نقد فيصل عبد الله العسكري - الكتاب في التراث العربي

المكتبات مظاهر علمية والأهتمام بها شرط للإحتفاظ بالمعلوم «لو تحطمت كل الآلات الحديثة ومعامل الذرة وبقيت المكتبات لتمكن رجل العصر من إعادة بناء هذه الحضارة الآلية والذرية ولكن لو تحطمت المكتبات فأن عصر القوة الآلية وعصر الذرة يصبحان شيئاً من آثار الماضي»(3)، وقد «بدأ اهتمام العرب يتركّز على المكتبات وخزائن الكتب في تأريخهم الحضاري بشكل جلي منذ الصعود الثقافي الذي اقترن بمرحلة نهضة الترجمة ونقل الكتب من اليونانية والسريانية والفارسية والرومانية منذ أيام عبد الملك بن مروان وسواهما من الخلفاء ثم وصلت العناية بالمكتبات أوجها ايام الدولة العباسية وخاصةً على عهد الرشيد وإبنه المأمون. وفيما بعد صار الإهتمام بالمكتبة جزءً لا يتجزأ من التقاليد الثقافية العربية في شتّى أرجاء الوطن العربي الفسيح»(4).
إن إنشاء المكتبات في الشرق العربي الاسلامي قد سبق حركة النهضة الأوربية وغيرها بدون شك بل هو سابق على إكتشاف العالم الجديد (الأمريكتين) عام 1492م. فأن أمريكا لم تقم فيها المكتبات إلا سنة 1663م، مكتبة هارفاردويل(5). إن إهتمام أهل العلم بالمكتبات قديم جداً فهو مصاحب للمدنية والتقدم، نجد الجهلة على العكس فهم لا يقيمون للكتب وزناً فقد عملت قبائل المغول الغازية في مكتبات البلاد التي إجتاحتها حرقاً وتخريباً وأدل مثال ذلك ما أجمعت عليه الكتب التي أرخت دخولهم بغداد عام 1258م إذ أدى بهم جهلهم الى «أن أحرقوا الكتب والمكتبات ورموا المخطوطات التي لم تأت عليها النيران في دجلة، ويخبرنا المؤرخون أن ماء دجلة قد تلوّن من أثر حبر المخطوطات لأيام عديدة»(6).
وفي الغرب أعمى التعصب بعض الطوائف الأوروبية، فقضوا على البقية الباقية من مسلمي الأندلس وفي تلك الفتن أتلفت وفقدت مئات الألوف من المجلدات الضخمة واتلف في المكتبة العربية بقرطبة أكثر من اربعمائة مجلد في شتى المعارف والفنون ولولا طغيان البرابرة شرقاً وغرباً لجاءنا تراث يدعو الى العجب(1).
وأمر الكاردينال (شيمتر) بأحراق ثمانين ألف كتاب في ساحات غرناطة بعد استظهارهم عليها فأحرقوا وهم لا يعلمون ما يعملون حتى أفنوا على ماقال مؤرخهم (ربلس) ألف ألف وخمسة آلاف مجلد كلّها خطتها أقلام المسلمين. والسفن الثلاث التي ظفر بها مشحونة بالمجلدات العربية الضخمة وطالبةً ديار سلطان مراكش فسلبوها وألقوا بكتبها في قصر (الاسكوريال) سنة 1671م(1082هـ) حتى لعبت بها النيران فاكلت ثلاثة أرباعها ولم يستخلصوا منها إلا الربع الأخير حينئذ ضخم استفاقوا من غفلتهم وعلموا كبير جهالتهم. ففوضوا الى ميخائيل القيصري الطربلسي الماروني ترتيبها وكتابة أسمائها وكتب لهم أسماء 1851 كتاباً. أمّا مكتبة طرابلس الشام فقد كان فيها من الكتب القيمة عندما قام الصليبيون بأحراقها اثناء حروبهم ثلاثة ملايين كتاباً وقد أقر الأفرنج بهذا قبل غيرهم(2).
ومن الأدلة على اهمية المكتبات في العصر الحديث ما قامت به منظمة الجيش السري الفرنسية قبيل إستقلال الجزائر عام 1962م، إذ جعلت مكتبة جامعة الجزائر هدفاً لها حين اتبعت سياسة الأرض المحروقة فحرمت أبناء الاسلام من كنوزهم العلمية، لقد عملت تلك المنظمة ذلك المنكر عن وعي ودراية بأهمية المكتبات في حياة الشعب فكان إحراق مكتبة جامعة الجزائر عملاً منكراً، ويدفعنا الشعور بالمسؤولية لتعويض ما خسرناه الى العمل «ويجب إحياء ما تركه علماء العرب وأدباؤهم من ذخائر علمية وأدبية وإخراج تلك الكنوز من اصولها ونشرها في العالم حتى يشعر العرب وغيرهم بما كان لأبنائنا الأولين من أثر في الحضارة والمدنية والعلوم ونعمل على إعادة مجدنا القديم ونحيي آثارنا التالدة وثقافتنا الخالدة»(3).
«الحق إن في تراثنا من المبادىء الإنسانية والفكر المتمدّن والعقل الواسع والخلق المتين ما يرفع الإنسان الى أعلى درجات الحضارة والتمدن وهي أسس يجب ان نحافظ عليها ونغذيها وندعو الى سبيلها، وفي تراثنا من النتائج الفكرية ما هو حلقة من سلسلة الحضارة الانسانية وتتصل بما قبلها ويتصل بها ما بعدها فهي جزء من طاق الإنسان مدى الزمن»(4).
«وللمكتبات أهمية في حفظ التراث وبث التوعية بين المواطنين ورفع مستواهم الثقافي نتيجة للعصور المظلمة وشمل هذا الإهتمام جميع أنواع المكتبات. وأصبحت محطاً للباحث والدارسين في مختلف العلوم والفنون وعلى كافة المستويات العلمية والأعمار»(5). والكتاب من أكثر وسائل العلم تداولاً وحفظاً وسهولة إنتقال بل وأرخصها. لقد أدى إعتزاز اهل العلم بكتبهم الى تأسيس المتكبات وحفظ كتبهم في خزانات تليق بها. وكلما تقدم شعب بعلومه زاد إهتمامه بالكتب فهي سجل العلوم والمعارف.
وكان المستشرقون والمهتمون بالعلوم من أهل الغرب يأتون الى البلاد الإسلامية فيشترون الكتب القديمة ليهدوها أو يحتفظوا بها لأنفسهم. وتوجد الآن مجموعات كبيرة من الكتب القديمة الحاوية لتراثنا في مكتبات الغرب «نهباً او إمتلاكاً كالنهب على أيدي السماسرة الذين إنتشروا في البلاد، يخادعون السذج الذين يمتلكون الكتب النوادر ويبتاعونها منهم بأثمان بخسة وينقلونها الى مكتبات الغرب، ثم صرنا نستجديها منهم ونبذل من الجهد والمال في سبيل تصويرها مالاحد له فيحجب عنا منها المهم جداً. ويصور ماعداه وقلما يصورونه كاملاً ليعطلوا نشره»(1).
وكما تعرض الوطن الإسلامي للإحتلال في العهود السابقة ونهبت خيراته الإقتصادية فقد تعرضت للنهب كذلك ثروته الأثرية والثقافية. «وتدلنا احصائية معهد المخطوطات العربية التابعة لجامعة الدول العربية ان هناك ثلاثة ملايين مخطوطة تم نقلها الى مكتبات تركيا وروسيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية التي إستحوذت وحدها على خمسة عشر ألفاً منها عشرة آلاف في مكتبة جامعة برنستن»(2). «وحين دهم الأتراك العثمانيون الشرق العربي وقضوا على دولة المماليك في الشام ومصر والحجاز لم يسلم منها إلا القليل من أيدي آل عثمان بعد فتح مصر سنة 923هـ. فقد استولى الولاة الأتراك وغيرهم على كثير مما حوته من الكتب التي تعج بها الخزانات المكتبية للمدارس المملكوية وغيرها، هذا بخلاف ما أخذه السلطان سليم الأول معه عند رحيله من مصر الى إستنبول إذ يقول إبن إياس المؤرخ المعاصر للفتح العثماني، إن الوزراء كانوا يأخذون الكتب النفيسة التي في المدرسة المحمودية والمؤيدية والصرعتمشية وغير ذلك من المدارس ونقلوها عندهم ووضعوا أيديهم عليها ولم يعرفوا الحلال من الحرام في ذلك. ولا تزال مكتبة الأستانة تضم مجموعة كبيرة من المخطوطات وغيرها مما تسرب اليها بطريقة وأخرى»(3). وفي المتحف البريطاني حالياً زهاء خمسة وعشرين ألف رقيم تبحث في المدن والآداب والشؤون الأخرى وهي محفوظة نُقلت من خزانة الكتب لألواح الطين التي أنشأها الملك اشوربانيبال(669 ـ 626 ق.م)»(4).
إن الأمم عندما تصل الى درجة عالية من الثقافة يُقدر حكامها العلماء والأُدباء والشعراء ويهتمون بجمع المؤلفات على مختلف أنواعها وتسهيل الأطلاع عليها لأبناء الشعب. وهو ما يعرف في أوقاتنا بالمكتبات العامة(5) «فلم تكن المكتبات سوى قاعات للثقافة الشاملة حيث ترفد الفكر البشري بمادته الحية التي تساعده على سد الثغرة الكبيرة التي يعاني منها واقعنا البشري، فليس غريباً ان تتسلّل من هذه الثغرة عوامل الضعف والتخلف»(6).
«وقد بعث المسؤولون بمكتبة الإدارة الثقافية في الجامعة العربية سنة 1952م مندوبين الى تركيا لتصوير المخطوطات النادرة التي لا وجود لها في مصر وهما الأستاذان رشاد عبد المطلب ومحمد تاويت الطنجي المغربي وكلاهما ممن له شهرة معروفة في المخطوطات»(1)، كما تأسس في بغداد مركز لحفظ الوثائق والمحفوظات والسجلات التأريخية اسس عام 1963م على أثر صدور قانون المركز الوطني لحفظ الوثائق رقم 143. وكان في بداية الأمر تابعاً لجامعة بغداد، وبعد اتّساع خدماته وازدياد نفقاته ارتوئي في عام 1969م ان يلحق بوزارة الإعلام وإجراء تعديلات أساسية على وظائفه وأغراضه»(2). وقد نما المركز تدريجياً فأصبح يضم السجلات والملفّات التي تتعلق بفترة السيطرة البريطانية 1916 ـ 1932م بالإضافة الى الأوراق التي كانت محفوظة في البلاط الملكي كذلك المواثيق والمراسـلات والإتفاقات الخاصـة بعلاقـة العـراق مع الدول المجاورة(3).
وعندما صدر القانون رقم(20) لسنة 1974م القاضي بجمع وتسجيل المخطوطات القديمة اذ اعتبر المخطوطات من المواد الأثرية إستجاب كثير من المواطنين حتى بلغت مخطوطات المتحف العراقي يوم 2/5/1976م (390 - 251) مخطوطة مسجلاً فعلاً في قسم المخطوطات بالمكتبة(4).
كما أقر مشروع قانون ـ أقرته لجنة تضم ممثلين عن الأقطار العربية إجتمعوا في القاهرة ـ ينظم وضع المخطوطات لدى الجهات الرسمية والأفراد وكيفية حفظها وصيانتها وتيسير الإنتفاع بها(5).
ويؤكد المهتمون بالثقافة والعلم على مكتبات المدارس ورعايتها إذ يوجبون «أن تحظى مكتبة المدرسة بعناية خاصة، حتى تؤتي الثمر المرجو منها وتؤدي رسالتها التي خلقت لها، فتختار الكتب التي تناسب الفرق المختلفة، وتفرض زيارتها في حصص خاصة داخل الجدول أو خارجه ويجب ان تخصص أوقات واسعة للمطالعة الحرة بها وتسهل الإستعارة منها. ويتقضي ذلك تعيين أمين لكل مكتبة ليس له عمل غيرها أو تكون الجزء الرئيسي من عمله، كما يقتضي ايجاد الأماكن المناسبة والأثاث المريح وإنفاق الأموال بالكتب الجديدة»(6).

إعارة الكتب وإهدائها في عصورها المختلفة
إعارة الكتب وإهداؤها لطف وإحسان من مالكها، فاقتضت العادة قبولها بالايجاب والشكر والإمتنان من الطرف المهدى اليه او المستعير. وقد تكون إعارة الكتب واجباً على من بعهدته الكتب حين يكون موظفاً لدى الدولة أو أيّة هيأة يحصل منها الموظف أجراً.
«إن رسالة المكتبة الأساسية هي توفير المواد الثقافية اولاً، ثم تنظيمها وتيسيرها للقراء والمنتفعين»(7)والواجب على موظف المكتبة الإخلاص في عمله والنصح لمراجعيه، كما ان على المستعير الإستفادة من الكتاب باقصر وقت ليتيح لغيره الإستفادة منه، وللإستعارة آداب تراعى وفقاً للمصلحة العامة. وقد كان الحرص على الكتب شديداً في المكتبات الآشورية «وقد يضيف قَيِّم المكتبة امعاناً في المحافظة على تلك الرُّقَم بعض اللعنات على من يتأخر في إعادة الرُّقَم المعارة»(1). كما يوصي المعتزون بالكتب والمهتمون بها بوصايا إمعاناً منهم في الحفاظ عليها. ومن هذه الوصايا «أيها القارىء الصديق إسحب اصابعك واحذر ان تفسد كتابة هذه الصفحات فأن الذي لا يشتغل بنسخ الكتب لا يعرف الجهد الذي نبذله في هذا السبيل، إن النساخ يرحب بآخر سطر في المخطوط ويطرب لرؤيته كما يطرب الملاح لرؤية الميناء فأن النساخ يقبض على القلم بثلاثة أصابع ولكن جسمه يشقى بأجمعه في هذه المهمة»(2).
وجاء في وصية أُخرى تأكيداً لما في سابقتها من التحذير وبيان حال الناسخ: تحني الظهر وتظلم البصر وتكسر المعدة والاضلاع فصَلِّ إذن ايها الأخ من أجل الفقير راؤول عبد الله الذي كتبه كله بيده في دير سنت أنيان»(3).
وفي العصر العباسي فقد أتيح للمصلين في المساجد ان يستفيدوا من مجاميع الكتب الموجودة مقابل ايداع شيء كخاتم ذهبي مثلاً، كما انه من الصعب إعارة المخطوط لشخص ما إلا اذا كان معروفاً لدى خازن الكتب او أنه قدم بصحبة معروف لديه.
اما المكتبات العامة الكبيرة فتفتح أبوابها للجميع بدون تمييز ونذكر بعض المصادر بهذا الشأن ان المجال كان مفتوحاً لجميع الناس على السواء للتفرج على الكتب واستعارتها(4).
ولم تعرف الجامعات الأوروبية (اوكسفورد وكمبرج) نظام المكتبات إلا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين حتى أن هذا العصر يسمى في اوروبا (عصر انشاء المكتبات) وكانت الكتب في المكتبات الاوربية لا يسمح للطلاب أوّل الأمر بالاطلاع عليها. وكانت المخطوطات في بعض الكنائس والمكتبات تثبت بسلسلة كما تبين من بعض المخطوطات التي وصلت الينا وفيها الحلقات التي كانت تمر بها السلاسل المثبتة بالأدراج. وكان الغرض من تثبيتها في تلك السلاسل حمايتها من اللصوص مع تمكين الجمهور من الإنتفاع بها(5) «ورغم حرص القيمين على المكتبات في الإحتفاظ بمجموعاتهم كاملة إلا ان كثيراً من الكتب لم تجد طريقها ثانيةً الى المكتبة»(6). وأعمال كهذه تؤدي بالبعض الى التشدد في الإحتفاظ بكتبهم، وإطلاق الشتائم على من لم يعيدها كما ورد عن «إبن الصارم المتوفى سنة 1556م إن إستعارة كتاب مني وعدم إعادته إلي إنما هو عمل غير نبيل بل وإن القائم به لتافه وخائن»(7)، إن الاستعارة الكتب وعدم إرجاعها لأصحابها قد قطع سبيل المعروف على كثيرين مما حدى بأحدهم ان يقول: «لا تُعر كتاباً إنما قدم عذراً لذلك وأكذب من أجله فأن ذلك هو سبيل التصّرف الحكيم في مثل هذه الاحوال وإذا لم تتعظ بكلماتي فإنك ولا ريب ستفقد ذلك الكتاب الى الأبد»(1)، وأشد نكيراً من ذلك ماسمعته من معتز بكتبه (المعير أحمق) وحدثني آخر انه أمضى عدة أيام يمحو هوامش وتعليقات كتبها مستعير على كتاب يعتز به. لذا تجب العناية بالكتاب المستعار وعدم العبث به او تأخيره وقتاً يحرم غيره من الإنتفاع به وقد كتب معتزُّ بكتبه لمستعير إستعار منه كتاباً فأبطأ عليه:
ماذا جناه كتابي فاستحق به***سجناً طويلاً وتغييباً عن الناس
أطلقه كي نسأله عما حل به***في عقر دارك من ضر ومن بأس
«ولم يغفل عبد الباسط بن موسى بن محمد العلموي وهو من علماء القرن العاشر الهجري عن ذكر آداب إستعمال الكتاب وفقاً للقاعدة الشرعية. ومن ذلك أنه لا يجوز للمرء ان يصلح كتاب غيره بغير إذن صاحبه، وإذا نسخ منه أو طالعه فلا يضعه مفروشاً على الأرض ولا يطوي حاشية الورقة وزاويتها كما يفعله كثير من الجهلة»(2).
ويقطع المؤرخ البصري عبد القادر باش أعيان برأيه الرافض لأعارة أي من كتبه إذ علق لافتةً كتب عليها بقوله الفصل:
ألا يا مستعير الكتب إليك عني***فأن إعارتي للكتب عار
فمحبوبي من الدنيا كتاب***وهل أبصرت محبوباً يعار(3)
ومن الناس من يتخذ الإستعارة وسيلة لسرقة نفائس الكتب إذ إستحوذ عبد الإله الوصي على عرش العراق في العهد الملكي سنة 1955م على نسختين خطيتين من القرآن الكريم دفعت مديرية الآثار ألفي دينار لقاء الحصول عليها، إذ إستعمارهما من مكتبة المتحف ولم يرجعها فجرت إتصالات بين المسؤولين في مديرية الآثار ومجلس الوزراء الذي أحال القضية الى وزارة المالية وهذه بدورها تساءلت إذا كان مقرراً أن تهدى هاتان النسختان من القرآن الكريم الى الوصي على عرش العراق فلابد ان يسدد ثمنهما لأنه من مال الدولة! فتعقدت الأمور حتى جاء الحل بإجتماع مجلس النواب الذي قرر إهداء النسختين الى عبد الإله دون مقابل، مع إشعار بضرورة شطبهما من مخطوطات المتحف»(4).
وفي الوقت الحاضر يصر البعض على دفع الغرامة غير آبه بحرمان رواد العلم والمعرفة من الإستفادة من تلك الكتب، وهذا تأكيداً للأنانية والشح الذي تتصف به بعض النفوس كما ان قبول المشرفين على المكتبات أمثال هذه المعاملات مخالف للمصلحة العامة إذ لا ثمن للكتاب وحبذا لو ألغي هذا النوع من التعامل. وفي الوقت الذي نشجب فيه أنانية نفر من الناس، نكبر في الأديب البحريني الشاعر إبراهيم العريض شهامته وكرمه «اذ تبرع بمكتبته الخاصة التي بلغت عشرين ألف كتاب الى نادي العروبة في المنامة. وقد قرر النادي تخصيص جناح خاص لها»(5). وهذا مثل فريد في الأريحية ضربه الشاعر البحريني فكان قدوةً قل نظيره ويصح فيه قول «أبي الكرم خميس بن علي الجوزي»:
كتبي لأهل العلم مبذولة***أيديهم مثل يدي فيها
متى أرادوها بلا مثّه***عارية فليستعيروها
حاشاي ان امنعها عنهم***كلا، كما غيري يخفيها
أعارنا أشياخنا كتبهم***وسنة الأشياخ نمضيها(1)
«وقدم السيد حسين أحمد الحكيم من كركوك(140) مائة وأربعين مخطوطة الى المكتبة العامة»(2) والتبرع بالكتب واهداؤها للمكتبات سنة حسنة «إذ كان من عادة الخلفاء والأمراء والنبلاء واهل المعرفة ان يوقفوا مجموعات كتبهم في أواخر أيّامهم على تلك المكتبات»(3).
وفي هذا العصر حيث يسرت المطابع نشر الكتب فقد إعتاد المؤلفون إهداء نسخ من كتبهم التي يؤلفونها الى اساتذتهم ومعارفهم المهتمين بالعلم والمعرفة، للأفادة والتعريف.

الكتاب في الأدب العربي

نلاحظ البعض ممن يعتزون بكتبهم يكتبون قوله تعالى: «فيها كتب قيمة» على واجهات خزانة كتبهم. «ولما أُنشئت المكتب الأولى في مصر وضعت تحت حماية الآلهة (على حد زعمهم) وكتب على بابها (هنا غذاء النفوس وطب العقول). وقد كثرت الأقوال في الكتاب من تحبيب الى قراءته وحث عليها ووصف ما فيه وتثمينه ودعوة لإحترامه وحفظه والإعتزاز به والإستئناس والتلذذ به الى التأسف على فقده والحث على إعارته أو منعها «فقالوا في سبب تسميته: سمي الكتاب كتاباً لاجتماع الحروف فيه كما سمّي العسكر كتيبة لاجتماع الجند فيه». وقد أفاض العلماء والشعراء بوصف الكتاب ومنافعها نظماً ونثراً.
1 ـ قال الحكيم الفارسي بزرجمهر: الكتاب أصوات الحكم تنشق عن جواهر الكلم; وقيل له ما بلغ بكتبك؟ قال: هي إن سررت لذتي وإن إهتممت سلوتي.
2 ـ قال إبن الطقطقي في كتابه الفخري: قالوا في فضيلة الكتب: إن الكتاب هو الجليس الذي لا ينافق ولا يجلّ ولا يعاتبك إذ جفوته، ولا يفشي سرك(4).
3 ـ قال الجاحـظ: الكتاب وعاء ملىء علماً، وظرف حُشي ظرفاً... وبستان يحمل في ردن، وروضة تُقل في حجر، وناطق ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء... ولا أعلم رفيقاً أطوع، ولا معلماً أخضع ولا صاحباً اظهر كفايةً، ولا أقل جنايةً ولا أكثر أُعجوبةً وتصرفاً، ولا أقل تصلفاً وتكلفاً، ولا أزهد في جدال ولا أكف عن قتال من كتاب.
ولا أعلم قريناً أحسن موافاةً، ولا أعجل مكافاةً، ولا أحضر معونةً، ولا أخف مؤونة ولا شجرة أطول عمراً، ولا أطيب ثمرةً، ولا أقرب مجتنىً من الكتاب... ولا أعلم نتاجاً في حداثة سنة، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان وجوده، يجمع من التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القويمة، والتجارب الحكيمة، وإخبار عن القرون الماضية والبلاد المتنازحة، والامثال السائرة، والأمم البائدة، ما يجمع لك الكتاب»(1).
4 ـ قال ابن المعتز: الكتاب والج الأبواب جريء على الحجاب مُفهم لا يفهم، وناطق لا يتكلم. وبه يشخص المشتاق، إذا أبعده الفراق.
وفي تأليف الكتاب «تقول هذا الكتاب نفيس جليل جامع غزير المادة جم الفوائد قريب المنال داني القطوف، سهل الإسلوب، عذب المورد، ناصع البيان واضح التعبير تدرك فوائده على غير مؤونة ولا كدّ ذهن ولا جهد فكر ولا إرهاق خاطر. وتقول: وقد تصفحت مؤلف كذا فإذا هو كتاب أنيق، حسن، فصيح الخطبة حسن الديباجة، محكم الوضع مناسب التبويب مطرد الفصول، وهو كتاب فريد في فنه مبسوط العبارة مسهب الشرح، مستوعب لأطراف الفن، قد استوعب اصول هذا العلم وأحاط بفروعه واستقصى غرائب مسائله ولم يدع آبدةً إلا قيدها ولا شاردةُ إلا ردها إليه، لم يصنف في بابه أجمع منه وقد نُزه عن التعقيد والإشكال والابهام واللبس واللغو والحشو والركاكة. وتقول: هذا مؤلف مختصر، وجيز وموجز، مدمج التأليف محكم الحدود، جزل التعبير، قد لُخصت فيه قواعد العلم أحسن تلخيص وحررت مسائله أحسن تحرير، وعليه شرح لطيف كافل بيان غامضه وإيضاح مبهمه وحل مشكله وتفصيل مجمله، وبسط موجزه وتقريب بعيده، والكشف عن دقائق أغراضه، ومكنون أسراره»(2).
وقد أكثر شعراء العرب من نظم الشعر في المكتبات والكتب وما يتصل بها من حب وإستئناس بها وحرص عليها وحث على قراءتها، فالشاعر ابو الطيب المتنبي قد قال:
أعز مكاني في الدنيا سرج سابح***وخير جليس في الزمان كتاب
وقد أظهر أولاً حبه لظهر الفرس لأنه فارس كما بين افضل من يستأنس به وهو الكتاب(3).
ويكاد يشابهه في قوله الشاعر أحمد شوقي إذ يفضل الكتاب على الأصحاب فقال:
أنا من بدل بالكتب الصحبا***لم أجد لي وافياً إلا الكتابا(4)
والصواب أن يقول:
أن من بدل بالصحب كتاباً***لم أجد لي وافياً إلا بكتابا
ويكاد الأديب العالم بهاء الدين العاملي يشابه الشاعرين في الأستئناس كثيراً بالكتب حيث قال لاحد الأكابر في كتابه المفضل لديه:
جميع الكتب يدرك من قراها***ملال او فتور او سآمة
سوى هذا الكتاب فان فيه***بدائع لا تُحلَّ الى القيامة(5)
اما إبن الجهم فيكاد يبزُّ من ذكرناهم في شغفه واستئناسه بالكتب ويمتدحها ذاكراً أفضالها:
لنا جلساء لا نمل حديثهم***ألبَّاء مأمونون غيباً ومشهداً
يفيدوننا من علمهم علم من مضى***ورأياً وتأديباً ومجداً وسؤدد
فلا غيبة تخشى ولا سوء عشرة***ولا يختشى منهم لسناً ولا يدا
فأن قلت أموات فلم تبر أمرهم***وإن قلت أحياء فلست مفندا
ويؤكد إبن الجهم مديحه للكتاب بقوله:
سميرٌ إذا جالسته كان مسليا***فؤادك عما فيه من ألم الوجدِ
يفيدك علماً او يزيدك حكمة***وغير حسود او مصرُّ على حقد
ويحفظ ما استودعته غير غافل***ولا خائن عهداً على قدم العهد
زمان ربيع في الزمان بأسره***يبيحك روضاً غير ذاو ولا يجعد(1)
أما أحمد بن رضا المالقي فيؤكد لذته بقراءة الكتب بقوله:
ليس المدامة مما استريح له***ولا مجاوبة الأوتار والنغم
وإنما لذتي كتب أطالعها***وخادمي أبداً في نُصرتي قلمي(2)
وقال أخر في أنسه بالكتاب قاطعاً بمطالعته ليلَ الشتاء
نديمي هرتي ونديم نفسي***دفاتر لي ومعشوقي السراب
إذا ضاقت امور الدهر قلنا*** عسى يوما يكون لها انفراج
ويذكر البعض اعتزازهم وشغفهم بكتاب معين مثل بهاء الدين العاملي الذي ذكرنا قوله فيصف شاعر آخر كتاباً بأنه سرورٌ لمن يقرأُه:
كتاب في سرائره سرور***مُناجيه من الاحزان ناجي
كراح في زجاج بل كروح***سرت في جسم معتدل المزاح(3)
ومن الشعراء المعاصرين المرحوم الخطيب حميد السنيد يذكر إعتزازه بالكتب واتخاذه الكتاب سميراً واعتزازه بشعره إذ يعد ديوانه إرثاً:
قد أنكروني بنو قومي وما علموا***أني امرؤ قد سمت بي للعلى قدمُ
أعيش عنهم بعيداً لا يسامرني***إلا الكتاب بليل الهمّ والقلم
أصوغ من دُرَرِ الألفاظ ما عجزت***عن مثله العرب الأمجاد والعجمُ
دونت منه المعاني المنتقاة***بأصباغ القريحة فازدانت بها الكلم
صهرتهنَّ بقدر الفكر فانبعثت***نارُ الشعور لها من تحته ضَرَمُ(4)
وقد ظهرت في بيته الأخيرين عصاميته معتزّاً بعمله إذ كان عمله الرئيسي صبغ الملابس إذ كان يعمل قصّاراً في مدينة سوق الشيوخ في جنوب العراق.
وقال معتزاً بشعره:
إن أرهق الموت روحي***ونما في التُّربِ جسمي
فثروني بعد موتي***ديوان شعري ورسمي(1)
وممن قالوا في كتاب بعينه الشاعر أحمد شوقي تحلية الكتاب فتح مصر الحديث لحافظ بك عوض:
صاحب إن عبته او لم تعب***ليس بالواحد للصاحب عابا
كلما أخلقته جددني***وكساني من حلي الفضل ثيابا
صحبةٌ لم أشكّ منها ريبةً***وودادٌ لم يكلِّفني عتابا
ربَّ ليل لم نقصرّ فيه عن***سَمَر طال على الصمت وطابا
كان من هم نهاري راحتي***وندامي ونُقلي والشرابا
ان يجدني يتحدث او يجد***مللاً يطوي الأحاديث اقتضابا
تجد الكتب على النقد كما***تجد الأخوان صدقاً وكذابا
فتخيّرها كما تختاره***وادّخر في الصحَّب والكتب اللبابا
صالح الأُخوان يبغيك التقى***ورشيد الكتب يبغيك الصوابا(2)
وقال آخر في تثمين الكتاب:
وهذا كتاب لو يباع بوزنه***ذهباً لكان البائع المغبونا
او ما منِ الخسران أنك آخذٌ***ذهباً وتترك جوهراً مكنونا(3)
وقد تدعو الحاجة الإنسان فتضطره لبيع كتاب عزيز عليه كما حدث لأبي الحسن علي بن احمد بن سلك الغالي إذ كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لإبن دريد فدعته الحاجة الى بيعها فاشتراها الشريف المرتضى بستين ديناراً وتصفحها فوجد بها بخط بائعها أبياتاً هي:
أنست بها عشرين حولاً وبعتها***لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظنّي انّني سأبيعها***ولو خلّدتني في المجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية***صغار عليهم تستهل شؤوني
فقلت ـ ولم أملك سوابق عبرة ـ***مقالة مكوي الفؤادِ حزين
وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك***كرائم من رب بهنَّ ضنين
فأرجع السيد اليه النسخة وترك ثمنها(4).
ويصف لنا شاعر من العصر العباسي مكتبةٌ اعجبته فقد قال موفق الدين القاسم بن ابي الحديد في دار الكتب التي أنشأها الوزير مؤيد الدين بن العلقمي في داره، وكان فيها عشرة آلاف مجلد من نفائس الكتب (التي ذكر اسماء قسم منها):
رأيت الخزانة قد زُينت***بكتب لها المنظر الهائلُ
عقول الشيوخ بها أُلفت***ومحصوله ذاك والحاصلُ
ولما مثلت بها قائماً***وأعجبني الفضل والفاضلُ
تمثلت أسماءها منكم***على النقل ما كذب الناقلُ
بها (مجمع البحر) لكنه***من الجود ليس له ساحلُ
ومنها (المهذّبُ) من فضلكم***و(مغن) ولكنه نائلُ
ومنها (الوسيط) بما ترتجيه***وفيها (النهاية) و(الكاملُ)
وإن كان اعوزها (شامل)***فقد زانها جودك الشاملُ
وإن كان قد فاتها فائتٌ***ابو الفضل في علمه (كاملُ)(1)
ووصف لنا شاعر معاصر هو السيد أحمد الصافي النجفي إذ قال في مكتبته مقارناً بينها وبين مكتبات المترفين بأسلوب ساخر:
مبعثرةً جميع الكتب عنديِ***قد انتشرت كعائلتي بداري
تعيش بغرفتي متنقلات***فليس تستقر على قرار
وكتب المترفين مجمدات***تعيش غريبة عيش الأسار
مُحرّمة على انظار قار***مهيأة لجاه وافتخار
غدت مؤودة في مكتبات***فقد بليت من الموتى بجار(2)
والصافي ممن يحثون على قراءة الكتب فهو يريد للكتب ان يقرأها الناس في كل العصور أما تركها فقد إعتبره فجيعة لها. إذ قال:
في أعصر الآلات قد فجعت***كتب بقرّاء ألباءِ
قالوا ستخلد قلت كيف وهل***يجدي الضياء وماله راء؟
هب إن شعري خالد أبداً***إني أريد خلود قرّائي
ما نفع كون زال فاهمه***ما نفعَ دنياً دون أحياء
ما الحسن لولا عين مبصرة***إلا كلحن عند صماء(3)
ويشابه رأي الصافي أُستاذ إمتدح كتاباً امام تلاميذه فقال احدهم، الكتاب عندي، فقال الاُستاذ: وماذا أعجبك منه؟ قال التلميذ لم أقرأه بعد، فقال الاُستاذ متهكماً:
وعند الشيخ كُتبٌ من ابيه***مُسفَّطةً ولكن ما قراها
ومثلما كان الصافي يتألم على ترك الكتب بغير قراءة لها فأنه كان يتألم لما يصيبها من تلف بسبب أكل العث لها فقال باسلوبه الساخر:
العث بالكتب مولع أبداً***يأكل منها ما شاء منتخبا
يلهم إحلى اشعارها طرباً***لا يشتكي تخمةً ولا تعباً
كم أي قول بالأكل انقضه***لم يبق منه رأساً ولا ذنبا
فحار فكري في كشف غائبه***وعدت للعجز حائراً غضبا
وصحت بالعث ثائراً صخبا***يلعن شعري أما وأبا
هل يا ترى العث يعشق الأدبا***كذلك يهوى الاشعار والكتبا!
أهو الاديب الأمي يعجز ان***يتلو لذا راح يأكل الأدبا(1)
ويصور لنا الاستاذ جميل علوش حاله مع الكتاب فيصفه بأنه أعجز من كل خليل ويعتبر صفحاته رياضاً منعشةً مليئة بالعلماء، والادباء والحكماء البلغاء وكأن الكتاب ينقلهم اليه من كل قرن. فيقول:
لقد صمت طويلاً***والصمت يوهي ويُضني
أطبقت دون القوافي***بابي وأغلقت حصني
فقد شغلت زماناً***عنها بشرح ومتن
بسيبويه وحيناً***بثعلب وابن جنّي
واليوم اسمع صوت القصيدة***يقرع اذني
وحدي هنا أنا احيي***سود الليالي وأفني
وفي يدي كتاب***أعز من كل خِدنِ
أطوف من دفّتيه***في كل روض أغْنِ
إن هُم خلّ بخبن***فما يهم بخبْنِ
حسبي بأن صحابي***الأفذاذ من كل قرنِ
من عالم وأديب***وشاعر ومغنِ
إن حدثوا فَفِصاحٌ***مَقاوِلٌ غيرَ لكنِ
فما يُشاب بلبس***بيانهم او يلحبنِ
غُنيت عن كل غال***منهم بطفرة ذِهِنِ
بحكمة او بلمح***من البلاغة مُغنِ
او بيت شعر أنيق***من جوهر اللفظ مبني
له إفترارة ثغر***عذب وضحكة سنِّ(2)
أما الشيخ عبد القادر باش أعيان فيعتبر الكتاب حبيباً لا تصح إعارته ومفارقته قاطعاً بذلك الطريق على من يريدون ابعاد حبيبه عنه حيث يقرأ من يريد إستارة كتاب منه على باب مكتبته البيتين التاليين:
ألا يا مستعير الكتب إليكَ عنّي***فأن إعارتي للكتب عارُ
فمحبوبي من الدنيا كتابٌ***وهل أبصرت محبوباً يُعار(3)
حقاً إن في الأدب العربي روائع زاهية نثراً ونظماً قيلت في الكتاب وهي لكثرتها لا تحصى بل مستمرة مادام الكتاب ومحبوه.
اما الأديب العالم بهاء الدين العاملي فله رأي آخر في الكتب بعد ان تقدم به العمر وآثر العزلة والتصوف في بيت المقدس، حيث يرى في جمع الكتب مضيعة للوقت والمال ذاكراً في الأبيات التالية أسماء الكتب الشهيرة في زمانه:
على كتب العلوم صرفت مالكَ***وفي تصحيحها اتعبتَ بالَك
وأنقضت البياضَ مع السوادِ***على ما ليس ينفعُ في المعادِ
تظلّ من المساء الى الصباح***تطالعها وقلبك غير صاحي
وتصبح مولعاً من غير طائل***لتحرير المقاصد والدلائل
وتوضيح الخفا في كل باب***وتوجيه السؤال مع الجوابِ
لعمري لقد أضلّتك الهداية***ضلالاً ماله أبداً نهاية
وبالمحصول حاصلك الندامة***وحرمان الى يوم القيامة
وتذكرة المواقف والمقاصد***تسدُّ عليك أبواب المقاصد
فلا تنجي النجاةُ من الضلاله***ولا يشفي الشفاء من الجهاله
وبالارشاد لم يحصل رشادٌ***وبالتبيان ما بان السدادُ
وبالأيضاح أشكلتَ المدارك***وبالمصباح أظلمتَ المسالك
وبالتلويح ما لاح الدليلُ***وبالتوضيح ما اتضح السَّبيلُ
صرفت خلاصة العمر العزيزِ***على تنقيح أبحاث الوجيزِ
بهذا النحو صرف العمر جهلٌ***فقم واجهد فما في الوقت مهلُ
ودع عنك الشروحَ مع الحواشي***فهنّ على البصائر كالغواشي(1)
وبعد ان ألف الشيخ أحمد الحملاوي كتاب (شذا العرف في فن الصرف) قرض هذا الكتاب بعض الأفاضل العلماء ومنهم الشيخ طه قطرية مقرظاً ومؤرخاً عام طبعه وهذه أبيات من شعره:
العلم أحسنُ ما به ظفرت يدُ***عَظَمت علي به لاستاذي يدُ
لعلم بيتُ والمعلّم سُلّم***من أين ترقى البيت لولا المصعدُ
والعلم إن انصفْتَ لا تعدلِ به***عرضاً من الدنيا يزولُ وينفدُ
فانهض الى كسب العلوم مُنزّها***للنفس عن خلق يشينُ ويفسدُ
فإذا فعلت فأنت شهم سيّدٌ***تسعى لخدمته الملوك وتجفدُ
نمت به أوصافه الغرّا كما***نَمَّ«اشذا» فينا بفضلك «أحمد»
هذا الكتاب غنيمة الصرفي مِن***زمن به «دار العلوم» تُشَيِّدُ
لم ألقَ اطيب من «شذا العرف» الذي***أهدى الينا ذا الهمام الأمجدُ
يا قوم دونكم الشذا فتمسكوا***بمداده وبه الى الصّرف اهتدوا
وبه ثقوا، وله اسمعوا قولاً وعُوا***واذا قضى أمراً فلا تتردَّدوا
وبه افرقوا بين الصحيح وما بدا***فيه اعتلال وهو منه مُجرّدُ
فمباحث التصريف قد اضحت به***كالشمس صاحية عليها فاشهدوا
لا تعجبوا للصرف مجتمعاً به***شملاً فأصل الجمع هذا المفردُ
فارغب اليه وقف على أبوابه***تصدر أخي عنها وأنت مزوّدُ
وكأنني بفتىً تعرض سائلاً***من ذا الذي تثنى عليه وتحمدُ
بالله خيرني فقلت مؤرخاً***من فاح طيب شذاه أحمدُ أحمدُ
سنة 1321هـ***90،89،21،1006،53،53(1)
وقرظه الاستاذ الشيخ سليمان العبد المدرسي بالأزهر، وهذه بعض أبياته:
كتاب كبدر النّمِّ حُسْناً فانه***يضىء بأنوار عجاب غرائبُ
ففاق سواه في المحاسن والبها***وسرت به الطلاب من كلّ جانبِ
وقلد جيد الدهر جامعه به***قلائد فخر من أجل المناقبِ
ومن طيب مبناه أقول مؤرخاً***شذا العرف نبراس بديع المطالبِ
سنة 1894- 1382 (2)
وعندما أصيب أحمد الصافي النجفي وجرح في بيروت ونقل الى المستشفى قبل وفاته كان أكبر همه في دواوينه المخطوطة خوفاً عليها من التلف قبل طبعها وكانت آخر اشعاره الأبيات التالية:
كل يموت كما أموت وفرقنا***أن ليس عند الكل مثل بليّتي
عندي عوالم في دواوين ولم***تطبع وبعدي هذه ذريّتي
أخشى رداي يصيب شعري بالردى***بعدي فهل في الناس مثل بليتي
مَنْ لي بمن أجد الوثوقَ بطبعها***فيه لكل ألقي له بوصيتي(3)
وقد تحقق أمله فطبع ما خلفه من شعر بنفس السنة.
وقال الشيخ علي الشرقي مفتخراً ببحثه وتنقيبه في الكتب:
خمس وعشرون أعواماً قد إنقرضت***في الكُتب بحثاً فانّي دودة الكتب(4)
وفي الأدب العربي روائع زاهية نثراً ونظماً قيلت في الكتاب وهي لكثرتها لا تحصى بل هي مستمرة مادام الكتاب ومحبوه.


فاعلية الكتاب في حفظ العلم والثقافة ونشرهما

الكتاب من أعظم ادوات العلم وآلات المعرفة وإن لم يكن أقدمها. ولسنا نستطيع ان نحدد تماماً التاريخ الذي ظهر فيه الكتاب لأول مرة. ونقصد هذا الكتاب بمدلوله الحالي أي مجموعة الصفحات المخطوطة او المطبوعة، وصلت او ثبتت او خيط بعضها في بعض فأصبحت وحدةً قائمةً بذاتها. ولكن الذي لا شك فيه ان الكتاب على هذا النحو لم يظهر إلا بعد ان إهتدى الإنسان الى نوع من الكتابة جاوز المراحل البدائية في التطور. وبعد ان عرف بعض المواد اللازمة للكتابة. وحين احس ان لديه من الأغراض ما يتطلب التدوين او ما يريد نقله الى المعاصرين وإلى الخلف بطريقة أسهل مما يحققه النقل الشّفوي او النقش على الحجر او الفخار او الطين المجفف والصلصال او العظام او الخشب او سعف النخيل او لحاء الشجر أو ألواح الرصاص او البرنز أو قطع الأقمشة او غير ذلك، من المواد التي كتب عليها القدماء.
وكان الإنسان الأول يعبر عن أغراضه بنقش صور تمثل ما في ذهنه وتطورت هذه الطريقة حتى وصل الناس في مراكز الحضارة المختلفة الى التعبير عن المقاطع والكلمات بنقوش إصطلاحية(1).
وجاء في الحديث الشريف قوله (ص): «قيدوا العلم بالكتاب»(2) وهذه إستعارة لانه عليه الصلاة والسلام جعل ضروب العلم بمنزلة الأبل الصعاب التي تشرد إن لم تُعقَل وتندُّ إن لم تُقَيّد. وجعل الكتاب له بمنزلة الأقياد المانعة والعقل اللازمة(3). وقالت العرب:
«ما كتب قرّ وما حُفظ فرّ» لان ما يحفظ قد ينسى او يموت صاحبه قبل ان ينقل الى الآخرين.
وكان الحسن بن علي (ع) يقول لبنيه وبني أخيه:
«تعلموا العلم فأن لم تستطيعوا حفظه فاكتبوه وضعوه في بيوتكم»(4).
ونقل عن أبي عبد الله الصادق (ع) قوله:
«اكتبوا فانكم لا تحفظون حتى تكتبوا» واستجاب طلابه الى هذه الدعوة النيرة التي تحمل في أعماقها إشاعة العلم وبسطه بين الناس فتسابقوا الى تدوين العلوم(5). وكان من أفضال كتاب الله العزيز ان جعل اللغة العربية لغة القرآن لغة عالمية ينطق بها المسلمون شرقاً وغرباً ويسجلون بها علومهم.
والكتاب وثيقة لا يكن لأحد ان ينكر ما للوثائق على إختلافها من أهمية كبيرة في حفظ التراث والعناية به فقد ذهبت بعض الدول الى إعتبار الوثيقة التأريخية مرجعاً لايمكن لأي كان أن يصل اليها او يعبث. فخصصت أكثر من دار للوثائق واهتمت بإعداد باعداد الكوادر الكفوءة والأمينة لتحقيقها وتجميعها وتقديها بيسر إذ ان «لا تأريخ بلا وثائق»(6).
والكتاب من هذه الناحية أدوم من صاحبه ونذكر هنا قول الجاحظ في تفضيل الكتاب على لسان صاحبه إذ قال:
«والكتاب قد يفضل صاحبه ويتقدم مُؤلفه ويرجح قلمه على لسانه بأمور منها ان الكتاب يقرأ بكل مكان ويظهر ما فيه على كل لسان، ويوجد مع كل زمان على تفاوت ما بين الأعضاء وتباعد ما بين الأمصار وذلك امر يستحيل في وضع الكتاب والمنازع في المسألة والجواب ومناقلة أللسان وهدايته لا تجوزان مجلس صاحبه ومبلغ صوته وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه ويذهب العقل ويبقى أثره»(7).
وحقاً لقد جُنّ الفيلسوف نيتشه وبقيت كتبه. ويرى كثيرون ان من المصلحة الإبقاء على الكتاب حتى لو تغيرت بصاحبه الحال او كان له راي غيره او إنحراف. والكتاب نافع للتحقق وبالرجوع الى الكتب المعتبرة تستبين الحقائق من الزّيف.
ويحضرنا بهذه المناسبة ما ذكره شمس الدين السخاوي صاحب الضوء اللامع إن بعض اليهود أظهر كتاباً ـ زعموا انه لرسول الله (ص) ـ بإسقاط الجزية عن أهل خيبر وفيه شهادة الصحابة (رض) وذكر انه خط علي (رض) فيه وانه حمل الكتاب في سنة سبع وأربعين وأربعمائة الى رئيس الرؤساء ابي القاسم على وزير القائم فعرضه على الحافظ الحجة ابي بكر الخطيب فتأمله ثم قال: هذا مزور. فقيل له من أين لك هذا؟ فقال فيه شهادة معاوية وهو إنما اسلم عام الفتح. وفتح خيبر كان سنة سبع. وفيه شهادة سعد بن معاذ وهو مات يوم بني قريضه قبل فتح خيبر بسنين(1).
أخذ التدوين سبيله الى البيئات العلمية والأدبية وفرض نفسه عليها حتى نجد شاعراً أمياً بدوياً مثل ذي الرمّةِ يؤثر ان يكتب شعره فيقول لعيسى بن عمر الثقفي: «أكتب شعري فالكتاب أحب إلي من الحفظ لان الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهر في طلبها ليلته فيضع في موضعها كلمة دونها ثم ينشر الناس. والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام». كما يحكي الجاحظ في الفصل الذي قدم به لكتابه الحيوان(2) اما علماء العربية الذين كانوا يتلقون عن الأعراب مادة علمهم من شعر وخبر فلم يعد التدوين بالنسبة اليهم نزعة عارضة بل اصبح ضرورة ملحّةً. وقد كانت الصحف التي كتبها ابو عمر بن العلاء من الأعراب تملأ بيتاً الى قريب من السقف كما يقول إبن خلّكان في حديثه عنه(3).


ولابد لنا ان نشير الى ان هذا النشاط العلمي لم يكن مقتصراً على الرجال بل شمل النساء وكثرت المتعلمات المتخصصات به حتى أجري احصاء في أحياء قرطبة التي تبلغ واحداً وعشرين حياً أيام إزدهار الخلافة فوجد ان(170) مائة وسبعين إمراة يجدن الخط الكوفي يكتبن المصاحف(4). لقد كان الإسلام باعث تلك النهضة العربية بعد ان ملأ بنوره البصائر والأبصار(5).
ان كتاباً نُشر في اوروبا في القرن السابع عشر هو (الف ليلة وليلة) رسم صورة للشرق في أذهان الأوروبيين لم تمحها القرون حتى الآن على الرغم من الجهود التي بُذلت وتبذل. وحقاً ما قاله الاُستاذ ظافر القاسمي بان الكتاب (نور يضيء ونار تحرق) وإذا كان فريق من رجال السياسة والعلم يقدر ان إسرائيل وإن وُفقت الى صنع القنبلة الذرية فانها لم تفجرها لأسباب كثيرة يسردونها.إذا كان هذا كله صحيحاً او متوقعاً فان قنبلة أخرى من نوع آخر قد صنعتها إسرائيل ولم تقف عند حدود صنعها بل مضت في تفجيرها وحصلت على الكثير من نتائج هذا التفجير. وفي رأيي ان هذه القنبلة إن لم تكن أفتك وأمضى من القنبلة الذرية فإنها لا تقل عنها شأناً. ولا تنقص في ميزان العقلاء وأعني بها (الكتاب). هذه هي القنبلة التي صنعتها سرائيل وفجرتها إنها (الكتاب) الذي قيل عنه قديماً «إنه خير من ألف داعية وخطيب لانه يقرأه الموافق والمخالف، ولأن الداعية والخطيب يموتان أما الكتاب فلا يموت. ولأن المستمعين اليهما محدودون أما قرّاء الكتاب فغير محدودين(1).
وقد تنبهت إسرائيل والحركة الصهيونية حتى أصبحتا تملكان اكثر من تسعمائة صحيفة ومجلة في أنحاء كثيرة من العالم(2).
قال أحد الحكماء المصريين لإبنه يعظه وهو متوجه الى المدرسة لأول مرة: «يا بني ضع قلبك وراء كتبك وأحببها كما تحب أمك فليس هناك شيء تعلو منزلته على الكتاب... واعلم يا بني ان ما من طبقة من الناس إلا فوقها طبقة أخرى تحكمها إلا الحكيم فهو الوحيد الذي يحكم نفسه بنفسه»(3). إن الكتاب ينقل العالم والتأريخ والحضارة إلينا.
«من منا أيها السادة يريد لقاء مع سقراط الذي اختفى عن الدنيا قبل أكثر من ألفي عام او يزيد إذا اراد احدنا ذلك فسيحقق ما يريد فالكلمة تجمعنا به وفي المكتبة والكتاب وكأنه حي بيننا يناقش ويحاور وينقل الحكمة الى مريديه... والأمر لا يقتصر على سقراط او إفلاطون او ابيقور أو ابي العلاء او المتنبي او فرانسيس بيكون او غيرهم من عمالقة الفكر القديم او الحديث، الامر يتصل بالكلمة المسطورة نبني بها عن طريق الكتاب حضارة الإنسان»(4).
«في زحام المكتبات وقعت عينا شاب هندي على كلمات فيلسوف عظيم هو (ثورو) وما ان لامست هذه الكلمات في تلك الكتب روح هذا الثائر الهندي الشاب حتى أبانت له طريق الخلاص والحرية والنضال من أجل وطنه الكبير الهند. قاد أُمته المتعبدة حتى حققت أعظم إنتصار بأنظف وسيلة هل عرفتم هذا المحامي الهندي الشاب إنه غاندي محرر الهند العظيم»(5).
إن قوله تعالى (إقرأ باسم ربك الذي خلق)(6) كان بداية لتأريخ وحضارة خير أمة أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. لقد كان في مبادرة الرسول الكريم (ص) ـ في إطلاق أسرى بدر مقابل تعليم كل واحد منهم عشرة من أولاد المسلمين ـ نورٌ هدى أمة محمد (ص) لكسب العلم النافع والإقبال على الكتاب النافع المبين للهداية والخير. كما وصف به كتبه:
(نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان)(7).
(كتاب أحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير)(8).
(كتاب أُنزل اليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين)(9).
(كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات الى النور)(1).
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين اوتوا الكتاب لتُبيّننّهُ للناس)(2).
(وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون)(3).
(وآتيناهما الكتاب المستبين)(4).
(وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدىً لبني إسرائيل)(5).
الكتاب النافع هو المطلوب الذي يستحق بذل الجهد في تحصيله وكتابته وقراءته ومن المناسب ان نذكر هنا ما أُثِرَ عن الطبيب الفيلسوف إبن سينا:
«ليلتان لم أقرأ ولم أكتب فيهما ليلة زواجي وليلة وفاة والدي».
ويقول الطبيب البريطاني السيد وليم اوسلر في الحث على القراءة: «إن الطبيب الذي لا يستعمل الكتب والمجلات والذي لا يقرأ واحدة أو أكثر من النشرات الطبية الأُسبوعية او الشهرية فأنه في النهاية سيجد نفسه في الأتجاه المعاكس لرسالته ويصبح جزءً من الوسط التجاري في عاداته ومعاملاته إذ لابد لكل صاحب علم وفن ان يثابر على المطالعة ويتابع ما يتجدد في خصوص ما يمارسه»(6).
وقد وصف الله الكَتَبَة الصالحين بقوله (كرام برَرَة)(7).
إن محب العلم يجد لذة في قراءة الكتب. «سُئل شيخ عجوز من السماوه ماذا تدخر من العمر حتى تقرأ؟ فأجاب: أتعتقد إن القراءة لكم فقط فسأقرأ حتى اليوم الأخير من عمري، سأكون مدفوناً في حياتي إذا لم أعمـل ولم أقـرأ»(8).
اقوال في الكتاب
قال الجاحظ:
«الكتب أبلغ في تقييد المآثر من البنيان والشعر»(9)
قال الإفرنج:
«الكتب عقول محنطة. وقالوا: الكتب ذوب ادمغة العلماء في بوتقة الكَدِّ والإجتهاد. وصَبِّها في قوالب المؤلفات».
قال كارلايل الإنجليزي:
«إن جامعة هذه الايام الحقيقية هي مجموع الكتب»
قال مكولي الكاتب السياسي المشهور:
«إنني افضل ان أكون فقيراً ساكناً في كوخ وحولي الكتب الكثيرة على ان أكون ملكاً لا يميل الى المطالعة»
قال شيشرون الخطيب الروماني ما عقده عيسى المعلوف بقوله:
شيشرون قال قولا***حبذا قول النصوح
إن بيتا دون كُتب***جسدٌ من غير روح(1)
قال ولي الدين يكن:
كتابي سر في الأرض واسلك فجاجها***وخلّ عباد الله تتلوك ما تتلو
فما بك من أكذوبة فاخافها***وما بك من جهل فيزري بك الجهلُ(2)

الإعتزاز بالكتب والعناية بها

لو سألنا سائل ما الذي جعل اللغة العربية لغة عالمية؟ فلا بد ان يكون الجواب: إنه كتاب الله العزيز القرآن الكريم، الذي جعلها لغة العلوم في عصور إزدهار الحضارة الإسلامية.
والقرآن عهد الله الى عبده وحق على العبد ان ينظر في عهده كل يوم.
ولم يحظ كتاب بالعناية كما حظي القرآن الكريم إذ الإهتمام بحفظه وفهمه، وخطه وقرطاسه وتجليده وتذهيبه بلغ حداً لم يبلغه كتاب آخر. كما ألف المسلمون كتباً كثيرةً في علومه وتفسيره وحكمه وأمثاله ومواعظه وفقهه وقصصه وبلاغته وما زالوا مستمرين في الكتابة والتأليف. ولعل مما يدعونا للإعتزاز به قوله تعالى: «يا يحيى خذ الكتاب بقوة»(3) وأذكر الآن قولاً لاُستاذنا الدكتور إبراهيم السامرائي: «إننا ندرس قواعد اللغة العربية خدمةً للقرآن».
أما إهتمام المسلمين بالكتب بجميع أصنافها وأنواعها فقد كان شيئاً عجيباً لم يسبق لأمة من الأمم محاكاتهم في هذا المضمار. وحسبنا ان نذكر ان مكتبة القاهره كانت تحوي مائة الف مجلد، منها ستة آلاف في الطب والفلك فقط ذلك في أوائل القرن الرابع الهجري وقد بلغ من شدة شغف المسلمين بالعلوم أن صاروا يأخذون الكتب بدل الغرامات من بعض الدول. إن المنصور شرط في إحدى معاهداته مع إمبراطور القسطنطينية ان تكون الغرامة الحربية التي يدفعها مجموعة من الكتب التي ألفها حكماء اليونان. وكيف ان المأمون كان من شروط صلحه مع ميشيل الثالث ان يعطيه مكتبةً من مكتبات الاستانه.
وأبو يوسف ـ سلطان المغرب الأقصى ـ كان من شروطه على (دون سخو) ان يرد عليه تلك الكتب التي غنمها من المسلمين حينما عقد صلحه معه وقد كان ذلك فعلاً أخذ السلطان تلك الكتب ووضعها في المدرسة التي شيدها بفاس(4).
وكان المأمون الذي أحاطت به نخبة من الاُدباء والعلماء قد جمع في خزانته المؤلفات الحديثة لمدرسة الإسكندرية هذا الى إتصاله المباشر مع أباطرة القسطنطينية الذين وفّروا له الحصول على أفضل الكتابات الفلسفية القديمة(1).
وعندما أسس المستنصر بالله مدرسته (المستنصرية) عزم على ان تكون فيها مكتبة عامرة نقل اليها من الربعات الشريفة الكتب النفيسة المحتوية على العلوم الدينية والأدبية مما حمله مائة وستون حمّالاً. وكانت تلك الكتب مرتبة ومبوبة حسب فنونها ليسهل على المطالعين نسخ بعض مخطوطاتها، فإن الموظفين كانوا يمدونه بما يحتاج اليه من الأقلام والأوراق. أما الأربلي مؤلف خلاصة الذهب المسبوك فيروي ان المستنصر نقل من الكتب ما حمله مائتان وتسعون حمّالاً(2).
وكانت لدى الوزير العباسي الفتح بن خاقان مكتبةً رائعة في بغداد مفتوحة للناس وقام علي بن أبي المنجم المتوفى سنة 275هـ بترتيبها وتصنيفها حتى قيل انه لم تكن هناك مكتبة تجاريها نظراً لما حوت من أصناف الكتب والدفاتر التي عرفت بجمال خطها، وروعة تجليدها، بالأضافة الى ان منزله كان فمتوحاً لعامة الشعب الى جانب العلماء من البصرة والكوفة. وكان من عادته أن يحمل كتاباً معه أما في كُمَّه او في جلبابه أينما حلّ. وكان يقرأ حيثما وجد مُتسعاً للوقت(3). وبلغ من عناية المسلمين وإعتزازهم بالكتب مبلغاً انهم كانوا يرون مجالسة السوق مذمومةً إلا عند باعة الكتب وفي ذلك يقول من عناية المسلمين وإعتزازهم بالكتب مبلغاً أنهم كانوا يرون مجالسة السوق مذمومةً إلا عند باعة الكتب وفي ذلك يقول بعض شعرائهم:
مجالسة السوق مذمومة***منها مجالس قد تحتسب
فلا تقربن غير سوق الجياد***وسوق السلاح وسوق الكتب
فهاتيك الة اهل الوغى***وهاتيك الة اهل الأدب
على اي حـال فإن الحيات العلمية قد إزدهرت في العصور الإسـلامية ونشطت الحركات الفكرية واخـذت النوادي ودور الخلفاء والمحلات العامة تعج بالمسائل العلمية ومذاهب الكلام والفلسفة وغيرها من الوان الثقافة العالمية(4).
وقد كان فقد العالم المسلم لمكتبة في تلك الأيام يعد كارثة تفوق كل كارثة فقد حزن الكندي على فقد مكتبته حزناً أثر في إنتاجه العلمي.
ومثل هذا حدث لحنين بن إسحاق، وعندما إضطر الحسن بن محمد بن حمدون سنة 608هـ الى ان يبيع كتبه قال لمن جاء يهون عليه «حسبك يا بني هذه نتيجة خمسين سنة من العمر أنفقتها في تحصيلها».
وقد إستعمل المؤلفون المسلمون الجذاذات لتدوين الملاحظات عليها أو نسخ المقتبسات من الكتب التي كانوا يقرأونها وكانت هذه الجذاذات هي بعينها البطاقات التي يستعملها الباحثون المعاصرون. ومن الطريق ان نقرأ ان كتاب حُنين بن إسحاق (كتاب المسائل) لم يكن كله جاهزاً عندما مات فأتم تأليفه حبيش (الأعسم) من جذاذات تركها المؤلف(5).
وبلغ من عنايتهم بالكتب ان كان لتجليدها شأن كبير منذ إتخذ الكتاب شكله الحالي وكانت أوراق المخطوط توضع في البداية بين لوحين من الخشب بينهما كعب، وأضيف الى هذا التجليد البدائي كسوة من الرق او الجلد او القماش او صفائح المعدن للوحي الخشب، أُضيف الى ذلك كله قفل او إبزيم واحد او أكثر ليمكن قفل المجلد قفلاً محكماً. وكانت جلود الكتب ولا سيما الدينية منها ـ ترصّع بالمعادن والأحجار النفيسة بينما ترجع اليها الفضل في حفظ بعض المخطوطات حفظاً تامّاً حتى وصلت إلينا(1).
ولما أُخترعت الطباعة وكثرت الكتب وقل وزنها وصغر حجمها ونقصت قيمتها المادية أُستعمل الورق المقوى عوضاً عن الخشب في جنبي الجلد واختفت الأقفال والأبازيم وأقبل الناس على تجليد الكتاب بالورق المجلّد. ويرى الاُستاذ فؤاد قزانجي ضرورة العناية بغلاف الكتاب من ناحية الإخراج واختيار التخطيطات او الصور المناسبة للمضمون، واقعياً ورمزياً او بأي شيء آخر يعبر عن إهتمام الناشر بإخراج الكتاب إهتماماً بالمضمون وتعطي للقارىء بعد إلقاء نظرة عليه وإنعكاساً لما يعطيه الكتاب للقارىء. فكثيرا ما يتأثر القارىء بغلاف الكتاب مما يدعوه الى إقتنائه أو النفور منه كما ينبغي ان تتضمن صفحة العنوان الصفحة التي تليها مثل سنة الطبع وإسم الناشر او المطبعة ونوع الطبعة إضافة الى ما هو متعارف في كتابة عنوان الكتاب وإسم المؤلف والعناية بإخراج الكتاب من ناحية تقسيم الكتاب الى أجزاء وأبواب وفصول وأقسام(2).

صور من الإعتزاز بالكتب

* قال الحكيـم المصري القديم خميني دواوف في أحد تعاليمـه: «ليتني أستطيع ان أجعلك تحـب الكتب أكثر مما تحب أمك، وليت في إستطاعتي ان أبرز لك ما في الكتب من روعة وجمال فالكتابة أشرف مهنة في الوجود»(3).
* أعطى ديونيوس الملك ذات يوم إفلاطون كتاباً وأعطى اوستيبوس دراهم فذمَّ جماعة اوستيبوس ولاموه فيما اعطاه فقال: «انا محتاج الى الدراهم وإفلاطون محتاج الى الكتاب»(4).
* صدّر الجاحظ في ديوان الرسائل أيام المأمون ثلاثة ايام ثم إنه استعفى فأعفى. وكان سهل بن هارون يقول: «إن ثبت الجاحظ في هذا الديوان أخل نجم الكتاب»(5) وأمر أديبنا الجاحظ في تركه تلك الوظيفة براتب جيد في بغداد إذ فضل الرجوع الى البصرة ليكسب ببيع السمك ويعيش حيث كتبه ودكاكين الوراقين التي كان يؤجرها يقرأ فيها.» وعمل في إبان نشأته وتكوينه العقلي ان يوفّق بين ضرورات حياته المادية التي تستغرق نهاره ومقتضيات طموحه المعنوي وتطلعه الأدبي وذلك بالتماس الوان المعرفة فيه فكان على ما يحكى عنه بعض مترجمي حياته يبيت في دكاكين الوراقين ويعكف عليها»(1).
اما الوزير الأديب العالم الصاحب بن عباد فقد أرسل اليه نوح بن منصور الساماني صاحب خراسان يسأله القدوم عليه فقال له في الجواب: «عندي من كتب العلم خاصة ما تحمل على اربعمائة جمل أو أكثر»(2)، كما روي عنه قوله: إشتملت خزائني على مائتين وستة آلاف مجلد(3). ونقل عنه أيضاً (أحتاج الى ستين جملاً أنقل عليها كتب اللغة التي عندي) وقد ذهبت تلك الكتب كلها في الفتن حتى ان الكتب الآن في اللغة من تأليف الأقدمين والمتأخرين لا تكفي حمل بعير واحد(4). والصاحب بن عباد على ما يقول ديورانت (Durant) في كتابه الشهير الذي نقله الى العربية الاُستاذ محمد بدران (كان يملك في القرن العاشر الميلادي مجموعة من الكتب كانت تقدر بما يعادل كل مكتبات أوروبا مجتمعة)(5).
* أما أبو الريحان البيروني فهو من أكثر كتابنا تأليفا فيذكر في كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) انه ظل يبحث عن كتاب (سفر الأسفار) لمدة أربعين عاماً حتى عثر عليه في خوارزم وذلك لكي يدفع عن الرازي تهمة الإلحاد(6).
* أوصى العلامة محمد باقر المجلسي بأن تكون مكتبته لأكثر أولاده تديناً وهذا دليل على حرصه على كتبه واعتزازه بها(7).
* حين ركب الدكتور حسين علي محفوظ دين إضطر بسببه الى بيع بعض كتبه قال: «كيف أبيعهم وكلهم أولادي»؟ وحين سئل في مقابلة تلفازية لو تعرضت مكتبتك الى خطر كالحريق مثلاً ماذا تنقذ. قال: «أنذ ما استطيع إنقاذه» أي بدون تمييز.
* حدثنيى موظف قديم يكنّى (ابو جعفر) عن إعتزاز المؤرخ العراقي عباس العزاوي بكتبه انه لم يسمح برؤية نفائس كتبه. وحين أخبر بأن من منهج زيارة الملك عبد الله بن الحسين للعراق زيارة مكتبته أجاب بأنه سوف يقفل بيته ويسافر خارج بغداد حتى رجوع الملك عبد الله الى الأردن تحاشياً من الحرج لئلا تقع عين الملك على كتاب نفيس فيكون بين أمرين البخل به او فقده.
* وقد بلغ اعتزاز الأستاذ مصطفى علي بمكتبه العامرة التي تضم مجموعة كبيرة من الكتب الأدبية والقانونية والتأريخية القديمة بعد ان نصحه أطباء العيون بعدم القراءة في الكتب ومشاهدة برامج التلفزيون وذلك لضعف شبكية عينه. رغم أسفه لهذا المنع وحرمانه من لذة القراءة والمتابعة... إلا انه إعتزازاً بهذه الكتب فقد جعل من هذه الغرفه (المكتبة) مقراً له ولراحته ولنومه لكي لا يشعر بالأبتعاد عنها(8).
* يصف لنا الطبيب معمر الشابندر مدى إعتزاز اللغوي أنستاس ماري الكرملي بكتبه خصوصاً معجمه اللغوي (المساعد) فقد كتب لمحققي هذا المعجم بعد طبعه ونشره: «فلو ان العلامة الكرملي رحمه الله وأحسن اليه قد نظر الى ما صنعتم في مساعده لامتلأ قلبه غبطةً وحبوراً ولوجد أمنيته قد تحققت بأحسن ما يكون وأن الله عز وجل قد هيأ له من ينشر للناس معجمه الذي افنى حياته في تأليفه والذي كان يعتز به أيما إعتزاز، أذكر يوماً لقيته مستفسراً عن نبات طبي فضحك... رحمه الله ضحكته المشهورة المجلجلة وأخذني الى مكتبته وصعد الدرج الخشبي وأنزل كتاباً وجلس على الأريكة. وقلّب فيه قليلاً ثم إلتفت إلي وبدأ يقرأ شرحاً وافياً وما ان إنتهى من القراءة حتى ضم الكتاب إلى صدره بحنان بالغ، وسألني هل تدري ما هذا الكتاب؟ قلت لا. قال هذا هو المساعد... المساعد الذي لا أؤمل ان يصدر مطبوعاً للناس في حياتي فاذا هيّا الله له من ينهض بنشره للناس فلابد ان يكون رجلاً صبوراً جسوراً مقتدراً... سكت رحمه الله قليلاً ثم التفت إلي وقال إذا كُتب لك ان ترى المساعد مطبوعاً فاكتب لمن توفّر على هذا العناء ان الكرملي يحييك من قبره ويرجو ان يعطيك الله القوه والصبر والحنان... قلت له أدركت القوّه والصبر فما هو الحنان؟ ضحك ـ رحمه الله ـ ضحكته المشهورة. ولكني رأيت الدموع تترقرق في عينيه، هدأ وقال: «المساعد يا ولدي أعز علي من ولد صالح، فقل له ان يترفق بولدي بما يمليه الحنان على قلبه»(1).
يظهر ان للبعض من الناس حبا لحيازة الكتب مع حب مطالعتها وحسب ما تحدث به أحد الاُخوة فان الأستاذ محب الدين الخطيب كان يملك اكثر مجموعة من الكتب في العالم العربي إذ بلغت مكتبته الخاصة مائة وعشرين ألف كتاب في مختلف العلوم والفنون.
* في الوقت الذي كانت الحرب العالمية مشتعلة كان إهتمام وشغل المستشرق كراتشكوفسكي يكاد يكون محصوراً بنقل المخطوطات والكتب العربية والإسلامية من غربي روسية الى شرقيها لحفظها من التلف والسرقة والمحافظة عليها والعناية بها، والإستفادة من كنوزها العلمية والأدبية. وحقاً لقد أتت النيران في أوقات كثيرة على كنوز ثمينة من الكتب صدفةً وإهمالاً او عمداً عندما تتغير الدول والحكومات ولا يسلم من إنعدامها إلا إستنساها ووجودها في أنحاء مختلفة. وهذا ما يفعله الحريصون على الكتب.
ويوصي بعض العلماء والذين يملكون كتباً يعتزّون بها ولا يريدون تفريقها بأن تكون كتبهم موقوفةً على المساجد او مكتبات المتاحف او المدارس او يورثونها لأفضل أولادهم لأنهم هم الذين يستفيدون منها ويفيدون ويحافظون عليها أكثر من غيرهم. وقد قال أحدهم حين يستعير أحدهم منّي كتاباً ويطويه بشدّة فكأنما يطوي ضلوعي.
ومن الدلائل على الاعتزاز بالكتب والعناية بها ما لاحظناه بحفظها في خزانات تقيها التلف والسرقة. وزيادتها بترجمة المؤلفات باللغات المختلفة الى لغة القارىء. وفهرستها وتبويبها وعمل الكشاّفات لها ليسهل تناولها



خير جليس
 
أعلى