الطاهر الهمامي - أبو تمّام نصّاصا

استوضحني راقن رسالتي وهويتسلمها مني ويتوقف عند كلمة " نصاص " من عنوان المداخلة، فائلاً قصاص؟ قلت: بل نصّاص. وأردفت: لم تخطر على بالك! قال: كيف نصّاص كاتب نصوص!
وانا أغادر المحلّ بعد استلام المرقون، لم يبرح سمعي الكلام الذي سمعت، رغم رذاذ مشاغب كان يبلل الطريق ويتربص بذوي الغفلة، حتى اتبهت إلى أن رماية الفتى لم تطش، فنصّاص غير بعيدة، في أظهر معانيها، عن كاتب نصوص، وقلت: لمَ لا يوجد في النهير ما يوجد في البحير؟ ألم يستعمل مخاطبي الجمع من " نص " لأداء صيغة الاحتراف نصّاص؟ وعدت أطرح السؤال باتجاه تعميق النظر وتدقيقه: إذا كان حبيب بن أوس الطائي نصّاصا او، على حدّ عبارة صاحبي، كاتب نصوص، فإلى أي مدى كان، وهو يبسط نظريتّه في العر، يلامس وعي النصّ، كما استقر اليوم عند المحدثين؟ وقررت أن تكون هذه الحادثة مدخلا إلى هذه المداخلة.
1- النص، هذا الرجراج:
الحديث في النص، بدلالته الحاضرة، مشغل حديث. وكثرهمُ الذين راحوا يتعقبون هذا الدال بالتعريف، يرمون حدهُ، وهوينقلب سواء أكان ذلك عند الفرنجة أو عندنا، راجعين إلى دلالته المعجمية أو محاولين قيده اصطلاحا: “ ما النص؟ أي نص نعني؟ ... تزدحم الأسئلة فتتشابك القضايا حتى يغدو البحث في النص مسروعا لا ينتهي " (1). وما من شك في أن صعوبة الإحاطة بمفهوم ثابت للنص يعود فيما يعود إلى حداثة المبحث وإلى اختلاف منطلقات الاحثين ومعاييرهم وزوايا النظر و الإختصاص لديهم، بين خطية كاليغرافية، وتركيبية، وصوتية، وبلاغية...الخ. ففي حين يذهب البعض - من منطلق بنيوي - إلى اعتبار كل ملفوظ، مهما كان حجمه، بل كل ما يدل على شيء، كالعلامات البصرية وافشارية، نصّا (2) يعبّر البعض الآخر عن حيرته أمام استعضاء تحديد المجاملات النصية فيضع النصّ مقابل “ اللاّنص " ويقول: " هنا لابد من الإشارة إلى أننا عندما نتكلّم عن النص فإننا نفترض عادة وجود اللاّنص. علينا إذن أن نبين الفرق بين النص واللاّنص. فمثلا هل نعتبر المكالمة الهاتفية نصاّ؟ هل الحوار اليومي المتقطع نص؟ قد يقال بأن النص هو ما هو مكتوب. ولكن هل الإعلانات التي على واجهات المتاجر تعتبر نصّا؟ وما هو المصير الذي نخصصه للإعلان عن بيع سيّارة في جريدة: "
ويفرغ المتسائل من تساؤلاته بحصر النص في منتوج العلامة اللسانية وفي ما اكتسب مدلولا ثقافيا من هذا المنتوج زيادة على مدلوله اللغوي. وبالتالي ف" النص يمون نصّا حسب وجهة نظر ثقافة معينة..."(3).
هكذا يتسع مفهوم النص ليشمل كل نظام علامي " لغوي وغير لغوي " ويمكن أن يضيق ليقتصر على النظام العلامي المكتوب.
ومهما اختلف زوايا النظر إلى النص وتعذرت الإحاطة الكاملة بمفهومه فإن دلالته اللغوية تظل تمثل قاعدة متينة لنهوض دلالته الاصلاحية الحديثة. فمن الجذر ن ص ص كان النص، في المعاجم العربية، بمعنى الإظهار والكشف وبمعنى التنضيد والرّصف (4) أمّا في معاجم اللغات الأوربية فقد أفادت معنى قريبا من ذلك، هو معنى النسيج، حتى أن صناعة النسيج عندهم سموها فكانما هي وصناعة النص سواء (5). النص هنا وهناك، فعل إظهار المعنى وتشكيله وتجسيده، ولا يتسنى ذلك، على الوجه الأكمل، إلاّ بالكتابة.
II - من إلى الكتابة: خطوة نحو النصّ:
لئن كان البحث في نظرية النص وعلم النصّ ظاهرة حديثة فإن الإهتمام بالنص عبر الإهتمام بالقصيدة وصناعتها أمر تحقق للقدامى وخاصة منهم الشعراء الذين جاوزوا الخوض في أدبية الكلام ( الشعر عامّة ) إلى ادبية النص ( القصيدة ) فحققّوا سبقا على النقاد (6).
ويعد أبوا تمّام ( ت 228 ه؟ ) أحد زعماء هذا المذهب بل نذهب إلى أنّه كان اكثرهم انشغالا بالموضوع و أقربهم ملامسة لبعض الخصائص التي تجعل النصّ نصّا يشتغل وفق القوانين المكتشفة حديثا إذ اعتمد في تحديد أدبيّته مقاييس داخليّة نابعة من النص مجاوزا المقاييس الخارجية التي كانت غالبة قبل عصره (7). وليس هاجسنا إلباس الرجل لبوس النظريات الوافدة وإسقاط وعي الحاضر على وعي الماضي وإنّما نحن ننطلق من استنطاق المدونّة الشعريّة التمّامية بعد أن لفتت انتباهنا فيها، خلال فحصها، ظاهرة تكاد تميّزه بين أضرابه، مدارها النصّ، فأردنا معالجتها وتلمّس نقاط التقائها ببعض المفاهيم الحديثة، فقصدنا هو الوقوف على تلك العناصر التي يؤلف مجموعها مفهوما للنصّ، خاصّة وأن البحث انصرف حتى الآن إلى استنطاق النصّ هو الذي جعلنا نعدّه نصّاصا.
وقد جاءت رؤيته مبثوثة في شعره النقدي الذي استغرق 45، 8 % من الديوان (8). ولئن كانت ظاهرة الشعر على الشعر قديمة فإننا لم نعرف بين شعراء العربية القدامى والمحدثين من أدمن إدمان الطائي عليها وجعل من حرفة النصّ مجمع الحرف ومن فتنة القول أم الفتن، وتحسّس بالتالي أسرار فعل النص الشعري وسيره وبقائه. وأول مظاهر احتفال النّصاص بنصّه التفاتة إلى دنيا الحرف، وقد باشر بعضها صغيرا ( الحياكة ) يستعير منها مادّة التّمثيل والتصوير. ولعلّ ألصق تلك الصناعة بالنص وأظهرها تشكيلا له صناعةُ الكتابة. فالنص بما هو إظهار وتنضيد يجد ترجمته الحسيّة الأكمل في هيئته المرئية التي احتفى بها أبو تمّام موضوعا من مواضيع الوصف، وجزاء من جمالية القصيدة، وقد طوّر الشعر الحديث هذا الجانب حتى غدونا نتلقّى شعرا " بصريّا " فضلا عن الدراسات التي باتت تُعني بالتشكيل البصري للنص الشعري. وجه الطائي عنايته إلى وصف المظهر الخطّي فنوّه ببهاء القصائد التي كانت ترد عليه من بعض أصدقائه تنويها دل على مكانة صورها النصيّة عنده بما هي كلام احتاج دواة وقلما واصابع كي يستوي على وجه القرطاس ويؤذي الأداء الأمثل وظيفة الإبانة والإمتاع إذ يجلو ما في الصدّور ويحلو في العيون، وخاصّة إذا كان المقصّدون كتّابا ويرتجي أبو تمّام بياض أيديهم، فيناشد أحدهم أن يتوسط له (9) قائلا:
فاجل القذى عن مقلتيّ بأسطر
يكشفن عن كربات بال بالي
سود يبّيضن الوجه بمصطفى
تلك النوادر منك والمثال
واحثث اناملك السوابغ بينها
حتى تجول هناك كلّ مجال
في بطن قرطاس رخيص ضمّنت
أحشاؤه درر الكلام الغالي
(111/62-63)
إنّ " درر الكلام العالي " لا تكتمل نفاستها إلا بما ينصّها ويجلوها، أي بتلك الكتابة التي تحتاج كاتبا جوادا.
وفي السياق نفسه، والمخاطبُ يجمع مرة أخرى بين صناعتي المنثور والمنظوم (10 ) يدور المعنى على الكتابة والتّيار الممتدّ من فكر الماتب إلى قلمه سيّد أدوات النص والذي لا مثيل له في إجلاء المعاني وتزيين موكبها العرائسي:
أما المعاني فهي أبكار إذا نُصَّتْ ..
(111 / 330 )
ويعاود الطائي موضوع التّزويق لخطي ويستوقفه فائض الحسن الذي تضيفه المتابة المنمّقة على المكتوب، فضلا عن الإبانة:
وإذا رسوم في كتابك لم تدع
شكا لنظّار ولا متفكرّ
شكل ونقط لا يخيل كأنه الـ
خيلان لاحت بين تلك الأسطر
ويريك ما التبست عليك وجوهه
حتى يعانيه بأحسن منظر
( 1ف / 516 )
ويصور غَناء الخط وبهاء اللفظ، وخطر المعنى، في كتاب ورد عليه، ويستعير من عالم المصوغ ما به يؤدي دلالة
الزَّيِن والقّيِم معا (11)
وضُمَنَ صدرّه مالم تضمنْ
صدور الغانيات من الحليّ
فكائنْ فيه من معنى خطير
وكائنْ فيه من لفظٍ بهيَ
(11 / 356 )
ويتضافر البعدان، المسموع والمرئي، لتحقبق ما يُرتاح إليه:
كتبتَ به بلا لفظ غريب
على أذن ولا خطَ قمِيّ
(11 / 356 )
بل إن القصيدة، من حلاوتها في العين والأذن، " عروس عليها حليها يتكسّر " (11 / 217 ).
ولعل جسر التلاقي بين الكتابة وصناعة أخرى هي الحياكة، يمثّله عند نصّاصنا " التحبير " حيث معنى الخط المزوّق والحوك المنمّق، وحيث الجذع واحد بين الحبر، مادة كتابة، والحبير، ثوبا موشّى ( 1 / 109 ). فصناعة النص كصناعة النسيج، وإن اختلفت موادّ الصناعتين فإنّ بين الخط والخيط خيطا من التشابه. وقد انتبه أبو تمّام إلى هذه الفكرة وحفل شعره على الشعر بمظاهر استعارة النسيج، لحمتُه وسداه الكلام.
ولكي تجود هذه الصناعة وتقع موقع الإحكام تحتاج من بين الصَّناع صانعا صناعَا أو “ صننعَ اللسان " ( 111 / 330 ) نظيرَ أبي تمام.
نسيج النص ونسيج الثوب يحتكمان إلى نظام. وإذا كانت اللسانيات ومناهج الدراسة الأدبية الحديثة قد طورّت فكرة اللغة نظاما والنص نظاما فإنّ حبيب بن أوس الطائي كان أحد القدامى الذين وعوا - على ما بين القصيدين، مفاخرا، " نظام امرئ حاذق بالنظام " (111 / 288 ) وعدّها لؤلؤا " نظامه معقود " (1 / 149 ).
النص التمامي، فيما يزعم صاحبه، نظام يفوق نظام اللغة ونظام النظم معا إذ يجاوز اللغة المضبوطة لامعجم، والنظم المحكوم بالعروض، ويُضحي نظام صاحبِه، لغةً فوق سائر اللغات (12 ).
ثم ما ينفكّ حبيب يرابط على معنى الإتقان والتجويد بالمتْح من معين الحرف والصنائع فإذا القصيدة " قلادة " ( 111 / 330 ).
وإذا هي إلى ذلك:
حذيتْ حذاءَ الخضرميّة أرهفتْ
وأجادها التحضير والتلسينُ
أحذاكَها صنعُ اللسان ... ( 111 / 330 ) : مسرودة مقدودة من نفيس المعدن وثمين الجلد والخيط، لكنّ النفس والأثمن هو الصورة المتولّدة عن جهد الصانع، أو قل هو " النظام ... فريدا “ (1 / 425 ).
فسواء أنظرت إلى النص من زاوية معنى الرّفع والكشف أو النسج والرصف، أو الاكتفاء الذاتي، فإنّك واجد الرجل، وهو يخبر عن قصيدته، يكرس ذلك تكريس الفاهم انّ الشعر نظام فوق العادة، وأن النص بنية - مثلما نقول اليوم - تملك قوانين اشتغالها الخاصة، ويجتهد بانيها في إحكام بنائها لمضاعفة إنتاجيتها.
ولعلّ أطرف ما في وظيفة الطائي نصّاصا اضطلاعه بنصّ قصيدته وإجلائها على نحو ما تنصّ العروس وتجلى، و " القصْدة من النساء العظيمة الهامة التي لا يراها احد إلاّ أعجبته " (13 ). يفعل المقصّد ما يفعل لأن قصائده / بناته يريد لهنّ مهورا غالية وزفات لم تقع.
ولولا ذلك النصّ ما جاد النصّ وراق. ماراق البصر ليتنزّه ويتامل. فجياد النصوص منتزهات:
تتزيّد الأبصار فيها فسحة
وتامّلا بعناية الوقام ( 111 / 282 ).
وبغتقان الصنعة يغتني النص لكنها صنعة خفيفة، لمسة فنّان شبيهة بذلك البياض الخاطف على جبين الفرس المسمى غرّة لعلها تقع وسطا بين " حسن الحضارة " وهو " مجلوب بتطرية " و " حسن البداوة " وهو " غير مجلوب " إذا استعرنا عبارة أبي الطيب.
وقد عبّر أبو تمام عن ذلك بقوله، يقصد قصائده:
إنّ الجياد إذا علتها صنعة
راقت ذوي الألباب والأفهام (111/282)
واكثر من استخدام " الغرّة " و " الغرر " في تسميتها ونعتها.
وبغتقان الصنعة يقوى النص على مغالبة الهرم الذي يصيب الأدب الصغير. بل إن القصيدة، من جودة صنعتها، مثلها الخمرة النواسية: تقدُم وتهرم فتجدٌ وتجود.:
ويزيدها مرّ الليالي جدّة
وتقادم الأيام حسن شباب (1 / 96 )
والتنخيل يمنحها طاقة تخييل هائلة. فمتى كان " الثناء المنخلّ " فإنك:
تخال به بردا عليك محبّرا
وتحسبه عقدا عليك مفصّلا (111/ 109)
فكان الطائيّ يريد القول إن شعريّة الكلام من غرابة المصنع لا من صحّة المرجع، فجاءت قصيدته / رقيته " تشفي الجوى وهو لاعج " و " تبعث أشجان الفتى وهو ذاهل " ( 111 / 13 ) وإذ يمارس النص التمّامي غوايته فإنّ جماله يغني عن جمال الحقبقة بل لعلّه يضحي هو الحقيقة:
يّرى حكمة ما فيه وهو فكاهة
ويقضي بما يقضي به وهو ظالم ( 111/179)
فقد قيل لبعض الفلاسفة: إن فلانا يكذب في شعره فقال:
يراد من الشاعر حسن الكلام والصدق يراد من الأنبياء (14 ) وعليه فكأنّ الطائي يريد القول ثانية إن النص يخلق واقعه بأدواته الداخليّة ودونما حاجة إلى نجدة خارجيّة، وهي الأفكار التي طوّرتها فيما بعد النزعات البنيويّة والنصانيّة وبلغت بها ذروة المغالاة.
يفارق الشعر على هذا النحو دائرة التصورّات الخرافية ليصبح أمر مآتيه موكولا إلى الإنسان ويديه بعد أن كان شيطان يوحي إليه. ومن ثمة باتت القصيدة " أبنة الفكر المهذّب في الدجىْ " ( 1 / 96 ). بما يعني ذلك من سهر على تدبيرها وإحكام صنعتها وحل "السحر الحلال " (IV/482) محل السحر الحرام ونزع الشعر عن الجليل إلى الحميل (15 ).
III- فتنة المرئي، فتننة المسموع:
يحتل المسموع في تشكيل النصّ مكانة لا تقلّ عن التي يحتلها المرئي. ويحفل النصّاص بما ينبعث من قصيدته الحافلة من جمال المسموع، الناجم بدوره عن إغراب الصنعة. فقد وصف خلعة وهبها وقارن بين حسنها وحسن مديحه وقال يرجّح كفّه الثاني:
حسن هاتيك في العيون وهذا
حسنه في القلوب والأسماع ( 111 / 583 )
غرٍ عطرُها يغوي حاسة السمع لا حاسّة الشم " ومتلقيها " وهب صفات خارقة للمألوف تتيح له أن يستمتع، على النمط البودليري، بمعاناة تجربة التراسل بين الحواس “ (17 ). فهنّ، قصائده “ عبقات بالسمع ..." ( iv / 309 ) هذا الذي صار يغني عن بقية الحواس، فإذا السامع، مبهورا:
يودّ ودادا أن أعضاء جسمه،
إذ أنشدت، شوقا إليها، مسامع ( 111/ 583 )
وإذا المسموعة:
لئن غربتَها في الأرض بكرا
فقد على سمع كفيّ ( 111 / 356 )
إنها فتنة المسموع، بعد فتننة المرئي، تتحول بموجبها القصيدة، صنيعة الكيماوي الماهر ( IV / 440 ) إلى حوق من النغام الاسرة، ويضاعف ذلك من طاقتها على السير والبقاء، ويزودها بالوقود الرفيع. فقد تحدث أبو تمام عن قصيدته " السيارة "
وسيارةٍ في الأرض ليس بنازح
على وخدها حزن سحيق ولا سهب
تذرّ ذرور الشمس في كل بلدة
وتمضي جموحا لايردّ لها غرب ( 1 / 204 )
قصيدة تسير أو تطير، كما لو كانت محمولة على بساط الريح، لاسبيل إلى كبحها، تمتلك قوذة دفع وتوجيه داخلية تجعلها في غنى عن السائق:
وسياحة في الأرض تنساق من غير سائق
وتنقاد في الآفاق من غير قائد ( 11 / 77 )
شبيهة بالمركبة الفضائية " تسير مسير الشمس " و " تقطع آفاق البلاد " ( 11 / 94 ) وتذهب " أبعد من خواطف البرق " ( iv / 444 ). وإلى هذه الصفة، صفة الكوكب السيّار في الفضاء / المكان بحوزة “ غرر “ نصّاصنا قدرة فائقة على خرق الزمان، فقوافيه " هي البواقي على الدهر " ( 11 / 315 ) بقاء الكلام المنقور في الصخر (1 / 293 ).
IV - الفحولة: من الشاعر إلى النص:
أطلق الأوائل لقب الفحولة على الشعراء (18) واقترن ذلك عندهم بطور غلب فيه تحديد " الأدبية " من خارج النصّ، قبل أن يتقلّص هذا المنحى لفائدة تحديدها من داخل النصّ (19). وقدم الشعراء بحديثهم عن معاناة القصيد ما يعكس إدراكا مبكّرا لأسباب سيره وشروط بقائه الكامنة في ذاته اللغوية والبنيوية. وقدّم أبو تمّام ما يمكن أن يحملنا على الجزم بأنه كان اكفلهم بحديث النص فنّا جميلا وحرفة لسانية على إتقانها يتوقف ذيوع صيته. ودارس الظاهرة عند الطائي يكتشف أن الفحولة تنتقل، في المحصّلة الأخيرة، من الناصّ إلى المنصوص، ويجوز الحديث عندئذ، بدل الشاعر الفحل، عن نصّ فحل اكتسب من قوة الفعل، والسير والبقاء، ما لايتاح لبقية النصوص. وصار الخروج والفذاذة عيارا في تحديد فحولة النص الشعري، وهوالمعنى الذي حملته صفات المغرِب، والشارد، والآبد (20) والآبق، والعصيّ، ثمّ ونحن ننزع نحو المدلول الإصلاحي الحديث للكلمة، هو نص مفتوح على الزمان، دلالته " كأنما أخذُها بالعين إغفاءُ .. رقت عن الماء ... وجفا عن شكلها الماءُ “ على حدّ عبارة أبي نواس، ولعلّ ذلك هو مغزى قول الطائي أو قريباً منه في التنويه بشعره:
ساحرَ نظمٍ سحر البياض من الألوان سائبِه خبه خدعْه ( 11 / 349 )
حيث اكتسى سحر صناعة اللسان شكلَ ما يابى التشكّل ويصعب القبض عليه أو يستحيل، وهذا وحده كاف لتنزيل الرجل منزلة النصّاص " الماكر ". وقد ثار نقع الخصومة حول مذهبه في الإحالة (21) و " على حين كان النقاد ينادون بالوضوح في غطار ادبية المنطوق كان يعتمد " الغموض " أساسا ... في إطار أدبية المكتوب " (22) حتى عدّ رأسا في الشعر مبتدئا لمذهب " ( 23).
v - النصاص:
وبعد، فنصّاص كقولك نسّاج ونقّاش، ونظّام، ونحّال، ونحّات، ووشّاء، وإلى غيره من صيغ الاحتراف. وقد ضمّت مدوّنة الطائي، لفظا ومعنى، مادلّ على وعيه فعلّ النّص باعتباره، أصلاً فعل كشف وإجلاء، ونسج وتنضيد، وعلى أنّ أبا تمّام ظل يجلو قصيدته التي استعار لها صورة العروس، ولكي يتمّ ذلك اتجه إلى ما به تلذّ وتغلوا: الثوب والحَلْي. لكنه ادرك انّ قيمة هذا التّجهيز ليست في مظاهر الترف بقدر ماهي في ملامس الذوق، والفنّ: الهيئة والنظام. من هنا كان اهتمامه بجمالية المرئي والمسموع، والمتخيَّل ينبثق منهما يغذّيه " سحر الإغراب " (24) وكانت تلك الأفكار المتّصلة بماهية الشعر والعملية الشعرية، والنص والحيوية النصية، وأسرار بقاء النصوص، وسيرها وانتشارها، فيما تقصر أعمار نصوص أخرى رغم نبل مقاصدها و صدق نوايا عامليها.
لم يكن أبو تمّام هو الوحيد الذي، من بين نقاد عصره وشعرائه، أتى هذه الأفكار، لكنّ طول وقوفه عليها ونزعته إلى استقصائها ( والآستقصاء من معاني النص ) أفرده ووقف به على تخوم نظرية النص، والبنية، والشعري الحديثة.
لم نكن نريد القفز بالرجل فوق لحظته التاريخية والحدود الموضوعية لوعي عصره، بل أقصى مارمنا ملاحقةُ هذا التحسّس المبكّر لقضايا أصبحت الشغل الشاغل للنقد والتنظير ومناهج الدراسة الأدبية اليوم. لم نكن نروم توريطه في مغالاة النصانية القائلة ب "موت المؤلف " واستقلال النص وانغلاقه أو تسليمه لفوضى قرائية وتأويلية لا حدّ لها، بل قصْنا بيان دوره في تحسّس ما به يكون الشعر، ويكون النص، في تخليص الجميل من ربقة الجليل، والثقافي من أسر الخرافي.
------------------------------------
إحالات
- اعتمدنا شرح الخطيب التبريزي ( ت 512 ه ) لديوان أبي تمّام، في أربعة أجزاء، تحقيق محمد عبده عزام، نشرة دار المعارف - مصر 1951 .
1 ) الحبيب شبيل: من النص إلى سلطة التأويل - ندوة صناعة المعنى وتأويل النص - منشورات كلية الآداب منوبة - تونس 1992 - 449
2) الأزهر الزّنّاد: نسيج النص - المركز الثقافي العربي. يبروت 1993 ص 16 .
3) عبد الفتاح كيليطوا: الأدب والغرابة - دار الطليعة ط2 - بيروت - 1983 ص13 - 15
4) اللسان: مادة ن ص ص
5) الموسوعة العالمية - فصل نص -
6) توفيق الزيدي: مفهوم الأدبية في التراث النقدي - سراس للنشر - تونس 1985
ص135 + ص 168 - 169 + ص 171 - 173 .
7) نفسه - ص 171 .
8) اقتطعنا هذه النسبة من مخصوص أبي تمام في الأطروحة التي نعدّ بعنوان " الشعر على الشعر عند القدامى إلى المتنبي ".
9) اختلفت المصادر في من يكون ورجّح بعضها أنه الحسن بن وهب. كان كاتبا لمحمد بن عبد الملك الزيات - ولي ديوان رسائل المعتصم - وكان شاعرا.
10 ) محمد بن عبد الملك الزيات ( ت 233 ه ) كاتب وشاعر. دعاه المأمون للقيام بمهام الوزارة.
11 ) يمدح الحسن بن وهب.
12 ) يقول توفيق بكار: " الشعر من اللغة بلا ريب ولكنه نظام فوق نظامها، تعبير بالدرجة الثانية، كلام مخصوص ينطلق من الكلام العام ويتجاوزه " - في جدليات النص الأدبي - الدروس العمومية - دروس السنة الجامعية 1988 - 1989. منشورات كلية الآداب منوبة 1990ص 12.
13 ) اللسان: مادة ق ص د
14 ) أبو هلال العسكري: الصناعتين ط1 - القاهرة 1952 ص 173 .
15 ) عبده بدوي: أبو تمّام من خلال عصره - الثقافة ع 19 - أفريل 1995 ص 45.
16 ) توقّف فهد عكام مطوّلا عند مادة غ ر ب ومشتقاتها في شعر أبي تمام الواصف لشعره - انظر فصله: سحر الإغراب - الموقف الأدبي - ع 149 - 150 - سبتمبر / أكتوبر 1983.
17) نفسه - ص 32.
18) فحولة الشعراء للأصمعي ( ت 213 ه ) _ طبقات فحول الشعراء للجمي ( 232 ه ) ...إلخ
19) المرجع 6 - ص 5.
20) المرجع 16.
12) الآمدي- الموازنة - أورده شكري المبخوت: المعنى المحال في الشعر- علامات ج v 11 سبتمبر 1992 ص 36.
22) المرجع 6 - ص 173 .
32) الآمدي _ الموازنة - ص 4.
24) المرجع 16.

الطاهر الهمامي
 
أعلى