نقد محمد أبو زيد - تفتح ملف أدب الستينيات في مصر وتحاور رموزه وتستطلع آراء أجيال أخرى حول تجربته

1/3

جيل الستينيات في مصرمن نص السلطة إلى سلطة النص (1من3) ـ هل تحول الكتاب الستينيون إلى لعنة أدبية ؟
يشكل جيل الستينيات في مصر مفصلا هاما في الثقافة المصرية، فقد تزامن صعوده مع قيام ثورة يوليو 1952، وتشبع الكثير من أبناء هذا الجيل بأفكارها ومبادئها بخاصة حول الاشتراكية، والعدالة الاجتماعية، والتحرر الوطني، لكن ذلك لم يمنعه ـ أحيانا ـ من أن يصطدم مع هذه الأفكار، وينتقدها، ويتعرض بسببها للسجن.

أثرى جيل الستينيات المشهد الثقافي المصري على مستويات عدة، وبرزت في كتاباته سمات ودلالات وقيم جمالية وفنية جديدة ولافتة، بخاصة في الرواية والقصة القصيرة والمسرح. وحاليا يحتل عدد من رموزه الكثير من المواقع الثقافية، وهو ما يجعله الجيل الأكثر استفادة من السلطة حتى في أقصى لحظات الخصام معها، وهو ما يثير تحفظات موجات أو أجيال الكتابة اللاحقة لهذا الجيل، والذين يرفضون فكرة الوصاية مهما كانت مبرراتها، ويرون أن جيل الستينيات ـ برغم عطائه المتميز ـ لم يحدث طفرة في شكل ولغة الكتابة الأدبية في مصر، وان هذا العطاء ظل محايثا لانجاز الكتاب الرواد في القصة والرواية أمثال نجيب محفوظ، ويوسف ادريس، ويحيى حقي وغيرهم.

«الشرق الاوسط» تلقي الضوء في هذا التحقيق على تجربة هذا الجيل وتحاور عددا من أبرز كتابه، اضافة الى نقاد وكتاب وشعراء من أجيال أخرى.

في البداية يؤك شد الروائي محمد البساطي ان جيل الستينيات هو الوحيد الذي أطلق عليه اسم الجيل، وهو الأول كذلك، فلم يكن قبله يطلق لفظ الجيل. وكان هناك كتاب في الخمسينيات والاربعينيات، وكان هناك نجيب محفوظ يكتب، ويوسف ادريس، ولم يقل أحد عنهم انهم يمثلون جيلا معينا، وإنما اطلقت هذه اللفظة مع ظهور جيل الستينيات وبدء سطوع نجمه.

ويشير البساطي الى ان جيل الستينيات سمي بذلك لأنه كانت هناك ظروف خاصة ومختلفة لظهوره، إذ كان يوسف ادريس يفرض سيادته على الوضع الثقافي، ثم «بدأنا الظهور فرادى، وجمعنا ما يميز جميع كتاباتنا الأولى وهو هم الوطن. كانت الثورة قد قامت وكنا في صبانا حين اندلعت فعشناها بأفراحها، وأحزانها، بانتصاراتها وانكساراتها، وبالتالي فجيل الستينيات هو ابن حقيقي للثورة، ولذلك كانت كتاباتنا تمتليء بالرغبة في التغيير، بالرغبة في العدالة الاجتماعية، والسعي الى الأفضل والأجمل والأقيم. وقد تزامن مع هذا تغيير فعلي تمثل في الاصلاح الزراعي، وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وأنا شخصيا كنت متحمسا للثورة، وكنا نهاجم السلبيات التي ظهرت في تجربة الثورة، وهاجمنا غياب الديمقراطية وغياب الرأي الآخر، هو ما انعكس في عمليات الاعتقالات». ويضيف البساطي: «هذا كان هو الهم الأساسي والمشترك لجيل الستينيات، وهو الدفاع عن الوطن، وعن العدالة، والرغبة الحقيقية في التغيير».

وحول نشأة جيل الستينيات يقول «الذين كونوا جيل الستينيات هم صنع الله ابراهيم وجمال الغيطاني وابراهيم اصلان وأنا. ثم جاء بعد ذلك بهاء طاهر وتقابلنا صدفة في المقاهي وفي الاماكن المختلفة وانشغلنا بالهم السياسي، وهناك من حشر اسمه في وسط جيل الستينيات بعد ذلك، إلا ان أبناء جيل الستينيات الحقيقيين لفتوا الأنظار إليهم بكتاباتهم بسخونتها، ولانها التصقت بالهم العام المباشر، كما كانت شجاعة، ورغم وجود رقيب على الصحافة بعد تأميمها، فلم تصادر قصة، كانت هناك حرية تعبير حقيقية، ولم تكن هناك مشكلة في صدور أي رواية، و«تلك الرائحة» لصنع الله ابراهيم لم تصادر الا بعد صدورها. وتميز كل واحد من جيل الستينيات بشيء محدد، وان جمع الجميع هم واحد، فغاص الغيطاني في التراث وتحدث ابراهيم اصلان عن المهمش، وكتب صنع الله ابراهيم في «تلك الرائحة» عن السجين الخارج من المعتقل.

ويرى البساطي ان أهم ما يميز جيل الستينيات ان علاقات كتابه قوية ببعضهم بعضا، وانهم يأخذون الإبداع بجدية «كنا نتحمس عند قراءة أعمالنا لبعضنا، ونناقشها، ونبحث عن القصص الجديدة لنقرأها ونعلق عليها، كنا نبحث عن الأفضل».

ويشير الى أن يوسف ادريس توقف عن كتابة القصة بسبب جيل الستينيات، والتغيير الذي أحدثوه، ولأنه رأى جيلا صاعدا في عنفوانه، «كنا على علاقة جيدة جدا بيحيى حقي ونجيب محفوظ، وكان يحيى حقي يحتوينا، أما يوسف ادريس فلا».

ويرفض البساطي فكرة ان جيل الستينيات قد تفرق وانفض شمله، مؤكدا انهم يتهاتفون جميعا يوميا، فقط هم لا يكادون يغادرون بيوتهم بحكم السن والكسل، لكنهم ما زالوا على صلة قوية ببعضهم بعضا بعكس أي جيل آخر.

وهو يعتقد ان السياسة لم تصنع جيل الستينيات، ولكن الوضع كان مؤهلا في تلك الفترة لاستقبال كتاب جدد، ولا يوجد كاتب أمين مع نفسه يتجاهل ما يحدث حوله في البلد والاستفزازات التي تحدث حول الثورة، وكان من الصعب ان يدير الجيل وجهه بعيدا عن الاوضاع السائدة، لافتا الى أن جيل الستينيات لم يزل يحافظ على هذه الروح المناضلة حتى الآن، فهم من الأوائل ممن يتصدون للفساد الذي يحدث، مؤكدا انه لا يوجد بيان استنكاري رافض لما يحدث الآن يصدر إلا وعلى رأسه كتاب جيل الستينيات.

ويختتم البساطي حديثه مؤكدا على ان علاقة جيل الستينيات بالأجيال التالية تقوم على اقامة جسور لقراءة أعمالهم، والجلوس معهم ومناقشتهم فيها، مؤكدا ان الأدب لا يورث، ولا أحد يساعد أحدا في الظهور، فجيل الستينيات ظهر بدون مساعدة من أي أحد.

*أصلان: جيل ذو رسالة

*ويقول الروائي ابراهيم أصلان ان جيل الستينيات لم يكن حالة مصرية فقط، بل كان في العديد من أنحاء العالم، حين كان العالم بكامله مثل كائن يعيد ترتيب أعضائه. ومظاهرات الطلاب في فرنسا، وفي اليابان، والثورة الثقافية في الصين ووجود سينما جديدة في العالم، ورواية جديدة، كل هذا لم يرتبط بمجموعة من الكتاب المصريين فقط، بل امتد الى العديد من أنحاء العالم. ويضيف أصلان انه قبل الستينيات كانت الكتابة أكثر استقرارا وكانت تقليدية، وتقوم على نهج شائع هو أن الكاتب صاحب رسالة سواء كانت هذه الرسائل ثقيلة الحجم أو خفيفة، وكان الكاتب عادة يحمل رسالة ما من أجل ايصالها الى القاريء. وكانت هذه الرسالة غالبا على تماس مع مجمل القضايا الوطنية والاخلاقية، ولكن مع الهزيمة، انقلب الأمر، لم يكن هناك رفض لهذه القضايا، ولمحتوى هذه الرسائل الشائعة والمهيمنة، ولكن اصبحت الافكار المطروحة ككل أقل هيمنة، وهو ما كان يتطلب نوعا من التغيير وتعميق التغيير في طبيعة الفن نفسه، فلم تعد المسألة هي ايصال رسالة ولكن اصبح الكاتب يسعى الى هذه الرسالة.

ويقول أيضاً: «بالنسبة لي لم أكن مهيأ على الأقل لحمل أية رسالة حملها قبلي العشرات، ولا حتى على المستوى الشخصي، وكانت الأفكار العامة الكبيرة لا تكتسب أهليتها بالنسبة لي إلا بعد تبديها في صيغة العلاقات الانسانية والبسيطة التي التف حولها جيل الستينيات، الذي لم يكن في مجمله إلا باستثناءات قليلة حاملا لمعان يوصلها الى القاريء بقدر ما كان يسعى الى فهم للدنيا والانسان».

ويشير أصلان الى انه من الصعب تصور أن هذا الجيل ابن للهزيمة، وهذا ليس نوعا من الاستنكار، لان من يقرأون يجدون في كتابات هذا الجيل ما ينذر بشيء ضخم قبل الهزيمة، وهي كتابات وفيرة في صحف ومجلات، وكانت مقروءة بشكل جيد. وكانت هناك نذر بكارثة ما ستحدث، والفارق الوحيد ان ما حدث لم يكن متوقعا، ملمحا الى أنه لا يستطيع أن يكون خارج الستينيات ويتحدث عنها لأنه جزء من هذا المزاج، والاجيال فيما يتعلق بالفنون أمزجة أدبية، فيحيى حقي مات وهو صاحب مزاج ستيني، وبعض الشباب الآن أصحاب أمزجة ثلاثينية، فالستينيات قاع ومزاج وأجرومية وحالة جمالية، ورغبة في تقديم شهادة جمالية على الزمن الذي نعيشه. الستينيات مزاج، وثقافة لها مفرداتها وليست مرحلة عمرية. وكان بين ابناء الستينيات شيوخ، وهناك بعض الشباب الصغير الآن له مزاج ستيني ويمكن تلمس هذا في أشياء كثيرة.

وعن انقلاب بعض كتاب جيل الستينيات على تاريخهم السياسي يعتقد أصلان انه ليس من حق أحد أن يطلب من أحد آخر أن يظل مرتبطا بما كان عليه في الستينيات، لان الانسان ككائن من المفترض أن تطرأ عليه تغييرات، وأن يزداد فهما، أو يقصر هذا الفهم، أو يظل كما هو وهذا التغيير طبيعي وليس قاصرا على الستينيات فحسب وإلا لتحول الأمر الى مأساة، مؤكدا ان السياسة نفسها ليست ثابتة، فالحياة تتغير، والانسان يتغير والسياسة تتغير، وما دام الكاتب يخضع مواقفه لضميره الشخصي وما دام يفعل ما هو مؤمن به فليس عليه لوم، وليس من حق أحد أن يطالبه بما كان عليه بالأمس لان هذه حرية شخصية.

ويقول أصلان انه لم يشتغل

بالسياسة رغم انه تربى وسط اليسار المصري ولكن طبيعة تكوينه العضوية لا تصلح لدور أن يكون فردا من مجموعة تقوم بشيء محدد، رغم انه منفردا قد يكون مؤمنا بهذه الافكار، ويقول نفس الكلام، غير انه لم يستطع ان يخضع ضميره وفهمه لما يقرره الآخرون أياً كانوا وهذا يرجع الى أنه حصل ثقافته بشكل ذاتي ـ كما يقول ـ فلم تكن لديه مرجعية ثابتة يقيس عليها ومرجعيتها التي يطمئن إليها هي الحياة.

ويرفض أصلان وصف جيل الستينيات بأنه يكون لوبي، مؤكدا ان كل ما هنالك انه كان هناك نوع من الرباط الانساني بينهم، وان كلهم قامات منفردة متباينة، لكل مشروعه، ومن الطبيعي أن يلتقي أفراد هذا الجيل الآن، وهناك من ماتوا وهؤلاء يتعذر لقاؤهم، وهناك من انشغل، وفي الستينيات كانوا يتسابقون على اللقاءات الأدبية والندوات وعلى اكتشاف الكتب ولم يقفوا أبدا في موقع المتفرجين.

ويرى أنه اذا أردنا ان نعرف قيمة هذا الجيل فلنطرحه من الواقع الثقافي المصري، تاريخه، وجهده النقدي والأدبي والغنائي والشعري، ان نستبعد كل ما قدم، حتى نعرف قيمة ما قدم، فربما كانت هذه الطريقة قادرة على أن تقول ان هذا الجيل اجتهد من أجل تطوير أدواته ومن أجل اثراء أدبه، مؤكدا ان هذا الجيل قدم تجربة هامة، ولا يزال يقدم»، وأنا ان كنت قدمت شيئا فلم أقدمه من أجل أحد، ولذلك فلست مستعدا لان يحاسبني أحد على ما قدمت، وحتى الآن لم اطلع على طرح فني بديل، يستحق ان نتناقش حول نقاشا مثمرا، فيجب ان نفرق بين دعاوانا وانجازاتنا».

*القعيد: كنا نريد نظام عبد الناصر لانه كان نظاما أبويا حانيا

*من ناحيته يقول الروائي يوسف القعيد أن تعبير الستينيات أطلق بعد ظهور الجيل بفترة، وهو يعتقد أن فكرة المجايلة فكرة غامضة فنجيب محفوظ معظم نتاجه الأدبي كان في الستينيات.

ويضيف القعيد: «التقينا جميعا في البداية في مقهى ريش حول نجيب محفوظ، ولا توجد ذكريات لنا في هذه الفترة إلا وفيها نجيب محفوظ. على أن مشكلة جيل الستينيات انه تحول الى لعنة، فما زال حتى الآن يطلق عليه جيل الشباب كما كان يطلق عليه في تلك الفترة رغم ان بعض ابنائه جاوز السبعين».

ومشكلة الجيل في اعتقاد القعيد انه لم يفرز نقاده من داخله وهي مشكلة شديدة الأهمية إذ تحول الجيل الى عالة على نقاد الأجيال التالية.

وتجربة القعيد تتشابه مع تجارب باقي الجيل، فقد طبع روايته الاولى على حسابه الخاص، فيما نشرت الثانية له سهير القلماوي، مؤكدا ان الاحتفاء الذي لاقته روايته الأولى «الحداد» في تلك الفترة والمقالات التي كتبت عنه بكثافة لا يحلم بمثلها الآن. ويذكر القعيد دور الكاتب الصحافي عبد الفتاح الجمل في جريدة «المساء» فهو من الأدباء الحقيقيين في اعتقاده الذين اعطوا فرصا حقيقية في النشر لجيل الستينيات علاوة على أن المجتمع كان حاضنا لأبنائه، بعكس الآن حيث تحول المجتمع الي طارد. كانت هناك حفاوة، فروايته الأولى «الحداد» هي التي صنعت اسمه وحدها.

وعن اثر نظام جمال عبد الناصر وهزيمة يونيو على الستينيات يعلق القعيد «انتقدنا نظام عبد الناصر من تحت مظلته ولم نكن نحلم بنظام آخر بديل يأتي الينا، كنا نريد نظام عبد الناصر وموافقين عليه لانه كان نظاما أبويا حانيا كنا نريده فقط أفضل. ومثلت لنا هزيمة يونيو 1967 موت الأب، وانهيار البيت، وانفضاض شمل العائلة، وكلنا أحسسنا بهذا، أما ايام السادات فكنا ضد النظام، وما زلنا نرى في هذه الانظمة التالية لعبد الناصر انها لا تحقق طموحاتنا ولا أحلامنا، وان فيها ظلما اجتماعيا، فالناس تموت من الجوع، ولا تجد عملا، في الوقت الذي يغرق آخرون في النعيم. هناك فجوة هائلة بين طبقتين تتقاسمان المجتمع، وهذا هو الفرق بين نظام عبد الناصر الذي نشأنا فيه وبين ما حدث بعد ذلك واستمر حتى الآن».

ويشير القعيد الى ان الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي ان جيل 68 هز العالم، وما أتى بعده هوامش عليه، فلا يوجد جيل كل عشر سنوات، وانما الجيل يفرزه عصر، وحدث، وكتابة جديدة، وقد أثبت كتابة جديدة بعد الستينيات ومحاولات للخروج لكنها لا تشكل جيلا، وقد تكون هناك حركات أو جماعات أو ما شابه.

ويرفض القعيد وصف جيل الستينيات بأنه يكون «لوبي» ويقول لا يوجد شيء تنظيمي يجمعنا، بل كان لكل مشروعه الفردي، فقط تجمعنا العلاقة الجيدة، وحب الابداع الجيد، ولكل مغامرته الابداعية الفردية التي تختلف عن الآخرين ومن الصعب ان توجد مشاركات، والآن ايضا لا توجد فكرة اللوبي، انما افراد منتظمة منا في جيل، مؤكدا ان الجيل لاقى رفضا من يوسف ادريس الذي حاول أن يمنع محمد عودة من كتابة مقال عن جمال الغيطاني.
 
2/3

نواصل في هذه الحلقة فتح ملف جيل الستينيات في مصر، فيتحفظ الروائي ادوار الخراط على لفظة جيل، ويعتبرها لفظة غامضة ومعممة، ويرى أن كتاب الستينيات ظاهرة أسماها «الحساسية الجديدة». وعلى هذا النحو يرفض الشاعر ابراهيم داود فكرة الأجيال، مؤكدا انها تقدم تصنيفا غير صحيح، ويعزي الكاتب يوسف أبورية نشأة هذا الجيل إلى يحيى حقي ومجلة «المجلة»، وعبد الفتاح الجمل وملحق صحيفة «المساء».

وتستنكر الناقدة الدكتورة شيرين أبوالنجا الاتهامات الموجهة لجيل الستينيات، وترى أن السياسة وحدها لم تصنعه، بل يجب النظر اليه في سياق عصره وبشكل شامل، وتعتقد الشاعرة هدى حسين ان ثمة علاقة أساسية بين الستينيات والأجيال اللاحقة لعل أبرزها فكرة التأصيل للمدارس الأدبية، وترجع الفضل في ذلك الى جيل الستينيات.. وإلى تفاصيل التحقيق.

يقول الناقد والروائي ادوار الخراط ان «جيل الستينيات» لفظة غامضة ومعممة، وأن المسألة ليست مسألة جيل، بل هناك ظاهرة أسماها بظاهرة الحساسية الجديدة، وهذه الظاهرة هي التي اصطلح على تسميتها بجيل الستينيات والتي اتخذت منبرها الأول والأساسي في مجلة «جاليري 68».

ويشير الخراط الى أن هناك اختلافات بين أبناء هذه الظاهرة، ولكن ما يجمع بين أبناء هذه الظاهرة ـ أو الجيل ـ هو تغيير أو تجدد طرق ورؤى العلاج والتناول الأدبي والشعري من النمط التقليدي الذي يعتمد على التسلسل الزمني المضطرب وعلى تتابع الأحداث بشكل يبدو، أو يقصد به أن يكون محكما ومنطقيا، وأن تكون لغته واضحة وقوية أو سلسة على السواء، اضافة الى نمط آخر جديد هو كسر التسلسل الزمني وكسر الحبكة أو كسر سيادة اللغة التقليدية، لافتا الى ان تلك الظاهرة الستينية قامت بهذه المهمة فمهدت الطريق لظهور ظواهر وابداعات جديدة في الأدب العربي والمصري المعاصر.

ويوضح الخراط انه لا يمكن الفصل بين الظواهر السياسية والثقافية، فكلاهما يؤثر ويتأثر بالآخر، ولا شك ان ظاهرة الحساسية الجديدة (جيل الستينيات) كانت على صلة وثيقة بالتطورات والأحداث السياسية الدرامية التي حدثت في تلك الفترة، وعلى الأخص هزيمة 1967، وكان هذا الجيل قد استشرف هذه النكسة أو أحس بإرهاص لظهورها نتيجة لوعيه المرهف لغياب البنى والرؤى الديمقراطية، وكان من أثر هذا الغياب أن تمخض هذا الجيل عن هذه النكسة.

ويضيف الخراط أن القارئ ـ لهذه الأسباب ـ يحس في كتاباتهم المبكرة، حتى قبل 1967، بنغمات من التشاؤم والتحذير والنذير الى آخر هذه الظواهر التي اتصف بها أدبهم.

ويرفض الخراط مقولة «نحن جيل بلا أساتذة» التي أطلقها جيل الستينيات معتبرا انها انطلقت من مبدع خاص، له تميزه الخاص ـ وهو محمد حافظ رجب ـ لكن هذه المقولة لا تنطبق على الجيل لأن هناك في الحياة الأدبية شائعات غير حقيقية اكتسبت مصداقية من كثرة تردادها.

* تصنيف متأخر

* ويقف الشاعر إبراهيم داود ضد فكرة الأجيال، مؤكدا أنها تقدم تصنيفا غير صحيح، فعلى الرغم من انتماء كاتبين كمحمد البساطي وإبراهيم أصلان تجييلياً الى هذا الجيل إلا انهما يقدمان كتابة شابة وجديدة، ومعنى أن هناك تقسيما جيليا ان هناك في مصر ستة أجيال منذ فترة الخمسينيات مع ان المعيار الحقيقي لتغيير الأدب، ولجودته هو القارئ في النهاية وليس التصنيف، فالقارئ عندما يشتري أي كتاب لا يسأل الى أي جيل ينتمي هذا الكاتب، ملمحا الى أن كاتب الستينيات الحريص على أن يظل كذلك على خطأ.

ويرى داود ان لفظة «جيل الستينيات» انطلقت مع مجلة «غاليري 68»، وهي المجلة التي قام عليها ادوارد الخراط وجميل عطية ابراهيم وحسن سليمان وأحمد مرسي وكانت أول رد فعل على نكسة 1967، وكانت تطرح تقنيات جديدة في الكتابة، وروح مختلفة للأدب عن السائد قبل ذلك، وكانت هذه المجلة متنفسهم الأول للرد على هزائم نفسية ومجتمعية، وكانت تجمعهم نظرة مختلفة عن الأدب الديماغوجي المحرض المصنوع بالطلب، وكانوا يتعاملون مع الكتابة بشكل مختلف، وكتبوا أدبا مصريا رفيع المستوى منهم من استمر في طريقه، ومنهم من غير وجهته، ومنهم من توقف في الطريق، ومنهم من مات، ملمحا الى ان هناك أناسا استفادت من فكرة انهم ينتمون لجيل الستينيات من دون أن يقدموا ما يؤهلهم لذلك.

ويشير داود الى أن معظم كتاب هذا الجيل لم ينتشروا إلا في السبعينيات والثمانينيات، حتى التصنيف جاء في السبعينيات، وقد جمعهم في تلك الفترة انتماؤهم لشريحة اجتماعية واحدة والازدهار الذي كان حاصلا في حركة النشر، كما ان المناخ في ذلك الوقت أفرز كتابة ليست مماثلة لما قبلها، وهو ما تمثل في قصائد سيد حجاب، وأمل دنقل، والابنودي وغيرهم وقصص جميل عطية ابراهيم وابراهيم أصلان ومحمد البساطي ويحيى الطاهر عبد الله، وقد استوعبت مجلة «غاليري 68» أبناء هذا الجيل فظهروا وكأنهم سلطة معنوية، وليس سلطة سياسية، وقد قالت هذه المجلة ان هناك كتابة جديدة لافتا الى ان هناك طوال الوقت كتابة جديدة قبل الستينيات أو بعدها، الآن أو في المستقبل.

ويرفض داود فكرة ان هناك جيلا أفضل من آخر، وما ميز جيل الستينيات هو أنهم كانوا يكونون جوقة واحدة، ومؤمنين بآراء سياسية كبيرة، وكانت مصر داخلة على مرحلة ضخمة من البناء، مؤكدا انه يرفض في نفس الوقت ان يتعامل معهم على انهم شخص واحد، لأن هناك تفاوتا على جميع المستويات الأدبي والسياسي، فمنهم من حافظ على توجهه وولائه السياسي، ومنهم من لعب على كل الأحبال.

ويعتقد داود ان أثر السياسة في الفترة الناصرية على كتاب الستينيات لا يختلف عن أثرها على بقية فئات المجتمع في ذلك الوقت، فالعمال كانوا يتكلمون في السياسة، والفلاحون، وكل الطبقات لأن السياسة كانت شريكا في حياة الناس، وبعض الكتاب ظهرت السياسة في أعمالهم، وبعضهم لم تكن مادة لأعمالهم.

ويرى داود ان ظروف كل جيل من الأجيال التالية هي التي تحدد علاقته بالأجيال التالية، فالسبعينيات غير الثمانينيات، غير التسعينيات، ويقول «أنا وأصدقاء كثيرون أقرب أصدقائنا إلينا من الستينيات، ولا أتعامل معهم على انهم من جيل مختلف، وقد نلتقي في لحظة من الحياة، ولا يوجد أحد مشغول منا بفكرة التجييل»، ملمحا الى ان تيار الكتابة المصرية حدثت به اشياء قدرية حددت تاريخه، ومؤكدا ان عنده ملاحظات على جيل الستينيات تماما كما عنده ملاحظات على جيله.

ويختتم داود كلامه منبها الى ان هناك من يعاملهم على انهم سلطة رغم ان هناك اشخاصا في جيله أكثر سلطة منهم وأن التفاوت الحاصل ما بين الاجيال مرده انه لا توجد معارك كبيرة في الوسط الثقافي.

*صوت الجماعة

* من ناحيته يقول الروائي والقاص يوسف أبورية ان جيله كان ألصق الأجيال بجيل الستينيات، والأقرب اليه، واستكمل الجيلان مشوارهما معا، وعندما دخل جيل السبعينيات الذي ينتمي إليه أبورية الحياة الأدبية لم يكن أي كاتب من جيل الستينيات قدم أكثر من مجموعة قصصية أو رواية، وان كان قد بدأ زحفه، وتميز بسمات خاصة جعلته يختلف عن الأجيال السابقة عنه.

ويضيف أبورية ان الذي شارك في تقديم جيل الستينيات ثلاثة مصادر نشر، هي مجلة «المجلة» تحت اشراف يحيى حقي، وملحق «المساء» تحت اشراف عبد الفتاح الجمل الذي ساعدهم كثيرا، بل ان كثيرا منهم أهدى أعماله الأولى للجمل، كما بدأت مع الستينيات فكرة النشر المستقل، وأبرز تجاربها مجلة «غاليري 68» والتي كانت تتسم بصوت الجماعة، وربما يعود هذا الى اطلاق اسم جيل عليهم فقد كانت الكتابة قبلهم ظاهرة فردية وتحولت معهم الى اوركسترا.

وأسباب هذه الظاهرة (العزف الجماعي) يردها أبورية الى عدة أسباب ربما منها انه لم يستطع واحد ان يقدم التجربة منفردا أو أن يحملها بمفرده بحيث أصبحوا يلوذون ببعضهم بتناقضاتهم وخلافاتهم وان ظلوا حريصين على التسمية.

ومن أبرز أفكار الستينيات التي يرصدها أبورية فكرة النشيؤ وتأثرهم بالكتابة الغربية، وفكرة الواقعية الجديدة التي قدموها وتختلف عن واقعية الآباء، والاحتفاء بالمكان في أكثر من عمل، وأبرز تجارب الستينيات مختلفة عن تجارب آبائهم مثل تجربة اللامعقول والعبث.

ويرى أبورية ان كتاب هذا الجيل لم يصبحوا نجوما مثل السابقين عليهم (العقاد، المازني، طه حسين) لعدة أسباب منها رغبتهم في التمرد على الآباء، بالاضافة الى الهزيمة التي أحدثت شرخا فيهم، ومن هنا حدث نوع من التهميش لهم، فلم يتحولوا الى كتاب الاهرام الكبار، ولم تعترف السينما بهم إلا أخيرا، وما حدث من شهرة لبعضهم كان بالجهود الفردية، وبطريقة الجزر المعزولة وكل حسب درجته وقربه من المؤسسات الثقافية، وربما جعلهم هذا التهميش يلوذون ببعضهم، فكونوا ما يسمى بالجيل، أو بالكتلة، ثم حدث بعد ذلك الخروج الفردي، ولذلك ظل الحنين الى الماضي شيء جميل بالنسبة لهم، ومنهم من هو انتهازي ومنهم من ظل على مبدئه، ومنهم من تأثر بفكرة المعتقل سواء دخله أم لا، فتحولاتهم مرتبطة بتحولات المجتمع المصري كله.

ويشير أبورية إلى أن هذا الجيل ينتمي بأكمله الى الطبقات الفقيرة، فمنهم من ذهب للعمل في السد العالي، ومنهم من جاء هاربا من قريته في أقصى مصر بلا عمل، ومنهم من لم يكمل تعليمه ومنهم من عمل في النسيج، وهو ما لم يحدث في تاريخ مصر مع جيل أدبي، وهذا باعتقاده احدى تجليات الفترة الناصرية، وهو ما لم يتكرر بعد ذلك، فنحن ندخل الآن على مرحلة أولاد المنعمين وأصبح الفقراء يسمون بالمهمشين تأدبا، مؤكدا ان جيل الستينيات اذا كان اختلف مع الناصرية فهم رغم ذلك ابناء هذا المشروع بتحولاته وانقلاباته وان خلت كتاباتهم من التهليل والهتاف والتبشير للناصرية، هم ضحية من ضحايا الهزيمة.

ويعتقد أبورية ان سيطرة جيل الستينيات على المؤسسات والمناصب أمر طبيعي، فمصر تعاني بشكل عام من سلطة شائخة، فهم يعاملون من قبل المؤسسة على انهم كتاب شباب رغم انهم ودعوا هذه الكلمة من زمن على المستوى البيولوجي، مؤكدا ان التعميم في اتهامهم بالارتماء في حضن السلطة ليس صحيحا، فمن جيل الستينيات من وصل الى سن المعاش ويكتب مقالا ليزود دخله ومنهم من يرفض الجوائز، ومنهم من سيطرت عليه المؤسسة ويأكل على كل الموائد من القومية الى الناصرية الى الحكومة، ومنهم من تحول من شاعر يردد أشعاره الطلبة الى النقيض، ومنهم من تخلى تماما ورفض فكرة انه كان يوما يساريا، وبعضهم له في كل مقام مقال، وشيء طبيعي ان يكون هناك صف ثان وثالث، ومشكلتهم ان الاجيال السابقة عليهم قهرتهم فقهروا من تلاهم، وهذا منطق الأمة العربية كلها.

والمزعج في أمر جيل الستينيات كما يلاحظه أبورية هو رفضهم وانكارهم لأهمية أدب الجيل اللاحق عليه مباشرة، مع انهم اعترفوا بأدب أجيال لم تتحقق بعد لتظل هناك حلقة ناقصة مع ان هذا الجيل اللاحق لا يقل تأثيرا ـ والكلام لأبورية ـ عما أنجزه جيل الستينيات، ولكن يبدو انهم يبحثون عن مريدين وهو ما يقبله الأصغر سنا، ولا يقبلها من لا يقبل الوصاية، وليس معنى ان السادات اطلق الفساد وان عصره كان فاسدا ان يحمل جيل السبعينيات في مصر سمات هذا العصر، بل ان جيل السبعينيات نشأ في ظروف أصعب، ووجد ان آباءه قد شرختهم السياسة وهاجروا ولا توجد أية منابر للنشر.

*حكم الخبرة والسن

* وتبدأ الناقدة شيرين أبوالنجا بقولها: أنا ضد الاتهامات الموجهة الى جيل الستينيات، لأني لا أفهم كيف بعد 30 عاما نبدأ في توجيه اتهامات لجيل كان جميعه جيل رواد، وكانوا جزءا من السياق الحادث في ذلك الزمن، تماما كما نحن نشكل جزءا الآن من السياق الذي يحدث في هذا الوقت، والسياق اختلف حتما، ولو اننا لنا تحفظات عليهم الآن، فلا بد أن نفكر في البداية في الفترة الزمنية التي نشأوا فيها، واعتقد اننا لو كنا في زمانهم لفعلنا مثلما فعلوا.

وتعتقد شيرين أبوالنجا ان السياسة لم تصنع جيل الستينيات، لكن كانت على أيامهم سياسة حقيقية، «كل شيء كان حقيقيا، حتى المعارك الأدبية»، مشيرة الى انها تتمنى لو عاشت تلك الفترة وان تكون جزءا من الحركة الطلابية في السبعينيات، «في أي وقت إلا الآن لأنه الأسوأ».

وتشير أبوالنجا إلى ان سيطرة جيل الستينيات على الحركة الثقافية الآن في مصر، من مؤسسات ومجلات بحكم الخبرة والسن، مطالبة بألا يتم النظر الى الحركة الثقافية من خلال المناصب، لأن المناصب لا تصنع مبدعا بالتأكيد.

وتقول شيرين أبوالنجا إن الحركة النقدية في الستينيات لم تكن بالثراء النقدي الحادث الآن، لكن نقاد الستينيات علموا الاجيال التالية، بالاضافة الى ان في جيل الستينيات اسماء لا يمكن اغفالها مثل علي الراعي وعبد القادر القط وغيرهما، حتى ولو كانت لنا ملاحظات عليهما، وليس معنى أني تطورت نقديا أو اختلفت ان اتهم من هم قبلي بالقدم، وعدم التطور، بل يجب النظر إليهم في سياق عصرهم.

وتضيف أبوالنجا اذا كان البعض يتهم جيل الستينيات بأنه جيل النكسة، فأي جيل نحن اذن، نحن جيل اللاشيء، الجيل الذي بلا مؤسسات ثقافية، ولا حركة نقدية، ولا جماعة أدبية.

وترفض أبوالنجا فكرة المجايلة مؤكدة انها فكرة غير حقيقية، وممثلة بالكاتبة بهيجة حسين التي تنتمي الى جيل السبعينيات، ورغم ذلك أصدرت أعمالها في فترة التسعينيات وهو ما أوقعها بين الجيلين مؤكدة ان الابداع الحقيقي هو الفيصل في النهاية.

* تأصيل المدارس الأدبية

* وتعتقد الشاعرة والروائية هدى حسين ان أهم ما حققه جيل الستينيات هو تأصيل فكرة المدارس الأدبية، وترسيخها بحيث أنها صارت مثل أبنية متينة ويكاد المرء يقول مكتملة، وهذه ميزة عظيمة، لأن وجود أبنية بهذا الاكتمال يثير إرادة الاجيال التالية تجاه هدمها.

وتظن حسين أن اكتمال الأفكار حول المدارس الأدبية مع الستينيات ساعد السبعينيين، بالإضافة الى نكسة يونيو (حزيران) وظهور حركة مايو 68 في النبش حول الافكار المكتملة بهدف التشكيك فيها، هذا التشكيك الذي جاء على استحياء، ويمكن ان نراه في الكتابات السبعينية من خلال محاولة للخروج من عباءة الآباء مع الاعتراف بأبوتهم، وبالتالي الخروج عنهم بخوف، وبدون معرفة الخروج الى أين، وهذا الخروج قد اكتمل الآن مع الثمانينيات والتسعينيات بحيث أننا بحاجة الى هدم آخر الآن.

ولا تعرف هدى حسين ان كانت تشعر تجاه جيل الستينيات بالأبوة أم لا، مشيرة الى انها تعتبر ان لها آباء وأمهات وأخوة وأبناء في العالم كله فهي تعتبر مثلا ان ألفريدد وفيني وجيرار من دونير فال ويحيى الطاهر عبد الله، وميشيل بيتور، وآني ارنو، ومارغريت دوراس ونوال السعداوي وسلوى بكر وأمل دنقل وتوفيق الحكيم وأبوالقاسم الشابي وغيرهم الكثير آباؤها وأمهاتها، ولا تتحدد في ذلك بمكان ولا زمان ولا تيار أدبي وما شابه، بل عبر ما تشعر به تجاه كتاباتهم من أنها ورثت شيئا منهم، أو تحب ان تكون ورثت شيئا منهم كما تقول.

وتضيف حسين: ويمتد آبائي وأمهاتي الى متون الاهرام وحكايات البغبغان، بل والى حضارة المايا أيضا، ولهذا فأنا لا أشعر بأبوة جيل محدد لي، وبصراحة كنت أتمنى ان أكون موجودة في العصر الجليدي وفي آسيا أيام بوذا وفي جبال الأوليمب وفي عهد ايزيس واوزريس، وهناك أزمنة وأمكنة كثيرة كنت أتمنى أن أكون فيها، كنت أتمنى مثلا أن أكون موجودة في اسبانيا قبل الفتح الاسلامي، وفي مصر القبطية وفي عهد مارتن لوثر، أما عن جيل الستينيات فأعتقد أني كنت أتمنى فقط أن أكون حاضرة أثناء مايو 1968 وفي مظاهرات الطلبة سنة 72.

وتعتقد حسين أن السياسة كان لها دخل كبير في أغلب أعمال هذا الجيل، فقد كان الأدب والتاريخ والسياسة كأنما خرجت من بطن أم واحدة، مشيرة الى ان موضوع ركوب السياسة للأدب موضوع يحدث في كل الفترات التي تكون فيها حروب استقلال ضد استعمار ما، وهذا أمر طبيعي، غير الطبيعي ان نرثه، وكأنما لو لم نكتب أدبا ملتهب العواطف الوطنية يتم نعتنا باللامنتمين وغير الوطنيين، وأننا ليس لنا قضية كبرى وأننا تطبيعيون ولا أخلاقيون، فالآن هناك الكثير من القضايا وليس قضية واحدة، ثم ان الأدب الميكروفوني لم يعد له وجود تقريبا، ونحن أبناء اللحظة الفلسفية الذهنية الذاتية الهامسة أكثر من أبناء اللحظة الشعبية الجماهيرية، وكلنا نعرف الآن انه لم تعد هناك قصيدة تحدث ثورة، والكل لاه في أكل العيش.

وتشير حسين في نهاية كلامها الى أنها ليس لها انتقادات على جيل الستينيات، كما أنها ليس عندها أية انتقادات على أي جيل، لأننا اذا تحدثنا عن أجيال أصلا فإننا بالدرجة الأولى عن علاقة الأدب بالتاريخ الذي نشأ في زمنه والسياق الاجتماعي والسياسي الذي أحاط به، وكل جيل بالتالي هو انجاز منه.

كل ما ترجوه هدى هو «أن يتركنا الجميع بدون أن يرغبوا في أن يجعلونا أبناء أزمانهم هم، هذا إن كانوا مصرّين على تصنيفة الأجيال هذه».

.../...
 
3/3

في هذه الحلقة يتكثف الجدل حول جيل الستينات في مصر.. فيربط الناقد فاروق عبد القادر انقلاب بعض رموز هذا الجيل على أنفسهم بالانقلابات السياسية المباغتة والتي برزت على نحو خاص في عصر السادات.

ويتهم الروائى محمد جبريل ـ الذي ينضوي تحت راية هذا الجيل ـ الستينيين بالشللية ورفض الآخر المغاير لهم، والاستعلاء على أي منطق للتواصل معه. وتؤكد الكاتبة بهيجة حسين على خطأ النظر إلى الستينات ككتلة وترى أن محاكمتهم الحقيقية تبدأ من داخل ابداعهم، وهو ما يشير إليه الروائي الشاب خالد اسماعيل حيث يرى أنه من الصعب وضع الستينات في سلة واحدة، ويغمز إلى أنه جيل هروبي يتحاشى المواجهة والصدام طالما ستضر بمصالحه، ويدلل على ذلك بهروب الكثير من رموزه خارج مصر في عصر السادات.. ويتفق معه إلى حد كبير القاص الشاب الطاهر الشرقاوي حيث يرى أنه جيل متقلِّب استطاع أن يتكيف مع لحظات الصعود والانكسار التي اعترت الآيديولوجية السياسية للنظام المصري، لذلك ينصب هذا الجيل نفسه حارساً على البوابة الثقافية في مصر، ويتوهم أنه وحده القادر على منح صكوك العبور من خلالها.. وفيما يلي الحلقة الأخيرة من التحقيق:

يبدأ الناقد فاروق عبد القادر قائلاً إن جيل الستينات تفتح وعيه على ثورة يوليو، وكان دون الوعي فيما يتعلق بالنظام السابق على الثورة، فجاء في الفترة التي تحقق فيها قدر كبير من أحلام الجيل السابق له مباشرة والذي يشار له بجيل 46 والذي لما قامت الثورة كان ناضجاً وعلى درجة من الوعي تمكنه من أن يكون أكثر فهماً للأحداث وأكثر تعاملاً معها ولم يتفتح وعي جيل الستينات إلا على فترة الزهو والصعود بدءاً من أحداث 54 والتي بدأ فيها عبد الناصر يمسك بزمام الأمور بأيد قوية وبدأ يعيد صياغة الواقع بجوانبه الواقعية والاقتصادية والسياسية، هذه الفترة التي استمرت إلى نهاية الخمسينات وبداية الستينات وتحققت فيها كثير من أحلام هذا الجيل، والتي بناها وناضل من أجلها الجيل السابق عليه بعد تحقق الاستقلال مثل القضاء على الاقطاع، وضرب قواعد الرأسمالية وتحديد الملكية، ولكن يبدو أن الدودة في أصل الشجرة كما يقولون فلم تستمر هذه الصحوة التي بلغت ذروتها في سنة 59 وانتهت في سنوات الستينات الأولى بفشل الاتحاد مع سورية، وهو ما وجه ضربة قوية لشعبية عبد الناصر وللمجد الجارف له في العالم العربي، بالاضافة إلى الصراعات التي احتدت داخل مجموعة يوليو، وظل هذا الواقع يتردى، وتزداد التناقضات حتى بلغت أوجها في هزيمة 1967 والتي كانت هي الرحم الحقيقي الذي خرج منه جيل الستينات، مشيراً إلى أن هذه الهزيمة لم تكن فادحة أو فاضحة على المستوى العسكري فقط، بل كانت هزيمة للجيل الذي تفتح وعيه على مرحلة الزهو والصعود والبناء، وهو جيل الستينات.

ويؤكد عبد القادر أن الصراعات الموجودة في ذلك الوقت والهزيمة الحاصلة انعكست وبقوة على كتابات ذلك الجيل، وحتى الكتاب الكبار الذين عانوا هذه الفترة ظهرت في أعمالهم فعند نجيب محفوظ مثلاً ابتداء من «اللص والكلاب» وانتهاء بـ«ميرامار» والتي ظهرت قبل النكسة بشهرين.

وقد أحس المثقف المصري عموماً مهما كان سنه بأنه مهان ومسؤول، عن مجمل هذه الظروف، وظهر تيار الستينات في التعبير الأدبي، هذا التيار ينظر للماضي بغضب وبسخط ولا يثق بالحاضر ولا يبدو له أفق في المستقبل، وبالتالي كان عليه أن يكتب أدباً يعبر عن هذا كله.

ويشير عبد القادر إلى أن هذا التيار لم يكن مقتصراً على مصر وحدها بل له أشباه ونظائر في الشام وفي العراق، كما أن هذا الجيل تجسد أكثر ما تجسد في القصة القصيرة وفي الشعر، مشيراً إلى أن هذا الجيل كان يمثل موجة عفية وقوية احتملت زبداً كثيراً، واستطاعت أن ترفع أسماء وأعمالاً قد لا يكون لها نفس الحجم والتأثير، بالاضافة إلى ضياع بعض الأسماء وتوقف بعضها، وشاء قدر عابث لا حيلة لأحد في رده أن يفقد هذا الجيل اثنين من ألمع رموزه هما يحيى الطاهر عبد الله ثم أمل دنقل، بالاضافة إلى محمود دياب، وتميز هذا الجيل بأنه ضرب برموزه في شتى الأراضي التي تخايلت لعيونهم من تناول الواقع لتناول الأسطورة وكانوا جماعة وفرادى.

ويرى عبد القادر أن انقلاب بعض رموز جيل الستينات على تاريخهم بدأ مع انقلاب السادات نفسه وبدئه ما يسمى الانفتاح، ومفاوضات الكيلو 101، وزيارة القدس، وكامب ديفيد، ودخوله في مرحلة جديدة فلم يعد بين أبناء الستينات ما يجمع بينهم، ومنهم من ركب الموجة، ومنهم من رفض، ومنهم من تم استغلاله، لأن السادات عمل على خلق واجهة بديلة بداية ببيان توفيق الحكيم 1972 واغلاق مجلتي «الكاتب» و«الطليعة»، وهو ما عكسته ادوار يوسف السباعي وصالح جودت وعبد الرحمن الشرقاوي في مرحلته الأخيرة، ورشاد رشدي، وأعلن السادات في ذلك الحين أن 99% من أوراق اللعبة في يد أميركا. لكن أقل القليل من هذا الجيل ظل محافظاً على ما كان عليه والتزم بالقيم، والتزم بالدور المستقل والفاعل لمصر في محيطها العربي.

* الوقوف على جثث الآخرين

* أما الروائى محمد جبريل فهو يعتقد أن تجربته مع جيل الستينات لم تكن جيدة، ويقول: «حاولت أن احتفظ بتماسكي في هذا الجيل من خلال الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات بيني وبين بعض أبنائه، لأن عدداً كبيراً منهم يتصورون أن الصراع ليس على تجويد الابداع وانما في الخصومات الشخصية، وأنا لا أجيد مثل هذا النوع، ومن هنا كان عزوفي عنه وحرصي على القراءة والتأمل، وربما من أعنيهم ليسوا كثيرين، لكنهم موجودون، ولهم تأثيرهم الذي يصعب أن يغفل، ولعل حوادث مقهى ريش وما كان يحدث فيها من خلافات والغمز واللمز والشللية ورفض الآخر والتعتيم عليه وحجب الرأي الجيد والتبرع بالرأي السيئ، والوقوف على جثث الآخرين وتصفية الحسابات، وكل الصفات التي يمكن أن نقولها في هذا السياق، كل ذلك يكشف سمات هذا الجيل.

ويضيف جبريل أنه لكل هذه الأسباب، وكل هذه الصفات التي يرفضها كان حريصاً على أن يصادق الجيل الأسبق للستينيات، وهو جيل الأربعينات وأصدر عنهم كتاب «آباء الستينات» ويصفه بأنه جيل لم تكن لديه عقد لأنه جيل حقق نفسه فلا توجد لديه الرغبة العنيفة في الوصول ولا حذف الآخرين، وانما كان همه التواصل.

ورغم اختلافه مع جيل الستينات، إلا أن جبريل يرفض وصف جيل الستينات بجيل الهزيمة معللاً ذلك بأنه جيل لم تصنعه الهزيمة، لأنها جاءت وهو موجود، وكان الجيل يتجه على مستوى الأمنيات والسياسة الى معايشة المشروع القومي الذي طرحه عبد الناصر، لكن جاءت النكسة فمثلت هزة عنيفة له، وهو ما لا يعيب الأديب.

ويشير جبريل إلى أن الأديب الذي لا يحمل هماً سياسياً لا يساوي شيئاً فيوسف ادريس صنعته السياسة في الخمسينات، ونجيب محفوظ كذلك في الأربعينات، حتى محمد عبد الحليم عبد الله الذي يصفه النقاد بأنه كاتب رومانسي تأثر بالسياسة في «سكون للعاصفة»، ولا يوجد جيل أدبي لم تؤثر فيه السياسة بشكل أدبي أو بآخر، وحتى جيل الرواد طه حسين ومحمد فريد أبو حديد، وابراهيم عبد القادر المازني كان مهموماً سياسياً ولم يحقق الاستنارة إلا من خلال تأمله الخاص.

* كل الأجيال مهمشة

* وترفض الروائية بهيجة حسين التعامل مع جيل الستينات ككتلة لأن هناك سمات فردية محددة لكل مبدع في هذا الجيل، وبرغم أن العطاء يكاد يكون عاماً وهو ما يجعلنا لا نستطيع التعامل بمعيار واحد مع هذا الجيل وأي جيل آخر.

وترى حسين أن الاغتراب أو الابتعاد عن السلطة سمة كل الأجيال فلا يوجد جيل يجلس بكامله على حجر السلطة، أو جيل يبتعد كل البعد عنه ملمحة إلى أنها ضد مقولة إن قرب جيل من السلطة قد يحجب إبداع جيل آخر، خاصة أن مصر تمر بأسوأ أوضاعها الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الآن، فكل الأجيال مهمشة وهناك خطة لإبعاد العناصر الجيدة، وحجب القدرة على التنافس لا يوجد شيء عفوي، أو يحدث بالصدفة، وانما يبدو أن هناك برنامجاً معداً لالغاء الذائقة الفنية والنقدية والاجتماعية لجميع المثقفين منبهة إلى أنه لا يهمها كثيراً اقتراب جيل الستينات أو ابتعاده من السلطة انما ما يهمها حقيقة هو ما يقدمونه باعتبارهم مبدعين يدافعون عن قضايا العدل والحرية والجمال، لكنها لا تستطيع أن تتهمهم بشيء.

وترى بهيجة حسين أنه قبل أن تتحدث عن جيل الستينات كأدباء أو كسياسيين أو كمؤسسين لمنظومة أخلاقية يجب أن نعود إلى مناخ وظروف الستينات التي شهدت أزهى عمليات البناء السياسي والثقافي، منبهة إلى أن هذه الفترة شكلت عمرها ووجدانها ووعيها على كل المستويات (الأخلاقي، والسياسي، والثقافي، والتذوق الأدبي) لأن الأحداث الكبرى وفوران العمل النضالي يترك بصماته كما يترك الأوكسجين أثره ونحن نتنفس.

وتقول حسين إن سبب ازدهار جيل الستينات أنه شهد ثورات حقيقية، بالاضافة إلى أن الأخبار العالمية كانت كذلك من استقلال الجزائر إلى نضال شعب فيتنام، وأحداث كوبا، وتوهج جيفارا كما أن هذه الفترة شهدت آخر ما تبقى من من ليبرالية الأربعينات وكان هذا في لغة الناس.

وتضيف بهيجة حسين أن النقلة الحقيقية في تاريخ جيل الستينات حدثت بعد هزيمة 1967 واستيقاظهم على حقيقة النكسة المفزعة، فهم الذين حملوا على أكتافهم كارثة النكسة كما أنهم هم الذين تشكل وجدانهم مع الانتصارات الكبرى، لافتة إلى أنها تعلمت منهم الكثير، وأهم ما تعلمته منهم المسؤولية، ان الأدب مسؤولية وان الدفاع عن الناس وعن الوطن مسؤولية، وهو ما استمر معهم حتى الآن فبهاء طاهر رغم أنه كتب روايته «الحب في المنفى» في التسعينات إلا أن هذه الرسالة الكبرى تتخللها تماماً، فالأدب رسالة كبرى وليس مجرد تهويمات وكذلك جميل عطية ابراهيم الذي يؤكد في كتاباته التاريخية على نفس المعنى.

* مع النظام في وجه الإرهاب

* الروائي والقاص خالد إسماعيل يقول إنه لا يمكن وضع جيل الستينات كله في سلة واحدة، لأن البارزين من أفراده ـ الموهوبين المشهورين ـ لهم قصص صعود متباينة الظروف والأسباب، فعلى سبيل المثال ابراهيم أصلان يختلف ابداعه ومشواره في الحياة عن الجميع، ولكن الذي حدث هو وجود صوت يساري تنظيمي استطاع أن يجعل من هذه الجماعة الكاتبة تشكل ورقة ضغط وعندما انهار النظام الناصري ـ الذي اعتمد على بعضهم في بناء منظومته الثقافية ـ هرب قطاع كبير من هؤلاء الذين يحملون خصائص الانسان الستيني.

ويضيف اسماعيل انه بقي بعد هذا فريق آخر مثل عبد العال الحمامصي ومحمد مستجاب، وهذان بالذات ظهرا في فترة الفراغ التي خلقها هروب اليساريين إلى بغداد وبيروت والعواصم العربية الرافضة لاتفاقية كامب ديفيد الأولى أو الصلح الانفرادي الذي وقعه أنور السادات، وبقي قطاع ثالث، ظهرت أهميته مع تنامي أصوات القنابل التي فجرها الاسلاميون، مثال بهاء طاهر والدكتور جابر عصفور ومحمود أمين العالم، لأن الصيغة التي نجح في فرضها تقول «من ليس مع النظام فهو مع قوى الظلام».

ويشير اسماعيل إلى أن المثقفين العلمانيين اختاروا الوقوف بجوار النظام في معركته ضد الارهاب، وبمجرد أن سكتت القنابل، استغنى النظام عن حالة التسامح التي اتسم بها سلوكه طوال فترة المعركة، وكان مهندس هذه العملية وزير الثقافة فاروق حسني وأعضاء لجان المجلس الأعلى للثقافة.

* حراس البوابة الثقافية

* القاص الشاب الطاهر شرقاوي يقول إنه بعيداً عن اتفاقنا أو اختلافنا حول مصطلح «جيل» سيظل الستينيون ونقصد بهم أولئك الذين بدأوا في نشر كتاباتهم في فترة الستينات، في وقت كانت فيه القومية العربية في أوج ازدهارها، وكان الاستعمار «بمفهومه الكلاسيكي» يضع عصاه على كتفه ويرحل من حيث أتى، سيظل هؤلاء الستينيون محل جدل ونقاش، بين من يرى أنهم مجددون وأنهم أحدثوا نقلة هامة في تاريخ الكتابة العربية وبين من يعتبر أنهم نتاج طبيعي للآيديولوجيات السياسية الصاعدة، والتي كانت تعج بها المنطقة في تلك الفترة ورغم سقوط هذه الآيديولوجيات وانحسار بعضها، كالشيوعية والقومية العربية ـ التطبيق لا النظرية ـ ورغم أنهم عايشوا فترات الصعود والانكسار والأحلام الكبرى والوحدات العربية والأحلاف العسكرية وغيرها ـ والكلام ما زال لشرقاوي ـ بقي الستينيون صامدين، يقاومون الزمن وتقلبات السياسة من الاشتراكية إلى الانفتاح حتى الخصخصة والاستعمار الجديد متصدرين في كل تلك الحالات الواجهة، وقابضين على رقبة المؤسسات الثقافية وما نحين لأنفسهم جوائزها فهم الفائزون والمحكمون أيضاً، مستمتعين في نفس الوقت باقامة جيتو يضمهم معاً (كتاباً ونقاداً)، متجاهلين عمداً أو سهواً أكثر من ثلاثة عقود تالية لهم إلا فيما ندر.

ويؤكد شرقاوي أن جيل الستينات ينصب نفسه حارساً على البوابة الثقافية والتي لا بد لأي مبدع أن يمر من خلالها وعن طريقها، ملمحاً إلى أن كل هذا لا ينفي ان الأجيال التالية استفادت من كتاباتهم كما استفادت من الأجيال التي جاءت من قبلهم، ومن بعدهم، ومن سيأتي فيما بعد أيضاً.

* رحيل عبد الناصر كان بمثابة «موت الأب» لجيل الستينات

* نشأ جيل الستينات في مصر في فترة مد قومي وعروبي، وكانت فيها مصر مؤثرة على مجريات الأمور في العالم العربي، ومن هنا لا يمكن عند الحديث عن تجربة جيل الستينات إغفال أثر التجربة الناصرية عليهم، وعلى تكوينهم وعلى أفكارهم، وعلى مستقبلهم فيما بعد أيضا، هذا الأثر الذين يبدو لي ملتبسا، ففي الوقت الذي كان فيه ازدهار مسرحي، وازدهار ثقافي، ونقدي، وعداء للصهيونية، وبناء في جميع مناحي المجتمع، وهو ما كان يتفق عليه جميع أبناء جيل الستينات، وأبناء التجربة الناصرية، الا انه كانت هناك معارضة في بعض الأمور مثل تجربة التأميم في سورية والوحدة المصرية ـ السورية لأن عبد الناصر كان يسعى للوحدة الدمجية، بينما كنا نحن ـ المثقفون اليساريون ـ نرى الا تتم الوحدة بشكل اندماجي ولكن بشكل فيدرالي مع استقلالية مسموحة لكل بلد، كان هناك صراع اذن بين أبناء هذا الجيل، وبين بعض أفكار جمال عبد الناصر، وهو ما فتح أبواب المعتقلات أمامهم، فقلما نجد كاتبا من جيل الستينات لم يدخل المعتقل أو لم يعش هذه التجربة، وهو ما تبدى بالتالي في كتاباتهم مثل صنع الله ابراهيم على سبيل المثال التي كانت أولى رواياته كذلك.

ثم جاءت هزيمة 1967 والتي غيرت الموقف تماما، وكان لها أشد الأثر على المثقفين وعلى جيل الستينات بالتالي الذي كان في بداياته لا يزال يحلم بمستقبل أفضل، ويسمع الأغنيات التي تتغنى بالثورة والحلم والقومية ويشاهد انجازات الثورة، هذه النكسة لم تكن هزيمة عسكرية فقط، ولا هزيمة للسلطة السياسية فقط، بل كانت هزيمة لأبناء هذا الجيل الذين رأوا حلمهم ينهار أمام أعينهم، وهو ما أدى الى عزلتهم وانخراطهم في كتابات جاءت متشائمة.

ولكن مع هذا تكشف هذه الهزيمة عن علاقة عبد الناصر بكتاب هذه الفترة وتقديره لهم، فقد اتصل بي عبد الناصر شخصيا قبل النكسة بيومين، وقال لي إن العدوان سيقع بعد يومين ويجب أن تسافر الى فرنسا مع لطفي الخولي للتأثير في الرأي العام الفرنسي، اذ كان عبد الناصر يؤمن بالثقافة والمثقفين، وربما زاد هذا الايمان بعد النكسة وبعد أن أدرك أن كل تحذيراتهم له صائبة.

لم يولد جيل الستينات من رحم الهزيمة، ولكنه شعر أن الهزيمة هزيمته انه هزم من الداخل، فبدأ في المقاومة وكان هذا على جميع المستويات حتى الجيش بدأ بعد الهزيمة ينشط وبدأت مرحلة حرب الاستنزاف، وتدمير المدمرة ايلات وغيرها، الهزيمة فجرت في المجتمع وبما فيه جيل الستينات روح التحدي والمقاومة، ولعل الاشعار والمسرحيات والقصص التي كتبت أثناء ذلك تتحدث عن ذلك.

وأعتقد أن النقطة الفاصلة في تاريخ جيل الستينات لم تكن هزيمة 1967، وانما كانت موت عبد الناصر، والذي مثل لهم موت الأب، وهدم الحلم الذي كان يبنيه خاصة ان ابناء هذا الجيل لم يكونوا ضد عبد الناصر رغم انهم سجنوا في عصره، كانوا يؤيدون عبد الناصر، لكنهم ينتقدونه في كتاباتهم. وفي كتابات صنع الله ابراهيم انتقادات لتجربة السد العالي رغم أننا نفخر بهذه التجربة، كان كتاب الستينات مع التوجه الاشتراكي العام، لكنهم ضد المعالجة المتبعة، وهذا يتضح في كتابات جمال الغيطاني ـ خاصة «الزيني بركات» ـ الذي يرفض الوضع الفوقي اللاديمقراطي، وأنا شخصيا كنت أضرب في السجن لكن لا استطيع أن اشتم في الوقت ذاته عبد الناصر، لأنني لست ضد التوجهات، لكن ضد طريقة التنفيذ، الى أن جاءت حركة السادات فأجهضت حركة المقاومة. مرحلة عبد الناصر هي أرقى مرحلة في تاريخ مصر بشعاراتها، بآلامها، بانتصاراتها، صنعت ثقافة حقيقية، وصنعت جيلا نتناقش حوله الآن، لكن ما حدث بموت عبد الناصر من انقلاب في الاتجاه الديمقراطي النقدي، وارتباط الاتجاه السياسي بـ «99% من أوراق اللعبة في يد اميركا» كما قال السادات، كل هذا جعل بعض أبناء جيل الستينات يتحولون، وربما ينقلبون على ماضيهم.

أهم ملامح كتابة جيل الستينات في تصوري الاهتمام بالعمق الاجتماعي الكبير حسب تنوعهم فمنهج ابراهيم اصلان في هذا الصدد، يختلف عن منهج محمد البساطي يختلف عن منهج جميل عطية ابراهيم. أيضا هناك الرؤية المختلفة للأمور عن الرؤية التي كانت سائدة في كتابات طه حسين والعقاد ومحمد عبد الحليم عبد الله، وغيرهم. أيضا هناك الروح النقدية العميقة التي تميز كتابات أبناء هذا الجيل، والرؤية المستقبلية، واللغة التي لم تعد مجرد لغة سردية وجمالية بالمعنى العادي، والبنية الروائية المختلفة من شخص لآخر، بل أصبحت هناك أبنية متعددة، جديدة مختلفة والآن اذا نظرنا الى هذا الأدب سنجده يترجم الى جميع اللغات الأوروبية وهو ما يكشف عن أهميته التي لا تقل عن أهمية الرواية الاميركية الجنوبية في مستواها الجمالي.

وعموما فلا استطيع أن أقول إن لي انتقادات عليهم، قد تكون هناك انتقادات على البنية الداخلية في بعض الأعمال، ولكن أعتقد أنهم يتناسلون بشكل أفضل، فجمال الغيطاني الآن أفضل بكثير مما كان عليه، وصنع الله ابراهيم الآن أفضل.

وأعتقد أن انقلاب بعض أبناء هذا الجيل على تاريخهم، وعلى ماضيهم يرجع الى الواقع الذي نعيشه، والى الميوعة الليبرالية التي نعيشها، والأقرب الى البلاء، لكن مع ذلك فالجيل كله لا يزال يسارياً لأن هناك فرقا بين أن تكون يساريا، وان تكون مناضلا. اليسار الذي أقصده بمعنى النقد الاجتماعي وتجاوز الواقع، وأحيانا تعبر مواقف جيل الستينات الآن عن امزجتهم اليسارية أو العكس.

وعموما فالرواية في مصر كلها انطلاقا من جيل الستينات وحتى الآن رواية يسارية لأنها تعبر عن النقد الاجتماعي، وحتى غنائية ادوار الخراط في الخمسينات كذلك، بل ان الأدب العربي كله الآن يساري، لأنه أدب تجاوزي متطلع للأفضل، يجدد في الرؤية ويدق على الأبواب من أجل المستقبل.

ووجود مواقف لبعض أبناء جيل الستينات فيها مهادنة للحكومة لا تعني موافقتهم على ذلك، فأنا مثلا عضو في لجنة الفلسفة التابعة للمجلس الأعلى للثقافة، لكنني لست موظفا، وأنا ماركسي شيوعي، والجميع يعرف هذا، ومواقفي تختف مع توجهات وزارة الثقافة وتوجهات المجلس، وعندما رفض صنع الله ابراهيم جائزة الرواية وكنت أحد المحكمين الواقفين على خشبة المسرح، كنت أول المصفقين له، وهذا الموقف موقف صنع الله، يكشف ان هذا الجيل لا يزال يحافظ على يساريته ويرفض مهادنة الحكومة، والوجود في الهيئات الحكومية لا يعني الموافقة على ما تفعله الحكومة، لكن يجب ألا نترك لها المجال، وأزعم ان الموقف العام لأبناء جيل الستينات هو الأقرب الى النقد العميق الكلي والجذري، وليس كل أبناء جيل الستينات يسيطرون على المؤسسات الثقافية، فهناك من لا يعمل في المؤسسة مثل محمد البساطي، واذا كان الأمر صحيحا انهم يسيطرون فأعتقد أن هذا بحكم الخبرة والسن، وأرى انهم جديرون بقيادة الحلم اليساري الثوري.
 
أعلى