دراسة مصطفى سلوي - اغتصاب الطفولة في ( ذاكرة خرساء) للاديبة مريم بن بخثة

لازالت قضايا هتك العرض المترتبة عن موضوعة الصمت التي تكاد تكون قاسما مشتركا بين جميع المجتمعات الإنسانية، تَنْخُرُ جوهر الإنسان وتسيء إلى كينونته الجميلة المبنية أساسا على طبيعة التجانس والتناسب التي من شأنها أن تَصْبِغَ حياة المجتمعات بصباغة التَّناغُمِ والثقة المتبادلة والصدق والوفاء. وبالرغم مما تبذُلُهُ وسائلُ الإعلام داخل هذه المجتمعات، سواء المرئية منها أم المسموعة أم المكتوبة، من جهود؛ لفضح هذه الممارسات المشينة التي تُصَوِّرُ اعتِداءَ الإنسان على إنسانيته الكامنة في شخص آخر؛ من المفروض أن يكون حامياً له، وراعياً لحقوقه وسعادته؛ بالرغم من كل هذه الجهود، يبقى الإبداع، في الشعر كما في السرد، وحْدَهُ المجال الرَّحب الذي بمقدورنا أن نفضح مِنْ خلاله مثل هذه الظواهر والطابوهات، ونعمل على معالجَتِها؛ خاصة جنس القصة والقصة القصيرة على وجه التحديد..
وقد استطاعتْ كثيرٌ من الساردات المغربيات المعاصراتِ، فيما كَتَبْنَهُ باللغتين العربية والفرنسية، الوقوف عند ظاهرة الاعتداء على الأطفال، ونفلها من واقعها المُرِّ إلى واقع الكتابة؛ بهدف فضح المسؤولين على مثل هذه السلوكات الوحشية التي لا تَمُتُّ بصلةٍ إلى المجتمعات العربية الإسلامية التي رعى دينُها حقوقَ الطفل وصانَها من كل تَجَبُّرٍ أو سرقة أو عُدْوانٍ أو تلويثٍ. ولا حاجةَ بي هنا إلى تَتَبُّعِ هذه الصور والمشاهدِ الإبداعيَّةِ التي نَقَلَتْ تفاصيلَها كثيرٌ من المبدعاتِ المغربياتِ؛ خاصة خلال العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الثالثة.
لقد تَمَكَّنَتِ القصّاصاتُ المغربيات، وغير المغربيات، مِنْ فَضْحِ المَسْتورِ والإشارةِ بالأصبع الواضح إلى المسؤولين على مثل هذه السلوكات؛ خاصة ما عُرِفَ منها تحت اسم زِنا المَحارِمِ. كما اشتغَلَتْ، في جانِبٍ آخَرَ من الصّورَةِ، نساءٌ أُخْرَياتٌ ورجال من الدارسين، على الكتابة في الموضوع نفسه؛ خاصة من الوجهة الاجتماعية والنفسية المتصلة بظاهرة اغتصاب الأطفال، وما يُمْكِنُ أنْ يَتَرَتَّبَ عليها من سلبياتٍ وانكساراتٍ خطيرةٍ على حياة الأفراد والأُسَرِ والمجتمعاتِ,
وإذا كنتُ قَدْ وقَفْتُ اليومَ عند هذه الموضوعَةِ التي كانت من بين موضوعات كثيرةٍ تناولْتُها بالدرس والشاهد في كتابي (صحوةُ الفراشات) الذي خصصته لطرح قضايا السرد النسائي المغربي المعاصر، فإن ذلك جاء نتيجة قراءتي أقصوصة (ذاكِرَةٌ خَرْساء) للمبدعة مريم بن بخثة، التي تسْتَعيدُ في هذا السرد الهادف قضية اغتصاب القاصرين، وتطفو بها على السطح. وإذا كان هذا الأمر فظيعا وغيرَ مقبولٍ في سائر المجتمعات، فإنه سيكون أفظعَ حين يتعلق الأمر بهذا الفعل داخل المجتمعات الإسلامية، وَمِمَّنْ؟ مِنْ أقْرَبِ المُقَرَّبينَ علاقةً وَآصِرَةً بالطفل أو الطفلة: أقارِبُهُ.
ومما تجب الإشارة إليه في هذا الصدد، ونادرا ما تَمَّ الانتباهُ إلى هذا الأمر؛ سواء على مستوى الدراسة الاجتماعية أو النفسية، أم على صفحة الإبداع: الاغتصابُ الذي يكون مصْدَرُهُ أنثى (امرأة)، ويُمارَسُ في حق طفل أو طفلةٍ. ذلك بأن أكثر الدراسات والكتابات الإبداعية اهتمَّتْ بنوع واحدٍ من الاغتصاب، وهو الذي يكون فيه الجاني رجلا مذكَّراً، في حين نادراً ما تَمَّ الحديث عن النوع الثاني الذي يكون فيه الجاني امرأة مريضة؛ تستغلُّ قرابَةَ وسذاجة هذا الطفل أو تلك الطفلة؛ لِتُمارِسَ على أحَدِهِما نَزَواتِها المريضة التي من شأنها أن تَتْرُكَ جُروحاً غائِرَةً في نفسية هذا الطفل أو تلك الطفلة البريئين.
وإذا كانت القاصة مريم بن بخثة قد جَرَتْ على العادة، وتحدَّثَتْ في قصتها (ذاكرةُ خرساء) عن النوع الأول المعروف من الاغتصاب، وهو الذي يكون الفاعلُ فيه رجُلاً، فإنَّ الدَّعْوَةَ مفتوحةٌ للاهتمام، في جهةٍ أخرى، بالنوع الثاني الذي يكون الفاعلُ فيه امرأةً، وتَسْليطِ مزيدٍ من الضَّوْءِ عليه. والناظر في قصة مريم بن بخثة، يجد أنَّ السَّرْدَ يأخُذُ انطلاقَتَهُ مِن عنوان الحكاية الذي يحيل على واحدة من أكثر موضوعات السرد النسائي أهمية: موضوعة الصمت التي ينوبُ عنها فيها نعت (خرساء)؛ أي الممنوعة من الكلام..
وتبقى ثنائية الكلام والصمت من أبرز الثنائيات التي ركبتها المرأة المبدعة لطرح مجموعة من قضايا المرأة المغربية في معاناتها مع مجتمعها الرجالي الذي كتم على أنفاسها ومنعها نعمة الكلام التي بمقدورها أن تجعلها مخلوقا ينفِّسُ على نفسه ويعرِبُ عن مكنوناته التي بقيت تتراكم يوما بعد يوم؛ حتى امتلأ الجوف الضيق؛ فانفجر في شكل ما نقرأه اليوم من نصوص إبداعية في شتى سوح التعبير الفني؛ في القصة كما في الرواية والشعر والتشكيل والنحت والمسرح والرقص وغير ذلك من الأشكال الإبداعية التي تظل مرتعا من مراتع التعبير التي مكنت المرأة من ممارسة حريتها.
لقد هدمت المرأة جدار الصمت الذي ظل لسنين عديدة يجثم على أنفاسها ويمنعها من الكلام والتعبير. ولكن لِمَ كان المجتمع حريصا على أن تبقى المرأة صمتة؟ هل لأنها مخلوق لا يُحْسِنُ الكلام؟ أم أن المجتمع يخاف أن تتكلم المرأة إذ إن كلامها رجس؛ لذلك وجب أن تبقى صامتة حتى توفر على المجتمع مجموعة من الأضرار والويلات التي هو في غنىً عنها؟ أم أنَّ مِنْ وراء هذا المنع أسبابا أخرى لا نعرفها، والمجتمع وحدَهُ هو الذي يعرفها ويفهم علَلَها؟
كماتمكنت المرأة المبدعة المغربية المعاصرة أن تجعل من ثنائية السكوت والكلام، محورا تدير حوله مجموعة من القضايا التي عانت منها؛ ومن أبرزها قضية التحرش الجنسي. فالمرأة/ الفتاة/ الطفلة وجب عليها أن تصمُتَ حفاظا على سعادة الأسرة وتماسكها؛ ثم لأنه (حشومة) أن نتحدث في هذه الأشياء. فالحديث إذن في هذه الأشياء، بمنطق الرجل هو من قبيل (حشومة)، أما القيام بهذه الممارسات الدنيئة فليس بالمرة بـ (حشومة). هنا تعمل الكاتبة المغربية المعاصرة على فضح هذا التناقض الصارخ الذي يحيا به الرجل. فهو يأتي بالمحرمات من مثل زنا المحارم والاعتداء على الأطفال، ويطلب من الآخر المُعْتَدى عليه أن يَلْزَمَ الصمتَ؛ لأنه إذا تحدث بهذه الأمور أو باح بها لأحد، فإن ذلك (عيب) و(حشومة)، ومن شأنه أن يؤدي إلى تشتت الأسرة وتصدُّع المجتمع.
وما خلصت الساردات المغربيات إلى فهمه هو أن مواصلة السكوت والاستمرار في لعبة الصمت من شأنه أن يكرس هذا الظلم والتسلط على فكر المرأة وجسدها؛ لهذا بات من الضروري ومن الواجب كسر جدار الصمت هذا والصراخ بأعلى صوت في وجه جميع أولئك الذين يفضلون أن تبقى لغة الصمت سائدة، لأن في بقاء لغة الصمت بقاء للتجبر وللخطايا. ومن هنا كان لابد من الكتابة في هذه الموضوعات؛ لأن هذه الكتابة هي الكلام الموجود قُبالَةَ الصمت الذي يريد الآخرون أن يبقى وأن يسود.هكذا استطاعت السرديات المغربية المعاصرة أن تخطو خطوات كبيرة في مسار فضح الممارسات الرجالية الذكورية ضد المرأة وضد المجتمع. فالرجل الذي يغتصب فتاة إنما يغتصب المجتمع بكامله، والرجل الذي يعتدي على حرمة طفلة، إنما يعتدي على جميع أطفال ذلك المجتمع. لهذا عملت المرأة المغربية على وضع حد لآخر فصل من فصول الصمت في حياة المجتمع المغربي وحياة المرأة المغربية. وحديث مريم بن بخثة، في بداية هذه الحكاية وانطلاقا من عنوانها، إنما جاء ليعيد هذه الموضوعة إلى الواجهة.
ثم يتواصل، بعد ذلك، الحكي في (ذاكرة خرساء)، عن طريق تبادُلِ المواقع بين (الذاكرة) و(الواقع)، ولو إن الذاكرة هي التي تستحوذ على النصيب الأعظم من هذا القصة. ومما تجدر الإشارة إليه، أن الصورة قاتمة سوداء، سواء تعلق الأمر بما يأتي من قِبَلِ الذاكرة، أم الذي يوجد على أرض الواقع. وقد جمعت مريم بن بخثة في هذه الحكاية، كما هي العادة دائما في السرد النسائي، بين موضوعات كثيرة، متعالقة؛ يُفْضي بعضُها إلى البعض الآخر؛ وهي هنا أربعة:
- موضوعة الدعارة.
- موضوعة التحرش الجنسي (اغتصاب الأطفال) و(زنا المحارم).
- موضوعة الصمت.
- موضوعة القهر والاستغلال الذي تعيشه المرأة وسط مجتمع لا يزال ذُكوري التفكير والحياة.
وعلى هذا الأساس، يبقى السرد النسائي كتابةً طافِحَةً بالقضايا وصور المجتمع في راهنيَّتِها وواقعيَّتِها المعيشة المواكبة، والمُجَرَّدَةِ من كُلِّ مَساحيقِ الزينة..
أما بطل (ذاكرة خرساء)، فهو ضمير المتكلم (أنا)، الذي يحيل على الطفل الذي تَمَّ اغتصابه في صغره، وهو الآن رجُلٌ كبير يستعيدُ ما حدَثَ له؛ إِثْرَ مشاهدته للمومس وهي تُلَمْلِمُ عُرْيَها: "ها أنا ذا تتسارع أنفاسي متقطعة من علو المكان أو ربما من شدة الخوف، مازلت غير قادر أن أستوعب سبب هذا الخوف المباغت لي، وما علاقته بتلك المومس التي فقدت صوابها... ما همني حينها دوافعها ولا أسبابها أكثر من الأثر الذي أحدثه ذلك العري، وكأنها نزعت حجبا كانت تخفي قلقي الباطني..". كما يحيل ضمير المتكلم (أنا)، في (ذاكرة خرساء)، على الذاكرة المفردة المُعْتَدى عليها من قِبَلِ المجتمع بكامله، مادام هذا المجتمع لا يحرك ساكنا؛ لحماية الطفولة من نزوات المرضى من بعض الرجال والنساء. إنها الذاكرة المفردة التي تتحول إلى متعدد جمعٍ صامِتٍ.
وهنا فائدة لابد من الإشارة إليها، وهي أن مريم بن بخثة، في (ذاكرة خرساء)، تتحدث، كساردة، بضمير المذكر؛ إذ تحكي محل الرجل الذي تَمَّ الاعتداء عليه وهو ما يزال طفلا صغيرا. ومعنى هذا أن الساردة المغربية مارست الكتابة باللغتين؛ لُغَةِ المذكر ولُغَةِ المؤنث؛ ولم تقتصر كتابتُها، كأنثى، على المرأة تتحدث باسمها، ولكن تَعَدَّتِ الأمر إلى الحكي مَحَلَّ المذكر. وهو الأمر نفسُهُ الذي قام به الرجل أيضاً، كساردِ، إذْ تَحَدَّثَ بلسان المرأة، ونابَ عنها.
ولابد هنا من الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية، يكمن أساسا في أن الحركة الأولى من هذه الحكاية، كما سيأتي بيان ذلك بعد قليل، تنطوي على واحد من أهم معينات القراءة؛ ويتعلق الأمر بالمعجم الذي تَمَّ توظيفه في هذه الحركة، ثم الحركات التي تلتْها، حيث تَبْرُزُ مفردات من مثل: (صومعتي- الحصون- المعقل- الهروب- الدهاليز- حصانتي- القفل- الراهب...)؛ وكُلُّها تَدُلُّ على الانزواء والاعتكاف والانطواء. وهي هنا تساهم في تجسيد صور (أنا) المتكلم الذي يعيش خوفا رهيباً؛ وهو الخوف الذي فرضتْهُ عليه حالةُ الاغتصاب التي عاشها في صغره.
وينضاف إلى هذا المعجم الدال الذي ربما لم تَقْصِدْ القاصةُ إلى توظيفه لِتَأْدِيَةِ الغرض الذي وضحناه منذ قليل، ينضافُ إلى ذلك الصيغَةُ الصرفية النحوية التي انطلق بها السرد، وهي صيغةُ الجملة التي ابتدأتْ بفعل لازم (عُدْتُ)، ثم بعد ذلك (أتَحَصَّنُ). والفعلُ اللازم هو ما يُقابِلُ الفعلَ المتعدّي. والمُتَعَدّي هو الفعل الذي خرج من دائرة اشتغاله؛ للتأثير في أسماء أخرى تتقاسَمُ معه الجملةَ؛ وهي مفاعيلُهُ. فهو، إذا جاز لنا التعبير، فِعْلٌ (شُجاعٌ) و(جِرّيءٌ)، وليس الأمرُ كذلك بالنسبة إلى الفعل اللازم الذي يبقى حبيس دائرته لـ (خَوْفِهِ) و(جُبْنِهِ)، و(انعِدامِ الجرأة لديه). كُلُّ هذه الأمور من شأنها أن تزيد في تشخيص صورة (أنا) المتكلم؛ ذلك الرَّجُلُ/ الطِّفْلُ الذي عاني من جراحِ فِعْلِ الاغتصابِ وكَدَماتِهِ الغائرة التي من الصعب أنْ تَنْدَمِلَ وتُشْفى...
وتقوم حكاية (ذاكرة خرساء) على سبع حركات كبرى؛ هي:
- الحركة الأولى، وهي التي جاءت عبارة عن تقديم لأجواء الحكي؛ حيث تجعل الساردة بطلها المتكلم يعود إلى مشاهداته بالنهار؛ تلك المشاهدات التي أيقظت في ذهنه جرحا غائرا من الماضي السحيق. كما شَكَّلَ هذا التقديمُ فرصة لمريم بن بخثة لِتَتَماهى مع بطلها، وتخوض فيما دعته بالحصون الني نسجها الإنسان حول نفسه، بالإضافة إلى موضوعة الهروب التي تبقى المَلاذَ الوحيد لكل امرئ ممّا قد يحدُثُ له، ولا يقْدِرُ على مواجهته: "وعدتُ إلى صومعتي أتحصن بها من مخاوف النهار، من زمن الغدر، من مومس تعرت جهارا، أرعبتني حقيقتنا الغائبة في زمن الأوهام.لم يكن هناك سبيل غير الحصون التي نسجناها لتكون لنا معقلا اختياريا حين يكون الهروب اضطراريا.لم أهرب. وممَّ أهرب؟ وهل للهروب زمن محدد؟ وحدها الأحلام التي تخاتلنا تصنع لها أزمنة محايدة، أما الخوف، فزمن ممتد بامتداد الوجود الإنساني..
- الحركة الثانية، وهي التي تنطلق من بداية الفقرة الثانية، وتنتهي عند قول الساردة: "كأنها نزعت حجبا كانت تخفي قلقي الباطني". فالأمر يتعلق هنا، بحركة قصيرة جدا في الزمن، واشتملت على حدث واحد، هو عُرْيُ المومس؛ هذا الحدث الذي تَمَخَّضَ عن فِعْلٍ يكْمُنُ في ما أيقظَهُ هذا العُريُ في ذاكرة الرجل/ الطفل من صور كان دوما يحاول زَجْرَها..
- الحركة الثالثة، وهي الحركة التي جاءت نتيجة التَّداعي الحاصل بداخل ذاكرة (أنا) المتكلم؛ حين استرجعت هذه الذاكرة (الخرساء) صورة أنثى أخرى، لم تكن تُدْرِكُ بأنها عارية، حتّى غُرِّرَ بها. والأمر هنا يتعلق باغتصاب، تَشْهَدُ عليه آثار العُنْفِ التي بقيت على جَسَدِ الضحِيَّةِ: "وجدتني أربط الصورة بصورة امرأة أخرى لم تكن تدرك أنها عارية حتى غرر بها، فنزعت عنها البراءة؛ وإن كان الأمر مختلفا لكن الصورة لحظتها كانت تبدو لي متشابهة. فكلاهما فعلان صدرا من امرأة. لم أكن أدرك حينها أنني بدأت أغوص في دهاليز قناعاتي.."
- وفي الحركة الرابعة، يُفْسِحُ (أنا) المتكلم المكان للواقع كي يبوح بما يَحْدُثُ فيه. ويتعلق الأمر في هذه الحركة بتَجَمْهُرِ النّاس حول الأنثى التي انْتُهِكَ عِرْضُها؛ الشيء الذي جعل الرجلَ/ الطفل يتذكر فِعْلَ اغْتِصابِهِ مِنْ قِبَلِ أقْرَبِ النّاسِ إلَيْهِ: زوج أمِّهِ: "حين تجمع الناس حولها بين مشفق عليها ولاعن فجورها وبين من استغل الموقف ليتأملها على مهله... كنت قد تجمدت مكاني غير آبه بكل شيء سوى صورتها وعينيها الذبيحتين أمام مرأى الجميع. كلامها كان همهمات مخنوقة بصوتها المجروح. كدمات بادية على معصميها وذراعها وفخذها الأيمن. إحدى العينين كانت متورمة جدا بها زرقة شديدة. كنت أرقبها وأنا أرتعد خوفا.فاجأني على حين غرة، ما كنت أظن أن الذكريات الأليمة تنخر في جسدي طيلة هذه السنين وأنا الذي اعتقدت أنني تخلصت من شؤم الماضي بكل ويلاته..". وتنطلق الحركة الرابعة من قول الساردة: "لا شيء يبدو لي كما كان.."، إلى قولها: "وأنا الذي اعتقدت أنني تخلصت من شؤم الماضي بكل ويلاته.
- الحركة الخامسة، وهي الحركة التي من خلالها يغوص (أنا) المتكلم في دهاليز ذاكرته؛ ليستعيد فعل اغتصابه الذي كان يتكرر تقريبا كل ليلة مِنْ قِبَلِ زوج أمِّهِ. وتعتبر هذه الحركة قَلْبَ الحكاية وبُؤْرَتَها، وهي التي تستعين فيها الساردة بتقنية الحوار الذي دار بين الرجل/ الطفل وزوج أمه، بعد أن عَزَمَ الطفلُ، هذه المرة، على عَدَمِ تَمْكين مُغْتَصِبِهِ منه، كما كان يفعل كل ليلة.. وتبدأ الحركة الخامسة من قول الساردة: "ها أنا ذا أنهزم أمام صورة عارية لمومس.."، إلى قولها: "هل أحسست بشفقة على المومس التي جرتني في أذيالها إلى ماض عانيت منه كثيرا وظنتني قد تخلصت منه نهائيا..؟؟".
وتبقى الحركة الخامسة الأطول في الحكاية، حيث يَتِمُّ فيها تفصيل الحديث عن مقاومة الطفل البريء لإغراء زوج أمه: "أخذت أقترب من الباب وأنا أمشي على أطراف أصابعي حتى لا يصل وقع خطوي القريب منه. كانت شجاعة مني أن أكون قريبا منه لا يفصلني عنه سوى هذا الباب الذي لم يكن سميكا بالقدر الكافي، لكن القفل هو من حال بيني وبينه... لا أدري كم ظل هناك من الوقت، كل ما أعلمه هو ما أحسست به من حنقه وغضبه. ولولا خوفه من إيقاظ والدتي، لكان هنا يعيد أحداث مسرحيته البشعة علي...".
وفي الحركة الخامسة، تظهر تقنية الوصف، وهو وصف ساردٌ؛ تواصِلُ القاصة، عن طريق جمله القصيرة، الغوص في تقنية ثانية هي تقنية الاسترجاع التي تُمَكِّنُ من استعادة أجواء الهلع والخوف التي كان يعيشُها الطفلُ: "ها أنا ذا أنهزم أمام صورة عارية لمومس، لكنها صورة أيقظت في طفولتي البائسة. ها أنا ذا أرتعد. الساعة تدق منتصف الليل. عرق بارد يتصبب من كل جسدي الصغير وعيناي تكاد تزيغ من محجرها. دموع تنساب لتبلل وجها قد غاب بياضه البشري. أذني ملتصقة بالحائط الذي كانت تجعلني برودته أكثر بؤسا وقلقا. قلبي الصغير يترنح ترقبا للقادم إلي. أنكمش على نفسي. أبدو كفأر صغير مبلل. أشعر بالخطوات السكرانة تتسلل من الغرفة البعيدة، بخفي حنين تنساب كثعبان بفحيحه السام يتحرك... كشبح ليلي نحو غرفتي النائية. قلبي يقفز من مكانه. أشعر به يكاد يتوقف. ألهث.. ألهث من شدة الخوف. ماء دافئ ينساب من بين فخذي. يصير البلل باردا وأنا حالي ككلب يحتضر..".
- ثم تطالعنا الحركة السادسة، التي تنطلق من قول الساردة: "بعيدا عن الضوضاء التي تحيط بها، كنت أعيش لوحدي فوضى بداخلي.."، إلى قولها: "من رجل تعهد أن يكون مكان الأب المتوفي لطفل يتيم يقتات المحبة..". والذي حملني على إفراد هذه الفقرة ما قبل الأخيرة من الحكاية بحركة، عودة (أنا) المتكلم من استرجاع ذاكرته الخرساء إلى الواقع: "بعيدا عن الضوضاء التي تحيط بها، كنت أعيش لوحدي فوضى بداخلي، فوضى صنعتها ذكرى رجل عبر حياتي ذات يوم، فترك سياطه على ذاكرة مثخنة برائحته النتنة.. مازال فحيح صوته يهمس في أذني.. يقززني.. يشعرني بالغثيان.. يومها لم أكن أعلم أن للإنسان أقنعة تشبه الوحوش..". وهنا نمط ثان من بوح (أنا) المتكلم الذي كان يظن أنه بمقدوره العيش بعيدا عن هذا الماضي المؤلم: "كم كنت ساذجا وأنا طفل، وكم أنا ساذج الآن وأنا رجل أجر عمري ورائي بقلب كسير؛ حرم عليه أن يعرف الحب أو يعرف أية علاقة جنسية طبيعية.. هل كنت شاذا أم راهبا أم كارها للنساء؟؟ لم أكن أقر بذلك مسبقا، ولكنني الآن أمام هذه الفوضى التي فجرها عري وتعذيب لمومس، أعود إلى صبي خلفته ورائي مازال ذبيحا أمام ناصية الشذوذ الذكوري، من رجل تعهد أن يكون مكان الأب المتوفي لطفل يتيم يقتات المحبة..".
وكل هذا كان بسبب هذا (الوحش) الذي حمل الرجل/ الطفل على عيش حياة مضطربة: "حين عرفته أعترف أني كنت كصفحة بكر لم يخط فوقها السواد، وكان هو السواد الذي لطخ صفحة ذاكرتي ورجولتي إلى الآن. أعترف الآن بهزيمتي كما أعترف أن كل الأقنعة التي صنعتها لنفسي وجعلتني لسنوات أعتقد أني شفيت من جرحي وأن قناعتي الذكورية ما هي إلا انطلاقا من فهمي للحياة...
- ثم تأتي الحركة السابعة والأخيرة لتغلق هذه الأقصوصة، وهي الحركة التي تنطلق من قول الساردة: "كم كنت سعيدا حينها..!"، إلى نهاية الحكاية. وهنا يخوض (أنا) المتكلم في حديث آخر يتعلق بمصدر هذا الجرح الذي بقي غائرا في حياته؛ إنها أمُّهُ التي بعد وفاة والده، ارتبطت بهذا الرجل الذي لم يكن سوى طماع فيما تركه أبو الطفل من رزق، وبراءة (أنا) المتكلم الذي أصبح ضحية نزوات هذا زوج الأُمِّ الخائن المريض: "كم كنتُ ساذجا حين اعتقدت أن الفرح زغرد أمام يتمي البكر وأمام امرأة ترملت في مقتبل عمرها.. كم كانت أمي بريئة جدا.. كم كانت امرأة تعاقر الحلم الأبيض الجميل..! كانت تبحث عن
الستر والحلال، ولم يدق بابها سوى ذلك الجار الذي ظل عازبا لسنين حتى فاته قطار الزواج..". إنه الرجل/ الوحش الذي خَيَّبَ أُفْقَ انتظار الأمِّ/ الأرملة، والطفل/ اليتيم: "كنت أراها سعيدة كوردة تفتحت على قدوم الوافد إلينا.. لكنها لم تكن تفطن أنه كان عاشقاً لجنسه، وأنها كانت مطية لركوب الثراء الذي خلفه لنا والدي... صنع منها امرأة للحزن، وأنا توجني عريسا له بلا وجود سوى نزق الآلام التي اتحدت؛ لتصنع لنا حلما جديدا.. حلما من زنزانة أبدية ورجل مازال عالقا في ذاكرته الخرساء.".
تلك هي أهم حركات هذا النص السردي الجميل، الذي جاء في لغة بسيطة سهلة، وتقنيات سرد قريبة للغاية من القارئ؛ لا تعقيد فيها ولا تركيب. وقد سبقت الإشارة إلى أن نوعية الوصف التي سيطرت على أجواء هذه الحكاية، هي نوعية الوصف السارد الذي يعتبر مرتبة أعلى في الوصف فوق الوصف العارض والوصف المالئ للفراغات.
أما الرؤية التي غلفت أجواء هذا النص، فهي من قبيل الرؤية مع، التي حَضَرَ فيها ضمير المتكلم (أنا) بكل قوة، دون أي ضميرٍ آخرَ. وفيها يعرف السارد قدر ما تعرف الشخصية الروائية، فلا يقدم تفسيرات إلا بعد أن تكون الشخصية نفسها قد توصلت إليها. ويمكن أن يسرد هذا النوع بضميري المتكلم أو الغائب، لكن مع بقاء المساواة المعرفية بين الراوي وشخوصه. والرؤية مع هي ما أشار إليه (توماتشفسكي)تحت اسم السرد الذاتي، في مقابل (السرد الموضوعي) الذي يقابل الرؤية من الداخل. أما الرؤية من خارج، فهي نادرة الاستعمال مقارنة مع الرؤيتين السابقتين. وفيها يكون السارد أقل معرفة من أي شخصية من الشخصيات الروائية. وهو بذلك لا يمكنه إلا أن يصف ما يرى ويسمع دون أن يتجاوز ذلك لما هو أبعد، مثل الولوج إلى دواخل الشخصيات.
وإذا أردنا أن نعقد لهذه الأقصوصة مساراً سرديّاً، فإن (التحريك/ Manipulation) في هذا المسار، سيتوقف على عُرْيِ المومس التي حركَّتْ في صدر الرجل/ الطفل كل الجروح الغائرة. في حين أن محطة (الأهلية/ Habilité) سيُتَوِّجُها فعلُ الاحتماء بالذاكرة. أما محطة (الإنجاز/ Performance)، فهي التي تكمن في الحركة الخامسة، حيث استعاد (أنا) المتكلم الثقة في نفسه، ليأتي بعد ذلك (الجزاء/ Récompense) متجسدا في تخلص الرجل/ الطفل من عقدته..
أما النموذج العاملي الذي يمكن أن ننجزه لهذه الحكاية، فسيكون العامل المرسِلُ فيه هو القاصة مريم بن بخثة، والعاملُ المُرْسَلُ إليه هو المجتمع المغربي بخاصة والعربي المسلم بصفة عامة. في حين أن العامل الذات يتجسد في (أنا) المتكلم الذي يحيلُ على الرجل/ الطفل وكل طفل أو طفلة تعرَّضَ لفعل الاغتصاب، والعامل الموضوع هو التخلص من جراح الماضي والتغلب على هذه العقدة التي يخلفها فعل الاغتصاب في نفسية كل طفل أو طفلة. أما العوامل المساعدة في هذا النموذج العاملي، فتكمن أساسا في عُرْيِ المومس، وصورة الأنثى الثانية التي تعرضت للاعتداء، بالإضافة إلى الذاكرة. في حين أن العوامل المعاكسة تبقى غائبة، عدا ما يمكن أن نصفه بالتَّرَدُّدِ والخوف والضعف حُيالَ المجتمع..
وعلى هذا الأساس، تتقاسم نص (ذاكرة خرساء) ثلاثة محاور: محور الاتصال بين الساردة ومجتمعها، ومحور الرغبة بين (أنا) المتكلم وعقدته الكامنة في فعل الاغتصاب، ومحور الصراع المنحصر بين الذاكرة والواقع.. ويمكن القول بأن النص كله جاء ليُعْلِي من شأن فعل الذاكرة التي بدأت خرساء ثم تحولت إلى ذاكرة ناطقة. وهذا يعني انتصار الكلام على الصمت. فقد خرجت الذاكرة من صمتها (الخَرَسُ) وصمت مالِكِها، لتعيش، ولو مع نفسها، لحظة البوح التي هي الطريق الأمْثَلُ لتجاوز عُقَدِ الماضي والجراح التي بمقدور فعل الاغتصاب أن يخلفها في نفسية طفل أو طفلة صغيرين.
ويبقى، بعد كل هذا، أن نشير إلى أن القاصة مريم بن بخثة إنما تثير من خلال هذه الحكاية ذاكرة المجتمع التي أصبحت كلُّها (خرساء)، وليس فقط ذاكرة هذا الرجل/ الطفل الذي تَمَّ الاعتداء عليه ذات طُفولة بائسة مُرَّةٍ سوداء... ولكن إلى متى ستبقى ذاكرة هذا المجتمع (خرساء)؟ وإلى متى سيتواصَلُ اغتصابُ الأطفال والاعتداء على طفولتهم الجميلة البريئة؟ الكُلُّ إذن متورطٌ في هذه الحكاية، التي بالرغم من قِصَرِها وبساطَةِ لغتها وتقنيات السرد فيها، إلا أنها استطاعتْ أنْ تَطْرَحَ موضوعاً وقضية مواكِبَةً لحياة مجتمع يسعى إلى أن يكون ناهِضاً متطوراً متقدِّماً...





الأستاذ الدكتور مصطفى سلوي
كلية الآداب/ جامعة محمد الأول- وجدة

وجدة؛ في: 31 يوليوز 2013





مصطفى سلوي
 
أعلى