دعوة الحق - الدولة السعدية في كتاب "نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي" (لمحمد الصغير الإفراني)

من المؤرخين الذين أرخوا للدولة السعدية أبو فارس عبد العزيز الفشتالي في كتابه: «مناهل الصفا في مآثر الشرفا» ومحمد الصغير اليفراني في كتابه «نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي» أما مناهل الصفا فقد طبع ونشر منذ سنوات وقام بدراسته وتحقيقه الدكتور عبد الكريم كريم وطبعته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة وهو يقع في 307 صفحة من الحجم الكبير عدا الفهارس الملحقة به.
وأما نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي فقد طبع مرتين:
ـ الطبعة الأولى تقع في جزئين، طبعت في أنجى بفرنسا سنة 1888 أي منذ حوالي تسعين سنة ضمن «منشورات معهد اللغات الشرقية الحية» صحح عباراته التاريخية السيد / هوداس أستاذ اللغة العربية بباريس. وألحق بالنص العربي ترجمة بالفرنسية للكتاب، فجاء «نزهة الحادي» في جزئين.
ـ أما الطبعة الثانية ـ وهي التي بين أيدينا ـ فتع في 315 صفحة من القطع المتوسط، قام بطبعها السيد عبد القادر المكناسي، وقد بذل وأنفق مالا من عنده لإعادة طبع نزهة الحادي عونا للمؤرخين خاصة في هذه الفترة النشطة التي كثر فيها الرجوع إلى كتب التراث واشتدت الحاجة فيها إلى مراجعة التاريخ وتصحيحه وتصويبه. ولا ينبغي أن تفوتنا إشارة تقدير وتنويه إلى السيد / عبد القادر المكناسي الذي ـ كما يقول الدكتور ممدوح حقي في تقديمه للكتاب: مارس مهنة التضحية في معارك النشر قرابة نصف قرن، يخسر فلا يبالي الخسارة، ويربح فلا يغره الربح، ويعادل هذا بذلك فيتقبله بإيمان المخلص لله وللثقافة ويعيش هانئا راضيا بما قسم الله له. لا يضيق ولا يتبرم». ونحن نشاطره هذا الرأي ونشاركه هذا التقدير على شجاعة صاحب مكتبة الطالب في الإقدام على إعادة نشر هذا الكتاب وهو ليس في حاجة إلى التشجيع في خدمة العلم.
ونزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي من أهم وأوفى المصادر والمراجع التاريخية الوثيقة عن الدولة السعدية وسير وأخبار ملوكها الذين حكموا المغرب من سنة 915 إلى 1069هـ. ـ 1511 ـ 1670م. وهي كما نرى الأسرة التي حكمت المغرب لفترة لا تزيد عن مائة وتسعة وخمسين سنة، يمكن أن نعتبرها في الواقع تمهيدا لحكم الأسرة العلوية الشريفة. وإذا استثنينا فترة حكم أحمد المنصور الملقب بالذهبي لم يتبق لنا من عصره هذه الدولة إلا مجموعة من الاضطرابات والتناحر على الحكم والسلطان ومحاولة الاستئثار بهما إلى درجة طلب أحد ملوكها النجدة من البرتغال لمقاتلة عمه. وقد عصف وادي المخازن ومعركته الشهيرة بالطالب والمطلوب كما سيأتي ذكر ذلك في عرضنا لصورة المغرب السياسية والعسكرية كما يقدمها لنا مؤلف كتاب نزهة الحادي.
يمهد محمد الصغير بن الحاج بن عبد الله الإفراني النجار المراكشي الوجار لكتابه بفذلكة عن «علم التاريخ» ومكانته وفوائده، ثم يقول: وإني لم أزل منذ علقت تميمة التمييز في عضدي. وجعلت سوار الطلب في زندي. متشوقا إلى أخبار الدولة السعدية. وسائلا: «هل استنشق أحد نفحات أخبارها الوردية...» إلى أن يقول: «وقد كنت بدالي ان ألم بدولة بني وطاس. وأواخر بني مرين. بما يكون ذيلا لروض القرطاس، وروضة النسرين. فرأيت الدولة السعدية عناية أهل زماننا بها أكثر. والاقتصار عليها لا يكون بها تاريخ الملك أبتر. وسميت هذا الموضوع. الذي حديثه حسن صحيح غير موضوع. نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي. وهذه الدولة السعدية وإن كان ابتداؤها عام ستة عشر من القرن العاشر، لكن انما ظهرت واستعت إيالتها في آخر العاشر وأول الحادي. فلذلك أدرجناها في الحادي وما قارب الشيء فهو له في الحكم محادي».
إلى أن يقول: «واعلم أني ألفت هذا التصنيف، من عدة كتب تزري بزهور الروض المنيف. وسوف أعين لك في الآخر أسماءهم. وأنصب مدارج الامالة لمن أراد أن يرقى سماءهم». ولكننا لا نعثر في آخر النزهة على أسماء الكتب التي استعان بها الإفراني في تصنيفه. ومما ورد في غلاف الطبعة: صحح عباراته التاريخية السيد هوداس، ولا ندري ما نوع هذا التصحيح، وهل تصرف السيد هوداس في النص الأصلي تصرفا أسقط فيه مصادر النص كما أشار إلى ذلك المؤلف نفسه. ونضيف دهشتنا من هذه المفارقات وهذه التناقضات إلى التساؤل الذي طرحه الدكتور ممدوح حتى في المقدمة حين قال: «على أن الأمر الجلاب للنظر أن المؤلف مغربي والناشر فرنسي والمصحح للعبارات التاريخية فيه فرنسي كذلك. وقد أشار إلى ذلك في صدر الكتاب، فما هو مدى هذا التصحيح التاريخي يا ترى؟».
ثم يخلص المؤلف بعد تقديمه إلى صميم كتابه وموضوع تأليفه فيبدأه بذكر الخبر عن نسب السعديين الشريف وما قيل من تنكير وتعريف وعلى هذا النسق ينسج الإفراني خيوط تاريخه للدولة السعدية، متتبعا السياق التاريخي للأحداث، مستشهدا بأقوال الأدباء والمؤرخين والكتاب والفقهاء والشعراء في حادثة من حوادث العصر السعدي.
لقد تفرد تاريخ السعديين بعدة أحداث تاريخية هامة، غير أن ثلاثة منها تبرز لنا ملامحها ساطعة لامعة:
1 ـ الانتصار البين على ملك البرتغال دون سباستيان وجيشه في معركة وادي المخازن ومن تواطأ معه ومهد له الطريق إلى ذلك سنة 1578.
2 ـ ظهور السلطان أحمد المنصور السعدي الملقب بالذهبي، وكان درة في عقد هذه الدولة الشريفة.
3 ـ الفتوح الواسعة التي قام بها السلطان احمد المنصوري مثل فتحه السودان الغربي ـ سنغاي ودخول جيشه ظافرا مدينة تمبكتو.
وهي أحداث لا يمكن عزلها عن بعضها، بل انها مشدودة بعضها إلى البعض، كالسلسلة الذهبية ذات الحلقات لا يمكن كسر حلقة منها دون أن تتأثر باقي الحلقات بهذا الكسر.
حين يبدأ المؤلف كتابه بالتعريف بنسب السعديين يعزو نسبهم الشريف إلى خاتم الخلفاء الراشدين على ابن أبي طالب كرم الله وجهه وفاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، واتفق على هذا النسب عدد من الاعلام النسابين. وكان الأشراف السعديون يقيمون بدرعة، نشأ منهم أبو عبد الله محمد القائم بأمر الله، وكانت نشأته نشأة عفاف وصلاح، حج إلى بيت الله الحرام وكان مجاب الدعوة، لقي جماعة من العلماء الأعلام والصلحاء العظام في وفادته على الحرمين الشريفين، ثم رجع إلى المغرب الذي يحكمه آنذاك الوطاسيون الذين تنازعوا في هذه الفترة على السلطان والملك في الوقت الذي كانت هجومات البرتغاليين والإسبان لا تفتر على ثغور المغرب على المتوسط والأطلسي مثل سبتة وطنجة وغيرهما. فقام أبو عبد الله القائم بأمر الله على رأس جند من أنصاره فانتصر على البرتغاليين وأجداهم عن أصيلا وآسفي وأزمور وغيرها من الثغور، وكان ذلك عونا له وسندا مهما للقضاء على الوطاسيين. وبذلك أقام الملك السعدي بالمغرب الذي كان بداية لمجد هذه الدولة به.
وخلف أبا عبد الله أبو العباس أحمد المدعو بالأعرج الذي صرف همته إلى تمهيد البلاد واقتناء الأجناء وتعبئة الجنود إلى الثغور، فاستكثر من شن الغارات على الغزاة الطامعين من الإسبان
والبرتغاليين، فطردهم من عدة نواحي بالمغرب، بيد أن أسباب الملك وعوامله لم تتهيأ كاملة لتأخذ طريقها القويم إلى الاستقرار، فقد تقاتل الأعرج مع أخيه محمد الشيخ، نتيجة الدسائس والوشاية، وكان محمد الشيخ: ثاقب الذهن، نافذ البصيرة، مصيب الرأي، حازما في أموره». فسجن الأعرج بمراكش وتعرض الأتراك لمحمد الشيخ فقتلوه بالسوس الأقصى، فبايع الناس زيدان بن أبي العباس بسجلماسة، إلا أنه لم يمارس الملك والحكم، فخلفه أبو عبد الله محمد الشيخ ابن أبي عبد الله القائم بأمر الله الذي: «نشأ في عفاف وصيانة، وعنى بالعلم في صغره، وتعلق بأهله، فأخذ عن جماعة من الشيوخ وبلغ في العلم درجة الرسوخ حتى كان يخالف القضاة في الأحكام ويرد عليهم فتاويهم فيجدون الصواب معه، وكان ممتع المجالسة والمذاكرة، نفي الشائبة، عظيم الهيبة، وكثيرا ما كان ينشد من الشعر هذا البيت:
الناس كالناس والأيام واحدة
والدهر كالدهر والدنيا لمن غلبا
وكان حافظا للقرآن ويحفظ ديوان المتنبي وصحيح البخاري عارفا بالتفسير وكانت له آراء صائبة في الحكم والملك».
بويع بمراكش سنة 951هـ، فعل جيشه وجند جنده فتوجه به إلى تادلا ووادي نول ودخل مكناسة وطلب فاس فتم له ذلك، ومنها اتجه إلى تلمسان فـأجلى عنها الأتراك وحررها منهم، فانتشر حكمه في أعمالها ونواحيها إلى وادي شلف، ثم عاد إلى مدينة فاس وقد اتسعت له مملكة المغرب ودانت البلاد كلها فانصرف بعدئذ إلى ترتيب ديوان الملك وتحسين شارة السلطنة وضبط أمور الخدم والعبيد إلى أن جاءه أبو حسون فأخرجه من فاس وهو من المرينيين.
قال ابن القاضي يصف أبا عبد الله محمد الشيخ الملقب بالمهدي: كان رحمه الله ماضي العزيمة، قوي الشكيمة، عظيم الهيبة، كثير الحركة، ذاهمة عالية وأحيا مراسم الخلافة الدارسة ومعالمها الطامسة، وشهامة غالية، حتى قعد قواعد الملك وأسس مبانيه وكان ذا سعد وبخت عظيم الرغبة في الجهاد». وقد قتل غدرا من طرف الأتراك لما بلغهم أن أبا عبد الله محمد الشيخ: تاقت همته العلية أن بلاد المشرق فكان يقول: لابد لي أن أذهب إلى مصر وأخرج منها الأتراك من أحجارهم وأنازلهم من ديارهم».
وخلفه أبو محمد مولانا عبد الله ابن السلطان أبي عبد الله مولانا محمد الشيخ وكان: أدعج العينين، مستدير الوجه، متسعه، أسيل الخدين، متشرف الوجه، ربعة للقصر». لقب بالغالب بالله، بايعه أهل فاس، وكان ذا سياسة وخبرة بالملك، لين العريكة، ولما استبد بالخلافة حتى صلحت الرعية وازدانت الدنيا وانتعش الناس. توفي في رمضان عام 981هـ وخلفه في الملك أبو عبد الله مولاي محمد الملقب بالمتوكل وعرف عند العامة بالمسلوخ ولم تطل خلافته كثيرا وسبب ذلك أنه استنجد بالبرتغاليين على عمه أبي مروان عبد المالك، واستجاب له البرتغاليون نظير شروط، وكانت هذه مقدمة لمعركة وادي المخازن وإرهاصات لها. ووجد ملك البرتغال دون سبستيان في هذه الاستغاثة فرصة سانحة للانقضاض على المغرب والاستيلاء على ثغوره فيه، فزحف ملك البرتغال بجيش قدروه بمائة وخمسة وعشرين ألف مقاتل، واستدرجه أبو مروان إلى ناحية القصر الكبير، فأمر بهدم جسر وادي المخازن حتى يقطع خط الرجعة على ملك البرتغال وجيشه المتوكل. قال الإفراني يصف المعركة: «فالتقت الفئتان وزحف بعضهم إلى بعض وحمى الوطيس واسود الجو بنقع الجياد ودخان مدافع البارود واشتد القتال وكثر الطعن واستمر النزال، فلما قامت الحرب على ساق والتفت الساق بالساق توفي عبد المالك عند الصدمة الأولى منه وكان مريضا في محفته، فكتم سر وفاته عن الجند والجيوش المناصرة له، ولم يعلم بوفاته إلا حاجبه وأخوه المنصور، ولم يزل كذلك والناس في المناضلة ومداناة القواضب واحتساء كؤوس الحمام إلى أن هبت على المسلمين ريح النصر وساعدهم الدهر وأثمرت ............................... زهور الظفر. فولى المشركون الإدبار ودارت عليهم دائرة البوار وحكمت السيوف في رقابهم ففروا ولات حين فرار وقتل الطاغية البرتغالي غريقا في الوادي وقصد النصارى للقنطرة فلم يجدوا لها أثرا، فكان ذلك من أكبر الأسباب في هلاكهم وأعظم الحبايل في اقتصامهم». وبحث في القتلى فوجد من بينهم المتوكل الذي استصرخ ملك البرتغال، فذهب الطالب والمطلوب، وأبو عبد الله محمد بن عسكر صاحب «دوحة الناشر» وكان من بطانة المتوكل، وقد تكلم عنه الناس كثيرا، ونظم الفقيه العلامة سيدي محمد ابن الإمام الشهير سيدي عبد الله الهبطي منظومة أشار فيها إلى مسألة ابن عسكر وتواطئه مع المتوكل فقال:
ومنهم الشيخ الذي لا ينكر
محمد أخو الدهاء عسكر
فغن يكن أتى بذنب ظاهر
فقلبه من الشكوك طاهر
رأيته في النوم ذا بشارة
وهيئة حسنة وشارة
قال المؤلف: وكان التقاء الجمعين يوم الاثنين منسلخ جمادى الأولى عام ستة وثمانين وتسعماية» ثم قال: «ولما بلغت الهزيمة على الطاغية الأعظم بعث إلى المنصور بعد استبداده بالملك ورجوعه لفاس.. يلتمس منه الفداء لمن بقي في يده من الأسارى ففداهم وجمع ذلك أموالا سنية وذكر بعضهم أن الأسارى الذين وقع فداؤهم لما توجهوا إلى بلادهم ووصلوا لملكهم قال لهم الطاغية: لم لم تأخذوا القصر والعرايش وتطاون قبل أن يصل ملكهم إليكم؟ فقالوا امتنع من ذلك الأمير الذي أمرته علينا فأمر بهم فأحرقوا جميعا. غريبة وفيها مضحكة. ذكر بعضهم أن النصارى دمرهم الله لما وقعت عليهم الكائنة المذكورة وفنى من فنى منهم رأى أساقفتهم قلة الروم وخلاء البلاد اباحوا للعامة فاحشة الزنى ليكثر التناسل ويخلف ما هلك منهم ورأوا ذلك من نصرة دينهم وتقويم ملتهم!!».
وعقب المعركة بويع أحمد المنصور الذي كان خليفته أحمد عبد المالك على مدينة فاس وما والاها. وكان أحمد المنصور كما يصفه المؤلف: طويل القامة، ممتلئ الخدين، واسع المنكبين، تعلوه صفرة رقيقة، أدلج، أسود الشعر، أكحل العينين، ضيق الفلج، براق الثنايا، جميل الوجه، مليح الصورة، ظريف الترع، لطيف الشمايل، حين الشكل». كانت ولادته بفاس سنة 956هـ. ونشأ في عفاف وصيانة، وكان والده المهدي ـ يقول المؤلف ـ ينبه على أنه واسطة عقد أولاده».
ويخصص المؤلف محمد الإفراني من كتابه النزهة أزيد من مائة صفحة للحديث عن سيرة الملك السلطان أحمد المنصور الملقب بالذهبي بدأه بالكلام عن صفاته وأخبار عنه ويختمه بالخبر عن وفاته رحمه الله وكيفيتها. فأبوابه وفصوله عن أحمد المنصور تعتبر بحق كتابا قائما بذاته، فقد تتبع حياته وسرد سيرته تتبعا وسردا دقيقين لا يغفل عن حادثة صغيرة أو كبيرة من الحوادث التي عاشها أحمد المنصور. وقد كانت حياة هذا السلطان العظيم حافلة ومثيرة لا يمكن الإحاطة بها ونحن هنا إنما نلم ببعض جوانبها فقط وباختصار شديد:
توجه أحمد المنصور إلى فاس بعد واقعة وادي المخازن فجددت له البيعة ثم سار إلى مراكش، ولم يخالفه في البيعة إلا ابنه محمد الشيخ المامون خليفته بفاس، فلما علم بذلك المنصور سار إليه بجيشه، فتراجع المامون وترجل عن فرسه وأقبل حافي القدم فعفر وجهه بين يدي والده المنصور ثم قبل رجله والمنصور على فرسه. فرجع المنصور عبد ذلك إلى مراكش يستعد ويعد جيوشه للفتوح وضم الأقاليم والولايات إلى المملكة وإخضاعها إلى سلطنته، فاستولى على بلاد توات وتيكرارين وأعمالهما، فتاقت همته لبلاد السودان فهيأ جيشا عظيما فتح به السودان الغربي (سنغاي). قال الفشتالي في مناهل الصفا: فكلمة المنصور نافذة فيما بين بلاد النوبة والبحر المحيط من ناحية المغرب، وهذا ملك ضخم وسلطان فخم لم يكن لمن قبله والله يؤتي ملكه من يشاء. ولما فتح عليه مماليك البلاد السودانية حمل له من التبر ما يغبر الحاسدين وبحير الناظرين حتى كان المنصور لا يعطى في الرواتب إلا النضار الصافي والدينار الوافي وكانت ببابه كل يوم أربعة عشر ماية مطرقة تضرب الدينار دون ما هو معد لغير ذلك من صوغ الأقراط والحلي وشبه ذلك ولأجل ذلك لقب بالذهبي لفيضان الذهب في زمانه» وأنشد الفشتالي قصيدته:
جيش الصباح على الدجى مندفق
فبياض ذا لسواد ذلك ممحق
وكأنه رايات عسكرك التي
طلعت على السودان بيضا تخفق
لاحت وافقهم ليال كله
كعمود صبح في الدجى يتدفق
نشرت لتطوي منه ليلا دامسا
أضحى بسيفك ذي الفقار يمزق
أرسلتهن جوانحا وجوارحا
في كل مخلبها غراب ينعق
وسرت فكان دليلهن إليهم
مشحوذ عزمك والسنان الأزرق
له من الليالي قد جلا احلاكها
نور النبوة من جبينك يشرق
ومنها:
بشر ملوك الارض أنك فاتح
بالمشرفى على الولاما اغلق
ويماصل لك ذو الفقار ففرق
ما جمعوه وجامع ما فرقوا
دامت طيور السعد وهي غوادر
بالمشتهى لك والمسرة تنطق
مادام ذكر علاك في صحف الثنا
أصل الفخار وكل ذاك ملحق
ثم شرع المنصور في بناء قصر البديع بمراكش عام 986هـ. واتصل العمل فيه إلى عام 1002هـ. وقد كتب فيه وعنه شعراء عديدون خاصة منهم عبد العزيز الفشتالي وابن الأبار قيل فيه:
كل قصر بعد البديع يذم
فيه طاب الجنى وفيه يشم
منظر رائع وماء نمير
ونرى عطر وقصر أشم
أن مراكشا به قد تناهت
مفخرا فهي للعلى الدهر تسم
وكتب الفشتالي فيه قصائد عديدة تبرز جماله وتناسقه وروعة بنائه وأنساقه في الأعمدة والاستار والأحواض وغير ذلك. ونورد هنا مطالع قصائد الفشتالي في قصر البديع. ومنها:
سموت وخر الدهر دوني وانحطا
وأصبح قرص الشمس في أذنى قرطا
وهي قصيدة في خمسين بيتا:
ومنها:
جمال بدائعي سحر العيونا
ورونق منظري بهر الجفونا
ومن ذلك:
لله بهو عز منه نظير
لما زهى كالروض وهو نظير
وقوله:
معاني الحسن نظهر في المباني
ظهور السحر في حدق الحسان
وقوله:
باكر لدي من السرور كؤوسها
وأرض النديم أهلة وشموسا
ومن الأشعار المنقوشة فيه:
متع جفونك في بديع لباس
ودر على حسنى حمى الكاس
وقال بعض الكتاب مما نقش في عضادتي باب من أبواب البديع:
يا ناظرا بالله قف وتامل
وانظر إلى الحسن البديع الأكمل
وإذا نظرت إلى الحقيقة فلتقل
السر في السكان لا في المنزل
ومن أشعار الشاعر الفشتالي المنقوشة ببعض الأبواب:
هذي وفود السعد نحوي تنتمي
وطلائع البشرى لبابي ترتمي
وسمت إلى عفان عرفك مثل ما
يسمو الحجيج إلى سقاية زمزم
حطت بمصراع السعود بشائر
لاحت على الشرفاء مثل الأنجم
أولى بصنع أن تقول ولا تبل
فبديع أحمد جنة المتنعم
وهي قصائد ومقطعات شعرية كثيرة:
وقد اعتنى المنصور بالاحتفال بالمولد النبوي الشريف والأعياد الأخرى على السنن السني، وأنشأ عددا من المآثر والعمائر بمراكس وفاس والعرائش وذكر الفشتالي أن المنصور ألف عدة تآليف كلها حسنة تدل على براعة قلمه ومن ذلك كتابه «السياسة» ونص خطبة له شهيرة.
وتوفي المنصور الذهبي بفاس ودفن بها لمرض ألم به نتيجة تأثره بوباء استئصال وطال. وبوفاته بدأت الدولة السعدية في التفكك، فتنازع أولاده على الملك والسلطان ووقع بينهم في ذلك تهالك وهلك أدى ذلك كله إلى انقسام الدولة وانفراط عقدها ووقوعها في دوامة من الاضطرابات والفتن، فتهيأ الجو لظهور عدد من رجال الإصلاح والدعوة إلى الوحدة، فبرزت الزاوية الدلائية وظهر محمد العياشي والفقيه أبو العباس احمد بن عبد الله المعروف بأبي محلى.
كانت وفاة المنصور الذهبي بداية النهاية للدولة السعدية، فلم يحسن خلفاؤه من أبنائه استغلال وتسيير شؤون الدولة الوطيدة التي بناها المنصور ودعم أركانها وعزز دعائمها، ونتج عن ذلك ـ بالإضافة إلى ما ذكرنا ـ تذمر الناس من الأحوال المضطربة السائدة، فظهرت الحاجة ملحة إلى قائد محنك يلم شمل ما تفرق وتصدع من أمور البلاد وشؤونها في الداخل والخارج، ويجمع شتات ما انفرط من عقد الدولة والحكم والسلطان، ويدرأ الأخطار المحدقة بالدولة والبلاد والعباد خاصة وأن أطماع الأجانب بدأت تتجه صوب المغرب في محاول جديدة للاستيلاء على الثغور ومنها يمتد إلى باقي النواحي والبقاع والأصقاع، فظهر محمد بن الشريف رأس الملوك العلويين الأماجد وسطع نجمه في الأفق واتجهت إليه الأنظار كقائد يخلص البلاد من الغزاة والأطماع ويقضي على الفتن والاضطرابات والدعوات الانقسامية الإقليمية التي شاعت وانتشرت واستشرت في طول البلاد وعرضها. فعقد محمد بن الشريف عزمه الوطيد على توحيد البلاد وضم الأقاليم والولايات وتحرير الثغور ورد الأعداء وأطماعهم.. فكتب الله له ذلك وأعانه وأيده.
إن «نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي» صور وصفية صادقة ودقيقة لتاريخ الدولة السعدية منذ ظهورها على مسرح الملك والحكم إلى أفول نجمها فيه مع تفاصيل دقيقة ـ سياسية وعسكرية وأدبية ـ ولو أن المؤلف في كتابه التزم منهجا تاريخيا صرفا يعتمد على السرد والرواية والوصف دون الدخول في التحليل، ولكن هذا مما لا ينبغي محاسبته عليه لأنه اتبع منهج معاصريه من المؤرخين والكتاب والأدباء والنزهة على أي حال بيان وتبيين لجهود ملوك الدولة السعدية وجهادهم ليسترد المغرب في فترتهم عزه ومجده.



* دعوة الحق
178 العدد



الادب المغربي.jpg
 
أعلى