عباس الجراري - وجود المغرب الحضاري في العصر الجاهلي

من بين قضايانا التاريخية والفكرية، تبدو قصة مغرب ما قبل الإسلام ذات أهمية كبيرة، لما صادق هذا المغرب عند المؤرخين المغاربة والمسلمين عامة من إهمال يكاد أن يكون تاما والسبب في هذا الإهمال راجع إلى الفكرة التي انطلقوا منها في التاريخ له والتي وهموا فيها أنه ولد مع الفتح الإسلامي، وأنه لم يكن له من قبل أي وجود فكان أن أعرضوا عن تلك الفترة، وغدا التاريخ عندهم بالنسبة للمغرب لا يبدأ إلا مع الفتح.
وعلى الرغم من أننا لا نشك في أن الإسلام أعاد خلق المغرب، وغير مجرى الحياة فيه وفتح له آفاق حضارة وثقافة جديدتين، وجعله في نطاق هذه الآفاق يتحمل رسالة نهض بها خلال التاريخ وما زال، فإن وهم المؤرخين في فكرتهم يبدوا سافرا لمن يطالع في أبحاث الدارسين من الأجانب، فيتعرف إلى تاريخ المغرب في المرحلة السابقة على الإسلام، ويجده حافلا بالأحداث وملامح الحياة، وبما يجعله يستحق أن ينظر فيه ويعنى به، على الرغم مما يكتنفه من غموض واضطراب يعزيان إلى عدم تطور هذا التاريخ في خط طبيعي وباطراد، إذ تعرض لانتكاسات ساهمت في خلق فجوات تمثلها الحلقات المفقودة التي تصادف باستمرار، ونحن نتتبع تاريخنا القديم وما تعرض له من تغيرات حضارية وثقافية تحمل معها من الغموض والإبهام بقدر ما يكون فيها من مدى وعمق.
والذي يعود إلى الدراسات التي عنيت بالمغرب القديم، يبحث عن الحياة في فترة ما قبل التاريخ 1 فإنه يصعب أن يحدد المراحل الحيوية التي مر بها الإنسان المغربي. ومن حسن الحظ أنه قد عثر في بعض المناطق على بقايا وآثار، تثبت أن المغرب عرفت نوعا من الحياة الإنسانية في هذه الفترة، لعلها أول حياة جربها البشر، وهي تدل على أن الإنسان الأول الذي ظهر في إفريقيا الشمالية هو أقدم إنسان عثر على أثر له إلى هذا اليوم، وأنه عاش منذ ثلاثمائة أو أربعمائة ألف سنة تقريبا 2 فأجزاء الجماجم الإنسانية التي اكتشفت في لكبيبات بناحية الرباط سنة1933 3، وكذلك العظام التي عثر عليها سنة 1939 في مغارة العالية بطنجة تدل على أن المغرب كان مسكونا في العصر الحجري الوسيط وفي فترات ما قبل التاريخ. تضاف إلى ذلك الأدوات التي كشف التنقيب عنها في سيدي عبد الرحمان بناحية الدارالبيضاء، وفي مناطق أخرى من بلاد الشمال الإفريقي.
وقد تطورت هذه الأدوات خلال العصور الحجرية إلى أشكال متقنة مصقولة كالفأس مثلا وبعض الآلات الحجرية والعظيمة التي يتوسل بها لصناعات النقش والزخرفة، سواء في الطين أو على الحجارة. وقد تجلت في صناعة الحلي من أسورة وأقراط وخلاخل وقلائد. كما تجلت في “فن صنع التماثيل الشبيه بما نجده في الصحراء إذا نحن عددنا.. أصنام تابل بلات ذات الرؤوس الآدمية في الصحراء الشرقية" class="city">الشرقية 4 ” وتجلت بعد هذا في النقش على الحجارة، وفق ما تثبت الرسوم الكتابات التي كشف عنها في جنوب إقليم وهران والتي تعرف ب “الحجرات المكتوبة”، وكذلك أحجار أخرى مكتوبة كشف عنها في غير هذا الإقليم 5 .
وقد درس بعض الباحثين 6 هذه النقوش، وهي تمثل حيوانات كالجاموس القديم والفيل والايلات والأسود والفهود والزرافات والنعام وبعض الحيوانات الآهلة و “خاصة كباشا مغطاة رؤوسها بغطاء مدور الشكل يذكرنا في شيء من الغرابة بقرص كبش عمون” 7.
وغير خاف أن المغرب – كبقية بلاد الشمال الإفريقي – تسكنه منذ فجر التاريخ شعوب الأمازيغ 8 التي أطلق الرومان عليها اسم البربر 9 وكذلك اسم الموريين، في حين كان اليونان يسميهم اللوبيين Lebou وعند ابن خلدون “أن افريقش ابن قيس بن صيفى من ملوك التابعة لما غزا المغرب وافريقية وقتل الملك جرجيس وبنى المدن والامصار، وباسمه زعموا سميت افريقية، لما رأى هذا الجيل من الأعاجم وسمع رطانتهم ووعى اختلافها وتنوعها تعجب من ذلك وقال: ما أكثر بربرتكم فسموا بالبربر” 10. وعنده أن البربر “يجمعهم جذمان عظيمان وهما برنس ومادغيس ويلقب مادغيس بالابتر فلذلك يقال لشعوبه البتر ويقال لشعوب برنس البرانس، وهما معا أبنابر” 11
وقد كانت هذه الشعوب تتحدث بلهجات مختلفة تقترب جميعها من اللهجة المصرية القديمة، تنحدر مثلها من أصل واحد هو اللغات الكوشية أو الحامية، وتمت بنسب للغات السامية. كما كانت هذه الشعوب تعرف الكتابة وتتخذ لها حروف الهجاء الليبية التي لا تزال – هي نفسها أو شبيهة بها – معروفة في الجنوب عند الطوارق وتدعى: التيفناغ.
ويكاد يتفق البحث النزيه على أن هؤلاء البربر وفدوا من الجزيرة العربية ومصر في العصر الحجري، وعلى أنهم ربما اختلطوا عند وصولهم إلى بلاد الشمال الإفريقي ببعض الشعوب الأخرى التي كانت قد وصلت بدورها وافدة من أوربا عن طريق شبه الجزيرة الإيبيرية. ومثل هذا البحث يؤكد لاشك ما ذهب إليه التاريخ العربي، وخاصة عند ابن خلدون، 12 من ان البربر عرب حميريون من بنى قحطان. وهو رأي لم يقبله بعض الدارسين الغربيين الذين أرادوا أن يجعلوا البربر أقرباء للسكان القدامى لأوربا الغربية 13 . وأن يعتبروا بلادهم بالتالي أوروبية 14 وحتى الذين اعترفوا بالأرومة الإفريقية المشرقية لبلدان المغرب، لم يقولوا ذلك إلا ليضيفوا مدى قوة روابطها مع أوروبا وضرورة استمرار هذه الروابط التي تشكل جزءا من ملامح طبيعية تلك البلاد15 .
وإذا كانت الدراسات السلالية لم تقنع مثل هؤلاء الدارسين بالأصل الحقيقي للبربر، فإن البحث اللغوي كان أقدر على الإقناع، حيث انتهى إلى أن اللغة البربرية تنتسب – كما أسلفنا – للمجموعة الحامية السامية. فهي، بما يتفرع عنها من لهجات، منتشرة في أماكن متفرقة، داخل البلاد التي استقر بها البربر منذ فترة ما قبل التاريخ، أي من غرب مصر عند واحة سيوة شرقا حتى ساحل المحيط الأطلسي غربا، ومن شواطئ المتوسط شمالا حتى جنوب نهر النيجر جنوبا. ويمكن أن نميز فيها هذه الفروع الثلاثة:
1 – الزناتية: ( تاريفت) ويتكلم بها الريفيون المغاربة وسكان بعض المناطق الأطلسية والبرابرة الليبيون والتونسيون والجزائريون ما عدا القبائل.
2 – المصمودية: (تاشلحيت) ويتكلمها سكان الأطلس الغربي الكبير وسوس.
3 – الصنهاجية: (تامازيغت) ويتكلم بها رجال القبائل وسكان الأطلسي المتوسط وشرقي الأطلس الكبير وشرقي الأطلس المتوسط وناحية ملوية وطوارق الصحراء.
وقد أثبت الذين درسوا البربرية واللغات الحامية والسامية أن التشابه كبير بينها، سواء من الناحية البنيوية أو فيما يتعلق ببعض القواعد النحوية. وأثبت هؤلاء أن الشبه بين الخط الليبي والخطوط التي كانت تستعمل في شبه الجزيرة العربية يدل على مكانهم الأصلي، وأن وجود خطوط ليبية في سيناء ودلتا النيل يدل على طريق عبورهم للشمال الإفريقي من مصر.
كذلك عنى دارسون آخرون 16 بالبحث في الموسيقى البربرية القديمة، وانتهوا إلى إقرار الشبه بينها وبين الألحان في أغاني جنوب بلاد العرب.
ولم تقف الدراسات التي عنيت بأصل البربر عند حد التشكيك في هذا الأصل، بل زادت فأثارت قضية لا تخلو من بعض الأشكال والأغراض، وهي أن البيئة الجغرافية للبلاد التي يسكنها البربر أثرت في تكوين وحدات قبلية صغيرة، مفرقة حينا ومجمعة حينا آخر، وحالت بذلك دون لم شتات مختلف القبائل في أمة واحدة. وهي ظاهرة كانت في طليعة العوامل التي شجعت الدول على محاولة غزو الشمال الإفريقي.
والحقيقة أن البيئة لم تكن وحدها مسؤولة عن هذا التبعثر، فقد كان الميل الشديد إلى الحرية ورفض الخضوع بشكل بدوره عاملا على خلق كيانات صغيرة ومع ذلك، وعلى قبولنا – دليا – رأى الذين يعتبرون أن الدراسات البيئية والأتنوغرافية الفيزيقية لم تثبت أن اندماجا كبيرا تم بين البربر وبين الشعوب التي استوطنت بلادهم طوال التاريخ، فإننا نعتقد في جزم لا يدع مجالا للشك أن عنصر اللغة والدين كان قادرا في ظل الإسلام والعربية على صهر البربر في بوتقة واحدة، وأن هذا العنصر بما يترتب عنه من تكوين عقلية مغربية متميزة داخل إطاره، كان أكثر من أي عنصر آخر قادرا على الإدماج والتوحيد.
مهما يكن فإن البربر كانوا في الفترة التي نتحدث عنها، يعيشون على شكل جماعات من الرحل تنتقل بأغنامها وأبقارها سعيا وراء الكلأ، تقصد الجبال في الصيف، وتنزل في الشتاء إلى السهول، وكانت بعض شعوبهم تعيش حياة مستقرة تقوم على نظام جماعي يتجلى في اشتراكية الأرض والفلاحة والممتلكات، وخاصة في السهول – كسهل سبو مثلا – حيث الطبيعة تساعد على إقامة زراعة منتظمة ، أساسها القمح والشعير والزيتون والكروم، وتجارة منتظمة كذلك بما يفيض من الحبوب وإنتاج الزيت، وتساعد بالتالي على إنشاء أسر وقبائل في قرى صغيرة كانت تقام على الهضاب، حماية للسكان والثروة من الأخطار، وخاصة كوارث الطبيعة وهجمات الحيوانات الضارية التي كانت معروفة لهذا العهد. كالفيلة والسباع، مما جعلهم يمهرون في الصيد وصناعة آلاته وأسلحته.
وعلى الرغم من أن التاريخ الفكري لهذه الفترة يكاد أن يكون غير معروف، فإن البحث قد أثبت أن هذه الشعوب كانت متدينة إلى حد كبير، تعتقد السحر وخلود الروح 17 وتعبد النجوم والأشجار وعيون الماء وبعض الحيوانات 18، وتشكل من بعضها آلة لها حيث يحدثنا التاريخ أنه “كان لهم في القرن الأول قبل المسيح آلهة تحميهم تسمى أفريكا رأسها مغطى بجلد فيل” 19.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مثل هذا التقديس لمظاهر الطبيعة والكون كان – سواء عند البربر أو غيرهم من الشعوب التي مارسته – يقرن بألوان من الطقوس تتميز في الغالب بتراتيل أناشيد، وبرقص يعتمد إيقاعات معينة، يكاد في حركاته وحلقاته يقترب من المسرح، كما يقرن بصناعة الدمى والتماثيل واتخاذ الأقنعة والرسوم 20. وهي كلها تدل على وجود من يتوسل في تعبيره باللغة والتشكيل.
ولعل أهم ما يلاحظ الباحث في تاريخ المغرب القديم أنه تعرض كما تعرض الشمال الإفريقي كله لحضارتين كبيرتين، هما حضارة الفينيقيين وحضارة الرومان.
وقد ظهر الفينيقيون في غرب المتوسط عند منتصف القرن الثاني عشر قبل الميلاد، واستمروا في الشمال الإفريقي زهاء ألف عام. ومع ذلك فإن معلوماتنا عنهم قليلة وترجع في أغلبها إلى الفترة المتأخرة التي بدأت مع الحروب البونيقية وانتهت بانتصار الرومان. وقد وصلت معظم هذه المعلومات بواسطة مؤرخين لاتين تحدثوا عن عظمة رومة، وكذلك عن طريق مؤرخين يونان وتعد رحلة حنون Le périple d'Hannon وثيقة قرطاجنية هاة، وقد وصلتنا منها ترجمة إغريقية، وهي تلقى الأضواء على التجارة الفينيقية ومراكزها في الشمال الإفريقي 21.
ومن المعروف تاريخنا أن الفينيقين – بحثا عن أرض الغروب التي أطلق اليونان عليها هسبريس Hespéris – وصلوا إلى هذه البلاد وانشأوا فيها مراكز، وأهمها مدينة تشيمش وهي لاكيش أو ليكسوس حوالي سنة 1100 أو 1110 ق م ثم روسادير Rusaddir التي هي مليلية، وطنجى، Tingi التي هي طنجة. ومن المدن كذلك مدينة قرطاجة التي أسسوها في تونس سنة 813 – 814 ق م، ولعلها أهمها جميعا.
فهذه المراكز وغيرها تدل على أن دولة الفينيقيين كانت في أساسها تقوم على المال وتبادل التجارة بأساطيل تجوب المتوسط والأطلسي، متنقلة بين مختلف المراكز التي أقاموها أو التي كانوا يتعاملون معها. ولم يكن هذا الطابع التجاري ليصرف المغاربة عن الفلاحة، بل زاد اهتمامهم بها وبالصناعات المرتبطة بها كإنتاج الزيوت والخمور وما إليها من صناعات غذائية كتصبير الأسماك. وبلغ من تبريزهم فيها أن أحد القادة البونيقين – هو ماغون – ألف فيها كتابا من ثمانية وعشرون جزءا، تحدث فيه عن “الزراعة وتربية الماشية، بل ضبط كذلك ضبا مدققا قواعد إدارة الأملاك الريفية”22 . وقد استفاد الرومان منه وترجموه.
ولم يقف اهتمام المغاربة عند هذا الحد، ولكن تعداه إلى مجال الصناعات الثقيلة المتصلة بالسفن والأساطيل وأجهزة الموانئ، فضلا عن تطوير بعض الصناعات التي كانت معروفة لديهم من قبل، كصناعة الأسلحة والأمتعة والحلى والأقنعة وأدوات الزينة والأواني المزخرفة والصناعات الجلدية والخشبية والآلات الفلاحية.
وليس من شك في أنه كان لمثل هذه النهضة أكبر الأثر على نشر اللغة والتقاليد وكثير من مظاهر الثقافة والحضارة الفينيقية في البلاد البربرية، وهي مظاهر شرقية، مصرية وإغريقية في الغالب. فقد سجل التاريخ أن القرطاجينيين “كان لباسهم شرقيا بحتا، فكانوا يرتدون الجبة الطويلة ذات الأكمام الواسعة عامة، وكانوا يضعون على رؤوسهم القلنسوة ويلبسون معطف السفر” 23.
أما فنهم فمتأثر بالفن المصري والإغريقي ومن بين كبار فنانيهم النحات بويطوس Boéthos، وهو الذي أنشأ تمثال ايفيز.
كما أنهم عرفوا المسرح 24 على الطريقة اليونانية. وقذ ذكر البكرى أن” أعجب ما بقرجاجنة دار الملعب وهم يسمونها الطياطر، وقد بنيت أقواسا على سوارى وعليها مثلها ما أحاط بالدار، وقد صور في حيطانها جميع الحيوان وصور أصحاب جميع الصناعات، وجلعت فيه صور الرياح، فجعل صورة الصبا وجهه مستبشر، وصورة الدبور وجهة عابس.. وفيها قصر يعرف بالمعلقة مفرط العظم والعلو، أقباء معقودة طبقات كثيرة، مطل على البحر في غربيه يعرف بالطياطر، وهو الذي فيه دار الملعب المذكورة. وهو كثير الأبواب والتراويح، وهو أيضا طبقات على كل باب صورة حيوان رخام وصور جميع الصناع” 25 .
وفي مجال العبادات اتخذ الشمال الإفريقي في هذا العهد آلهة مزيجة من الآلهة البربرية والآلهة الفينيقية المتأثرة بما كان يعبد في مصر وبلاد الإغريق. وقد اشتهر من بين آلهته بعل حمون، وهي شبيه بأمون المصري وكذلك تانيت بينيبعل ومعناه وجه بعل، وكانا يشكلان في صور بشرية وتصنع لهما التماثيل. وعند اكتشاف معبدى سوسة وقرطاج عثر على أنصاب وأحجار وأواني ومحارق تثبت أن سكان المغرب الكبير – وخاصة منهم القرطاجنيين – كانوا يقدمون للآلهة قرابين بشرية وحيوانية. كذلك “عثر في معبد صياغة ( في بئر بورقبة قرب خليج الحمامات) على آلهة لها رأس لبؤة جالسة على أسد، كما عثر على أبو الهول ذي ضروع” 26
وربما ساعد على انتشار مثل هذه المظاهر الحضارية والثقافية في بلاد البربر أن الفينيقيين كانوا مستوطنين ولم يكونوا مستعمرين، يضاف إلى ذلك ما يوجد بينهم كعرب كنعانيين وبين البربر كعرب حميريين من تقارب وتشابه، خاصة في نطاق اللغة. ولقد بلغ من انتشارها أن القديس البربري أو غستان ذكر أنها في أيامه – أي في القرن الرابع الميلاد – كانت منتشرة في البوادي المغربية، كما أكد المؤرخ البيزنطي بروكوب Procope أنها كانت متداولة في القرن السادس. 27 ولاشك أن مثل هذه الظاهرة تسجل في عهدو قريبة من الفتح الإسلامي، تضاف إلى التشابه الموجود بين العربية والفينيقية لتؤكد مدى السهولة التي وجد البربر في تعلمهم للغة القرآن.
وما أن حل القرن الثالث قبل الميلاد حتى بدأت بلاد الشمال الإفريقي تتحرك في انتفاضات لإقامة إمارات مستقلة، مستغلة دخول القرطاجنيين مع الرومان في نزاعات هي التي مثلتها الحروب البونيقية فيما بعد 28 les guerres puniques والتي استمرت من 146 ق م إلى 435 ب م، فكان أن أقيمت في شمال المغرب إمارة موريطانيا وفي الداخل إمارة نوميديا Numidie.
و لكن المغرب لم يلبث بهذه الحروب أن تعرض للغزو الروماني الذي لم يستطيع أن يخضع لسيطرته غير جزء من البلاد، أما الباقي فقد ظل محافظا على نوع من الاستقلال، ويؤكد التاريخ أن الرومان حاولوا القضاء على اللغة والتقاليد الفينيقية، لدرجة أنهم دمروا مدينة قرطاجنة ومكتبتها العظيمة، وحاولوا من أجل محو الثقافة الفينيقية أن ينشئوا مدارس لتعليم اللغة اللاتينية، ولكن البربر ظلوا محتفظين باللغة الفينيقية وبلغاتهم المحلية القديمة.
على أن هذا لا ينفى أن الرومان أثروا على طبقة معينة من البربر ذات مصالح، هي الطبقة الأرستقراطية التي كانت تختلف إلى مدارسهم، وتسمى بأسمائهم، وتتكلم اللغة اللاتينية، وتعبد الآلهة الرومانية مثل مارس وهرمس وسيبريس وباخوس واسكولاب وايزيس واوزيريس ومترا. أما الطبقات الشعبية فقد ظلت تقدس الآلهة الفينيقية وأن أخفتها تحت ستار أسماء جديدة. فبعل حمون كان يعبد تحت اسم سترنس اغسطس، وتأنيت آلهتها البربرية المحلية كما كورتا ويونا وماكورفوس وماتيلا، وفيهينا وبونشور وفارسيسيما.
وعلى الرغم من استعداد المغاربة لتقبل فكرة الوحدانية، فإنهم لم يميلوا كثيرا للمسيحية التي لم تنتشر إلا عند النخبة المتعلمة في المدارس الرومانية، حيث كان التعليم يهدف إلى تكوين أطر لتسيير الإدارة المحلية باللغة اللاتينية، وكانت مناهجه تقتضى تدرج التلميذ من تعلم القراءة والكتابة والحساب إلى النحو الآداب والموسيقى والعروض والفلسفة والفلك والرياضيات. وينتقل بعد ذلك إلى مدارس أعلى كانت تؤسس في أهم المدن، وفيها يتعلم الشعر والخطابة وما يتطلبان من بلاغة وجدل وارتجال وقد ينتقل بعد ذلك إلى رومة أو غيرها من مدن الدولة المركزية لتنمية معارفه أو تولى بعض المناصب.

وقد احتفظ التاريخ بأسماء غير قليل من الأدباء والفلاسفة وعلماء الدين الذين تخرجوا في هذا التعليم من مختلف أقطار الشمال الإفريقي، وعبروا باللاتينية في الغالب، لأنها كانت لغة الفتح المستعمر، وليس الآن اللغة الوطنية كانت قاصرة كما ذهب جوليان، 29 نذكر من بينهم:
1 – دوناتوس المتوفي سنة 335 وهو مؤلف كتاب عن الروح القدس، وزعيم المذهب الدوناتي الذي ظهر في خضم الصراع الكنسى الدائر يومئذ 30 والذي ينضوى تحت لوائه كل الرافضين للسيطرة الرومانية 31.
2 – برمانيانوس صاحب كتاب ضخم في الدفاع عن الدوناتية، ومجموعة من المزامير.
3 – الأسقف أبتا الميلى الكاتوليكي، وقد اشتهر بانتقاده المذهب المذكور.
4 – تيكونيوس من المنتقد من طرف الدوناتيين “كان لائكيا ولكنه فقيه عالم أريب، نشر شرحا للجليان Apocalypse نال شهرة عظيمة، وتفسيرا للكتاب المقدس تصدى فيه بطريقة جديدة إلى النصوص وإلى أشتات من الكلام لم يعرف عنها الشراح شيئا قبله” 32.
5 – القديس اغسطينوس – أو غستان – ولد في سوق اهراس سنة 364 وفيها بدأ تعليمه ثم انتقل إلى رومة وميلانو وعاد ليتقلد مناصب عدة كان أهمها أسقف عنابة سنة 395 . وقد اشتهر باعترافاته وبكتابة ( مدينة الله) الله دافع فيه عن المسيحية، كما اشتهر بانتقاده الشديد للدوناتين، وكان “خطيبا وكاتبا من طراز عال، فلم يتح للمسيحية أن رزقت زعيما في مرتبته قط 33”
6 –توتوليانوس المتوفى سنة 240 ، اشتهر بكتاب في الدفاع عن الدين المسيحي، وبمذهب يدعو إلى العفة والأخلاق الفاضلة وبموقف ضد اليهود وأهل البدع.
7 – مينوسيوس فيليكس، وهو صاحب كتاب في الدفاع عن المسيحية.
8 – القديس الشهيد قبريانوس، كان يعيش في القرن الثالث له كتاب في الرد على اليهودية والاحتجاج للمسيحية.
9 – أرنوب وهو خطيب وكاتب وشاعر، وله كسابقيه كتاب في الدفاع عن الدين.
10 – لكتانسيوس تلميذ أرنوب ومؤلف عدة كتب عن عقاب المذنبين، والأموات المضطهدين، والزندقة والحكمة.
11 – باتيليانوس، وهو خطيب وكاتب، كان له مراسلات مع اغسطينوس.
12 – قوادنسيوس، وهو خطيب من تيمكاد كان يعيش في منتصف القرن الرابع.
13 – كرنتيوس، وهو فيلسوف وخطيب كان يشرف على بعض مدارس رومة في عهد كلوديوس ونيرون.
14 – فلوروس، وهو خطيب ومؤرخ وشاعر، وكان يشارك في المهرجانات الشعرية التي كانت تقام بالكابيتول.
15 – فرونتيوس، وكان أستاذ الإمبراطور مرقس أوروليوس في البلاغة اللاتينية.
16 – ابليوس المولود حوالي سنة 123 ، وهو أشهر كتاب وشعراء هذا العهد وقد خلف قصة المسوخ أو الحمار الذهبي، وديوان الأزاهير الذي قال فيه :” أعترف باني أوثر ما بين الآلات شق القصب البسيط أنظم به القصائد في جميع الأغراض الملائمة لروح الملحمة أو فيض الوجدان لمرح الملهاة أو جلال المأساة وكذلك لا أقصر لا في الهجاء ولا في الأحاجى ولا أعجز عن مختلف الروايات والخطب يثني عليها البلغاء، والحوارات يتذوقها الفلافة. ثم ماذا بعد هذا كله؟ أننى أنشئ في كل شيء باليونانية أم باللاتينية بنفس الأمل وبنفس الحماس ونفس الأسلوب” 34.
وقد نبغ إلى جانب هؤلاء بعض القادة البربر الذين تربى معظمهم في أحضان حضارة الرومان وثقافتهم، وكانت لهم مع ذلك أو لبعضهم مواقف وطنية تهدف إلى تحرير الشمال الإفريقي وتوحيده والنهوض به أمثال حنبعل ابن عبد ملقرط البرقى الذي أبلى بلاء حسنا في الحرب البونيقية الثانية وأخوه عز ربعل، والشهيد ماتوس زعيم البربر ضد قرطاج على أثر الحرب البونيقية الأولى، وماسينيسا المتوفى سنة 148، وكانت تخطب وده من قرطاج ورومة 35، وسيفاكس الذي كان في نفس موقف ماسينسا. ومن أشهر القادة كذلك يوغورطة الذي كانت تحاول رومة كل جهدها للقضاء عليه على أن وقع في يدها بحيلة فشنقته. ومثله يوما 36 الأول الذي كانت له مواقف عداء مع القيصر تمثلت في حركات ثورية وطينة انتهت بهزيمته وانتحاره سنة 47 . ولكن لم يمر وقت طويل حتى اعتلى ابنه عرش المملكة الموريطانية، وهو أغسطس المعروف بيوبا الثاني، زوج كليوباطرة سيلني بنت كليوباطرة الكبيرة. وكانت له عناية بالفنون والآداب وفي عهده أسست معاهد الموسيقى. درس العلوم وأتقن اللغات اليونانية والبونيقية واللاتينية، وكانت له مكتبة عظيمة ونساخ عديدون، كما كانت له عناية خاصة بجمع التماثيل والصور واستقدام النفائس من مختلف الأقطار، وتوجد منها الآن كمية ثرية بمتحف الجزائر وشرشال.
وشرشال هذه هي عاصمة ملكه، وسماها قيصرية تقديرا لعظمة القيصر. كما اتخذ وليلى عاصمة ثانية37 . ولكنه لم يلبث أن اغتيل فأتاح اغتياله لرومة أن تخضع بلاد الشمال الإفريقي لحكمها المباشر. ومع ذلك قام البربر في فترات عدة من هذا الحكم بثورات وطنية متلاحقة للتحرر مما جعل بعض المؤرخين يعتبرونهم “مفطورين على قلة الولاء” 38وهم في الحقيقة مفطورون عل حب الحرية والاستقلال.
في خضم هذه الأحداث والاضطرابات يبقى عهد يوبا الثاني متفردا مميزات حضارية وثقافية، يكفى لتمثلها – بالاضافة إلى ما ذكرنا له من اهتمامات علمية وفنية – أن نعرف ما كانت عليه وليلى، ونتأمل ملامح الصورة التي أعطيت لها لتكون شبيهة برومة. فنظام الحكم فيها نيابى يقوم على تمثل الشعب بواسطة الانتخاب على طريقة مجلس الشيوخ الروماني المعروف ب Sénat والمدينة محاطة بالأسوار والأبراج، وبداخلها فوروم Forum أي ميدان عمومي، وكابيطول Capitole أي معبد، وقوس النصر تعلوه عربة تجرها ستة خيول، وكانت بها كذلك خزائن لحفظ الكتب وتماثيل الآلهة، وفسقيات وحمامات عمومية مفروشة أرضها بالرخام ومغطاة جدرانها بالفسيفساء المصورة لمناظر من الطبيعة ومشاهد من الحياة. أما المدينة نفسها فكانت مقسمة إلى قسمين: أحدهما في الجنوب تجمعت فيه المصانع والمخابز ومعاصر الزيت والدكاكين والدور الشعبية، والثاني في الشمال يسكنه الأغنياء والحكام, ومازالت بعض الآثار الباقية في وليلي شاهدة على ما كانت عليه هذه المدينة، حيث كشف النقاب عن بعض الشوارع والمنازل والمعاصر وعن قاعة الاجتماعات والساحة العمومية التي كانت تعتبر المكان المحوري في المدينة، وعن بعض التحف كتمثال برونزى لكلب وآخر لغلام ورأس مرمرى وتمثالين نصفيين لبروتوس ولبعض الأمراء.
بل أن مراكز حضارية أخرى غير وليلي ظلت محتفظة بما كان المغرب في هذا العهد من آثار فنية ومعمارية.
وقد امتد في المغرب تأثير هذه الفترة طويلا، ومازلنا نلاحظه حتى اليوم متجليا في الفسيفساء، والزليج وهندسة بناء الحمامات والمنازل، وخاصة هندسة القصور المعروفة في المناطق البربرية، فهي لا تختلف عن هندسة الكاستروم الروماني Castrum بأبراجه الأربعة.
ومن جانب آخر لهذا التاثير نلاحظ أن أسماء الشهور الفلاحية في اللغة البربرية والعربية الدارجة هي نفسها التي كان يستعمل الرومان وفق توقيت جوليان julien، بل أن كثيرا من الألفاظ اللاتينية وخاصة ما يتعلق بالفلاحة ظلت على لسان البربر. أما الفلاحة نفسها فكانت دائما مزدهرة ومتطورة في المغرب، والذي قام به الرومان في مجالها هو تنظيم الري بحفر الآبار والسواقي وبناء الصهاريج والأحواض لتجميع الماء، وكذلك بناء القنوات والسدود والخزانات والجسور، كما أنهم لتسهيل العمليات التجارية شقوا طرقا كثيرة ربما كان من أهمها الطريقان اللذان يربطان طنجة بسلا ووليلى.
ومع ذلك، فباستثناء بعض الآثار العمرانية والتقاليد الفنية والبصمات اللغوية المحدودة، فأن التأثير الروماني يكاد يكون غير موجود، خاصة في البنية الاجتماعية والتكوين الفكري، وربما كان السبب في ذلك أن البربر رفضوا أن يصبحوا رومانا كما رفضوا أن يصبحوا مسحيين. 39.
وعلى الرغم من المطابع الاستعمارية لهذا العهد، فقد استطاع المغرب – على حد ما رأينا – أن يفرض وجوده على رومة، سواء في الميدان الحربي بالثورات المتعددة والانتفاضات التي قادها أبطال مغاربة، وفي الميدان الديني بالكيان المستقل الذي أعطى القساوسة البربر للمسيحية، ثم في الميدان الفكري والأدبي بنبوغ كثير من الأدباء والفلاسفة الذي أغنوا بعطاءاتهم مجال الثقافة اللاتينية.
والحق أن الازدهار الشامل الذي عرفه المغرب في هذه العهود كل سبب طبيعة البلد وملاءمة مناخه، وكذلك المغاربة وحيويتهم.40
غير أن المغرب لم يلبث أن تعرض في أعقاب الحروب اليونيقية لهجوم الوندال (534-434) قادمين إليه من جرمانيا. فقد كانت الظروف المضطربة وحركات التمرد التي عرفها حكم الرومان في المغرب، وخاصة على عهد قسطسانس المعروف بفالتينيان، من أهم الأسباب التي أغرت الوندال بغزو افريقيا بعد أن كانوا قد رتعوا في أوربا فترة طويلة، حيث عبروا مضيق جبل طارق في صيف 429 بقيادة ملكهم جنسريق 41 الذي كان صدى قوته المتوحشة يبعث الهلع في كل مناطق نفوذ الامبراطورية الرومانية، بل أن رومة نفسها استسلمت لجيوسه سنة 455 .
وعلى الرغم من تساؤل المؤرخين عما إذا كان الشعب المغربي تحالف من الوندال لرد عدوان الروم، وعما إذا كان تدخلهم يعتبر تحريرا للبلاد من الاستعمار الروماني، فإن واقع التاريخ يثبت أن فترة احتلالهم للمغرب وغيره من مناطق الشمال الإفريقي تميزت بالتخريب والتدمير وبالحكم المطلق والاستبداد التام، مع ما يترتب عن ذلك من استغلال للموارد وخنق للحريات وتنكيل برجال الدين. وهي فترة لم يفد منها المغاربة أي شيء، وأن عمل الوندال على إدخال بعض التقاليد الجرمانية التي كانت تمس إشكال بعض تنظيمات الحكم والسلطة. وهذا ما جعل وجودهم لا يؤثر على مجال اللغة والفكر إلا بالقدر الذي يعطله.
ولكن حكم الوندال سرعان ما تعرض لاضطراب شديد بعد وفاة جنسريق وتولية خلفائه من بعده: ابنه الطاغية خنياريق 42 وغاتموند 43 وتراسموند 44 اللذين حاولا إرجاع الحرية الدينية، ثم الشيخ هلدياريق المعزول سنة 535، وأخيرا جليمار حفيد جنسريق.
في عهد هؤلاء بدأت تبرز عيوب الاحتلال الوندالي متمثلة في ظهور حركات تمرد وفي بعض المصاعب الاقتصادية، الشيء الذي تمخض عنه تكوين امارات محلية مستقلة، كملكة” مازونا” الذي كان ملك يدعى ” ملك القبائل المورية والرومان” . ولم يمض وقت طويل حتى فوجئ الوندال بقدوم وفود من الرحل راكبي الجمال،جاءوا من طرابلس يقودهم الأمير كابارون، وكانت لهم خطط في الحرب وأساليب في المواجهة لا عهد بها للوندال.
وجاء في هذا الوقت تحرك الإمبراطور يوسطينيانوس الذي كان يتوق إلى إعادة مجد الإمبراطورية الرومانية، فوجه جيشه وأسطوله إلى الشمال الإفريقي فهزم الوندال وأسر جليمار، وبذلك انتهى حكم هؤلاء ليبدأ حكم جديد، وبالضبط في سنة 534، حيث أعلن الإمبراطور منح استقلال إداري لافريقيا، ولكن البربر لم يكونوا ليقبلوا هذا الوضع، خاصة وأن تحركاتهم التمردية كانت قد بدأت تنجح في عهد احتلال الوندال، فدخلوا في مواجهات كانت تتسم في غالبها بالعنف.
ويبدو أن الشمال الإفريقي لم يفد شيئا يذكر في هذه المرحلة، سواء تحت حكم الوندال أو البيزنطيين، ومع ذلك فقط ظهرت بعض الأسماء التي لمعت في مجال الفكر والأدب أمثال الشاعر الملحمي دروكانسيوس الذي ألف في السجن ابتهالات ذاعت شهرتها في القرون الوسطى، ومنها استوحى ملتون أشعاره في الجنة 45، وكذلك الشاعر كوريبوس صاحب ملحمة يوحنا.
وليس من شك أن في الاوضاع التي كانت لا تزيد إلا تأزما عملت قبيل الفتح الإسلامي على انهيار النفوذ الروماني وظهور زعامات صغيرة في هذا الإقليم أو ذاك، حيث كانت توجد مناطق تعيش في انعزال ونوع من الاستقلال لا يزال تاريخها للأسف مجهولا.
والواقع أن الفترة التي سبقت مباشرة مجيء الإسلام إلى المغرب تعتبر من أكثر الفترات غموضا في التاريخ المغربي، وكل ما نعرف من خلال الآثار الباقية أن البيزنطيين منذ القرن السادس كانوا قد احتلوا مدينة سبتة، واتخذوا منها مركزا لمراقبة الشواطئ المقابلة، وأنه ظل للرومان بعض النفوذ الديني واللغوي.
ويتضح من الكتابات التي عثر عليها في وليلي أنه حتى سنة 655 كانت توجد في المغرب جالية لاتينية مسيحية، في حين كانت قلة من البربر هي التي تدين بالمسيحية أو اليهودية، بل التاريخ يتحدث عن آثار للمسيحية في القرن الثامن للميلاد بمنطقة نفيس عند سفح الأطلس الكبير حيث كانت لاتزال تعيش جالية منتسبة لهذا الدين الذي لايعرف متى دخل إلى المغرب، وإن كان معروفا أن مدينة طنجة كانت أكثر مدن المغرب آثارا تشهد له بماض بعيد فيه.
أما اليهودية فقد كانت وبقيت موجودة في نطاق ضيق، وهي لاشك دخلت إلى المغرب في ركاب بعض الهجرات التي وفدت من الشرق في القديم: مما يدل على أنها كانت منتشرة قبل المسيحية. وفي هذا رد لاشك على من افترض 46 أن البربر لم يعتنقوا اليهودية إلا مع الفتح العربي بدافع محاربة المسلمين من جهة، وبدافع اثبات لا وثنيتهم حتى لا يحاربهم المسلمون 47.
والحق أنه إذا كان المغرب من قبيل الإسلام بفترة غامضة، فإنه في المراحل الأخرى سواء حين اتصل بالفينيقيين أو الرومان، فتح لنفسه صحائف في التاريخ وعرف كيف يضطلع بدوره الحضاري والثقافي، متأثرا بمن حوله ومؤثرا كذلك، وليس مجرد مقلد أو تابع.
ولعلنا – بهذا العرض المحدود – أن نكون أبرزنا بعض ملامح هذا الدور، ولفتنا النظر في جوانب حية من تلك الصحائف: عسى الدارسون من شبابنا أن يغروا بالبحث والتنقيب، سواء في آثار العمران الباقية أو الوثائق المنقوشة أو المكتوبة، أو حتى في التراث الشعبي لما يضم من معالم هامة ودقيقة.
وفي اعتقادنا أن البحث سيظل مبتورا إذا هو لم يعتمد على نوعين من المصادر نراهما أساسيين:
أحدهما: الآثار التي خلفتها هذه الفترات وهي رومانية في الغالب وتحتاج إلى مزيد من العناية والاهتمام، وكذلك الآثار البربرية التي لم تلتفت إليها الأنظار بعد.
والثاني: المصادر اليونانية والرومانية اللاتينية المسيحية، وهي تطرح صعوبات في قراءتها، فضلا عما فيها من توجيه يجعلها لا تكشف عن واقع التاريخ المغربي.
وفي اعتقادنا كذلك أن البحث ينبغي أن ينطلق من حقيقة طبعت مسيرة بلدنا الحضارية والثقافية على مر التاريخ، حتى في فترات تعثر هذه المسيرة، وهي أن موقع المغرب الجغرافي على رأس إفريقيا جعله مفتوح الشواطئ على بحرين عظيمين، متحكما في منافذهما، ومنفتحا بالتالي على ما وراِءهما في الوقت الذي هو يضرب بجذور ثابتة في أعماق القارة التي ينتمي إليها، متوسطا بذلك كل جهات الكون، مما جعله يتحرك في مركز ثقل العالم بتفاعل جدلي مستمر مع يد ونظر ممدودين أبدا إلى الشوق، في عملية أخذ وعطاء لم يشهد التاريخ لها توقفا أو انقطاعا، مما أنتج تركيبا حضاريا وثقافيا لهذا البلد يكاد يكون متفردا بخصوصيات متميزة، دون أن يفقد هذا التركيب خيوط الالتحام والانسجام مع العناصر التي تفاعل معها في الأصل ومازال.

* مجلة المناهل، العدد8، 1977، ص-ص67-84.



عباس الجراري
 
أعلى