الجنس في الثقافة العربية : حسن معروف - في مديح زليخة.. الرقي الجنسي في قصة يوسف

الإسقاط الجنسي في حياة البشر ليس معلقا بهذه القذارات التي ألصقها الإفراط في الخجل والخوف على العرض والشرف، اللذان اختزلا في بقعة دماء داكنة، بل هو معلق بالأصل، بهذا الفعل المقدس، سر وجود هؤلاء البشر جميعا، فأنت تستخدم تفاصيل الحياة في تفسير الحياة، كالطعام والتنفس والإحساس والمودة والخير والشر، تسقط ما تشاء منها على ما تريد، بغية تفسير الحياة واستبيان ملامحها، فكيف تخجل أن تفسر ملامح الحياة بفعل هو الأصل الأوحد الملموس فيها، كما الموت هو النهاية الوحيدة لها، كيف تتعامل مع الموت كأنه نهاية حتمية للفرد تفسر في ضوئها ما يجب وما يجوز وما يستحيل وتتجاهل الأصل الأول في معرض تفسيرك؟
إلى الذين اختزلوا قصة يوسف في العفة، ألم تسألوا أنفسكم يوما لماذا جاءت العفة في هذه القصة من رحم إسقاط جنسي؟ كان من الممكن أن تأتي على هيئة العفة عن السرقة أو أكل مال الملك الذي أحسن إليه، هذه القصة ـ إن كنتم تعلمون ـ هي الوحيدة التي انتهت بالسعادة للجميع، ولم يهلك الأشرار والكفار مثل بقية قصص الأنبياء، فالجنس هو الإسقاط الأوحد لتفسير ملامح الحياة المقبلة، حتى في الأحلام، تشير جميعها إلى خير كثير إذا تمت بنوايا سليمة، لكننا كبشر أدرنا ظهورنا لأصولنا ونظرنا صوب النهاية، استعجلناها فعجلت بنا إليها، فتنتهي حياة أغلبنا قبل أن تبدأ، كم مرة نادى عليكم ربكم البار بكم بقوله "هو الذي خلقكم"؟ لا تأخذك مخيلتك إلى الميتافزيقا وتكوينك من العدم وتخليقك من طين لازب، قافزا فوق واقع حي أمامك، وهو الخلق عن طريق الجنس.
لا تخبرنا قصة يوسف بضرورة رد طلب المرأة للجنس باعتباره فاحشة وسوء خلق، إطلاقا، "قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين" من هن؟ وإلى ماذا دعوه؟ هل قصدوا أن يمارس معهن جنسا جماعيا؟ أم حثوه على تلبية طلب امرأة العزيز بقضاء "نزوة حقيرة"؟ الأمر ببساطة يكمن في هذا البدوي الذي لا يعرف عادات هؤلاء النساء في هذه الدولة المتطورة المتقدمة، فامرأة العزيز لم تكن أول من يطلب منه بدليل اللفظ "كيدهن" أي مرادهن الذي يحاولن إقناعي به منذ أن وصلت بلدهن، فعادات هؤلاء القوم غير عاداتي، وأنا لا أحسن التصرف في هذا الموقف، وأحتاج منك يا رب العون والنصيحة، هل الخطأ أن أمارس الجنس؟ كيف وأنا أصبو إليهن بالفعل؟ فالأمر ليس ضد فطرتي إذن، لكن هاتفا يمنعني، أرجوك أظهره لي.
وكيف أيضا يكون هذا هو التفسير وهن منذ برهة قلن "امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين"؟ فهذا هو اعتراضهن، أنه "فتاها"، أي خادمها، وأنها "امرأة العزيز" أي أنها محسوبة على رجل، والجهل هنا ليس قلة العلم، بل هو التسرع والتهور في التصرف، أي أن إنكار النسوة لم يكن بسبب "الزنا" ذلك المصطلح الإسلامي، أو أن ممارسة الجنس فاحشة، بل الأمر له علاقة بضوابط هذه الممارسة كما ارتضاها مجتمع راق، يعتبر أولا بالعهد والكلمة الصادقة، ولا يحتاج للحيلة والكذب.
لذا نجد الله قد أظهر له البرهان وهو في خدرها وبعد أن غلقت الأبواب "لولا أن رأى برهان ربه" أي فطن إلى التفسير الذي طلبه من الله عز وجل، والتفسير هو "ربه الذي علمه الحكمة والنبوة" وهذا التفسير متعلق بأنها زوجة العزيز "إنه ربي أحسن مثواي"، لذا قال "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب"، وبالغيب هنا قيد يوضح المعنى أكثر، فهل هناك خيانة بالغيب وخيانة دون غيب؟ نعم، فإن قواعد هذا المجتمع هي إظهار الرغبة الجنسية في شخص ما، وبناء عليه للمرء حرية أن يترك أحدا ويرافق الآخر طالما دعته الرغبة لذلك، وهو كان له رغبة في امرأة العزيز، وهي لها فيه رغبة، لكن المانع أنها تسمى لرجل آخر، وكانت تحاول إقناعه أن تترك زوجها من أجله، وكان يعتبر هذا من قبيل الخيانة، بعد أن أحسن إليه العزيز يذهب هو بامرأته؟
"ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" أي أني لم أوافق على طلبها للجنس علانية والتفريق بينه وبينها بمكيدة من وراء ظهره، وليس مجرد "نزوة حقيرة" كما ذهب إليه المفسرون، الذين لم يسعفهم التطور الحضاري لإدراك معنى مماثل، واضطروا لتفسيره في ظل ثقافة بدائية، والدليل أن أغلبهم أقروا أن نهاية هذه القصة هو زواج يوسف من زليخة، هذه الفاجرة التي تابت ـ كما برروا ـ حتى يسوغوا لها الزواج من نبي الله، والله قد نقى سلالة أنبيائه.

زليخة، بعد انكشاف كيدها المتمثل في ترك زوجها والارتباط بيوسف، لم يعد هناك ما يوجب عقابها، بل على العكس، عرف العزيز أن امرأته لا ترغب فيه فانفصل عنها، علانية، وارتبطت بيوسف، علانية، دون خوف من معايرة مجتمعية أو أن يقال عنها إنها تركت رجلها من أجل فلان، إذن فالمكيدة كانت أن تترك العزيز وترتبط بيوسف، وهي لا تراها مكيدة بل أمر طبيعي، لذا أرسلت إلى النسوة "وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم"، كان اعتراضهن أن تترك رجلا ذا شأن لترتبط بخادمها الذي لم يرونه، توقعنه عبدا حبشيا أو شخص من أراذل القوم، وحين رأين يوسف عرفن أنه لم يخلق إلا ليكون ملكا كريما، ذا هيبة ووقار وجمال وحضور، فذهب اعتراضهن، هذه المكيدة رفضها يوسف "يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك" أي معالجتك أمر حبنا بهذه الطريقة التي تنتقص من المروءة، ولم يرفض الجنس، رفضها يوسف لاعتبار لا يلتفت إليه سوى الفرسان، فهي امرأة رجل آخر، زوجة أو خليلة لم يتضح ولم يوضح القرآن، وقال "امرأة العزيز" ولم يقل "زوج العزيز" كما استخدمها في قصة زيد "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك"، فامرأة العزيز تتمتع بحرية أكثر من مجرد كونها زوجة بشروط البدو.
حين علم الملك الأمر قالت امرأة العزيز "الآن حصحص الحق أن راودته عن نفسه" أي طلبت منه الارتباط وليس كما ذهب السابقون إلى ممارسة الجنس خفية وكأنها "نزوة حقيرة"، والدليل على ذلك و"ألفيا سيدها لدى الباب"، هل ينتظر رجل وجد زوجته في غرفة مغلقة مع رجل أجنبي دلائل ليشك في سلوكها؟ ما هذا؟ لم يرد هذا المصطلح في القصة، فالأمر ليس "سلوك شائن" بل القضية كانت هل هي عرضت عليه الارتباط أم هو عرض عليها الارتباط؟ خطأ امرأة العزيز أنها كذبت، وقالت إنها لم تطلب منه الارتباط وأنه راودها عن نفسها وأن تترك رجلها الذي أحسن إليه، إذن أصبح شخصا غير مؤتمن، وعلى الرغم من أن الدليل المادي كان في صالحه، إلا أنهم سجنوه لأسباب سياسية تتعلق بحساسية أن يقال إن خادم العزيز لم يرد الإحسان بالإحسان.
ولو كان سجن يوسف لأنه حاول أن ينال من امرأة العزيز جسديا، لم يبرئه اعتراف النسوة أنها هي من طلبت الارتباط به، فلماذا لم يُبلغ العزيز؟ ولماذا دخل معها حجرتها؟ الإجابة في حديثها إلى النسوة "قالت فذلكن الذي لمتتني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وإن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين"، أي هذا الذي ظننتنه عبدا ولمتنني أن أترك العزيز من أجله، ولقد سألته في ارتباطنا فتمسك برأيه، ولم تقل "فتعفف" ولم نجد معنى في اللغة يقول إن "فاستعصم" تعني تعفف، إذن فالأمر مجرد خلاف رأي وهو تمسك برأيه، فهو يحبها لكنه لا يريد أن يسبب أذى لولي نعمته، وهكذا يكون الرجال الشرفاء، وإن لم ينفذ ما آمره به وهو أن يفكر في الأمر مليا ـ أي يختار المصلحة الخاصة على المصلحة العامة ـ ليزج في السجن حتى لا يرتبط بأحد غيري، وليضيع منه بهاؤه الذي جذبكن إليه حتى لا يجذب غيري، فامرأة العزيز لم تنكل بيوسف الذي أحبته وإلا لكانت أمرت بقتله، ولكنها "احتفظت به".
إذن قصة يوسف بإسقاطها الجنسي تلفت الإنسان إلى أن التعبير عن الرغبة الجنسية مشروع، والتصريح به لامرأة رجل آخر مشروع، مادام لها نفس الرغبة، فالمراودة لها أصول، فهي ليست حديثا من رجل تحرقه شهوته إلى إحدى محترفات الدعارة، بل هو تصريح راق من رجل له رغبة إلى امرأة لها الرغبة نفسها، أو العكس، مع الوضع في الاعتبار آداب هذه المراودة إنسانيا، حتى لا يتحول الأمر إلى إهانة آدمية لأحد الطرفين، فإنه يبدأ بالإعجاب ثم تجاذب الحديث، ثم الحرص على تكرار اللقاء، فحتى يصل الأمر للتصريح لابد أن يمر على 14 مرحلة أقلها الإعجاب وأعلاها الشغاف كما صنفها العرب، والتصريح "هل أنت سعيد في حياتك أم لك رغبة في شخص آخر؟"، فإن أبدى أحد الطرفين ممانعة لاعتبارات ما يحترمها فورا الطرف الآخر، أو يجدا حلا لها إن لم يكن هناك مانع إنساني حضاري، أما وهم الخطيئة والفاحشة والهروب من الجنس كالهروب من الأسد مثل قطيع الاغنام فلا محل له في الأمم الراقية.
لم يسأل المفسرون أنفسهم ما هي رسالة يوسف؟ إنها الحضارة، اقتصاديا واجتماعيا، إنها رقي الإنسان، لذا كان لا بد أن يكون أزمة اقتصادية، كان لا بد أن يكون في القصة امرأة، ولا بد أن يكون هناك إسقاط جنسي تدور حوله الحكاية، ولا بد أن تعطي زليخة درسا للبشرية في التصريح، ويعطي يوسف درسا مقابلا في وضع أسس واعتبارات القبول، ليحقق الإسقاط الجنسي غرضه، متصلا بأصل الإنسان الراقي الذي كرمه الله، متصلا بالنشأة السليمة والفطرة القويمة.





Benjamin-Constant-Contemplation.jpg

Benjamin Constant-Contemplation
 
أعلى