نقد محيى الدين اللباد - الخط .. الحرف .. المقدس

لم يكن ما أشيع عن تحريم الإسلام لتصوير الإنسان والكائنات الحية، السبب في تبوؤ الخط العربي ماكنته الرفيعة في حياتنا، وبالتالي انفراد الخط والزخرفة بميدان الفن البصري كله، بل أخذ الخط مكانته لأنه كان جزءاً من حضارة و نهضة ثقافية وروحية وفلسفية وفنية رفيعة شملت بلاد الإسلام. كانت تلك النهضة تعبيراً عن الخطوات الواسعة الجريئة التي خطتها البشرية خارج الظلمات والجهل والعنف والمظالم التي سقطت فيها بلاد العرب وما حولها لقرون طوال قبل الإسلام .
اكتسب الخط العربي مكانته الرفيعة أيضا لأنه الحامل لكلمات القرآن ، الكتاب الذي قدسه المسلمون على طول ألفية و نصف في مختلف أرجاء الكوكب . و لكن تلك المكانة الرفيعة التي أعلت من شأن الخط العربيو الزخرفة المصاحبة ، و أحاطته بمحيطمن العناية و الوقت و المال و المنزلة الثقافية و الاجتماعية بقصد حمايته و الحفاظ عليه، كانت سبباً في تجميد هذا الفن و في إيقاف تطوره .

في القرون الخمسة الأخيرة ، فهم البعض أن ( حفظ ) القرآن المعني في آية " إنان نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون " على أنه - يعني أيضاً - تثبيت طق كتابة نصوصه. و قد ساهم الأتراك العثمانيون في هذا التجميد ، عندما روجوا - في القرن الـ 17 م - لأسلوب كتابة القرآن بالخط النسخي الحديث الذي اشتهر به الخطاط التركي البارع الحافظ عثمان أفندي ( اسطنبول ، 1624 - 1698 م ) الذي كان من أشهر خطاطي المصاحف ( العثمانية ) بالخط النسخي ، التي كتب منها 25 مصحفاً ، طبعت الدولة العثمانية عددا منها انتشر في البلاد الإسلامية .

قبل العثمانيين ، ازدهرت جنات من التنوع الخلاق المبهج في أساليب الخط العربي التي كتبت مصاحف القرآن الكريم ، و طبعت الثقافات المحلية في أركان العالم الإسلامي المختلفة تلك الأساليب بأرواحها المتباينة و المنوعة ، و أغنتها . و كان ذلك بدءاً من الخط الكوفي القديم ( المسمى بكوفي المصاحف ) ، مروراً بالثلث و النسخي و النستعليق ( الفارسي ) وصولاً إلى الخط العربي المغربي / الأندلسي الذي تحرر من كل القواعد الحرفية ، و أصبح فنا تعبيريا شخصيا و حراً .

إلا أن تقديس الخط العربي لارتباطه بآيات القرآن الكريم الذي يجتهد المسلمون كثيراً لحمايته من أي تحريف أو تبديل ، بلغ درجة جمدت الخط العربي ، و جمدت إبداع الخطاط و التفكيره ، و منعته من الاجتهاد و المراجعة و التجاوز و التحرر و الإبداع و الابتكار .

و شهد فن الخط العربي بعض تقاليد صاحبت فترات ( ازدهاره ) في الدولة العثمانية ، و كان من تلك التقاليد احتفاظ الخطاطين الأساتذة ببرية أقلامهم في علب ذهبية أو فضية جماية لها من دوس الأقدام أو النجاسة ، بعد أن كتبت بها آيات القرآن و لفظ الجلالة . و لنتخيّل ما أدت إيه مظاهر التقديس تلك من تجميد و تحنيط لفن الخط العربي

أدى ذلك التقديس و التجميد و التحنيط إلى تثبيت تصور عند البشر يعارض تحرير الكتابة العربية من إسار التقليد و التكرار ، إذ ساد شعور خفي كما لو أن الخط العربي نزل من السماء ، و كما لو كانت أصول كتاباته قد هبطت إلينا عن طريق ( الوحي ) . و بسبب تلك المواقف نفسها ، عارض سلاطين آل عثمان دخول آلة الطباعة دولتهم ، حتى لا يطبع القرآن بآلة لا روح لها و لا عقل ، و لا عقيدة !

لذلك ، شعر بعض من طالع كتابات الخطاط الشجاع المجتهد مسعد خضير البورسعيدي بشيء من الصدمة أمام ما فعله هذا الخطاط في بعض تجاربه ، حين كتب لوحة بخط النستعليق : " إن الله بالغ أمره " . كان خضير يقصد إرسال تلك الصدمة الرمزية : فلم يجعل حرف ( ـغ ) بدورانه المعروف ( المقدس ) ، بل وضع له بدلاً من الدوران حوض ( ف ) و عاد فوضع دوران الـ ( ـغ ) للهاء الأخيرة .

ما فعله خضير هو مجرد طرح للفكرة و المبدأ : هل نعتبر أساليب الخط العربي أزلية لا يمكن التعديل فيها للحصول على الأصلح و الأنفع و الأكثر ملاءمة أو لا ؟ و الحكم على ما فعله بالإعجاب و التشجيع هو إعجاب بالفكرة و تشجيع لمبدأ المراجعة و الاجتهاد في الخط .

كم هي مبهجة تلك التجربة البسيطة الشجاعة ، التي تتحدى الثبات و الجمود و التحنيط الذي يستقر في روعنا و كأنه تقديس . إنها شجاعة ( لم لا ؟ ) التي يجب أن نستفز بها الجمود . إن الخط العربي هو ابن الإنسانو من إبداع البشر و ليس منزّلاً و لا وحياً ، و الإنسان هو صاحب الحق في مراجعة إبداعه و تطويره و تبديله حسب الحاجة و حسب تبدل الأحوال ، و حسب الوظائف الجديدة للخط و الكتابة .

و مقل هذه التعديلات و التغييرات كانت قد حدثت في الخط العربي بالفعل منذ قرون طويلة و على طول هذه القرون ، حين تطور من الكوفي البدائي إلى السخ و الثلث ، و بعده النستعليق و الرقعة و الديواني ، التي تم فيها تغيير الكثير من ثوابت الأساليب السابقة ، بل و تغير منطق كتابة الخط نفسه ، و لكننا لكتفينا بما استقرت عليه الكتابة سابقاً ، و لم نبدع جديداً بعدها .

التعصب ( الذي شاركنا فيه جميعاً ) و الصراخ بشعار " حماية الخط العربي من العبث و التحوير ) لم يعد موقفاً ناضجاً مسؤولاً ، و جيب علينا جميعاً مراجعته . نعم علينا أن نقيّم و ننقد نتائج محاولات تطوير الخط العربي و نمسح بالرديء منها الأرض . لكن ليس لنا أن نجرّم المحاولة أو نحظرها على أحد . ليس هناك شيء يستمر بدون تبديل و تطوير لمواكبة المتغيرات المتلاحقة في حياتنا

الخط و حرف الطباعة

هناك ضرورة للتفريق القاطع بين كلمتي ( الخطوط - Calligraphy ) و ( تصميم حروف الطباعة - Font ) . و الخطأ في الخط و الالتباس بين التعبيرين خطير . إذ أنه ليس مجرد خطأ في التعبير اللغوي ، بل هو – إذا ما وقع – ستدرج إلى أخطاء عملية ذات تأثير جسيم على المفاهيم و التخطيط و التوجهات في مسارات البحث و الابتكار و التصميم و الاستثمار في مجال حروف الطباعة بأنواعها .

الخط ( Calligraphy ) هو فن شخصي و حرفة فردية يعتمد أداؤها على اليد البشرية ، و على التكوين الشخصي ، و على الذوق ، و على حال الخطاط لحظة خطه لقطعة من العمل بعينها ، لن يتكرر إنتاجها مرة أخرى . و يعتمد الأداء و الأسلوب في الخط على : البحث عن الحل الأمثل لحالة معينة محددة – الارتجال ( بما يشته تقاسيم الموسيقى الارتجالية على مقام معلوم ) – الاستدراك - الفذلكة – الطابع الشخصي التقديري . و يحكم على نتيجة عمل الخطاط على أساس كونها وحدة عمل واحدة متشابكة ، و على أساس تكاملها مع نفسها .

أما الحرف المصمم للطباعة ( Font ) فهو نظام ( System ) وظيفي نمطي ، معدّ للاستعمال العام بواسطة مستخدمين لا تشترط فيهم كفاءات خاصة ، و لا تتوفر لهم – عند استخدامه – فرص للارتجال ، أو الاستدراك ، أو الفذلكة ، أو التجويد ، أو إضفاء الطابع الشخصي و التقديري . و يأخذ قيمت من درجة التواصل ( Communication ) التي تنتج عن الاصطلاح العام على استعماله الواسع .

و قد تغيرت فنون كثيرة بانتقالها إلى وسيط ( Medium )جديد ، أو بتغيرات في تقنيات الوسيط ، و غالبا ما انفرزت منها فنون جديدة مستقلة بذاتها : ذات سيادة ، و غير ملحقة بالأصل . و من هذه الفنون : فن حرف الطباعة ، الذي انفصل عن فن الخط ، مثلما انفصل فن السينما عن فن المسرح ، ثم فن التليفزيون عن فن السينما ، و أصبح لكل فن منهما قوانينه و شروطه الخاصة .

و قد انفك الإسار عن فن حرف الطباعة اللاتيني عندما حرر نفسه من محاولة محاكاة فن الخط اليدوي ، و حين كف عن المراوغة و التحايل على حدود ( Limitations ) الوسيط الجديد التي ( تعجزه ) عن الوصول إلى ( كمال ) الخط اليدوي . تحرر حرف الطباعة حين جعل من تلك الحدود خصوصيات و صفات و قسمات أساسية تميزه ، بل لقد ركز على إبرازها ، و جعل منها فيمه الجمالية الخاصة ، كف الحرف عن اعتبار نفسه من مرتبة أدنى من الخط اليدوي ، فانطلق إلى الأمام و إلى الأعلى .

المسافة شاسعة بين الحرف اللاتيني القوطي ( Gothic ) الذي بدأ به جوتنبرج عام 1450 و بين ما نعرفه الآن من حروف لاتينية . و علميات الابتكار و التطوير فيها لا تزال مستمرة . و يستفيد تصميم الحرف اللاتيني و يتأثر بكل أشكال النمو و التطور في : الصناعة و العلوم ( تطبيقية و إنسانية ) و النظريات الفلسفية و المدارس الفنية ، و بالمتغيرات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية . و يتطور تصميم حرف الطباعة اللاتيني أيذا بالبحث الؤوب في تراث الخط اليدوي و تراث الفنون البصرية ، سواء في الحضارة الغربية أو في الحضارات الأخرى غير اللاتينية . بينما نتجمد نحن و نجمد معنا حروفنا الطباعية ، و لا نزال متوقفين بها عند مرحلة تعادل مرحلة حرف الطباعة القوطي الذي بدأ به جوتنبرج طريقه في القرن 15 مـ ، و لم نترحك بحروفنا إلى الأمام إلا قليلاً !

عرفنا حروف الطباعة العربية ، على نطاق واسع مع حملة نابليون ( 1798 مـ ) و كانت الحروف التي جلبها معه مسبوكة في جنوة و البندقية ( حيث كانت إيطاليا سباقة في صناعتها – منذ القرن الـ 16 – لطباعة ترجمات عربية للكتاب المقدس ) .

لم يختلف الحال كثيراً طوال القرنين اللذين يفصلاننا عن حملة نابليون و مطبعته ، فحتى سنوات قريبة كانت التجارب المحلية قليلة ، و الإسهام المحلي في صياغة الحروف كان قيلاً . أما الاختيار و قرار الإنتاج فكانا – غالباً – اختيار و قرار شركات غبر عربية ، لا تملك المعرفة الكاملة بنا و باحتياجاتنا ، و لا تملك الدراية الثقافية باريخنا و تراثنا في الميدان ، ة لا تعرف أولويات ضروراتنا ، و لا تعني بإنجاز ما يبني لنا تراكماً صحيحاً يؤسس لتنمية ثقافية في بلادنا .

و في النصف الأول من القرن العشرينجرت محاولات عربية جادة قليلة لتطوير حرف الطباعة العربي ، و توصلت دار المعارف المصرية في 1948 مع شركة ( مونوتايب ) البريطانية ، إلى حرف طباعة كامل رفيع المستوى للكتب كان معتمداً على خط النسخ . كتب هذا الخط خطاطون مصريون و أشرف عليه خبير الطباعة يوسف قاروط كما توصلت الشركة الأأخرى ( لينوتايب ) لحرف طباعة مختصر مقبول للصحف و الدوريات ، كان الحرفان المصنعان لغرض صف المتون ، مثلما كانت كل الأبحاث الجادة في مجال حرف الطباعة تدور حول حروف المتن . و ظل الاعتماد – في عناوين الصحف و الدوريات و أغلفة الكتب و الإعلانات المطبوعة و غيرها – على الخطاط اليدوي ، باستثناء تجارب قليلة لا يتجاوز عددها عدد أصابع الكفين : في الستينات أنجزت جريدة الأهرام حرفاً حصريا خاصا لعناوينها ( الخطاط عدلي بولس + المصمم المعماري ثم الجرافيكي توفيق بحري ) و في منتصف السبعينات لجأت بعض الصحف الللبنانية ( دار الصيّاد ) إلى طباعة حروف عناوين منفصلة على ورق مصقول ، و كانت العناوين تجمّع منها يدويا بقصها و لصقها متجاورة على ورق ، ثم تصوريها .

و بعد الفطرة في أسعار النفط في منتصف السبعينات ، اهتمت شركة ( ليترايست ) و بعض الشركات الإيطالية الأصغر بالسوق العربية و سوق إيران ، و أنتحت لهما – على عجل – قائمة من حروف العناوين العربية المطبوعة على أسطح شفافة لاصقة ، و قابلة لأن تنقل على الورق . تم الإنتاج في هرولة ، و كانت النتائج – في أغلبها – مشوهة و متدنية المستوى ( يصل بعضها إلى درجة الفكاهة المحزنة ) . و لم يكن منجزو هذه الخطوط خطاطين أكفاء ، و لا مصممين جرافيكيين مبدعين ، بل كانوا من قناصة فرص السوق . لكن هذا الإنتاج سرى في بلادنا المندهشة سريان النار في الهشيم ، و لا يزال الكثير من أحرفه يتسيد السوق ، و يتصدر الصفحات الأولى لصحف عربية كبرى يشترك عدد كبير منها في استخدام نفس الحرف ( المريض ) الذي يجعل تشابهها العام في الشكل و المذاق متقارباً إلى حد كبير .

و دخلت ( ميكانورما / نظيرة الليتراست في فرنسا ) السباق على السوق العربية ، فأنتجت – في هرولة هي الأخرى و عبر فريق صغير من المصممين حديثي العمر و الخبرة – قائمة قليلة العدد من الحروف العربية لم يختلف مستواها عن سابقتها البريطانية ، و لم تلق رواجاً في السوق العربية .

و عندما ازدادت إمكانات الصف الضوئي Photocomposing و اتسعت سوقه في بلادنا ، و كان ضرورياً أن تضيف الشركات إلى حروف آلاتها حروفاً للعناوين ، لم يكن أمام شركة ( لينوتايب ) سوى حروف ( ليتراسيت ) المشوهة إياها ، لتجعلها حروف للعناوين الرئيسية في آلاتها ، و أضافت إليها حروفاً قليلة جديدة ( مشوهة بدورها ) أبدعها نفس الفريق الذي ارتكب الجريمة الأولى . و قد تفكك ذلك الفريق فيما بعد و انقسم إلى شركات متعددة تختص في إنتاج حروف الطباعة و ملحقاتها ، و لا زالت حروفهم هي الرائجة في السرق العربية ، و في قوائم الشركات العالمية الكبرى ، رغم سذاجتهاو ضعفها الباديين .

و مع تسارع ظهور التقنيات و الأدوات المساعدة التي تيسر ( حتى للأفراد ) إنتاج حروف الطباعة للحاسب زاد الهرج و اشتد زحام الميدان و اختلط الحابل بالنابل و ازدحم المولد و زادت هيصته .

و ظل همنا الأكبر - في أغلبه – محاولة لإعادة إنتاح أساليب الخط اليدوي المعقدة في شكل حروف للطباعة : بالأحرف المعدنية البارزة ، أو بالصف الضوئي ، أو على الكمبيوتر . و كم بذلنا من جهود كبيرة من أجل هذه المحاكاة المستحيلة ، و التي يعدّ البعض الاقتراب من النجاح فيها انتصاراً .

لن يمكن بلوغ النجاح ، و لوى رقاب أساليب الخط العربي ، و إدخالها في نسق الكمبيوتر . فالتراكب بين الحروف العربية ، و وجود أكثر من شكل للحرف العربي حسب موقعه و علاقته بالحروف المختلفة السابقة عليه و اللاحفة ، لن يمكّن من ذلك باليسر الذي تتطلبه اقتصاديات الوقت و العمليات في الكمبيوتر .

و لقد كانت مهمة ثقيلة تلك التي صرف المصممون و المطورون فيها جهوداً مضنية طويلة للحصول على خطوط مثل الثلث و الديواني و الفارسي و الرقعة و المغريب عن طريق الكمبيوتر . فهي أساليب لا تتسق مع التركيب الخطي الاستطرادي Linear المعتمد في تتالي حروف الطباعة . و النتائج التي حصلنا عليها – بالكمبيوتر – لتلك الأساليب الكلاسيكية متواضعة و تحفل بالتنازلات في تقاليد الكتابة دون أن تصل إلى تصميمات حديثة متوافقة مع الوظائف الجديدة و الذائقة الجديدة و المعارف الحديثة .


أفكار و تجارب و تطبيقات

علينا الآن النظر بحساسية أقل إلى ضرورة مراجعتنا لكثير مما جعلناه ثوابت في الخط العربي و في علاقتنا به . حتى ننقذ خط الطباعة العربي الذي قيدناه بالخط العربي لدهر طويل . و كانت النداءات و الأفكار التي ارتفعت في الثلث الأول من القرن العشرين لتطوير الكتابة العربية و الطباعة ، و التي قادها عدد من مثقفي مصر و مفكريها و على رأسهم مجمع اللغة العربية و رئيسة عبد العزيز باشا فهمي كانت – في وقتها – عملا جلايئاً يستحق الاحترام و البحث . و كان يجب أن نجرب نطبيق تلك التجارب و الأفكار التي طرحت وقتذاك و بعدها تطبيقاً عملياً – و لو بطريقة معملية – ثم تقييمها . لكننا استسهلنا الرفض السلبي لكل المحاولات الجريئة التالية في النصف الثاني من القرن الماضي ( انظر مثلا محاولات المهندس اللبناني نصري خطار في حروف الطباعة العربية المنفصلة بدءاً من عام 1947 ) .

و قد تعرض القاريء ( بل و الأمي ) العربي – و على مدى نصف قرن على الأقل – لخبرات كثيفة بالحروف اللاتينية الحديثة ، و ازدادت معرفته بمنطقها و دلالاتها القرائية ، و بطرق فك رموزها و بإيماءاتها . و قد تضاعفت تلك الخبرات عدة مرات في العشرين عاما الأخيرة مع توسع سوق الاستهلاك السلعي بتغليفات بضائعة الأجنبية ، و توسع مجال الإعلانات عن السلع الأجنبية المستوردة او المصنعة حالياً ، و مع يسر استقبال الإرسال التلفزيوني الأجنبي ، و ازدياد تدفق المعلومات المطبوعة الواردة إلينا من الخارج . و قد ترتب على هذا تسقرار قدر من الألفة مع اللغة الجرافيكية للأحرف اللاتينية ، و الوعي بقيمها الجمالية و بنظامها البصري و بمعمارها ، في بديهة المواطن العربي .

كانت تصميمات الحروف اللاتينية قد مرت بظروف فرضت تطورها و نموها الدائم ، و منها عمليات الملاءمة لضرورات و وظائف و خصائص إنسانية و عملية و تقنية و اقتصادية مستجدة و متغيرة ، و لم يسبق طرحها على حروف الطياعة من قبل . بينما انقطع تطور حروفنا العربية منذ زمن طويل ، و جمدت في مشيختها الهرمة .

كذلك استفادت من ( إنجازات ) الحروف اللاتينية حروف لغات عديدة غير لاتينية ، و أدخلت إلى تصميماتها قيما بصرية و ابتكارات و اكتشافات و حلولاً توصل إليها الحروف اللاتيني عبر طريق تطوره الطويل ( على سبيل المثال : حروف اللغات السلافية الأصل Cyrillic ( الروسية و البلغارية و الصربية ) – اليونانية – اليابانية و الصينية و الكورية – العبرية – بعض اللغات الهندية ) .

نحن أبضا علينا النظر بحساسية أقل إلى ضرورةاستخدامنا لبعض هذه الإنجازات ، و ضرورة استغلالنا لتلك الخبرات الجديدة للفرد العربي بقيم الحروف اللاتينية و جمالياتها و مقروئيتها ، و ذلك عند تصميم حروف عربية جديدة . و لا صلة لهذه الدعوة بالتقليد المتهافت الأعمى – و من موقع أدنى – لأشكال بعض الحروف اللاتينية و لزماتها الشكلية ، و لا بتلك الأشكال المتهافتة من الحروف ( العربية ) الهجينة التي ظهرت أحيانا في بلادنا خلال العقدين الأخيرين . و يجب أن يتلازم هذا التطلع إلى ما وراء الأفق مع بحث هاديء و عميق و تأمل للداخل : للخط العربي الذي يمثل جوهره جزاءاً حميما من تكويننا الثقافي و الوجداني و الروحي .

...

لنرفع أيدينا عن فن الخط اليدوي حين نتحدث عن حرف الطباعة ، إذ سيعيش الأول فنا جميلاً غالياً راقياً له وظائف الفن الطليعية ، و بحضر جليلاً في الأعمال التطبيقية الهامة الاستثنائية الخصوصية ، كما هو الحال في باقي العالم المتحضر ، بما فيه الهند و كوريا و الصين و اليابان و أمريكا اللاتينية . و علينا رعاية هذا الفن مثل كل فنوننا البصرية الأخرى ، و التعامل معه على هذا الأساس .

و ستظل لوحات الخطاط الفرد إيداعاً خالدا يحتل مواقعهة المتنوعة في حياتنا : في المتحف ، و في المعرض ، و في منازلنا ، و أماكن عملنا ، و على أغلفة كتبنا ، و وثائقنا ، و لافتاتنا ، و علاماتنا التجارية ، و على كل ما نحرص على تمييزه من مصنفاتنا .

أما حرف الطباعة فهو شان آخر جديد يحتاج اتكاتف عدد من التخصصات ، و قد أصبح صنعة و علماً ، له أصوله و مناهجه و معاهده لتكوين المبدعين فيه ، و أصبح الخطاط أحد التخصصات العامة في حقل حرف الطباعة ، و ليس المبدع الوحيد .

...

لم يعد من الجائز أن نشرع في تصميم حروف الطباعة بأساليب محددة من الأساليب التي قسم إليها الخط العربي من قبل : نسخ و رقعة و ثلث و ديواني و كوفي و فارسي و خلافها . إذ أن الضرورة في التحديث قد تحتم خلط او تهجين أساليب مختلفة : تهجين النسخ بالثلث و بلاكوفي القديم ، أو مزاوجة الكوفي الهندسي مع بعض حلول الحروف في الفارسي ، و هكذا .

و إذا ما هدف المصمم إلى تصميم عائلات حروف في ضخيات متباينة ، تؤدي كل منها دورها الخاص في مجال محدد من النشر و المطبوعات ( جريدة يومية ، مجلة سياسية ، شهرية أو فصلية ثقافية ، مجلة خفيفة ، مجلة افتصادية .. إلخ ) لن يكون الطريق هو طريق تصميم حروف بأساليب الخط القديمة الرائعة ، التي لم تعد تعبر عن شيء و لا تقول شيئا ، سوى المباهاة بالإجادة و الإحكام و العظمة .

و بمراجعة تصميماتنا الجرافيكية العربية في النشر و في الصحافة و الإعلان ، قد نكتشف أن من أسباب توقف تطور هذا الإنتاج في بلادنا هو تخلف تصميمات حروف الطباعة العربية . بينما نطالع التصميمات المناظرة في اللغات المكتوبة بالحروف اللاتينية ، فنرى اعتماد تلك التصميمات على التنوع الغني في أشكال حروف الطباعة ، بحيث إن الحروف في أغلب الأحيان تلعب دور البطولة في تصميم الإنتاج الطباعي في النشر و الصحافة و الإعلان .

و أصبح على الدول العربية مجتمعة أن تتعاون في تأسيس معهد لتكوين المصممين لهذه المهنة الجديدة ، يخطط عمله على أساس ظروفنا و احتياجاتنا الخاصة . و ربما كان علينا أن نستعين فيها بأساتذة من خارج بلادنا : من الغرب و من دول العالم الثالث التي سبقتنا إلى هذه التجربة ، مثل الهند و كوريا و اليابان و الصين .

إن استمرار الوضع المتخبط الملتبس القائم في بلادنا في هذا الميدان ، لم يعد تأثيره السلبي ينحصر في تشويه الذوق العام ، و في تعرية أحد تجليات تخلفنا ، بل هو تأثير سلبي فعلي قوي و تراكمي على العقل العربي ، و على الذاكرة الجمعية ، و على الحساسية ، و على الوجدان السليم ، و على قدرتنا على الإبداع و التفكير الحر .


محيى الدين اللباد
 
أعلى