُحسد عليها الكاتب والمتلقي معا؛ فها هما يتواطآن علي ظهورها، وكأن ذلك طبيعي أو توافقي بين المبدع والمتلقي علي نحو يوازي مناجاة النفس أو النجوي في السرد التقليدي. العفاريت هنا وخزة الضمير والرقيب علي تجاوزات الذات خصوصا فيما ظاهره خير وباطنه العذاب. حين تهم الذات بخطيئة وهي تدعي الفضيلة؛ تنهض العفاريت من غفوتها لتنذر أو تحذر. إن العفاريت _ وهي محورية في الليالي القديمة وليالي محفوظ كذلك - تظهر هنا بوصفها شخصيات ذات أبعاد نفسية وثقافية واضحة، كما أنها ترصد وتشارك في الأحداث وتغير المقادير. ويظل الخيط الجامع بين حبات عِقد _ أو عَقد - الرواية هو الحضور اللامنقضي للعفاريت التي نري من زاوية نظرها أيضا الكثير مما يغيب عن أعيننا، ولا يصرح به مباشرة الراوي العليم.
إن الرواية تحاول أن تقول _وكما جاء علي لسان سندباد في الصفحات الأخيرة منها- قولتها الجامعة التي تنضح بالحكمة:
"- إن الإنسان قد ينخدع بالوهم، فيظنه حقيقة .. لا نجاة لنا إلا إذا أقمنا فوق أرض صلبة ... إن النوم لا يجوز إذا وجبت اليقظة ... إن الحرية حياة الروح، وإن الجنة نفسها لا تغني عن الإنسان شيئا إذا خسر حريته".
أتساءل أخيرا: هل نستحق أن ينتسب إلينا كتاب ألف ليلة وليلة؟ أم إنه حقا - كما قال عبد الفتاح كيليطو - كتاب كتبه العرب ليقرأه الغرب؟ وهل نستحق أن ينتسب إلينا نجيب محفوظ؟ إن الإبداع الأصيل هو حصن نجاتنا الأخير، فلي أن أتخيل الليالي القديمة وليالي محفوظ وهي تستعير صوتا شعريا واحدا لتنطق به كلما هممنا بقتل الإبداع: أضاعوني وأي فتي أضاعوا!



- أخبار الأدب يوم 08 - 05 - 2010
 
أعلى